قال لها: «كل شيء على ما يرام. لا داعي إلى الخوف. إنه منهك بسبب فقدان الدم، لكنه سيتعافى من ذلك إذا ارتاح بضعة أيام. وبعدئذ سيكون كل ما عليكم مواجهته هو نفاد صبره من البقاء في غرفته، الذي قد يكون ضروريا بضعة أسابيع.» «أوه، أنا في غاية السعادة! و... وممتنة بشدة لك يا سيد رينمارك!»
رد البروفيسور بحدة أذهلتها وجرحتها قائلا: «لم أفعل شيئا ... سوى ارتكاب أخطاء غبية.» «كيف يمكنك قول ذلك؟ لقد فعلت كل شيء. نحن مدينون لك بحياته.»
سكت رينمارك هنيهة. كان اتهامها الظالم الذي وجهته إليه في أول المساء قد ترك فيه جرحا غائرا، وكان يمني نفسه بأي تلميح منها لتبرئة ذمته. ولأنه كان ينتمي إلى الجنس الأغبى من البشر، لم يدرك أن تلك الكلمات قيلت في خضم حالة من الانفعال الشديد والقلق البالغ، وأن امرأة أخرى ربما كانت ستعبر عن حالتها النفسية بالإغماء بدلا من التحدث، وأن الواقعة كلها لم تترك أي أثر لها في ذاكرة مارجريت. ثم تحدث رينمارك أخيرا: «علي العودة إلى الخيمة، إن كانت لا تزال موجودة. أظن أني كنت على موعد مع ييتس منذ حوالي اثنتي عشرة ساعة، لكني نسيته ولم أتذكره سوى الآن. طابت ليلتك.»
وقفت مارجريت وحدها بضع لحظات، متسائلة عما فعلته لتضايقه هكذا. ظل يتعثر عبر الطريق المظلم، ولم يكترث كثيرا بالاتجاه الذي سلكه، لكنه سار تلقائيا في أقرب طريق إلى الخيمة. كان التعب وقلة النوم قد اشتدا عليه، وكانت قدماه كقالبين من الرصاص. ومع أنه كان مشوش الذهن، كان واعيا بوجع خفيف في المكان الذي يفترض أن فيه قلبه، ومنى نفسه وهو شارد بألا يكون قد تصرف بحماقة. ثم دخل الخيمة وفزعه صوت ييتس: «أهلا! أهلا! أهذا أنت يا ستوليكر؟» «لا، بل رينمارك. أأنت نائم؟» «أظنني كنت كذلك. الشيء الوحيد الذي أشعر به الآن هو الجوع. هل جلبت أي شيء يؤكل خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية ؟» «يوجد هنا جوال مليء بالبطاطس، حسبما أظن. فلم أقترب من الخيمة منذ الصباح الباكر.» «حسنا، ولكن لا تنتظر مني أن أشهد لك بأنك طاه بارع. لم أصل بعد إلى الجوع الشديد الذي يجعلني أتناول بطاطس نيئة. كم يمكن أن يكون الوقت الآن؟» «أنا واثق من أني لا أعرف.» «ويكأنني كنت نائما طوال أسابيع. إنني أحدث إصدار من قصة «ريب فان وينكل»، وأتوقع أن أجد شاربي رماديا في الصباح. كنت أرى ستوليكر في حلم جميل حين تعثرت قدماك بالفراش.» «ماذا فعلت به؟» «لست مستفيقا كفاية لأتذكر. أظنني قتلته، لكني لست متيقنا من ذلك. فالعديد من قراراتي الحكيمة تحيد عن مسارها وتبوء بالفشل؛ لذا من المرجح أن يكون حيا الآن. فلتؤجل سؤالك إلى الصباح. لم كنت تتسكع طوال الليل؟»
لم تأت أي إجابة. كان واضحا أن رينمارك قد غلبه النعاس.
تمتم ييتس بنعاس قائلا: «سوف أؤجل سؤالي إلى الصباح»، ثم حل الصمت على الخيمة.
الفصل الحادي والعشرون
رفض ييتس بكل إصرار التخلي عن سعيه إلى الراحة والهدوء بالرغم من مشقة العيش في خيمة مثقوبة وممزقة من كثرة الرصاصات التي اخترقتها. وأعرب عن ندمه على أنه لم يخيم من البداية في وسط برودواي، معتبرا إياه مكانا أهدأ وأقل اضطرابا من المكان الذي اختاره، ولكن أما وقد كان هذا اختياره، فقد قرر أن يبقى حتى النهاية. أما رينمارك، فكان قد ابتعد شيئا فشيئا عما ينبغي أن يكون عليه الرفيق. فكان صامتا ومتجهما مثل هيرام بارتليت نفسه تقريبا. وحين كان ييتس يحاول أن يسري عنه بأن يوضح له أن وضعه أفضل بكثير من وضع ييتس نفسه، عادة ما كان رينمارك ينهي الحديث بالخروج إلى الغابة.
كان ييتس يقول له: «كل ما عليك أن تفكر في وضعي. فها أنا ذا أموت عشقا في حب فتاتين جميلتين، وكلتاهما تنتظر مني مجرد كلمة. لقد كدت ألزم نفسي بالارتباط بإحداهما، وهذه الحقيقة تجعل رجلا بطباعي يميل بعض الشيء إلى الأخرى. ها أنا ذا متلهف بشدة إلى أن أعهد لك بأسراري ومشكلاتي، لكني أشعر بأنك قد تتشاجر معي كلما حدثتك عن تعقد موقفي. ليس لديك أي تعاطف معي يا ريني في الوقت الذي أحتاج فيه إلى التعاطف، في حين أنني أفيض تعاطفا معك وأنت لا تملك ذرة منه. والآن، ماذا كنت ستفعل لو كنت عالقا في ورطتي؟ إذا أخذت من وقتك خمس دقائق وأوضحت لي أيا من الفتاتين ينبغي أن أتزوج، فسيساعدني ذلك كثيرا؛ لأنني سأكون متيقنا حينئذ من الاستقرار على الأخرى. فالتردد هو ما يستنزف حيويتي استنزافا بطيئا لكنه مستمر.»
بحلول هذا الوقت، يكون رينمارك قد أنزل قبعته اللبادية اللينة على عينيه، ثم يتمتم بكلمات كانت لتصدر أصداء غريبة لو قيلت في القاعات الصامتة في مبنى الجامعة، ويغوص في أغوار الغابة. وعادة ما كان ييتس يراقب هيئة صديقه المبتعد عن الخيمة بتعجب طفيف ولكن دون غضب.
صفحه نامشخص