وأما الثالثة التي قتلها الحجاب فقد تزوجها رجل من أهل أدنه شديد الغيرة، دخلت بيته ليلة زفت إليه ولم تخرج منه أبدا، حتى إذا مرضت وثقل عليها المرض واشتد الألم دعا زوجها طبيبا، وأخذ يصف له ما تشكوه، فقال: أنا لا أداوي على السماع، ولا بد من رؤية المريضة، وفحص موضع العلة، فأبى الزوج الأبي ذلك، «وما مضت أيام قلائل إلا وقد أزروها في أكفانها وشيعوها إلى منزلها الأبدي من ضريح إلى ضريح.»
ويهاجم في نهاية المقال تعدد الزوجات قائلا: «رأيت رجالا يبذرون المال تبذيرا، فإذا أقاموا الأفراح نصبوا السرادقات، ورفعوا الأعلام وأوقدوا الزينات، ومدوا الموائد، وجاءوا بالمغنين والمغنيات، واستكملوا أسباب المسرات. كل ذلك ليدخلوا بامرأة لا يعرفونها، خطبوها لأنها خلقت لتخطب، فإذا صارت في أيديهم أياما ملوا حديثها، وسئموا قربها، وراحوا يفتشون على غيرها، فمثلهم كمثل الطفل المدلل يرى اللعبة فيبكي لأبيه وأمه حتى يبتاعاها له، ثم لا يلبث أن يحطمها ويطرحها جانبا ليأتيا له بغيرها.»
ثم يختتم المقال بقوله: «هذا عصر غارة شعواء يشنها المجددون على شيعة الرأي القديم، وما ضرني وقد اشتعل الرأس شيبا أن أتقدم صفوف الشباب، فإن لم أكن صاحب أمرهم، فما علي أن أكون حامل رايتهم، فمن لي بصاحب «تحرير المرأة» أن ينفض عنه تراب القبر ويخرج إلى الأحياء ليرى مبلغ استفادتهم من رأيه، أما إنه لو فعل - ولن يفعل - وقرأ ما يكتبه قوم في إبقاء الحجاب، والتحكم على أمهات الأجيال الآتية، لكر راجعا إلى مرقده وأغمض عينيه حتى لا يرى، وأذنيه لكيلا يسمع.»
وأنشد قول الحكيم القديم:
ضجعة الموت رقدة يستريح
الجسم فيها والعيش مثل السهاد
هذه طائفة من الآراء التي التزم بها ولي الدين يكن، وقد كانت - كما قلنا - آراء ثابتة لا خواطر شعراء يهيمون في كل واد، بل لقد نادى ولي الدين نفسه بدافع من فطرته ومزاجه بالالتزام في الأدب والفكر والحياة، وندد بالتردد والنفاق، حيث قال في ص104 من التجاريب: «إن من عجائب الشرق أن يشكو ابنه الرجل حاضرا، وأن يشتاق إليه غائبا، ومن عجائبه أن يكون لكل امرئ رأيان ليس له أحدهما، ولكنه يحملهما استخداما لهما، فكلما حل بين جماعة من أهل أحد الرأيين كلمهم به.»
وبمراجعة هذه الآراء وطوائف المجتمع التي كانت ترضيها أو تغضبها عندئذ تلك الآراء، نستطيع أن ندرك مقدار الشجاعة الأدبية التي كان يتصف بها هذا الأديب الشاعر الملتزم، وذلك بصرف النظر عن كونه قد أخطأ أو أصاب في تمسكه بكل هذه الآراء والتعصب لها، وبصرف النظر عما إذا كان قد أحسن دائما فهم التيارات الظاهرة والخفية التي كانت سائدة في عصره، أو أساء، والشيء المؤكد هو أننا لا نستطيع أن نرميه بفساد الضمير أو التواء القصد، فهو ربما يكون قد أساء الرأي، ولكنه لم يسئ القصد.
وليس بخاف بعد ذلك أن آراءه لم تكن تصادف هوى إلا في نفوس طوائف ضيقة محدودة؛ لأنه كان مخطئا في بعضها، وسابقا لعصره في بعضها الآخر، كما أن عصره كان - كما قلنا - مبلبلا مضطربا بين الاتجاهات المختلفة والسبل المتعارضة، وكان الناس لا يزالون يبحثون عن الوجهات المجدية الصالحة لأفرادهم ووطنهم، كما كانوا لا يزالون في حاجة إلى غربلة القيم المختلفة المتوارثة والدخيلة، وانتقاء خيرها، وأجداها نفعا.
وعلى أية حال، فإن رجلا كان يغاضب العرابيين ورجال الحزب الوطني ورجال الدين والمتزمتين والمحافظين، لم يكن من المعقول أن يحظى بجمهور كبير يشيد بفضله وينزله المكانة التي يستحقها في عالم الأدب والشعر. بل إن إشادته بعدل الإنجليز، وحماية كرومر للحرية والأحرار وإعجابه به كان وحده كفيلا بأن يحط من ذكره، وأن يصمه بما لا نزال نسمعه حتى اليوم من أنه كان من أنصار الإنجليز المحتلين، وهذه تهمة استطاعت أن تطمس ما كان له من اتجاهات أخرى خيرة، كتعصبه للحرية السياسية والفكرية، وثورته على الظلم والاستبداد، ومناصرته للقضايا التقدمية.
صفحه نامشخص