فقال الشيخ في شيء من الحنق: تبقى فيها الأسواق التي تعرض ما يطلبون.
فضحك سيف قائلا: عفوك يا سيدي، فإنها كلمة فكهة. أتقصد الخبز واللحم والمساكن والملابس؟
فقال الشيخ باسما: صدقت يا ولدي. وإن شئت فأضف الخمر والعطور وأنواع العقاقير من مخدر وسم وترياق.
فقال سيف: أهذا كل ما ينبغي أن يعرض في الأسواق؟
فقال الشيخ: في أسواقنا ... هذا ما يطلب الناس حقا ... هذا كل ما تتحرك نفوسهم إليه.
فقال سيف: وليس للفكر مكان؟ ولا للأدب ولا العلم ولا الحكمة؟ أأنت تقول هذا يا سيدي الجليل؟
فقال: لأني لست أحب أن أكذب نفسي أو أكذب الناس. ولكني لست أنكر قدر العلم أو الحكمة أو الأدب، وهل أنكرها وهي كل ما أدعي؟
فقال سيف: ما الذي يحملك على أن تحسب أن الناس لا يطلبون شيئا من ذلك؟
فقال الشيخ في شيء من المرارة: رأيتهم يختارون ما يطلبون وينصرفون عما لا يحسون حاجة إليه، هذا كل شيء. وجدتهم يشترون ما يتملق غرائزهم البهيمية وما يثير الحيوان في طبيعتهم، ويبذلون أثمانا غالية، حتى إنهم ليشترون الإنسان نفسه إذا وجدوا فيه متعة. أليسوا يشترون المرأة ليتخذوها أمة ومتعة؟ ألا ترى الناس يهبطون بالإنسانية إلى مستوى السلعة إذا وجدوها ترضي حيوانيتهم؟ ولكنهم لا يقذفون قطعة من الخبز الجاف إلى إنسان جائع. يبذلون الأموال في الخمر والميسر وفي الجواهر، في الحجارة الثمينة، وفي العطور والحرير، بل يرضون أن يبذلوا الأموال ثمنا لكلمة نفاق أو رياء أو مديح أو دعاية، ولكنهم ينصرفون ساخرين عن الإحسان وعن الكلمة التي تثير المعاني السامية، أقصد المعاني التي تقلق النفوس أو تكلف الأجسام شيئا من المشقة. هم يختارون ما يشاءون، ولا حيلة لأحد في حملهم على غير ما تهوى نفوسهم. أيستطيع أحد أن يلقي سلعته على الناس قسرا؟ تقول لا؟ إنهم يدوسونها بالأقدام ثم ينصرفون ساخرين. إذن فأولى بمن كانت عنده سلعة كاسدة مثل سلعتي أن يتحمل وحدته وأن يقنع بجدب الوحشة والعزلة، فذلك أرفق بي وأهدأ لضميري.
فقال سيف في شبه عتاب: قد يكون أرفق بك، ولكنه لا يمكن أن يكون أهدأ لضميرك.
صفحه نامشخص