مقدمة
ولي الدين يكن
معالم حياته1
صورته النفسية
أديب ملتزم
أديب الحرية
آثاره الأدبية
ولي الدين الشاعر
ملحق
مقدمة
ولي الدين يكن
معالم حياته1
صورته النفسية
أديب ملتزم
أديب الحرية
آثاره الأدبية
ولي الدين الشاعر
ملحق
محاضرات عن ولي الدين يكن
محاضرات عن ولي الدين يكن
تأليف
محمد مندور
مقدمة
تحدثنا في العام السابق عن الشعر بعد شوقي، فلاحظنا وجود تيارين كبيرين؛ هما تيار الشعر التقليدي، وتيار المجددين، وسايرنا كلا التيارين بعض الشوط، ولكننا لاحظنا بعدئذ أننا قد جاوزنا في الحديث الزمن الذي عاش فيه شاعران كبيران، لم يتحدد لكل منهما مكان في التيارين الكبيرين سالفي الذكر، وهذان الشاعران هما: ولي الدين يكن (1873-1921)، وإسماعيل صبري باشا (1854-1923).
ولم يكن ذلك لضعف في مكانتهما الأدبية، أو تفاهة في إنتاجهما الشعري، ولكن لأن كلا منهما كان في الواقع بمثابة جدول خاص ينساب إلى جوار التيارين الكبيرين، اللذين كانا يشغلان حقل الشعر عندئذ، ويصطرعان اصطراعا مستمرا، لا هوادة فيه، ولا رفق.
والواقع أن هذين الشاعرين لم يثيرا دويا في عالم الشعر العربي المعاصر، ولم يخوضا معارك، ولم يحاولا اجتذاب أنصار، وتكوين مدرسة أو مذهب في الشعر، وإذا كان من النقاد المحدثين من يرى أن إسماعيل صبري يدخل في تيار الشعر التقليدي،
1
بالرغم من ثقافته الفرنسية، وعمله في القضاء المختلط زمنا طويلا، بينما يعتبر ولي الدين يكن شاعرا مجددا في روحه وأسلوبه، إذا كان هذا هو رأي بعض النقاد، فإن الحقيقة الأكثر وضوحا هي ما سبق أن ذكرناه من أن هذين الشاعرين لم ينضم أي منهما إلى تيار من التيارين الكبيرين، اللذين اصطرعا، ولا يزالان يصطرعان في عالم الشعر العربي الحديث.
والواقع أن كلا من ولي الدين يكن، وإسماعيل صبري لم يحترف الشعر، ولم يجعل منه وكده، ولا اشترك في معارك الشعر والأدب، وإن اختلف باعث كل منهما على الموقف الذي وقفه منهما.
فأما إسماعيل صبري، فإننا لا نجد في تحديد موقفه من الشعر خيرا من اصطلاح إيطالي، انتقل من الإيطالية إلى غيرها من اللغات الأوروبية الحديثة ، كالفرنسية والإنجليزية وغيرهما، وهو لفظة ديلليتانتي
Dilettante ، التي يمكن ترجمتها إلى العربية بلفظة «الهاوي»، فهو لم يكن يقول الشعر لأن من واجبه أن يقوله عندما تعن مناسبة، ولم يكن الناس يحاسبونه على صمته كما يحاسبونه على قوله؛ لأنه قد عرف بين الناس بأنه شاعر؛ أي: محترف، كما أنه لم يحرص على أن يخوض في مناقشة أصول الشعر ومذاهبه، ولا على تحديد مكانه في عالم الشعر، وإنما كان يقول الشعر إذا ساقه مزاجه إلى أن يقوله في غير قصد إرادي، ولا تصميم، وهو الرجل الهادئ المنعم الذي يأخذ الحياة من أيسر سبلها، ولا يعرف الانفعالات العنيفة، أو المشاعر الجامحة، أو التكالب على الأدب وعرش الأدب، حتى لقد وصفه الأستاذ العقاد في كتابه عن «شعراء مصر وبيئتهم في الجيل الماضي» بأنه «شاعر قاهري»؛ لما لاحظه على شعره من روح المدن، ومدينة القاهرة بنوع خاص، حيث تغلب على أمزجة سكانها روح اليسر، وعدم التزمت والانفعال.
وأما ولي الدين يكن، فبالرغم من أن مزاجه العصبي العنيف كان يختلف الاختلاف كله عن مزاج إسماعيل صبري القاهري المرفه الوديع الهادئ الطبع، إلا أنه هو الآخر لا يمكن أن يوصف بأنه قد احترف الشعر، واتخذه غاية في ذاته، أو فنا جميلا قائما بنفسه، وإنما اتخذ الشعر وسيلة للتعبير عن آرائه واتجاهاته السياسية والاجتماعية، حتى لنراه يجمع بين الشعر والنثر في كثير من أبحاثه ومقالاته التي كان ينشرها في الصحف، والتي جمعها بعد ذلك في كتبه: «الصحائف السود»، و«التجاريب»، و«المعلوم والمجهول» بجزأيه، وأكبر الظن أن ولي الدين يكن لم يكن يلجأ إلى الشعر؛ ليستهل به مقالاته إلا لإحساس عميق بأن الشعر يستطيع بفضل موسيقاه وأخيلته أن يستنفد ما في أفكاره من انفعالات، حتى إذا هدأت نفسه، واستراحت من عصبيتها العنيفة الدافقة، لجأ إلى النثر ليفصل القول، ويعالج المشكلة التي يدور حولها المقال، مما يدفعنا إلى أن نحدد الخاصية الأساسية لشعر ولي الدين يكن في قولنا: إنه شاعر الانفعالات الفكرية، كما حددنا من قبل إسماعيل صبري بأنه شاعر الهواية الأدبية.
ثم إن كلا من الشاعرين قد كان مقلا نسبيا في إنتاجه الشعري؛ وذلك لأن إسماعيل صبري كان مشغولا بالحياة ونعيمها الميسر عن الشعر، كما أن ولي الدين يكن قد كان مشغولا بمعاركه السياسية والاجتماعية عن الشعر كفن جميل يقصد لذاته، وكل ما كان يحرص عليه - كما قال في مقدمات كتبه، وفي شعره أحيانا - هو أن يأتي يوم ينتفع فيه مواطنوه من عرب وأتراك بآرائه ونزعاته الإصلاحية، وقد عبر عن هذا الأمل في بيتين حرص على أن يدونهما تحت صورته التي يفتتح بها كتبه وديوانه، وهما:
ما كان أهنأني وأسعدني
لو كان ينفع معشري قلمي
أنا لي فؤاد لا أنزهه
لكن يراقب ما يقول فمي
وهو يردد نفس المعاني في نثره مثل قوله في تقديم كتابه المعلوم والمجهول: «بهذا الكتاب أشياء، وقد فاتته أشياء، وفي أحوال العالم ما يمنع الإفصاح بكل ما يدور في الخلد، على أنني لا أحب أن أخرج من هذه الدنيا قبل إظهار ما عندي من الخوافي، فإذا وفقني الله إلى أمنيتي تلك كنت سعيدا ... حين تذهب دول الظلم، ويذوق الناس نعيم العدل، يقرءون مثل كتابي هذا بارتياح، وإذا وهب الله أقوامنا من الترقي أكثر مما نالوه، وبقيت حيا بينهم، كلمتهم بما يخالج صدري تصريحا لا تلميحا.»
ولي الدين يكن
لا شك أن ولي الدين يكن يعتبر من الظواهر الفريدة بين رجال الأدب والفكر؛ وذلك لأن هذا التركي العنيد يعتبر مثلا قويا في صلابة الرأي، وجرأة الفكر، وانفعال العصب في كل أو معظم ما كتب من شعر ونثر.
ولا شك أيضا في أن وضعه الخاص، وظروف عصره، وتضارب التيارات السياسية والاجتماعية في أيامه، لا شك أن كل هذا قد أثر تأثيرا بليغا على مكانة ولي الدين؛ ككاتب، وشاعر، وعلى ما خلف من شعر ونثر، وعناية الناس بدراسة تراثه الأدبي.
وذلك لأن ولي الدين ولد تركيا، وهو بحكم هذا المولد لم يكن يستطيع إلا أن يتعصب للجنس العثماني، وأن يغار على مجده وسلطانه، ولكنه من جهة أخرى كان ساخطا على الفساد الذي انتشر في قصر الخلافة، وفي حكم الخلفاء العثمانيين، وقد أخذ يهاجم هذا الفساد والظلم والطغيان هجوما عنيفا لا هوادة فيه، وانضم إلى جماعة تركيا الفتاة، وحزب الإصلاح والترقي، حتى نفاه السلطان عبد الحميد إلى مدينة سيواس حيث ظل في منفاه من سنة 1902 إلى سنة 1909، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن نجحت الثورة ضد الخليفة، وأرغمته على إصدار الدستور، وتقرير الحكم النيابي سنة 1908، ومنذ أن أطلق سراحه قدم إلى مصر، وظل فيها حتى توفي.
وكانت مصر في ذلك الحين تعج بالتيارات السياسية، والدينية، والعنصرية المختلفة المتضاربة.
1
ففيها المنادون بالجامعة العثمانية، المتحمسون للخلافة، والمتمسكون بأهدابها؛ لكي يستعينوا بها على محاربة الاستعمار الإنجليزي، وكان هذا التيار هو الغالب عندئذ، حتى لقد اختلط بفضل مصطفى كامل وزملائه في الحزب الوطني بمعنى الوطنية المصرية العنيفة المتطرفة، بينما كان هناك نفر آخر يبغضون حكم الأتراك، وظلمهم واستبدادهم، ويرون من الوطنية الواعية أن يوفروا الجهد أولا على تخليص مصر من السيطرة العثمانية، حتى ولو أدى بهم ذلك إلى مهادنة الإنجليز والاستعانة بهم ضد الأتراك، وقد استغل هذا النفر شعور العداء الذي ولدته الثورة العرابية ضد الأتراك والجراكسة، وغطرستهم، واحتقارهم للفلاحين، واحتكارهم لمناصب البلاد الكبرى، وخيراتها الوفيرة؛ ولذلك نادى هذا الفريق بمبدأ «مصر للمصريين» حتى يقضوا على الدعوة القائلة بأن مصر للعثمانيين، وهذا النفر هم الذين كونوا حزب الأمة، وإن يكن هذا الحزب قد ضم الكثيرين من وجوه البلاد وباشواتها، وأصحاب الإقطاع فيها، أي أولئك الذين كانوا يسمون أنفسهم بأصحاب المصالح الحقيقية، وكانت هذه المصالح تتفق وترتبط بمصالح الاستعمار الإنجليزي الاقتصادية.
وكانت هذه الوحدة في المصالح من العوامل القوية التي قربت بينهم وبين الإنجليز، وذلك بينما كان الحزب الوطني يرى أن تبعية مصر لتركيا لا تعتبر تبعية استعمارية، وبخاصة بعد أن ضعفت تلك التبعية، وأصبحت أمرا شكليا، لا تعدو نتائجه الفعلية الإتاوة التي كانت تدفعها مصر لتركيا سنويا، ثم بعض المظاهر المعنوية والروحية؛ كالمناداة بالخليفة، والدعاء له في خطب الجمعة بالمساجد .
وفطن الإنجليز بالفعل إلى ضرورة تحطيم فكرة الجامعة العثمانية، والوحدة الإسلامية، لكي تخلص لهم مصر، وغيرها من البلاد العربية، فأخذوا يناصرون المنادين بمبدأ مصر للمصريين، كما أخذوا يناصرون الساخطين على فساد الخلافة وانحلالها وطغيان حكامها، حتى لنراهم يوحون بفكرة انتقال الخلافة إلى العرب، وأولويتهم بها، بحكم أن الدين قد نزل على نبي منهم، كما نزل القرآن بلسانهم العربي.
ولقد ناور معتمدو بريطانيا في مصر - وبخاصة اللورد كرومر - مناورات عميقة مؤثرة؛ لتغليب سياستهم، وجمع الأنصار حولها، فنراهم مثلا يوحون ابتداء من سنة 1892 بإهمال قانون المطبوعات القاسي الذي كان قد صدر في سنة 1881 إبان الثورة العرابية، ويطلقون للصحف حرية مطلقة قلما تشهد مثلها، وظلت هذه الحرية على هذا الإطلاق حتى تغيرت الظروف، فبعثوا من جديد هذا القانون العاتي في سنة 1909، وكان بعثه من ضمن الأسباب التي أدت إلى اغتيال بطرس باشا غالي، وكانت السياسة الإنجليزية ترمي من وراء إباحة حرية الصحف إباحة مطلقة إلى هدفين؛ أولهما: تشتيت الرأي العام الوطني في فرق وأحزاب، يشغلها تطاحنها وسبابها وعنف خصوماتها عن التنبه إلى الاستعمار الإنجليزي، والتكتل لمحاربته، والتخلص منه. وثانيهما: شغل الرأي العام بمشاكل الإصلاح العاجلة وغير العاجلة، وصرفه عن المشكلة الكبرى، وهي مشكلة الاستعمار الإنجليزي.
والواقع أن الإنجليز قد استطاعوا بهذه السياسة الخبيثة وأمثالها أن يجتذبوا إليهم عددا من الوطنيين المستنيرين، الذين طربوا لهذه الحرية، وآثروها على الاستبداد التركي، حتى أصبحت مصر عندئذ موئلا لكثير من الترك والعرب والأرمن وغيرهم، ممن نزحوا من بلادهم التي كانت تركيا تسيطر عليها سيطرة مطلقة، وتنشر فيها أنواعا من الظلم والإرهاب البالغة القسوة.
والواقع أيضا أن الإنجليز قد استطاعوا أن يوهموا نفرا من المصريين المستنيرين بأنهم سينقلون إلى مصر الحضارة الأوروبية، ويساعدون على إصلاح مرافق البلاد، وتعميم الخدمات الشعبية، ويستبدلون بظلام الأتراك نور الحضارة الغربية، بل واستطاعوا أن يقنعوا عددا من المفكرين بأن تعصب رجال الدين في الإسلام وجمودهم وتخلفهم عن مجاراة روح الحضارة، من بين الأسباب الأساسية في تخلف مصر، وغيرها من البلاد الإسلامية، وعجزها عن مجاراة الحضارة الحديثة.
واستفحلت هذه الدعاية حتى رأينا عددا من المفكرين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، وقصر الدين على تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، بل وتطرف البعض فأخذ يشك في صلاحية الدين الإسلامي نفسه لأن يكون دين حضارة.
ولم تقتصر هذه التيارات المتضاربة على محيط المصريين الأصلاء، بل امتدت إلى عدد كبير من المهاجرين، واللاجئين السياسيين الذين وفدوا إلى مصر من تركيا، أو من البلاد السورية اللبنانية؛ فرارا من استبداد الأتراك، أو مما ظنوه تعصبا دينيا، واحتضن الإنجليز كل هذه العناصر الدخيلة، واستخدموها في تغليب سياستهم، ونشرها بين طبقات الشعب العميقة، وكان من بين هؤلاء النازحين أصحاب المقطم والمقتطف بنوع خاص، إذ نراهم يناصرون الاستعمار البريطاني ورجاله في مصر مناصرة علنية صريحة، بل يكونون حزبا وهميا سموه بالحزب الوطني الجديد، لمناهضة حزب مصطفى كامل، وسياسته الوطنية المتطرفة، واتجاهه العثماني الديني.
وعلى ضوء هذه الحقائق والتيارات نستطيع أن نحدد الوضع، الذي لم يكن بد من أن نجد فيه ولي الدين يكن العثماني بمولده، والساخط على الخلافة العثمانية، وحكمها الظالم الفاسد، بطبعه ومزاجه وثقافته وظروف حياته، ثم موقفه من الإنجليز، وموقف الإنجليز منه، بعد أن تيقنوا من أنه من رجال تركيا الفتاة، الذين يناهضون عبد الحميد الثاني وخلافته الفاسدة المستبدة، بل وموقفه من حركة الإصلاح في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية، وفضلا عن نزعته العنيفة نحو التحرر الفكري، والتخلص من سيطرة الكهنوت الديني، بل والتزمت الإسلامي كله، واتجاهه بكل قوته نحو النظم المدنية والحضارة الحديثة.
وهكذا تآمرت الظروف والأحداث لكي تضع ولي الدين يكن في وضع لم يكن يرضي التيار الوطني المسيطر، أو الآخذ في السيطرة عندئذ، وهو تيار مصطفى كامل وأنصاره من رجال الحزب الوطني، الذين كانوا يحاربون الإنجليز حربا لا هوادة فيها، ويتمسكون بحكومة الخلافة، ويستمدون منها العون ضد الاستعمار الإنجليزي، ويحرصون على الروح الدينية والوحدة الإسلامية. وكان هذا الوضع من الأسباب الرئيسية التي أصابت ولي الدين يكن وأدبه بالخمول حتى يومنا هذا، بالرغم من قوة نزعته التحريرية ونبلها ، وإفناء حياته في سبيل مثل الحرية والتقدم التي آمن بها، وتعصب لها، ودفع في سبيلها أبهظ الأثمان؛ من عذاب النفي، والفقر، والمرض، وإنهاك الأعصاب.
والواقع أن ولي الدين يكن قد اتهم بمناصرة الإنجليز، والإشادة بعدلهم في مصر، وتعميرهم لها؛ وذلك لأنه قد وجد فيهم حماة من الظلم التركي، حتى كانت مصر تعتبر عندئذ موئلا للأحرار من الأتراك والعرب الخاضعين للحكومة التركية المستبدة، وكان ولي الدين يجاهر بهذه الآراء، وينشرها في الصحف في مقالات أو قصائد، مثل المقال الذي نشره في جريدة المقطم، وأعاد نشره في كتابه «الصحائف السود» (ص45-51) تحت عنوان «المحتلون يخرجون من مصر» وفيه يقص حلما لموكب خروج الإنجليز من مصر، وما يترتب على ذلك من آثار مدمرة، ويختتم المقال أو الحلم برؤيته لتمثال إبراهيم باشا، وهو ينزل إلى الميدان ليمنع جيش الاحتلال من الخروج، قائلا: «تريدون اليوم أن تخرجوا من مصر؛ ليصبح عاليها سافلها، وليجري هذا النيل أحمر قانيا، كلا ثم كلا، لأصيحن صيحة تخرق حجب الأزل، وتنفذ إلى من ولجوا غابته، ولأبعثن لكم من تحت المقابر أجسادا تسد دونكم طرق الرحيل، أما والهرمين والنيل ليدخلن أهل الطيش غدا على العذارى في خدورهن، وليأخذون بغدائرهن، وليقومون بعد زماعكم من الشر أضعاف ما أتى بمقامكم من الخير، ارجعوا إلى ثكناتكم مأجورين غير مأزورين، إنما يأنس إليكم أهل الوقار وأنصار الفضل.» وهو يعترف بجميل إنجلترا على الأحرار من أعضاء تركيا الفتاة في رثائه لإدوارد السابع سنة 1910، فيقول:
أبا الأحرار لا ينساك حر
شبابهمو يجلك والكهول
رفعت بناءهم وجريت معهم
كذاك الليث يتبعه الشبول
تناديك الشعوب بكل أرض
فليتك سامع ماذا تقول
تناجي منك حاميها المرجى
وصولتها إذا قامت تصول
ومع ذلك فالظاهر أن ولي الدين يكن لم يكن يناصر الإنجليز؛ إلا لأنهم يحمونه من عسف الأتراك، ولم يكن كشاعر آخر هو نسيم الذي كان يمدحهم ويذود عنهم طمعا في مغانم الحياة؛ وذلك لأن ولي الدين يكن كان رجلا أبيا عفيف النفس ذا كبرياء، وقد خاصم السلطان عبد الحميد الثاني خصومة عنيفة لا هوادة فيها ولا رفق، وتحمل في شجاعة الذل والفقر والشقاء طوال حياته، وبخاصة أيام نفيه في سيواس على نحو ما نطالع في بعض فصول كتابه «المعلوم والمجهول».
والظاهر أن بغض ولي الدين لعبد الحميد كان من ذلك النوع العنيف الجامح الذي لا تهدأ له ثائرة، والذي قد يغشي البصيرة، ويسوق إلى التماس كافة السبل لإرضاء ذلك البغض، حتى لنراه يستمر في بغضه وهياجه ضد عبد الحميد بعد عزله، كما نراه يغضب من شوقي؛ لأنه رثى لحال عبد الحميد، وأبدى أسفه لعزله عن الخلافة في قصيدته التي مطلعها:
سل يلدزا ذات القصور
هل جاءها نبأ البدور
ثم يقول:
شيخ الملوك وإن تضع
ضع في الفؤاد وفي الضمير
فاستغفر المولى له
والله يعفو عن كثير
وتراه عند مصابه
أولى بباك أو عذير
ونصونه ونجله
بين الشماتة والنكير
عبد الحميد! حساب مث
لك في يد الملك الغفور
يغضب ولي الدين يكن من شوقي بسبب هذه القصيدة، ويرد عليه قائلا:
هاجتك خالية القصور
وشجتك آفلة البدور
وذكرت سكان الحمى
ونسيت سكان القبور
وبكيت بالدمع الغزي
ر لباعث الدمع الغزير
ولواهب المال الكثي
ر وناهب المال الكثير
حامي الثغور الباسما
ت مضيع آهلة الثغور
إن كان أخلى يلدزا
مخلى الخورنق والسدير
أو فاستسرت من سما
ها أنجم بعد الظهور
فلتأهلن من بعدها
آلاف أطلال ودور
وبعد أن عدد مآسي عبد الحميد وظلمه وفجوره، انتهى إلى التعريض بشوقي ومن نحا نحوه من الشعراء، فقال:
لما أديل من السرير
بكاه عباد السرير
نذروا النذور لعوده
هيهات يرجع بالنذور
أسفوا عليه وإنما
أسفوا على المال الدرير
طلبوا له عفو الغفو
ر وشذ عن عفو الغفور
قلص ظلالك راحلا
ودع البرية في الهجير
وفي الحق أن المقارنة بين قصيدة شوقي «عبرة الدهر» التي قالها في سنة 1909 في خلع عبد الحميد الثاني، وقصيدة ولي الدين يكن التي سماها أيضا «عبرة الدهر»، وقالها مناقضة لقصيدة شوقي السابقة، وجمعتا جنبا إلى جنب في ديوان ولي الدين يكن (ص26-32)، نقول : إن المقارنة بين هاتين القصيدتين يمكن أن نخلص منها إلى تحديد منهج كل من الشاعرين في الحياة، ومزاج كل منهما الشخصي، مما يعيننا على أن نفهم كيف استطاع شوقي بلباقته ومرونته أن يكسب أكبر عدد من الناس حتى يذيع صيته، ويشغل الدنيا بذكره، بينما نرى ولي الدين الصلب العنيد يستكثر من خصومه، ولا يداري أو يواري أو يهادن فيما يراه حقا وعدلا، في حين نرى شوقي يتجنب المزالق، ويحاول أن يرضي الجميع، فهو يرثي لعبد الحميد، ويسهب في وصف ما كان فيه من نعيم، ويتحدث عما يظن أن «حريم» عبد الحميد وجواريه الحسان سيجدنه من حزن ومرارة بعد عزل سيدهن، ويبدي أسفه؛ لأن عبد الحميد المحنك الخبير لم يستطع أن يتدارك الأمر بحكمته، فيحتفظ بعرشه وقصوره وجواريه، قائلا له:
ماذا دهاك من الأمو
ر وكنت داهية الأمور
أين الروية والأنا
ة وحكمة الشيخ الخبير
إن القضاء إذا رمى
دك القواعد من ثبير
ثم ينتقل في مرونة نخشى أن تكون نفاقا ومداراة إلى تمجيد الثائرين الأحرار، فيقول:
دخلوا السرير عليك يح
تكمون في رب السرير
أعظم بهم من آسري
ن وبالخليفة من أسير
أسد هصور أنشب ال
أظفار في أسد هصور
بل ويود أن لو احتفظ عبد الحميد بالدستور، ولم يتنكر له، ويشيد بذلك الدستور وبجدواه، ثم ينتقل إلى مدح الجيش الثائر وقادته أنور ونيازي وشوكت، قائلا:
يا أيها الجيش الذي
لا بالدعي ولا الفخور
يخفي فإن ريع الحمى
لفت البرية بالظهور
كالليث يسرف في الفعا
ل وليس يسرف في الزئير
عند المهيمن ما جرى
في الحق من دمك الطهور
يتلو الزمان صحيفة
غراء مذهبة السطور
في مدح «أنورك» الجري
وفي «نيازيك» الجسور «يا شوكت» الإسلام بل
يا فاتح البلد العسير
وأخذت يلديز عنوة
وملكت عنقاء الثغور
بل ويهنئ الخليفة الجديد ويبايعه، وما كان لشاعر القصور شوقي أن يغفل عن مثل هذه التهنئة، فيقول:
المؤمنون بمصر يهد
ون السلام إلى الأمير
ويبايعونك يا محم
د في الضمائر والصدور ... إلخ (ص49).
وكل ذلك لا يروق رجلا عنيفا صارما لا يقول الشعر؛ لأن من واجبه أن يقوله، وأن يراعي اللياقة، ويرضي كافة الجهات، بل يقول الشعر لينفس عن مكنون صدره، ولا يضمن شعره إلا الحق الذي يؤمن به، والقول الذي يشفي نفسه مما بها، ولو أغضب من أغضب، وأرضى من أرضى.
وبالرغم من بغض ولي الدين لعبد الحميد، ولكل حاكم تركي مستبد ظالم، فإنه كان يتعصب للعثمانيين كما يتعصب للعرب، حتى لنراه يثور؛ إذ يطالع في جريدة المقطم مقالات لكاتب اسمه عزت الجندي، وفيه يحمل على الأتراك ونكبتهم للبلاد العربية، فيرد عليه في مقال ينشره في المقطم تحت عنوان «الشقاق»، يبدؤه بالبيتين العربيين القديمين:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
ثم يقول: «شهد الله وكل عثماني حر يكون قد قرأ لي شيئا أني لا أتعصب للدين، ولا للجنس، أنا تركي، وأبغض عباد الله إلي تركي يعتدي، أحب العناصر العثمانية كلها، وآخذ بناصر المستضعف منها، ثم أحب العرب حبا خالط الروح، وجرى مجرى الدم من العروق، وأنا عربي الأدب والقلم، عربي النزعة، ومن أبغض العرب فأنا مبغضه، أولئك إخواني الذين أغنيهم فيطربون، وأحدثهم فيقبلون علي بالسمع، غير أني لا أكذبهم، إني كذلك لا أحب من يسب الترك، ولا من يكون لهم عدوا، وكذلك العرب لا يحبون من لا يحب إخوانهم، وإذا جرى بين العرب والترك شر أكون يومئذ بمعزل عن كليهما، داعيا عليهما بالفشل جميعا.» ثم يندد بروح الخصومة بين العرب والأتراك، ويدعو إلى التآخي بينهم.
والواقع أن العصر الذي عاش فيه ولي الدين يكن كان عصرا شديد التذبذب بين الاتجاهات المختلفة، وكان من الشاق أن يتبين المرء السبيل السوي، بل لقد كنا نرى كبار المفكرين والأدباء والسياسيين يتأرجحون بين اتجاه وآخر من الاتجاهات المتضاربة المتعادية، التي كانت تستغلها قوى الاحتلال والتعصب العنصري الديني، بحيث لا يسهل علينا اليوم أن نحكم على هذا الرجل أو ذاك بالوطنية، أو الخيانة ، وبالخير، أو الشر؛ لمناصرته هؤلاء ، أو أولئك، ولاستعانته بهذا الفريق، أو ذاك؛ لمناصرة فكرته، وإن كنا بالرغم من كل ذلك لا نستطيع إلا أن نأسف للظروف التي تآمرت، فساقت ولي الدين إلى المعسكر الإنجليزي يتقي به استبداد الأتراك، مما أساء إلى سمعته، وحد من المجد الأدبي الذي يستحقه ككاتب جيد وشاعر كبير، ورجل حر عزيز النفس، لا يهادن ولا يتملق، ولا يسخر قلمه ومواهبه لأعراض الحياة الفانية.
معالم حياته1
ولد ولي الدين يكن - كما قلنا - في عام 1873 في الآستانة التي ظل يحن إليها طول عمره، ويتغنى بجمالها، ويرثي لما يصيبها من محن، ويطرب لذكراها، رغم ما لاقى منها من شدائد واضطهاد، وقد فصل الحديث عنها في كتابه «المعلوم والمجهول».
وقد نشرت مجلة الزهور في أحد أجزائها سنة 1913 مقالا في وصف الآستانة، فأرسل ولي الدين إلى رئيس تحريرها كتابا يقول فيه: «لله وصفك لفروق ونوحك عليها، فقد هزا روحي هزا، رعى الله فروق، ما أفتنها، هي أول ثغر بسم لوجهي بعد ثغري الوالدين، ثم لم ألقها بعد ذلك إلا باكية وباكيا، ائتلفت العناصر فقامت بها الأشياء، وقامت فروق من عنصر واحد، لست أدري ما هو، ولكنه عنصر يظلم عنده الراديوم، كنت أشتاق إلى فروق وأنا فيها، فكيف الحال وأنا ناء عنها؟ إن أمة تضيع مثل فروق لمضياع، غير أن فروق ناشز لا تدوم على ود، ليتها لم تكن، وليتها إذ كانت، كانت في دون هذا الجمال ...»
وقد ولد في بيت نبيل، فهو ابن حسن سري باشا يكن، وحفيد إبراهيم باشا يكن ابن أخت محمد علي باشا الكبير، رأس الأسرة التي كانت مالكة في مصر، ولقب أسرته «يكن» معناه باللغة التركية «ابن الأخت»؛ لأن جدها كان ابن أخت والي مصر، وكانت أمه بنت أحد أمراء الشراكسة، وقد ربيت بعد هجرة أبيها من موطنه في قصر الأمير برهان الدين أفندي، أحد أنجال السلطان عبد الحميد، وربما كان لهذه النشأة أثر فيما اتصف به ولي الدين من أنفة وكبرياء، وإباء للضيم، وعناد في الرأي ، ونفور من الاستسلام أو الاستخذاء، وإن لم يفتخر بأصله، بل كان يفتخر بنفسه، ويعتز بصلابة خلقه، ويقول من خالطوه؛ كأنطون الجميل: إنه كان وديعا خافض الجناح.
وقد جاء به والده إلى مصر، وهو لا يزال طفلا، ولم يلبث الوالد أن توفي والولد في السادسة من عمره، فكفله عمه علي حيدر باشا يكن وزير المالية المصرية يومئذ، ثم ألحقه ب «مدرسة الأنجال» الشهيرة التي أسسها محمد توفيق باشا خديوي مصر لتعليم أنجاله، بعد أن ضم إليها عددا من أولاد أمراء مصر ووجهائها، فتلقى ولي الدين دروسه مع الخديوي عباس الثاني في مدرسة واحدة، ودون بعض ذكريات الدراسة في «المعلوم والمجهول»، وأولع بالأدب العربي فأخذ أصوله وفنونه عن أئمة ذلك العهد؛ كالشيخ محمد النشار، وأضرابه، وظهرت مواهبه الكتابية على حداثة عهده، وأتقن العربية إتقانه للتركية مع معرفة واسعة بالفرنسية، وإلمام بالإنجليزية، وانصرف إلى الكتابة في الصحف، تارة أديبا وتارة سياسيا، فكتب في جرائد «القاهرة»، و«النيل»، و«المقياس»، حينا مراسلا، وحينا محررا، ولم ينقطع عن الكتابة في الصحف إلا فترات قصيرة من الزمن، توظف فيها في النيابة الأهلية، ثم في المعية السنية، ولما بلغ الرابعة والعشرين من عمره قصد إلى الآستانة، وقضى فيها حوالي سنة عند محمد فائق بك يكن أحد أعضاء مجلس شورى الدولة، ثم عاد إلى مصر فأصدر جريدة «الاستقامة»، التي منعت حكومة الآستانة دخولها إلى الممالك الإسلامية، فأوقف صدورها وودعها بقصيدة قال فيها:
ولما غدا قول الصواب مذمما
عزمت على أن لا أقول صوابا
فجافيت أقلامي وعفت «استقامتي»
ورحت أرجي للسلامة بابا
وفيها يقول:
أبى الله إلا أن أزيد تصابيا
لمجدي ومجدي أن يقال تصابى
فمن مبلغ عني الغضاب الألى جنوا
بأني امرؤ ما إن أخاف غضابا
أذم فلا أخشى عقابا يصيبني
وأمدح لا أرجو بذاك ثوابا
علام أحابي معشرا أنا خيرهم
ومثلي إذا حابى الرجال يحابى
وقائلة حتام يفنى شبابه
فقلت إلى أن لا يصير شبابا
إلى أن تزول الأرض عن نهج سيرها
وتصبح هذي الكائنات خرابا
وأخذ بعد ذلك ينشر مقالات ضافية في السياسة العثمانية في جريدة «المقطم»، وجريدة «المشير». وبعد سنة قصد ثانية إلى الآستانة، فعين في «الجمعية الرسومية الجمركية»، ثم عضوا في «مجلس المعارف الأعلى».
ولم يلبث أن نفاه السلطان عبد الحميد إلى «سيواس»، فظل فيها سبع سنوات، بقي في منفاه إلى أن أعلن الدستور العثماني سنة 1908، فعاد إلى الآستانة، ومنها إلى مصر، وبعد عودته إلى مصر عاود الكتابة في الصحف السابقة، ثم في «الأهرام»، و«المؤيد»، و«الرائد المصري»، كما تولى ردحا من الزمن رئاسة تحرير جريدة «الإقدام» التي أصدرتها في الإسكندرية الأميرة ألكسندرة أفرينو ديفيس ديوسكا، وقد جمع معظم الكتابات التي كتبها في هذه الفترة في كتابي: «الصحائف السود»، و«التجاريب»، كما ترجم من اللغة التركية إلى اللغة العربية كتاب: «خواطر نيازي، أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير»، ونشرت الترجمة في سنة 1909.
وقد عين في وزارة الحقانية المصرية إلى أن تولى السلطان حسين كامل عرش مصر، فدعاه إليه وعينه سكرتيرا عربيا في الديوان العالي السلطاني، وكانت هذه أسعد فترة في حياته؛ لأنه كان معجبا بالسلطان حسين، مرتاحا إلى العمل معه، ولكن سعادته لم تدم طويلا؛ إذ أخذ مرض الربو ينغصها حتى اشتد به المرض، واضطر إلى أن يعتزل منصبه، وأن يلازم منزله في حلوان حتى لقي ربه في سنة 1921، وكان في مدة عمله بالديوان السلطاني قد ترجم من الفرنسية إلى العربية رواية «الطلاق» لبول بورجيه.
ولقد عبر أنطون الجميل عن الشقاء وسوء الحظ اللذين لازما ولي الدين يكن في حياته وموته في رثائه له، فقال: «وقد أبى الله إلا أن يغمط فضله بعد مماته كما غبن في حياته، فقد اجتمعنا في الخامس عشر من شهر أبريل سنة 1921 لتأبينه، فإذا بنا نفر قليل حول قبره، نفتش عن معظم أدباء مصر، وحملة الأقلام فيها فلا نجدهم، مع أنه كان خليقا بهم أن يتألبوا حول ضريح من كان في طليعة الأدباء نزاهة، وإباء، وشرف نفس، وكرم عنصر، ولكن ولي الدين كان يتوقع مثل ذلك.»
صورته النفسية
يخيل إلينا أن الآنسة مي زيادة قد أجادت وصف حالة ولي الدين يكن النفسية عندما قالت: «هو نفس كثيرة الأهواء، منهوكة القوى، متمردة وثابة حساسة رقيقة، حتى لتخال رقتها وإحساسها سقاما أحيانا، وإذا جاء وقت الوثب كان متهورا في شجاعته غير مبال ولا هياب.»
وقد جاء هذا الوصف في مقال نشرته في مجلة الفجر ببيروت بعدد أكتوبر سنة 1920، ثم جمعته في كتابها «الصحائف» (ص88-93). وأوردت فيه بعضا من أحداث حياته وبدواته التي لاحظتها وسجلتها بإحساس المرأة المرهف الدقيق، بحيث يمكن أن يعتبر هذا المقال من المفاتيح الأساسية التي تعين على فهم نفسية ولي الدين يكن، وبالتالي فهم أدبه واتجاهاته فهما دقيقا؛ ولذلك ربما كان من الخير أن نثبت هنا هذا المقال القصير كاملا.
قالت: «استوقفني في ردود على استفتاء قول فتاة أنها تود أن تموت غرقا، وقد سبق أني سمعت هذا التمني ممن لم يكن فتاة، بل كان شاعرا، ولا يندر أن يكون الشاعر فتاة في بعض تخيلاته اللطيفة، وأعني ولي الدين بك يكن.
إن حياة ولي الدين بك تعددت فيها الفواجع البكماء.
هذا الرجل الذي يعد من أعظم البيوتات الإسلامية في المشرقين، ومن أعظم أسرة مصرية على الإطلاق، قد جلب على نفسه سخط ذويه بزواجه من سيدة يونانية مسيحية، ولأجل شغفه بالحرية تعرض لصواعق عبد الحميد، فخسر منصبه العالي في الحكومة التركية، وذاق - وهو النفس الكبيرة الأبية - الفقر والسجن والنفي، والبعد عن الأهل والوطن، ثم عاد إلى مصر وتكاثرت عليه المصائب في السنوات الأخيرة، فمات ثاني أنجاله - وله من العمر 26 سنة - فجأة بلمس سلك كهربائي، ثم توفيت والدته، وآلمه أكثر من ذلك فقد شقيقته التي كان يحبها حبا شديدا، وهي قرينة أحد أعضاء الأسرة اليكنية، وها هو اليوم في حلوان يستشفي من مرض ألم به، وقد قاطع جميع معارفه وأصدقائه، فنسمع زفراته هنا في نتاج قلمه، كما يسمعونها في سوريا وفي البلدان الأخرى.
ورغم ما نزل به من الرزايا كان مجلسه مجلس ظرف وأدب، وتكاد النكتة تبرز في كل جملة يقولها، وللأشياء عنده مقارنات غريبة ، رأى يوما خط المرحوم شميل - وكانت رداءة خط الدكتور مشهورة - فوضع ولي الدين إصبعه على أحد الحروف قائلا: «تعجبني هذه الألف لأنها تشبه النبوت!» أما كرهه لكلمة «أيضا» فلا حد له، وهو يهجوها بألفاظ ونعوت تضحك الحاضرين حتى تستدر دموعهم، وتجعلهم يتجنبون لفظها ما استطاعوا، فقد يتفق أني أكتب مثلا كلمتين أو ثلاث كلمات أو جملة بتمامها لأتخلص من وجود «أيضا»، وإذا اضطررت وكتبتها مرة أو قرأتها أو سمعتها يوما عاودني بعض ما أضحكني في هجوها، فأسفت لأني دونتها مسوقة.
سألت مرة ولي الدين بك: متى يجاوب الكاتب الذي يناقشه في إحدى الصحف؟ فأجاب بمنتهى الجد: وكيف يمكنني أن أناقش رجلا يدمج في مقالة واحدة عشرين أيضا ولا يموت؟ إذا جاوبته أقول له: ما لي ولك يا أيضا!
وكان يوما في حفلة حافلة بالوزراء والكبراء، وبعد انقضاء ساعة تقريبا قفز بغتة، وخرج من القاعة مسرعا ثم عاد بعد انتهاء الحفلة معتذرا من الذين كانوا بجواره وذهلوا لحركته الفجائية، اعتذر بأنه لم يكن عالما أن فلانا موجود، وأنه لا يحتمل أن يكون وإياه في غرفة واحدة، فقيل له: «أنت تكره فلانا، ولكن لو هو أحبك وطلب صداقتك فماذا تفعل؟» فأجاب لفوره: «أنتحر!»
والغريب أنه لم يكن من علاقة بينه وبين الشخص المكروه، ولم يكلمه مرة في حياته على ما يقال، وليس في خلق ولي الدين بك شيء من التكلف، فهو صادق في ميله، صادق في نفوره، سواء أكان فيهما على هدى أو على ضلال، وللألحان والألوان تأثير شديد في نفسه، قال لسماع فتاة تغني بصوت خافت: «هذه نسمات البسفور.» أما تلك القطعة الموسيقية المرقصة المعروفة باسم كارمن سيلفا، فلا يرى البيانو مفتوحا إلا ويطالب بأن تعزف له، وفي إحدى زياراته لنا رأيت نظره جامدا بعيد وصوله، وإذ سألته ما به قال: «هذه (مشيرا إلى زهرة ليلكيه في ثوبي)، يحزنني هذا اللون الليلكي.» فحاولت نزع الزهرة، فقال: «لا تفعلي أرجوك، يحزنني أن أراها، ويحزنني أكثر من ذلك أن تنزع.» وأنشدنا ذلك المساء أبياتا من شعره الحزين.
وكما أن كرهه ونفوره شديدان، فكذلك حبه وإعجابه، هو معجب بالرسم الذي تعلم مبادئه في المنفى، فلا يندر أن يكتب أبياتا يرسم فيها ذوات المعاني مثل: غرد الطير، فهو يكتب غرد كتابة، ويرسم الطير رسما، وهكذا. وله ولع بخليل مطران وبشعره، فقد رأيناه مرة يضطرب وتتغير ملامحه لمجرد سماع أبيات من قصيدة «الأسد الباكي»:
أنا الأسد الباكي أنا جبل الأسى
أنا الرمس يمشي داميا بين أرماس
فيا منتهى حبي إلى منتهى المنى
ونعمة فكري فوق شقوة إحساسي
دعوتك أستشفي إليك فوافني
على غير علم منك أنك لي آسي
فهتف ولي الدين بك: «كفى!»
ثم تابع بعد سكون قصير: «آه خليل! خليل! لو سئلت كيف ينظم موكب دفني، لتمنيت أن يرثيني خليل مطران بأبيات ينشدها عزيز نصر على مقربة من نعشي السائر، أريد أن أشيع إلى قبري على هذه الصورة في موكب ينظمه سليم سركيس.»
كتبت كل هذا عن ولي الدين بك؛ لأني أعلم أنه كاتب محبوب في سوريا، وأن أخباره تهم القراء الذين لا يستطيعون الوقوف على مثل هذه المعلومات من الصحف السيارة.
إن الأدب العذب المتسم به هذا الرجل شأن من تربى تربية عالية ممتازة، لا يحول دون شذوذ خاص به، هو نفس كثيرة الأهواء، منهوكة القوى، متمردة وثابة حساسة رقيقة، حتى لتخال رقتها وإحساسها سقاما أحيانا، وإذا جاء وقت الوثب كان متهورا في شجاعته، غير ميال ولا هياب. فلا عجب إذا جذبه البحر، ونبه فيه أشواقا غير مألوفة، ولا عجب أن تسمع منه هذه الجملة: «أود أن أموت غرقا بدلا من أن أموت في سريري بين جدران ضيقة بعد عذاب أيام وحشرجة ساعات. أريد أن أموت غرقا في البحر على غير استعداد؛ لأن في مثل هذه الميتة الشعرية عظمة وشذوذا».»
هذه هي الأخبار والنوادر التي سجلتها مي عن ولي الدين، فأعطتنا مفتاحا لنفسيته، وإن يكن من المفيد أن نتم هذه الأخبار والنوادر بما ذكره أنطون الجميل، وبخاصة عن موت ولي الدين وطريقة هذا الموت ، فهو لم يمت بغتة ولا غرقا، وإنما مات بعد عذاب أليم، ومرض طويل ألزمه البيت سنوات.
وكتب إلى أنطون الجميل في 12 فبراير سنة 1918 يصف هذا المرض فقال: «أنا في يأس شديد من زوال هذا المرض ... الذي عجز الطب عن دفعه وهو المسمى «الربو»
emphyzème . إذا دجا الليل تكاثرت مخاوفي، فلا يغمض جفناي فرقا؛ لأني لا أغفي إغفاءة إلا وأنتبه صارخا مذعورا؛ إذ تتقطع أنفاسي، ويشتد اضطراب قلبي، وتبرد يداي ورجلاي، فأختلج مكاني وأتلوى تلوي الأفعى ألقيت في النار. أريد تنفسا أستعيد به ما يوشك أن يذهب عني من الحياة فلا أجده، حتى إذا بللني العرق وأنهكني التعب، عاودتني أنفاسي شيئا فشيئا، وذهبت النوبة على أن تعود بعد ساعة أو ساعتين، ومصير مثل هذا المرض معلوم وهو مذكور في كتب الطب، لم يختلف فيه طبيبان ... لا أدري أمن الموت وما أنتظره من أهوال يزداد جزعي؟ وما تطلع علي شمس يوم إلا وزادتني قربا من قبري، وا لهفي على آمال تحولت آلاما! ووا حسرتي على أيام عمر ما ضحكت لي مرة إلا جعلت دموعي لها ثمنا! أهذه عاقبة الصبر التي أطلت انتظارها؟ ما أكثر ضلال الحكماء، وما أكثر غش القدماء ...»
وكان آخر ما كتب بيتين وجدا قرب سريره بعد موته، وهما:
يا جسدا قد ذاب حتى امحى
إلا قليلا عالقا بالشقاء
أعانك الله بصبر على
ما ستعاني من قليل البقاء
أديب ملتزم
لقد أشاعت الوجودية في عالم الثقافة والأدب المعاصر فكرة خصبة بالغة الأهمية، وهي فكرة الالتزام في الأدب كنتيجة للالتزام في الحياة، وهي قد لا تبدو جديدة، ولكن الوجودية قد جعلت منها في العصر الحاضر مذهبا في الأدب والتفكير.
وإذا كان الالتزام في الأدب مذهبا يرمي إلى توجيه الأدب الجديد، فليس هناك ما يمنع من اتخاذه فيصلا في الحكم على الأدب السابق، أو على الأقل نورا يهتدى به في إيضاح خصائص الأدب السابق ومميزاته.
والالتزام في الأدب معناه بكل بساطة أن يكون للأديب رأي واضح متميز في المشكلة التي يعرضها، أو في القصة التي يرويها، أو المسرحية التي يقدمها، بل وفي القصيدة التي ينظمها، إذا كانت تلك القصيدة ذات موضوع يحتمل إبداء رأي، والالتزام به وتحمل مسئوليته.
والذي لا شك فيه أن العالم كله والبلاد العربية في حاجة ماسة إلى الأدب الملتزم، وذلك حتى يستقيم للناس سلم صحيح للقيم، وحتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث، والخير من الشر، والجميل من القبيح، ومن أجدر من الأدباء ذوي الوعي والحساسية بأن يقدموا لأممهم هذا السلم الذي تفتقده.
والذي لا شك فيه أنه لو غلب مذهب الالتزام على أدبنا لاستطاع الأدباء أن يحتلوا مكانهم في قيادة الأمة وكسب احترامها، ولاستطعنا أن نتخلص من أكبر أزمة روحية نعانيها، وهي أزمة البلبلة والتردد والفوضى، واختلاط القيم والأقدار.
وإذا كنا قد لاحظنا عند حديثنا عن موقف الشاعر أحمد شوقي من عزل السلطان عبد الحميد، وثورة الجيش عليه دفاعا عن الدستور، وموقف ولي الدين يكن من نفس الحادث ومعارضته، أو على الأصح رده على قصيدة شوقي «عبرة الدهر» بقصيدة أخرى بنفس العنوان، إذا كنا قد لاحظنا عندئذ أن شوقي لم يبد رأيا محددا حاسما، بل أخذ يلف ويدور وينافق الجميع، فيرثي لعبد الحميد ويتفجع على جواريه، ثم يشيد بثورة الجيش وبطولته، ويتغنى بشجاعة أنور ونيازي وشوكت، ثم ينتهي بمبايعة السلطان الجديد محمد الخامس، مما يبلبل الأفكار، ويزعزع الثقة بالشاعر الذي تقول الحكمة القديمة أنه خليفة الأنبياء، وذلك بينما نرى ولي الدين يسفه رثاء شوقي لعبد الحميد وعطفه على جواريه، ويصيح في قصيدته بأن عزل عبد الحميد لم يكن إلا إيقافا لظلمه وفساده وطغيانه، وانتصارا لدماء الأبرياء وحقوق الرعية.
إذا كنا قد لاحظنا هذا الفارق الكبير بين الشاعرين، فإن الحقيقة تقتضينا أن نعمم خلاصة تلك المقارنة لنقرر أن ولي الدين يكن يعتبر من بين شعراء وأدباء العربية القليلين الذين يمكن أن يوصف أدبهم بأنه أدب ملتزم.
والواقع أن ولي الدين يكن قد كان من أشد الناس إمعانا في الالتزام لا في الأدب فحسب، بل وفي أسلوب حياته، بحيث يمكن القول بأن التزامه في الأدب لم يكن إلا صدى لالتزامه في الحياة، وإذا كان ولي الدين يكن قد تعصب ضد بعض الألفاظ كلفظة «أيضا»، وضد بعض ألوان الزهور كزهرة الليلكيه، ولم يخف كراهيته ونفوره من بعض الأشخاص، كذلك الشخص الذي تحدثنا الآنسة مي أنه غادر وليمة رسمية عندما لمح وجوده فيها، إذا كانت هذه طبيعة ولي الدين يكن في صغار المسائل، فإننا لا يمكن أن نتوقع من رجل في مثل هذه الطبيعة إلا أن يكون صاحب رأي واضح محدد حاسم في كل مشكلة يتحدث عنها، وبذلك يصبح أدبه مثلا قويا للأدب الملتزم.
وبالفعل يعتبر ولي الدين يكن من أولئك الأدباء والشعراء القليلين، الذين يحق لدارسهم أن يبحث عن آرائهم؛ لأنهم قد كانت لهم آراء، بل وكانت لهم فلسفة في الحياة يؤمنون بها، ويتعصبون لها ويفنون في سبيلها، وعند دراسة مثل هذا الأديب الشاعر تأتي دراسة آرائه في المرتبة الأولى بالنسبة لدراسة فنه الأدبي أو الشعري.
وآراء ولي الدين يكن لم تكن مجرد أفكار باردة يرددها في فتور أو يأخذها عن الغير، بل كانت انفعالات فكرية، وهذا الانفعال الفكري الذي نلمسه في أدبه وشعره هو الذي يدخله في مجال الأدب، ولا يبقيه في مجال السياسة والإصلاح الاجتماعي، والبون شاسع بين الأفكار العادية والانفعالات الفكرية، فالأفكار قد تدخل في ميدان الفلسفة أو السياسة أو الاجتماع، ولكنها لا تدخل في مجال الأدب إلا إذا أصبحت انفعالات فكرية.
والانفعال الفكري خليق في ذاته بأن يولد الخصائص الأدبية والمميزات الفنية التي تميز أسلوب الأديب عن غيره من الأساليب.
والانفعال الفكري لا يمكن أن يخضع للتقليد، أو أن يأنس للدروب المطروقة، أو يسكن إلى قوالب التعبير التقليدية؛ وذلك لأن الانفعال ثورة، وكل ثورة تجديد وشق لدروب جديدة، وبحث عن قوالب جديدة توائم هذه الثورة، وتستطيع أن تحتويها.
والانفعال الفكري يخرج بأسلوب صاحبه عن الصنعة المجتلبة؛ لأن المنفعل لا يستطيع أن يفلت من انفعاله ليتسكع في صناعة الألفاظ، وأكبر دليل على هذه الحقيقة هو ما نلاحظه من أن أديبا ذا انفعالات فكرية كولي الدين يكن لا يكاد يتميز أسلوب شعره عن أسلوب نثره، وليس معنى ذلك هو أن ينحدر بأسلوب الشعر إلى مستوى النثر العادي المسطح، بل بالعكس فهو يرتفع بأسلوبه النثري إلى مستوى أسلوبه الشعري في أغلب الأحيان؛ وذلك لأنه يصدر في كلا الفنين عن نفس الطبيعة المنفعلة الحارة، ولعل في هذا التحليل ما يعيننا على فهم ما أحسه صديقه أنطون الجميل بحق، وعبر عنه تعبيرا صادقا بقوله: «مهما حاولنا تصوير نفسه لا نصورها بأقرب إلى حقيقتها مما صورها به صاحبها في شعره وفي نثره أيضا، فهو شاعر في كلا الفنين المنظوم والمنثور، يصوغ كلامه المرسل كأنه الشعر؛ توقيعا وانسجاما وخيالا وروعة معان، حتى لتكاد تستقيم لك جملته شعرا موزونا، ويسبك الشعر كأنه النثر؛ سهولة وطلاقة وطبيعة وانقياد قواف، حتى لو نثرت نظمه ما جئت بأسهل منه، فتبيت بين هذا النثر الأنيق، وذلك الشعر الطلي، لا تدري أولي الدين أشعر في هذا أم في ذاك؛ لأنه ما جرى قلمه إلا بما خفق به قلبه، وتحرك له لبه، وهو في كلا الفنين ذو القلب المتألم مما حوله ولمن حوله؛ لأنه قلب حساس شريف، تخدمه مخيلة ترى ما لا يراه الغير، حتى أصبح كما قال هو عن نفسه:
قلبي يحس وهذه عيني ترى
ما حيلتي فيما يحس وما يرى»
أديب الحرية
إذا كان ولي الدين يكن أديبا ملتزما، وكان له رأي ثابت محدد فيما يحتمل الرأي من موضوعات الشعر والنثر، وكان من الأدباء القلائل الذين يجب على الدارس لهم أن يبحث عن آرائهم، بقدر ما يجب عليه أن يبحث عن فنهم؛ وذلك لأن لهم آراء وصل إيمانهم بها وتحمسهم لها إلى حد الانفعال، الذي جعل من آرائهم أدبا لا فلسفة أو تفكيرا فحسب، بل وأعطى هذا الانفعال أدبهم مميزاته الفنية الخاصة من حيث الأسلوب ووسائل العبارة. إذا كان كل هذا حقا؛ فإن البحث عن آراء ولي الدين يكن لا يمكن أن يطول بالباحث، أو أن يتعثر به في مزالق المواربة والتحايل أو الغموض والإلغاز؛ لأنه لن يلبث أن يلاحظ أن النواة التي تتبلور حولها جميع آراء ولي الدين، أو تنبعث عنها كما ينبعث النبات عن البذرة، هي الحرية؛ حرية الفرد وحرية المجتمع وحرية الفكر وحرية العقيدة، وعلى أساس هذه الحرية بنى كافة صداقاته وعداواته في مجال الحياة وفي مجال التفكير.
وحب ولي الدين يكن للحرية يمتاز بأنه لم يكن حبا عاطفيا يمكن أن يخبو أو يهتز ككل حب عاطفي، كما أنه لم يكن إعجابا فكريا يتسم ببرود الفكر وهدوئه، وقبوله للمهادنة وأنصاف الحلول والنزول على الضروريات، وهو من باب أولى لم يكن تظاهرا ولا اصطناعا لتحقيق مجد شخصي أو تملق جمهور؛ وذلك لأن ولي الدين يكن كان أبعد ما يكون بطبعه عن النزعة الديماجوجية، التي لا هدف لها غير استهواء الجماهير أو كسب الأنصار، وهو الذي لم ترهبه عداوة الأفراد والطوائف، بل تحداها أحيانا كثيرة، وعارض التيارات العامة الجارفة، وخاصم شخصيات ومشاعر كانت تستهوي لب الجماهير، وتستطيع أن تنفع وأن تضر، وأن ترفع وأن تخفض في ميادين النجاح المادي والأدبي.
لم يكن حب ولي الدين يكن للحرية شيئا من كل هذا، وإنما كان كما أشرنا من قبل انفعالا فكريا انتهى به - وهو داعية التسامح والحرية بكافة أنواعها - إلى التعصب للحرية تعصبا عنيفا لا هوادة فيه ولا رفق، تعصبا يجمع بين شهوتي الحب والبغض العنيفين المسرفين، اللذين قد يغشيان أحيانا بصيرة المتعصب في تبين حقيقة الوسائل التي يستخدمها، واختياره للمعارك التي يقودها لمناصرة ما يحب ومحاربة ما يكره، وهذا التعصب الناشئ عن انفعال فكري لما يراه حقا، هو الذي دفعه إلى مهاجمة شوقي هذا الهجوم العنيف عندما رآه يعطف على خصمه وخصم الحرية والعدل عبد الحميد الثاني في قصيدة «عبرة الدهر» التي سبق لنا الحديث عنها.
ولولي الدين يكن في نثره وشعره أناشيد تغنى فيها بالحرية، وهاجم الاستبداد، نكاد نلمحها أو نلمح صداها في كل ما كتب، حتى ليعتبر باب السياسة أو الوطنيات في ديوانه الصغير أهم أبوابه ، كما يعتبر كتابه الكبير «المعلوم والمجهول» بجزأيه حديثا متصلا عن الحرية، وتاريخ الكفاح في سبيلها في تركيا والإمبراطورية العثمانية كلها، كما أن كتابيه الآخرين الصغيرين وهما الصحائف السود والتجاريب يضمان أيضا الكثير من مقالاته التي تدور حول الحرية وتفريعاتها، وقد زاده الاضطهاد والتنكيل تعصبا لهذه الحرية، التي اختلط معناها بمأساة حياته الخاصة وما لقيه في تلك الحياة من محن وأهوال.
ففي فصل طويل له عن حزب تركيا الفتاة في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص31-50) نراه يستهل فصله بتعريف للاستبداد وتعريف للحرية، نحس إحساسا واضحا بأنه قد استقاه من تجربة حياته وأحداثها المؤلمة، فيقول: «ملك من الملوك شديد البطش قاسي الفؤاد دائم الحقد، جريء في غضبه، خائف في حيلته، مطلق اليدين على أمة تتوجع ولا تدري مكان وجعها، يبعث بأمره إلى رجل من رجاله، ويجرده من ماله ونشبه، ويسلبه عزه وسلطانه، ويخرجه من بين أهله وجيرته، ويسجنه صاغرا، كل ذلك لنصح نصح به أو قول صدق فيه، أو حق عرف حبه له، أو ظلم أبى أن يعين عليه، ثم يفرق أهله ويشرد أولاده، ويقفل باب داره، ويختم عليها رجال الشرطة بالشمع الأحمر، ويمسي الرجل وذووه خبرا من الأخبار. هذا هو الاستبداد.» «ودولة عظيمة جم ثراؤها، رغد عيش أبنائها، يتقلبون في النعيم، ثغورهم باسمة، وألحاظهم غير زائغة، يتسابقون ولكن إلى المجد، يتنافسون إلا أن تنافسهم في الفضل، ربوعهم آهلة وخيراتهم عميمة، لا يخافون مسيطرا إلا كتابا هو القانون، ولا يتقون معاديا إلا الأجل المحتوم، أيديهم مطلقة في عمل ما يفيد، مغلولة عن عمل السوء، تخفض الملوك رءوسها أمام إدارتهم، وتنصاع الحكومات إلى إشاراتهم، لا يعرفون الحزن إلا وصفا، ولا يجهلون من السرور طعما ولا شكلا؛ هذه هي الحرية.»
ثم يستطرد إلى مأساة العثمانيين وما عانوه من استبداد، فيقول: «الاستبداد الذي اشتكاه العثمانيون هو أكبر مما جاءت به هذه السطور، والحرية التي كانوا يقنعون بنيلها أقل بكثير مما مثلته في الكلمات المتقدمة، نعم كانت الأمة تريد شيئا ولا تدري ما هو، كانت تشكو ولا تعلم ما يشكيها، بل كانت لا تطمع أن تعلم، فلما حل ميقات الخلاص انتفضت فتساقطت من عليها نبال الظلم، فوقفت مستبسلة لا ترجو إلا الله، ولا تريد إلا الوطن، حتى إذا ذاقت وصال الحرية، واستمتعت بجمالها وشبابها، علمت أنها كانت تئن من أجل ذاك، ودرت أن هذا ما لا بد منه لحياة الأمم.»
ويتحدث عن رجال تركيا الفتاة، فيقول: «وإنما نقم رجال تركيا الفتاة على الملوك العثمانيين جهلهم وخمولهم، وما ألفوه من البذخ والترف، وما جروا عليه من ظلم الرعية والتأله عليهم، وإنكارهم على الأمة ما تطلبه من العدالة، وهي أصل الحرية والمساواة والإخاء، واستكبروا أن يكونوا كالملوك في البلاد المتمدينة، وأبناء الملوك عندنا لا يربون على ما يفتح أذهانهم ويهذب أخلاقهم.»
ولما كان سلاطين تركيا يستمدون سلطتهم من الدين باسم الخلافة التي يستترون خلفها، للبطش بالرعية وإشباع شهواتهم الحقيرة الحيوانية، ويصطنعون رجال الدين في تثبيت تلك السلطة، فقد كان من الطبيعي أن يهاجم ولي الدين يكن ورجال تركيا الفتاة رجال الدين هجوما عنيفا، وأن يبذلوا كل جهد لتقويض سلطانهم على الأمة، وفي هذا يقول ولي الدين في نفس الفصل من نفس الكتاب: «أما رجال الدين وهم عيال الرجال فينبشون عن منسوخة الأحاديث وغير الصحيح منها، فلا يروون للملوك إلا ما كان حثا على طاعتهم، مثل قولهم: «قلب السلطان بين إصبعي الله يقلبه كيف يشاء.» وقولهم: «الملوك ملهمون.» وقولهم: «اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.» كل ذلك يفسدون به أخلاق الملوك تقربا إلى جفانهم واستجداء لحبواتهم.»
ويهاجم الشعراء المداحين المتملقين فيقول بعد حديثه عن رجال الدين: «فما يخرج هؤلاء إلا يدخل السائلون المادحون، ونسميهم مسامحة شعراء، ليمدحوا الظالم سفاك الدماء ناهب العباد فيقولوا له: «إن بين غلائلك لعدلا من الله، وبين جنبيك لروح القدس! يا مجزل العطاء ومولى النعم! يا من يخصب بأمرك المحل وتجري الرياح، وتنقاد لمشيئتك الأقدار، وتحسد السماء الأرض إذ كانت موطئا لأقدامك! يا ظل الله وباني الكون، يا من عتبته فوق الأفلاك ...» إلى غير ذلك مما يستحي من ذكره ويشمئز من سماعه كل من كان في فؤاده مثقال خردلة من العقل والإنصاف.»
وهو يصف الحكومة العثمانية التي كان يحاربها هو ورجال تركيا الفتاة بقوله: «أما الحكومة العثمانية فلم تشبه حكومة في الوجود، وما انتظم لها أمر في ماضيها ولا في حاضرها، ومثل رجالها كمثل سكان الخيام في زمان الجاهلية، إذا وليهم سيد عاقل، واتخذ بطانة خير وحاشية عدل، أنعش نفوس محكوميه وأحيا موات آمالهم، وإذا وليهم غاشم جب منم الغارب والسنان، وأذاقهم مضض الذل ومرارة العذاب، تجبى أموال الرعية بلا حساب، ويضيع بعضها في جيب الجابي، وبعضها في جيب من هو فوقه، فلا يبقى لبيت مال الدولة إلا ما يتصدق به عليه السارق والناهب فضالة، ينفق جانب منها على طرب الملوك ولذاتهم، وجانب على المقربين من الغرانقة، ويبقى الموظف الصغير صفر اليد أو تدرك أمره رحمة، فينبز إليه بما يسد به رمقه.»
والظاهر أن شدة سخطه على الخلافة المستبدة الفاسدة، وعلى من يمكنون لها في الأرض قد دفعه إلى إساءة الظن برجال الدين أجمعين، فقال في الجزء الثاني من المعلوم والمجهول (ص137): «رجال الدين في كل أقطار الأرض حرب على الناس، فهم يبدون غير ما يخفون، ويأمرون بما لا يعلمون، ومنهم من صدق إيمانه، وكانت سريرته كعلانيته وهم أقل من القليل.»
والواقع أن مسألة رجال الدين من المسائل العالمية المزمنة؛ وذلك لأن الأديان كلها تدعو إلى المحبة والإخلاص والأخوة بين البشر، ومع ذلك لم ترق دماء في تاريخ الإنسانية الطويل مثلما أريقت بسبب الأديان، ولم يكن ذلك لتعارض تلك الأديان وتعصب أهل كل دين ضد الآخرين، على نحو ما حدث في الحروب الصليبية فحسب، بل وكان ذلك داخل كل دين على حدة، وما انشق إليه من فرق ومذاهب وطوائف، فضلا عما فرض على البشر باسم الدين من حجر على الفكر البشري، وإعاقة تقدمه، وتقدم البحث العلمي، على نحو ما شهدت الإنسانية من محاكم التفتيش واضطهاد الكهنوت وجامعاتهم للعلماء والمفكرين.
ولما لم يكن من المعقول تحميل الديانات السماوية مسئولية هذه الدماء، فإن المؤرخين والمفكرين لم يروا بدا من أن يحملوا رجال الدين وكهنوته هذه المسئولية الجسيمة، وأن يدعوا الكثير منهم إلى فصل الدين عن الدولة، والحد من نفوذ رجال الدين، حتى تواصل الإنسانية تقدمها وتنجو من التعصب الديني والنفاق الممقوت. وكان ولي الدين يكن من هؤلاء المفكرين أنصار حرية الفكر، وخصوم رجال الدين، حتى لنراه يستشهد على تعصبهم وجهلهم بمناقشة طريفة جرت بينه وبين أحد رجال الدين في سيواس أثناء نفيه بها، وأوردها في ص140 من الجزء الثاني من «المعلوم والمجهول»، فقال: «ذهب رجل منهم إلى أنه يحرم على المسلم أن يدعو غير المسلم أخاه، واحتج بآية:
إنما المؤمنون إخوة
فقلت له: أنا لا أجادل بالقرآن، ولكني أخالف الساعة عادتي، وأثبت لك فساد دعواك وخطأك في تأويلك، قال: هات ما عندك، قلت: إن في علم المعاني بابا اسمه باب القصر، قال: أعرفه، قلت: وفي الآية قصر موصوف على صفة، فهذا لا ينفي الإخاء من غير المسلمين، ولو كان فيها قصر صفة على موصوف، كأن تكون: إنما الإخوة المؤمنون، لنفى من غيرهم الإخاء، ثم يضيف: فغضب الرجل من كلامي وقال: أعوذ بالله أن يكون في علم المعاني شيء من هذا الكفر، وما هو إلا اختلاق منك، وهب جدلا أن دعواك صحيحة، أيحملني ذلك على أن أصدق علم المعاني ولا أصدق القرآن.»
ويعلق على هذه الحادثة بقوله: «فأيقنت يومئذ أن الرجل ممن أفرغ في رأسه عشرون قنطارا قطرا، فآثرت إهماله وأنشدت قول أبي الطيب:
ومن البلية نصح من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم
هؤلاء الرجال يحللون من الأمور ما يوافق أهواءهم، ويحرمون منها ما يخالف أهواءهم، يسطون على الناس بسيوف من الإيمان الكاذب، فلا يثبت على لقائهم إلا من:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
فما تحكم عبد الحميد بالأمة إلا بنصر هؤلاء، أما جنوده فأولئك منخدعون، ولقد فطنوا لذلك فجعلوا صلواتهم وابتهالهم وقفا لظالم الأمة، استجلبوا له القلوب الخالية والنفوس الطامعة، فوقفوا كلهم لقاء الأحرار يكيدون لهم كيدا، وكانوا يدعون المنفيين في بلادهم أعداء الدين والدولة، وكانوا يذمون الشورى ويذمون من يدعو إليها، ولو أمكنتهم غرة من الأحرار لاجتثوا أصولهم وأبادوا أعقابهم، فإذا طهرت البلاد من شر هذه الفئة راجعتها السعادة.»
وانفعال ولي الدين يكن العنيف للحرية أو تعصبه لها، هو الأساس الذي بنى عليه - كما قلنا - صداقاته وعداواته، وبه نستطيع أن نفسر حبه للإنجليز، وبخاصة للورد كرومر الذي أطلق حرية الرأي والكتابة وحرية الصحف في مصر لأغراض سياسية معلومة سبق الإشارة إليها، وأوقف قانون المطبوعات منذ سنة 1892، وظل موقوفا حتى سنة 1909، كما حمى الأتراك الأحرار الذين احتموا بمصر، وحمى غيرهم من رعايا الإمبراطورية العثمانية عندما نزحوا أيضا إلى مصر فرارا من بطش الحكومة التركية.
ففي مقدمة الجزء الثاني من «المعلوم والمجهول» يقول ولي الدين: «نظر أناس في الجزء الأول من المعلوم والمجهول فرأوا صورة اللورد كرومر وقد كتب تحتها «مصلح مصر» فألقوا بالكتاب جانبا، وأطبقوا جفونهم وولوا عنه هاربين، راعهم شخص ذلك الرجل الجليل على الورق، فأخذتهم سورته، ولم تقو عيونهم على النظر في وجهه، فكيف بهم لو تمثلوا بين يديه ورن صوته في آذانهم، وقد زعموا بعد ذلك أني صنيعة الرجل، والرجل لا علم له بكتابي إلى يومنا هذا.»
وهو في الجزء الأول من المعلوم والمجهول يعقد فصلا عن حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة، يتحدث فيه عن مراد الطاغستاني أحد أحرار الأتراك، واحتجاجه على اضطهاد عبد الحميد الثاني للأرمن وتذبيحهم، ثم هرب مراد هذا إلى مصر، ويقول: «وجاءت الرسائل برقية وغير برقية، تطالب فيها الحكومة العثمانية الحكومة المصرية بإعادة مراد إلى الآستانة، أو طرده من مصر، أو عدم الإذن له بإصدار جريدة فيها، فلم ينل عبد الحميد من لجاجه سوى الفشل وسوء المصير، والفضل في ذلك للورد كرومر حبيب الأحرار، ومصلح مصر ورجلها العظيم.» وإن يكن قد غاب عنه - كما سبق أن قلنا - حقيقة سياسة كرومر الدفينة، التي لم تكن تبغي خير مصر والأحرار، بل كانت تبغي تحطيم الإمبراطورية العثمانية والتهام ممتلكاتها، وفي مقدمتها مصر، كما أثبتت الأيام من بعد.
وهذا التعصب للحرية هو الذي يفسر لنا أيضا إعجابه بإخواننا العرب، ولا سيما المسيحيين السوريين المهاجرين إلى مصر، وصداقته لهم على غير تبصر ولا دقة في الاختيار، حتى لنراه يوثق صلته بأصحاب «المقطم»، الذين لم يكن حبهم للإنجليز مبعثه حب الحرية، وبغض الاستبداد التركي فحسب، بل كان يرجع إلى عوامل أخرى كثيرة أقل شرفا ونبلا، كالمصالح المادية، بل والتعصب عند نفر من تلك الجماعة.
وهو يشيد في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص71) بهؤلاء المسيحيين السوريين، ويوازن بينهم وبين المسلمين الأتراك المقيمين بمصر، فيقول: «ويشهد الله وكل محب للحق أن إخواننا العرب لا سيما المسيحيين السوريين منهم كانوا أشد الناس ضجرا وأعظمهم أنفة من احتمال الذل، فهم الذين تاقت نفوسهم إلى الفضيلة العصرية من وراء حجب الاستبداد فأقبلوا على مصر، وعلموا إخوانهم المصريين إنشاء الصحف واتخاذ المطابع واحتراف الأدب العصري واصطفاء الحرية، هذا مع أنهم محرومون في بلادهم من التمتع بمثل هذا النعيم.
غير أن حب المعالي في أكثر النفوس طبع لا تطبع، وإلا فمن علم الطير ترجيعه ومن وهب البلبل حب الورد؟ ولما طال عليهم احتمال الضيم هجروا أوطانهم وضربوا في أقطار الأرض، يجوبون قاصيها ودانيها، يحلون من منازلها آهلها وحاليها، أعوانهم عزائمهم، وبضاعتهم عقولهم، فحيث عثرت جدودنا انتهضت جدودهم ... إلخ.»
وهو يتحدث بعد ذلك عن الأتراك المسلمين الذين استوطنوا مصر من الأزمنة السالفة، فيقول عنهم: «لا يهمهم من السلطان إلا كونه سلطانا، وهم يعتقدون أن لا حق للأمة في مشاركة الملوك في أعمالهم، وأن الرعية عبيد للملوك، يؤمرون بالطاعة لهم وإن ظلموا، والشكر وإن أساءوا، يتحدثون بذلك في مجامعهم وبأيديهم السبح وأمامهم النارجيلات، يمتصونها حتى تستطلع حبابها، يؤتى لهم بالشاي منقوعا، وبين يديهم جماعات من المشايخ، منهم المدعون لعلوم الكيمياء القديمة، ومنهم أولياء الله الناطقون بالغيب (بالسرياني)! ومنهم المتصوفون من أتباع الرفاعي والكيلاني ومحي الدين العربي والبكطاشي والمولوي، ومنهم أئمة الشرع ورواة الأحاديث والمفسرون، كل هؤلاء يكفرون الأحرار، ويدعون لعبد الحميد، ويمدون أنامل أكلت أطرافها حبات السبح يجرون بها دراهم أعوانهم عدا، بطلا وجشعا ولؤما، كانوا يؤثرون حب عبد الحميد على حب العادل الحميد.»
والذي لا شك فيه أن كل هذا إنما هو تفريع عن العقدة النفسية الأصلية عند ولي الدين، وهي عقدة بغضه العنيف لاستبداد عبد الحميد باسم الدين، وهو في موضع آخر من نفس الكتاب يقارن عبد الحميد بالجعل ويجمع بينهما في حكم واحد، حيث يقول: «كريهان يؤذيهما طيبان: الجعل يؤذيه ريح الورد، وعبد الحميد يؤذيه نسيم الحرية!»
وهو يناصر المضطهدين من الأرمن، ويدفع عنهم في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص48) تحت عنوان «مذابح شهداء الحرية من إخواننا الأرمن»، ويشرح أسباب تلك المذابح، ويقرع التعصب الديني والعنصري تقريعا شديدا، ويهاجم المتعصبين من الأتراك والأكراد هجوما عنيفا، ويستشهد في وصف حالة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، واضطهاد المسلمين لهم بأبيات قديمة بالغة القوة، حيث يقول: «وقد صدق أحد شعراء الحماسة، إذ يقول:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خشن
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا
شدوا الإغارة فرسانا وركبانا»
وليس من شك في أن استشهاده بهذه الأبيات ينم في ذاته عن مدى تعصبه للحرية، وكرهه للظلم والاضطهاد، وهي أبيات جاهلية الروح تنطق بالحكمة الجاهلية المأثورة: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، وهي روح تخالف روح التسامح التي كان يدعو إليها ولي الدين يكن، بل لكأننا به يود أن لو تكتل الأرمن وتعصبوا ليفتكوا بمن أخذ يذبحهم من مسلمي الأتراك والأكراد . ولا عجب فإن ولي الدين كان يتعصب للحرية وضد الظلم والاضطهاد، أكثر مما يتعصب لأي شيء آخر كوحدة الدين أو وحدة العنصر أو الجنس أو غيرها.
وهو يبرر دفاعه عن الأرمن وثورته لمذابحهم بقوله: «هناك أناس يقولون لنا: إن الأرمن أعداء لنا، ويزعمون أنهم هم المعتدون دائما، وأن المسيحيين لا يخلصون للمسلمين ودا، ولا يصفون لهم سريرة، وينعتونهم لنا بالكافرين وأهل النار، وغير ذلك من كلام الجهل والجنون، وبسطاؤنا يصدقون هذه الباطلات، حسن ظن منهم بقائليها، ولبعدهم عن مواضع العلم وفهم الحقائق، فإذا ذكرت لهم تلك الفظائع لم تهز منهم موضعا من قلب، ومنتهى إنصافهم أن يقولوا: إن الأرمن جنوا على أنفسهم.»
وهو يقص طرفا من مذابح الأرمن، فيروي كيف كان المتعصبون من أهل سيواس يذبحون كالوحوش من عثروا عليه من الأرمن بالمناشير.
على أن دفاعه عن الأرمن وتعصبه لهم في محنتهم لا يفيد أنه كان ضعيف الإحساس بعثمانيته، متهاونا في التمسك بها والدفاع عنها، وذلك بدليل أنه كان يكره العرابيين ويسفه ثورتهم، كما كان يخاصم عبد الله النديم لأنه كان «من قدماء من يقولون: مصر للمصريين، ونحن نقول: مصر للعثمانيين» (ص30 من المعلوم والمجهول ج1).
وفي حديثه عن عبد الله النديم في نفس الموضع من نفس الكتاب ما يلقي ضوءا على الكثير من مشاعره نحو العرابيين وثورتهم، حيث يقول: «إن عبد الله النديم انتحل لنفسه السيادة، وجاراه إلى تسميته باسمها جماعة من محبيه، ولكن اتصل بي ممن حضر مجالسه وسمع حديثه وألم ببعض أموره أنه لم يكن في طباعه ما يشبه طباع السادة، وما كان إلا رجلا من الرجال ذكي القلب، شديد العارضة، ذرب اللسان، سريع الخاطر، حاضر البديهة، ظريف المحاضرة، حلو الشمائل، وكان كذلك جريئا على من يخافه، كثير الوقيعة بمن يعاديه، محاسدا أهل الفضل ممن هو دونهم، سهل الغضب صعب الرضاء، مدمن الهجاء دائم السخط، فمن صاحبه على حذر منه فاز بوده، ومن وثق به ضاع وضاعت ثقته معه، قرض الشعر فلم يملك له ناصية، ولا فاز منه بسهم ، ورام الزجل فوفر منه حظه، وحلا في فمه نشيده فكان يرتجله ارتجالا، ويسابق أهله فلا يشقون له غبارا.
هذا عبد الله النديم صاحب «الطائف»، و«التنكيت والتبكيت» من قبل، وصاحب «الأستاذ» من بعد. اختفى بعد ثورة العرابيين، وكان حارثهم بن حلزة أو عمرهم بن كلثوم، رغا فتجمعوا، وعقر فتفرقوا، ثم آوته قرى الريف فبات كأبي زيد السروجي، يحترف الحرف، وينتقل في الأزياء والأشكال، فيوما هو واعظ، ويوما هو ماجن، ويوما هو عالم، ويوما هو خليع، وما زال كذلك يطوف في البلاد حتى تعرفه بعضهم فوشى به إلى الحكومة، فجيء به إلى نظارة الداخلية عليه غبرة ترهقها قترة، فأظهر الذلة والاستكانة ووعد بالتوبة والإنابة، فزين بعض شيعته لمقام الإمارة المصرية أن تعفو عنه بعد ذلك فعفت، فبدأ بعدئذ في نشر «الأستاذ»، وبيان النديم مشهور ومألوف تفهمه العامة، وتبتذله الخاصة، ولو مسح على لفظه بشيء من جزالة اللفظ وسمو المعنى، وأمعن النظر في غلطاته فاجتنبها لصح أن يعد من كبار الكتاب، فقد شهدت له ببعض الذوق السليم، وأعجبني ترسله، وقرأت له في الأستاذ مقالة عنوانها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا»، فعلمت أن البيان سجية في الرجل، وكتابه المسمى «كان ويكون» يجوز أن يقال فيه: إنه ابن قريحة وقادة.
ومن المعلوم عند أهل الدهاء أن حزب العرابي - وإن تمزق شمله بعد نكبة صاحبه - بقي مختبئا في مكامن خوفه اختباء الأفاعي في جحورها، وكذلك الفزع يستولي على أهل الدعوة فيلجم أفواههم ويكبهم على أذقانهم؛ فلما عاد النديم وأعاد لهم نغماته، تطربوا وعرتهم هزة أفلتوا بها من مرابطهم، فقال فصدقوا، ودعا فأجابوا، وما زال في غلوائه وهم في غوايتهم، يدعو إلى الفتنة ويحض على الثورة، والإمارة تحبوه ما يقوم أوده، ويطلق لسانه حتى آل أمره إلى الطرد؛ فترك مصر مأسوفا عليه من أشياعه، مغضوبا عليه من العقلاء.»
والذي لا شك فيه أن دعوة العرابيين «بمصر للمصريين» هي التي أغضبت ولي الدين العثماني. ومن المعلوم أن العرابيين قد ثاروا على محاباة الحكام للجراكسة والأتراك في مناصب الدولة وبخاصة في الجيش، واحتقار هؤلاء الدخلاء للفلاحين المصريين، وإن يكونوا قد اضطروا إلى مصانعة الخلافة الإسلامية وأظهروا خضوعهم لها، مع أن هذه السياسة لم تجدهم فتيلا، وحاربهم توفيق باسم هذه الخلافة الإسلامية، وأذاع على الشعب منشورات يتهم فيها عرابيا وأنصاره بالكفر والخروج على الخلافة. وأكبر الظن أنه لو قلب العرابيون سياستهم، وهاجموا الخلافة المستبدة الفاسدة وتمسكوا - على العكس - بالوحدة العثمانية، لرأينا ولي الدين يناصرهم ويتعصب لهم.
ومع ذلك؛ فإن المناداة بالوحدة أو الجامعة العثمانية لم تكن تكفي لكسب تأييد ولي الدين، أو على الأقل تجنب عداوته، إذا لم تقترن هذه الدعوة بمحاربة الحكومة التركية المستبدة، والخلافة الحميدية الظالمة، وذلك بدليل أن ولي الدين كان يخاصم أيضا مصطفى كامل والحزب الوطني ويتهمهم بالنفاق والتهريج؛ وذلك لأن أنصار هذا الحزب، وإن لم يهاجموا الجامعة العثمانية إلا أنهم ناصروا الخلافة الحميدية والحكومة التركية، واعتمدوا عليها في محاربة الاستعمار الإنجليزي، وذلك بينما كان ولي الدين يرى عدوه الأول في ظلم عبد الحميد وفساده، وإن لم يهاجم الخلافة العثمانية في ذاتها، ولا ناصر فكرة نقل الخلافة من الأتراك إلى العرب، ومن الخليفة العثماني إلى الخليفة الهاشمي، كما كان يدعو البعض من العرب، وكما كان الإنجليز يوحون لأغراضهم الخفية.
ولكي نستكمل آراء ولي الدين السياسية، وهي الآراء التي سيطرت على معظم إنتاجه الأدبي نثرا وشعرا، يجب أن نوضح أنه إذا كان بغض ولي الدين لعبد الحميد وخلافته الفاسدة وحكومته الظالمة لم تدفعه إلى مهاجمة فكرة الخلافة العثمانية في ذاتها، أو فكرة الجامعة العثمانية، إلا أنها لسوء الحظ قد دفعته أحيانا إلى الاستخفاف ببعض أحكام الدين الإسلامي وشعائره، فضلا عن مهاجمة رجاله وعلمائه، حتى لنراه يسخر ممن يدارون إفطارهم في شهر رمضان في مقال له في «الصحائف السود» تحت عنوان «أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان» يختتمها بعبارة يتحدى فيها شعور المسلمين على صفحات جريدة «المقطم» فيقول بعد أن تحدث عن الشدة التي تأخذ بها نظارة الداخلية في تركيا المفطرين والسافرات من السيدات المسلمات: «وفي مصر من الحرية الشخصية ما لا يضطر إلى التواري عن الأبصار، والاختباء تحت الموائد، ولكن في الناس كثيرين يفعلون ذلك. ولولا أني شاركت بعض الأجانب في الكذب معهم في أول يوم من شهر أبريل، وذلك حين كنت ابن عشرين سنة، لجاريت أهل المسابح إلى الكذب، غير أني جالس أمام مكتبي، وعيناي شاخصتان إلى الساعة وقد دوى مدفع الظهر الذي أفطر عليه!»
والواقع أن ولي الدين لم يكن من أنصار الحريات السياسية فحسب، بل كان أيضا من أولئك الذين عرفوا في تاريخ الإنسانية باسم أحرار الفكر، والذين ازدهر مذهبهم في فرنسا مثلا في القرن الثامن عشر، وكان من بينهم فولتير وجماعة دائرة المعارف، والحرية الفكرية عندهم أدت إلى التمرد لا على رجال الدين وحدهم، بل وعلى الكثير من أوامر الدين ونواهيه ذاتها، حتى لنرى عبارة حرية الفكر تقترن عند خصومهم من المحافظين المتدينين بعبارة الزندقة عندما يقولون «حرية الفكر والزندقة»، وإن يكن الجمع بين العبارتين على هذا النحو لا يخلو من إسراف، فإنه إذا كان من بين أحرار الفكر من يبيح لمن يشاء الحق في الزندقة، إلا أنهم لم يكونوا يدعون إليها، كما أن الكثيرين منهم لم يكونوا يصدرون عن خصومة شاملة مطبقة للديانات، بل إن فولتير نفسه إذا كان قد أنكر الرسل والأنبياء، ووساطتهم هم ومن خلفهم من رجال الكهنوت بين الله والبشر، فإنه لم ينكر وجود الله في ذاته، بل وقال: إنه إذا لم يكن الله موجودا لوجب على البشر أن يخترعوه، وإن تكن فكرة الألوهية عنده تختلف بالضرورة عنها في الديانات السماوية.
وعلى أية حال، وسواء أكان ولي الدين يكن قد تأثر بأولئك الفلاسفة والأدباء الفرنسيين الذين كان يجيد لغتهم، أو سار في نفس الاتجاه الذي ساروا فيه بتأثير من العوامل المحلية في الإمبراطورية العثمانية وخلافتها الفاسدة، ورجال دينها المنافقين، فالثابت أنه من المفكرين الأحرار، وأنه أحد حلقات تلك السلسلة الطويلة التي انتهت بظهور مصطفى كمال، وتحطيم الخلافة، وتكوين الدولة المدنية، والقضاء على كل نفوذ لرجال الدين، والاتجاه بتركيا اتجاها كليا نحو الحضارة المادية الغربية.
وعلى ضوء هذه الحقيقة الكبرى نستطيع أن نفهم الكثير مما كتبه ولي الدين نثرا وشعرا في محاربة التعصب الديني، والدعوة إلى التسامح، ومناصرة كافة قضايا التحرر التي كان يحاربها رجال الدين، والواقعون تحت سلطانهم باسم الدين، إن حقا وإن باطلا، مثل قضية تحرير المرأة، وقضية التوفيق بين الدين والعلم، كما كان يناصر الداعين لمثل هذه القضايا ويتحمس لهم وفي مقدمتهم قاسم أمين ومحمد عبده.
أما عن حرية الفكر فله عنها مقال في «الصحائف السود» بنفس العنوان (ص93)، يستهله بقوله: «نحس بآلام بين أحناء الضلوع، فنكتمها صبرا، ونسكت عليها خيفة، لو كان هذا الصبر في موضع يحمل فيه لنطق من جوانبه الثناء، ولكنه قصارى نفوس جبنت ونصيرها الحق، وأقصرت وشأوها بعيد.
تغلبت سورة الجدل على سورة الدليل، وبات كلام الإنصاف والصمت أحب منه إلى الناس، ألا قاتل الله اللجاج، لا العقل أغنى في الغلبة على سلطانه، ولا الهمم مضت في التغلب على فجاجه، كلما جهر بالحكمة ناطق تألبت عليه عصب الغرور، فسدوا بأيديهم فمه، يا ليتهم يجعلون أصابعهم في آذانهم تصامما، أو يلفتون وجوههم إلى ورائهم إعراضا، ذلك إذن يهون.
يحجهم الصواب فلا يلبثون أن يقبلوا عليه، غير أنهم يعتدون فلا يدعون مكلمهم يكلمهم، فكيف يجري فيهم نصح الناصحين.
إنما يقبل القول بعد سماعه ويرد بعد سماعه، وهذا البلد يتعجل أهله الحكم، سواء عليهم أصابوا أم أخطئوا، يريدون وليس الذي يريدونه صوابا، ولكنهم يحاولون أن يجعلوه صوابا، هذا محال، حقائق الأشياء لا يدخلها تغير، ومن لم يكن معه الهدى، عليه أن يكون مع الهدى إذا رام رشدا.
قلت في إحدى الصحائف السود التي تقدمت كلاما على الأضاحي، فهاج قلوبا استوطنها التعصب، وهاج على أهل الشر من المخضرمين، عفا الله عنهم ماذا يبتغون؟ طوت الأيام برد الشباب، وأنالتنا من التجارب ما لا مندوحة فيها لجهل، إن يستطيلوا فقد استطال أسلافهم من قبل، أنا ابن عصر عيت فيه الألسن وأفصحت بعبرها الأيام، ولي بمحمد عبده وقاسم أمين أسوة حسنة.
على أنني لا أعجب من أهل القدم والمنتحلين صيغة الدين، وإنما أعجب من قوم لبوسهم لبوس أهل التمدن، ومآكلهم مآكلهم يطاف عليهم بالآنية والجام، في مجالس كأنها ديباجات الآفاق، ثم يصبحون فيقارعون الناس بالدين، يرموننا بالكفر والمروق والزندقة ليثيروا علينا أشياعهم، وما نبالي نحن من أشياعهم، يغالبون بالدين كلما تساقطت حججهم، وبه يحاربون كلما أجفلت نعائمهم ... أنتم أعداؤنا اليوم، وأبناؤكم أنصارنا غدا، لن نشكوكم وحدنا، بل سوف نشكوكم ومعنا أعقابكم، ولنعمت الشهود يومئذ يقولون آباؤنا كذبوا وهؤلاء صدقوا.»
وأما عن الدين وقداسته، فله فيه (في التجاريب ص26) رأي صريح، يقول فيه: «الأديان مناهج للناس إلى ما يستطاع من الكمال، فإذا هي تجاوزت ذلك وأضحت سلعا يتجرون بها كان شرها أكثر من خيرها، وإن من أشد ما ينزل بالحر أن يبلى بقوم لا تسمو مداركهم إلى مقاصده، فيتعسفوا في تأويلها الشبهات، حتى إذا أعيتهم المناظرة وأعيتهم الحجج عمدوا إلى الفساد، فاستثاروا العامة إلى الوقيعة، وفزعوا إلى الختل والغدر، وأكبر من هذا أن تكون الحكومة عونا للمفسد على المصلح، لا اعتقادا بإيمانه ولا إعجابا برأيه، بل تحببا إليه وإقرارا بالعجز عن إخضاعه وتقويمه.»
وهو يتحدى الرأي العام عند مقتل بطرس غالي فيرثيه شعرا، وينشر في المقطم مقالا بعنوان «بطرس غالي في موكبه الأخير» (الصحائف السود ص101)، يستهله بقوله: «مشى بعاصمة مصر يوم الثلاثاء 22 فبراير سنة 1910 مشهد لم تشهد مثله، ذاك مشهد بطرس غالي العظيم من كرسي الرياسة إلى مضجع الأبد؛ لله درك من ظاعن ... قال النعاة: قتل أحد الباغين بطرس باشا غالي. قلت: لقد قتل مصر.» وهو يدافع عن الوزير الذي أثارت تصرفاته سخط الوطنيين بقوله: «ماذا جنى هذا الفقيد المظلوم، صاح أكثرهم مذكرا بحادث دنشواي، وتشدق آخرون باتفاق إنجلترا ومصر على السودان، وشكا غيرهم من قانون المطبوعات، وهل كان لهذا الوزير هذا القدر من النفوذ بالإرادة والخيار في الفعل؟ ومن أهاج أهل دنشواي ومن أتى بقانون المطبوعات : سائلوا تلك الجرائد التي تود أن توقع البلد في الهلاك، عسى أن توافيكم بجواب سديد.» ثم يضيف : «الأقباط هم أولو مصر قبل كل مصري، ما زال الجور يتصيدهم حتى قلوا عددا، ووفرتم وخسروا، وكسبتم ثم من الله بعدله، فقالوا نحن إخوان، أفلا تريدون أن تكونوا لهم إخوانا؟ فما لهذه البراثن إذن داميات؟»
وهو عندما يضطهد جميل صدقي الزهاوي لحرية فكره، ويتهم بالكفر والزندقة، يجرد قلمه للدفاع عنه ودعوة الأدباء إلى مناصرته في مقالين حارين نجدهما في «التجاريب» تحت عنوان «التعصب يخرج الحرية من ديارها، هلموا إلى نجدتها يا أحرار» (ص19-28)، و«الأحرار وأعداؤهم» (ص29-39)، وقد بدأ المقال الأول بقصيدته التي مطلعها:
أسير بدار الظلم أعياه آسره
أما من فتى في الناس حر يناصره
أفي الناس أحرار وفيهم أحبة
فما لأخيهم لا يرى من يؤازره
وفيها يستثير الهمم لنصرة الزهاوي قائلا: «إن ينزل بالزهاوي نازل من الظلم فتلك سبيل أبناؤكم سالكوها غدا، فإلا يحزنكم مصرعه، فإن في مصارع أبنائكم ما يستدر جامدات العبرات، إيه لكم، قطعت الشعوب أشواطا في منازل الحياة، ونحن إلى الوراء راجعون، لا تكونوا واسطة السوء بين الأسلاف والأخلاف، أما لتقذفن لكم الأرحام بأضاحي كالتي شهدتم تلبسون ليومها السواد، ويطول عليها أنينكم تحت طيات الدياجير.»
وهو في المقال الثاني عن «الأحرار وأعداؤهم» يهاجم رجال الدين هجوما عنيفا، فيقول: «الآكل من كسب غيره وهو قاعد لا يحمل نفسه عناء السعي لرزقه، وإذا علمت الأمة حقائق الأشياء، وبصرت بضلالات أهل التعصب، قبضت عنهم جدواها ومنعتهم ورد جودها، والقوم يعلمون ذلك ولا يدانيهم فيه ريب، فمن أي الطرق يأتي نحوهم الإنصاف، لو جمعنا العمائم التي بالبلاد العثمانية، وجعلنا بعضها فوق بعض بنينا حصنا يعجز عن هدمه أسطول إنجلترا بأسره، ما في هذه الجوازات ما يرجى منه أقل الفوائد إلا آحاد لا يصعب تسميتها، وما بقي من ذلك الجمع العديد فأنصار للاستبداد سواء عليهم حق وباطل، لا يعجبهم من الحياة الدنيا إلا الجفان، أو ما يكون ثمنا للجفان.
أروني واحدا من هؤلاء المبردين يكون جاد بدرهم واحد في خير يريده، ثم إذا التفت عليهم المحافل ألفينا كل عثنون كحديدة الفأس، يضطرب غضبا لرأي رآه أحد العقلاء، فكم من عنفقة كذنب السمكة تهتز على أثرها وتغضب لغضبها، ما أشقانا بهذه المخلوقات!»
وهو يناصر قضية المرأة بشعره ونثره، فيقول في «الصحائف السود ص9»: «قالوا: إن تعليم البنات مهيع إلى إفسادهن، وما في القائلين بذلك من تعلمت أمه وعرف فسادها.» بل ويكتب في نفس «الصحائف السود» مقالا خاصا عن المرأة يقص فيه مصارع ثلاث نسوة، إحداهن قتلها الاستبداد، والثانية أرداها الجهل، والثالثة أودى بها الحجاب.
أما الأولى فقد اشتراها باشا يقيم في إحدى قرى ولاية سيواس، ولكنها كانت تنفر منه ولا تلبي رغباته، بل واحتالت فأنفذت لأبيها كتابا تشكو فيه الحياة، وتعبر عما تجد من اشتياق إلى أهلها، وعلم بذلك الباشا فقتلها.
وأما التي أرداها الجهل ففتاة تلقت الدراسة في إحدى مدارس الراهبات ببيروت، ثم زوجها أبوها رغم أنفها من مجهول، لم يلبث أن شق بطنها إذ رأى في يدها صورة رجل مكشوف الرأس عليه ثياب قواد الجنود وفي يده قبعة، ولم تكن هذه الصورة إلا صورة واشنطون الشهير محيي مجد أمريكا!
وأما الثالثة التي قتلها الحجاب فقد تزوجها رجل من أهل أدنه شديد الغيرة، دخلت بيته ليلة زفت إليه ولم تخرج منه أبدا، حتى إذا مرضت وثقل عليها المرض واشتد الألم دعا زوجها طبيبا، وأخذ يصف له ما تشكوه، فقال: أنا لا أداوي على السماع، ولا بد من رؤية المريضة، وفحص موضع العلة، فأبى الزوج الأبي ذلك، «وما مضت أيام قلائل إلا وقد أزروها في أكفانها وشيعوها إلى منزلها الأبدي من ضريح إلى ضريح.»
ويهاجم في نهاية المقال تعدد الزوجات قائلا: «رأيت رجالا يبذرون المال تبذيرا، فإذا أقاموا الأفراح نصبوا السرادقات، ورفعوا الأعلام وأوقدوا الزينات، ومدوا الموائد، وجاءوا بالمغنين والمغنيات، واستكملوا أسباب المسرات. كل ذلك ليدخلوا بامرأة لا يعرفونها، خطبوها لأنها خلقت لتخطب، فإذا صارت في أيديهم أياما ملوا حديثها، وسئموا قربها، وراحوا يفتشون على غيرها، فمثلهم كمثل الطفل المدلل يرى اللعبة فيبكي لأبيه وأمه حتى يبتاعاها له، ثم لا يلبث أن يحطمها ويطرحها جانبا ليأتيا له بغيرها.»
ثم يختتم المقال بقوله: «هذا عصر غارة شعواء يشنها المجددون على شيعة الرأي القديم، وما ضرني وقد اشتعل الرأس شيبا أن أتقدم صفوف الشباب، فإن لم أكن صاحب أمرهم، فما علي أن أكون حامل رايتهم، فمن لي بصاحب «تحرير المرأة» أن ينفض عنه تراب القبر ويخرج إلى الأحياء ليرى مبلغ استفادتهم من رأيه، أما إنه لو فعل - ولن يفعل - وقرأ ما يكتبه قوم في إبقاء الحجاب، والتحكم على أمهات الأجيال الآتية، لكر راجعا إلى مرقده وأغمض عينيه حتى لا يرى، وأذنيه لكيلا يسمع.»
وأنشد قول الحكيم القديم:
ضجعة الموت رقدة يستريح
الجسم فيها والعيش مثل السهاد
هذه طائفة من الآراء التي التزم بها ولي الدين يكن، وقد كانت - كما قلنا - آراء ثابتة لا خواطر شعراء يهيمون في كل واد، بل لقد نادى ولي الدين نفسه بدافع من فطرته ومزاجه بالالتزام في الأدب والفكر والحياة، وندد بالتردد والنفاق، حيث قال في ص104 من التجاريب: «إن من عجائب الشرق أن يشكو ابنه الرجل حاضرا، وأن يشتاق إليه غائبا، ومن عجائبه أن يكون لكل امرئ رأيان ليس له أحدهما، ولكنه يحملهما استخداما لهما، فكلما حل بين جماعة من أهل أحد الرأيين كلمهم به.»
وبمراجعة هذه الآراء وطوائف المجتمع التي كانت ترضيها أو تغضبها عندئذ تلك الآراء، نستطيع أن ندرك مقدار الشجاعة الأدبية التي كان يتصف بها هذا الأديب الشاعر الملتزم، وذلك بصرف النظر عن كونه قد أخطأ أو أصاب في تمسكه بكل هذه الآراء والتعصب لها، وبصرف النظر عما إذا كان قد أحسن دائما فهم التيارات الظاهرة والخفية التي كانت سائدة في عصره، أو أساء، والشيء المؤكد هو أننا لا نستطيع أن نرميه بفساد الضمير أو التواء القصد، فهو ربما يكون قد أساء الرأي، ولكنه لم يسئ القصد.
وليس بخاف بعد ذلك أن آراءه لم تكن تصادف هوى إلا في نفوس طوائف ضيقة محدودة؛ لأنه كان مخطئا في بعضها، وسابقا لعصره في بعضها الآخر، كما أن عصره كان - كما قلنا - مبلبلا مضطربا بين الاتجاهات المختلفة والسبل المتعارضة، وكان الناس لا يزالون يبحثون عن الوجهات المجدية الصالحة لأفرادهم ووطنهم، كما كانوا لا يزالون في حاجة إلى غربلة القيم المختلفة المتوارثة والدخيلة، وانتقاء خيرها، وأجداها نفعا.
وعلى أية حال، فإن رجلا كان يغاضب العرابيين ورجال الحزب الوطني ورجال الدين والمتزمتين والمحافظين، لم يكن من المعقول أن يحظى بجمهور كبير يشيد بفضله وينزله المكانة التي يستحقها في عالم الأدب والشعر. بل إن إشادته بعدل الإنجليز، وحماية كرومر للحرية والأحرار وإعجابه به كان وحده كفيلا بأن يحط من ذكره، وأن يصمه بما لا نزال نسمعه حتى اليوم من أنه كان من أنصار الإنجليز المحتلين، وهذه تهمة استطاعت أن تطمس ما كان له من اتجاهات أخرى خيرة، كتعصبه للحرية السياسية والفكرية، وثورته على الظلم والاستبداد، ومناصرته للقضايا التقدمية.
آثاره الأدبية
لقد كان ولي الدين يكن مشغولا بالمسائل السياسية والاجتماعية أكثر من انشغاله بمسائل الأدب والفن في ذاتهما، بحيث يعتبر أدبه أبعد ما يكون عما يسمى بالفن للفن، أي: الفن لمجرد الجمال الفني؛ ولهذا تغلب الروح السياسية والاجتماعية على معظم ما كتب من نثر وشعر، وإن تكن شدة انفعاله الفكري قد صبغت كتاباته بصبغة الأدب وأكسبتها قدرة دائمة على الإثارة.
لقد خلف ولي الدين يكن الكتب التالية: (1) «المعلوم والمجهول» في جزأين، صدر الأول منهما سنة 1909، والثاني 1911، وهو يتضمن سلسلة من الفصول تكاد تكون تاريخا كاملا لحركة التحرير التركي، التي قامت بها جماعة تركيا الفتاة، ثم حزب «الإصلاح والترقي»، كما يتضمن تاريخ الويلات التي تعرض لها ولي الدين، من سجن ونفي واضطهاد وذكريات عن مدة نفيه في سيواس، وعرض للكثير من آرائه السياسية والاجتماعية خلال حديثه عن التاريخ، أو قصصه لذكرياته الخاصة. (2) «الصحائف السود» وهو مقالات جمعها في سنة 1910 بعد نشرها في جريدة المقطم، وقد قدمها للقراء هو نفسه بقوله: «الصحائف السود مقالات نشرت في جريدة المقطم الشهيرة، متتابعة، أردت أن أنتقد بها بعض ما يقع في معترك الحياة، واخترت حين بدأت نشرها اتخاذ توقيع «زهير» تكتما لكيلا يمنع رجال الأدب من نقدها حق الود، ولكن عرفني إخواني فرجعت عن الاختفاء وعدت إلى توقيعي الأصلي، واستهللت بعض المقالات من صحائفي السود بأبيات ومقطعات نظمتها على ما يناسب المقام، وكنت أود أن أستمر في كتابة هذه الفصول حتى أبلغها المائة أو الأكثر، غير أني خفت ملل القراء فاكتفيت بالقلائل، وسأعود إلى مثلها بعد أن أختار اسما جديدا.» (3) «التجاريب» وهي مجموعة مقالات اجتماعية لولي الدين، وقد عني بطبعها فؤاد مغبغب في سنة 1913، وقدمها المؤلف بمقدمة خطية مصورة، قال فيها: «كل ما يتعلم المرء من حوادث الأيام تجربة، وما يستفيد التجربة مستفيدها إلا وقد امتلكها بشيء يخسره من الأمل، ولو كنا نعنى بتقييد العظات وهي أغلى ما بقي لفاضت عن الكتب الضخمة وسالت، ولكن ما يسلم من النسيان قليل، وفي ذاك القليل ذكرى إذا استعادها المرء وجد راحة في استعادتها، هذه آلام مصورة وشكاوى متجسدة، هذه هدية الفؤاد المقروح إلى الأفئدة المقروحة، إن للأفئدة لنجيا تتعارف به وتتآلف إذا لم ينفع اليوم ينفع غدا.» وهو يسير في هذه المقالات على نفس النهج الذي سار عليه في «الصحائف السود»؛ ولذلك كثيرا ما نراه يبدأ كل مقال بمقطوعة من الشعر ثم يواصل الحديث نثرا. (4) «دكران ورائف» وهي شيء يشبه القصة، ولكنها في الواقع عدة فصول تعرض أنواعا من الظلم الذي كان ينزل بالرعايا العثمانيين في عهد عبد الحميد؛ فدكران شاب أرمني جاهد هو وذووه حتى حصل على دبلوم الطب، وإن لم يمنعه اجتهاده من أن يقدم رشوة لكي يحصل عليه، ورائف تركي صديق وزميل لدكران، ولم يكد الشابان يتخرجان حتى اعتقلا وسجنا بتهمة التآمر مع الأحرار. وفي هذا الكتاب صفحات من الوصف والتصوير، غارقة في جو شعري حار، وإن لم تكون تلك الفصول وحدة قصصية، بل ظلت أشبه ما تكون بقطعة من قلم استعراضي، يقدم لوحات من عصر الاستبداد والظلم، وما ينزل بالناس من محن وأحزان. (5)
ترجم من التركية إلى العربية كتاب «خواطر نيازي أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير»، وقد طبع في سنة 1909، كما ترجم في أخريات أيامه من الفرنسية إلى العربية رواية «الطلاق» لبول بورجيه. (6)
وفي سنة 1924 - أي: بعد وفاته بثلاث سنوات - جمع أخوه يوسف حمدي يكن ما استطاع أن يجمعه من قصائد أخيه، ونشرها في «ديوان ولي الدين يكن»، وهو ديوان صغير يقع في 127 صفحة، وقد قسمه جامعه إلى سبعة أقسام: أولها شعره السياسي وهو أكبر الأقسام، وثانيها الرثاء والعزاء، وثالثها التهنئة والمديح، ورابعها الدهريات، وخامسها الهجاء وهو أربعة أبيات، وسادسها الغراميات، وسابعها المتنوعات.
وقد ضم هذا الديوان المقطوعات أو القصائد التي استهل بها ولي الدين الكثير من مقالاته المنشورة في كتبه النثرية، ويقول أخوه في تصديره للديوان: «إن ولي الدين قد نطق بالشعر قبل أن يبلغ العشرين، وكان له شعر كثير نشر في الصحف، أحرقه برمته منذ ثلاثين سنة، أما هذا الشعر (أي: الديوان) فإنه مما قاله بعد ذلك، وقد كان محا منه بعض القصائد وفقد بعضها، وأراد قبل وفاته بعامين أن يطبع ديوانه، فنقل من ما يربو على سبعمائة بيت، ثم حال مرضه دون استمراره.» ثم يقص أخوه كيف استطاع أن يجمع ما نشره في الديوان من مخلفات أخيه الشعرية.
ولي الدين الشاعر
لقد فطن النقاد في سهولة إلى مكان ولي الدين يكن في تيارات الشعر العربي المعاصر، ووضعوه بين جماعة المجددين، فقال عنه أنطون الجميل: «وقد نقل حريته هذه واستقلاله في حياته إلى أسلوبه الشعري، ففي الشعر كما في السياسة حزبان: حزب استقلالي، وحزب استعبادي، وكان ولي الدين في طليعة الحزب الأول؛ لأنه كان من القائلين بتحرير المخيلة والشعور من نير العبودية للمألوف الراهن، وهذا التحرير أو الاستقلال أصبح من مميزات الشعر العصري، وله روعته وجماله وإن بلغ حد الغلو والتطرف أحيانا؛ لأن للحرية عظمة خاصة بها حتى في تهورها، فالشاعر الحر شغف بحرية الوحي الشعري كالسياسي الحر عبد لحرية الرأي السياسي.»
والواقع أن ولي الدين يكن رغم معرفته الدقيقة الواسعة باللغة العربية وآدابها، لم تستعبده تقاليد الشعر العربي، ولا طغت الذاكرة عنده على القدرة على الخلق وابتكار التعبير أو الصورة أو القالب، وذلك لعدة أسباب منها: تنوع ثقافته الأدبية؛ إذ كان يجيد معرفة الأدبين التركي والفرنسي إلى جوار الأدب العربي، كما كان يلم بالأدب الإنجليزي، مما وسع في أفقه ووقاه خطر استبداد تقاليد الشعر العربي بشعره، وبخاصة وأنه كان نزاعا إلى الحرية، وكان من الطبيعي أن تمتد هذه النزعة إلى وسائل التعبير والتصوير، فتحررها هي الأخرى من التقاليد والقوالب المتحجرة، وربما كان في تحرر مطران من تلك التقاليد والقوالب ما حمل ولي الدين على محبته والإعجاب به، بل والثمل بشعره.
وأخيرا لا يجوز أن ننسى أن طبيعة ولي الدين النفسية قد كانت - كما سبق أن قلنا - من أهم العوامل التي دفعته إلى التجديد والابتكار في أسلوب الشعر والنثر؛ وذلك لأن الانفعال الفكري القوي لا يمكن أن يسكن إلى العبارات أو الصور التقليدية المتوارثة التي أكلها التحات لكثرة الاستعمال والتداول، ولا بد أن يبحث مثل هذا الانفعال الفكري القوي عن عبارة أو صورة جديدة، واضحة المعالم قوية التعبير كالعملة الجديدة السك.
ولقد سبق أن مرت بنا لوحات من تصويره للأتراك المسلمين في مصر بنرجيلاتهم ومشعوذيهم، ولرجال الدين بعثانينهم التي تشبه حدائد الفئوس! وكلها تنم عن رؤية شعرية أصيلة واضحة، وقدرة على ابتكار التعبير القوي الدال في غير كسل ولا رجوع إلى التعابير والصور التقليدية المتآكلة.
وفي الحق إننا لا نكاد نتصور كيف كان يستطيع مثل هذا الشاعر المنفعل الملتزم أن يجري في شعره السياسي المعاصر، وفي نفثات منفاه وفي آرائه الاجتماعية الحديثة على تقاليد الشعر العربي القديم، أو أن يستعير منه القوالب والأخيلة، وهو يسبح في عالم جديد مغاير تمام المغايرة لعالم الشعر العربي القديم، وإنما يمكننا أن نتصور ذلك عندما يكون موضوع الشعر من الموضوعات التقليدية عند العرب مثل الغزل، فهنا نعثر في ديوان يكن على بعض مقطوعات قالها في صباه على النهج التقليدي، حتى لنراه يقف على الديار، حيث يقول (ص101) تحت عنوان «ومن قوله في صباه»:
وقفت بالدار أبكي رسمها العافي
ما كل ذي شجن مثلي بوقاف
إلى أن يقول:
أهوى رضاه وأهوى أن يعذبني
سيان في حبه ظلمي وإنصافي
بل ونراه في معرض الغزل يعارض الحصري القيرواني، فيقول:
الحسن مكانك معبده
واللحظ فؤادي مغمده ... إلخ.
وذلك بينما لا نستطيع أن نسمي قصيدته «عبرة الدهر» معارضة لقصيدة شوقي التي تحمل نفس الاسم، وإن اتفقت معها في الوزن والقافية، بل هي مناقضة يرد فيها على شوقي - كما رأينا - ردا عنيفا.
وكذلك الأمر في كافة شعره السياسي الذي يكون الجزء الأكبر من ديوانه، بل والذي يعطي الديوان قيمته الأساسية، وكله شعر مباشر ينبعث عن انفعال فكري حار، وإيمان عقلي متين، ودعوة مخلصة إلى ما يتضمن من توجيه.
فهو يخاطب الوطن بقوله (ص19):
صحا كل شعب فاسترد حقوقه
فيا ليت يصحو شعبك المتناوم
هو الشعب أفتى دهره وهو خادم
وليس له فيمن تولوه خادم
يقلب من عهد لعهد على الأذى
إذا زال عنه غاشم جد غاشم
وهو يعالج في شعره السياسي كافة الموضوعات التي عالجها في نثره من دعوة إلى النهضة والإصلاح إلى سخط على الظلم والظالمين، وثورة على العصر الحميدي ورجاله الذين يسميهم «بغالا» في إحدى مقطوعاته، حيث يقول في ص42:
كفى حزنا إن الرجال كثيرة
وليس لنا فيما نراه رجال
نحكم قوما لا يبالون قائلا
وإن قام كل العالمين فقالوا
إذا ارتقبوا يوما فذلك منصب
أو اطلبوا شيئا فذلك مال
بغال تسوس الأسد شر سياسة
وما ساس أسدا قبل ذاك بغال
قضيتم وعشنا بعدكم مر عيشة
تعالوا انظرونا يا جدود تعالوا
وهو قد يترك الأسلوب الخطابي المباشر أحيانا؛ ليأخذ في أسلوب القصص السريع الخاطف، فيصل بفضله إلى أبعد مما يصل إليه بأسلوبه الخطابي من ناحية التأثير والإثارة، ولعل من خير أمثلة هذا المنحى مقطوعة صغيرة، لا تتجاوز العشرة أبيات، ومع ذلك تهز النفس هزا عنيفا، وقد سماها: «خليج البسفور في إحدى ليالي الشتاء»، وقال فيها (ص60):
في ليلة ليس بها كوكب
كأنما مشرقها مغرب
يمسي سوادا كل ما بينها
ففوقها وتحتها غيهب
لا يدرك الفكر بها مطلبا
فكل ما يطلبه يهرب
جاءوا بمظلوم إلى ظالم
قالوا له هذا هو المذنب
بكى وفي الدار بكوا مثله
فكل من في داره ينحب
وقد رأينا حوله صبية
تندب حين أمهم تندب
قال اجعلوه مثل أترابه
من كان من مذهبه يذهب •••
وأقبل الصبح على أيم
وصبية ليس لديهم أب
يا بحر لو تنطق أخبرتنا
ما قال من غيبت إذ غيبوا
فهذه المقطوعة تروي قصة أحد أولئك المظلومين، الذين كان عبد الحميد يأمر بالقبض عليهم وإلقائهم في مياه البسفور أثناء الليل، وإذا كان قد أوجز القصص واستعان بالإشارة بدلا من التصريح، والانتقال المفاجئ بدلا من التسلسل الرتيب، فإنه بذلك لم يضعف من التأثير، بل لعله زاده حدة.
وهو في شعره يعبر أيضا عن مشاعره الخاصة إزاء الأحداث التي تأثر بها أو جاهد في سبيلها، مثل اغتباطه بسقوط عبد الحميد، وبدء عصر الشورى والحرية، ومثل حنينه إلى مصر وإلى فروق أثناء نفيه في سيواس، وتألمه من ذلك المنفى. وإذا كان شوقي قد قال عن مصر أثناء نفيه بإسبانيا بيته الخالد:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
فإن ولي الدين قد خاطب مصر هو الآخر ببيت رائع، هو قوله (ص34):
وإذا الإله قضى بوصلك بعد ذا
فلأمسحن وجهي ببعض ثراك
وبالرغم من صلابة ولي الدين وعناده وتعصبه لآرائه السياسية والاجتماعية، وإيمانه بتلك الآراء، إلا أننا لا نعدم أن نجد في شعره السياسي أبياتا تكاد تنطق باليأس والتشاؤم، وذلك مثل قوله في قصيدة «ويل للناس من الناس» (ص51):
وداع جاء يدعوني لنصح
وقد وهت النهى ووهى البنان
تعبت من الكلام فليس يجدي
لبث النصح نظم أو بيان
وكانت ضلة ونزعت عنها
فها أنا لا أدين ولا أدان
وما أسفي على عهد تقضى
ولكن صنت عهدا لا يصان
ظللت أمينه دهرا طويلا
وكنت أظن أني لا أخان
بل ونلمح في نفس الشعر تشاؤما فلسفيا في نظرته إلى الإنسان في ذاته نظرة تذكرنا بفلاسفة الغرب المتشائمين، بل وبالجملة اللاتينية الشهيرة التي عبر بها الفيلسوف الإنجليزي هوبز عن ذلك المذهب وهي
Homo Homini Lopus
أي: «الإنسان على الإنسان ذئب.» بينما يقول ولي الدين (ص53):
أفسد الظلم أنفس الناس حتى
لو رأى الناس عادلا لارتابوا
قد أجيعوا فالبعض يأكل بعضا
غنم بعضهم وبعض ذئاب
وشعره السياسي ليس موضوعيا كله، بل فيه الشعر الغنائي الذاتي، مثل حنينه إلى مصر وفروق، وتألمه من المنفى وبخاصة في قصيدته التي سماها: «في المنفى، زفرة من زفراتي» (ص55) حيث يقول:
فؤاد دأبه الذكر
وعين ملؤها عبر
ونفس في شبيبتها
وجسم مسه كبر
وآمال مضيعة
ووقت كله هدر
وعيش عذبه مضن
وعمر صفوه كدر
أما يا ليل من صبح
لمن سهروا فينتظر
جفون الناس هاجعة
وجفني ضافه السهر •••
أرى سيواس تغمدني
كأني صارم ذكر
صدئت بها وأحسبني
سأصدأ ما جرى العمر
ثم يختتمها بروح معنوية عالية حيث يقول:
رويدا إنها دول
تدول وبعدها أخر
يظل الحق منهزما
زمانا ثم ينتصر
سيوف الله إن سلت
فلا تبقي ولا تذر
هذا هو الشعر السياسي الذي تميز فيه ولي الدين يكن؛ لأنه كان مهموما بالسياسة وشئون الإصلاح، وأما فيما عدا الشعر السياسي فإننا لا نرى لولي الدين أصالة خاصة، ففي رثائه مثلا قد نحس بعاطفة صادقة قوية في رثائه لابنه، ولكنه لا يخرج عن القوالب المألوفة في الرثاء، مثل قوله:
الله في لوعة أجرعها
يعرفها في الأنام من ثكلوا
يا كبدا من مناطها انفصلت
ما خلت أن الأكباد تنفصل
كما قد نجد انفعالا وعنادا في رثائه لبطرس باشا غالي في قصيدته التي اتخذ لها عنوانا «جاهدت في إعلاء مصرك جاهدا»، إلا أننا بوجه عام لا نحس بأصالة لولي الدين إلا عندما ينفعل للسياسة أو لإحساس شخصي.
وهو إذا قد كان قد أعجب بالسلطان حسين كامل، وأخلص له الود ومدحه عن اقتناع وإيمان، إلا أننا أيضا نراه يودع الجنرال مكسويل ويرثي إدورد ملك إنجلترا!
وإذا كان التاريخ يحدثنا عن علاقة غرام بين ولي الدين «ومي» بل ويحتفظ لنا الديوان بمقطوعة من ستة أبيات اتخذ لها الشاعر عنوانا «فيا رب هب لي مواجع مي» (ص103)، فإننا بالرغم من ذلك نجده في غزله يسلك الدروب التقليدية، بل ويتسكع كما تسكع غيره في معارضة «أليل الصب متى غده».
وكأن الأمر أمر قدرة ومهارة على قرض الشعر، لا تعبير عن تجربة إنسانية خاصة وابتكار للصور الجمالية.
ولو أننا تركنا فنون شعره وأغراضه لننظر في ديباجته وأسلوبه للاحظنا أن أسلوبه مرآة صادقة لنفسه، فهو أسلوب منفعل سريع متلاحق الإيقاع، يتميز بالقوة والانفعال أكثر مما يتميز بالصيغة الفنية، أو التصوير البياني، بل لعل التصوير البياني أوضح في نثره منه في شعره. •••
والخلاصة أن ولي الدين يكن يتميز خاصة بأنه أديب وشاعر سياسي، ملتزم منفعل مجدد، وأنه إذا كانت أفكاره واتجاهاته لم ترض التيار الوطني الغالب، إلا أنه كان بلا ريب رجلا مخلصا لرأيه، مخلصا لنفسه، كما كان من محبي الحرية بل من عشاقها، ذوي النفوس القوية التي لا يرهبها ظلم، ولا تثنيها تضحية في الدفاع عن الحرية السياسية، والحرية الفكرية، وعن قضايا التقدم الاجتماعي، وإن استهدف بسبب ذلك إلى كثير من العداوات والاضطهادات.
ملحق
بعد إلقاء هذه المحاضرات ظهر في بيروت ضمن منشورات المكتبة العصرية كتاب جديد لولي الدين يكن بعنوان «عفو الخاطر»، وقد نشره الأستاذ أمين نخلة عن نسخة كان قد نسخها عن الأصل المكتوب بخط المؤلف، وكان هذا الأصل مودعا عند الأستاذ فؤاد مغبغب ناشر كتاب التجاريب لولي الدين، وقد استعاره منه الأستاذ أنطون الجميل قبل وفاته بقليل لينسخه، وتوفي دون أن يرده، فلم يعثر عليه بعد ذلك. «وعفو الخاطر» يضم طائفة من القطع النثرية والشعرية التي لم يتضمنها الديوان، فيما عدا مقطوعة واحدة مكررة وهي الخاصة «بالكلب جوجو» ص49 من «عفو الخاطر» وص119 من الديوان.
والطريف في هذا الكتاب الجديد أنه يغاير مغايرة تامة كافة مؤلفاته الأخرى؛ وذلك لأنه يعتبر من الأدب الخالص، أو ما يمكن أن يسمى بالفن للفن، فلا علاقة له بالسياسة أو الاجتماع، ومن ثم لا محل فيه للأدب الملتزم، وإنما هو قطع ومقطوعات نثرية وشعرية منمقة قصد منها إلى الجمال الأدبي وطلاوة التصوير وأناقة الأسلوب، وهي وإن سميت «بعفو الخاطر» إلا أنها تعتبر في الواقع من قبيل الأدب المنمق.
وفي العناوين التي اختارها لمقطوعاته ما ينم عن معدنها مثل: «زهرة على شط نهر» و«القلم المكسور» و«نكبة باريس» و«أيا ليتني» و«الأنفة» و«الزهرة» ... إلخ.
وها هو مثال مما جاء في هذا الكتاب نأخذه من قطعة «زهرة على شط نهر» ص32: «حمراء صافية ذات أرج يملأ الروح، كأنها بسمة على ثغر ملك، أو قطرة دم من فؤاد معذب، تناولتها بأناملي وقسوت عليها بالقطف، وشممتها فمازج روحي روحها ... باعدت ما بين موردها العذب ومنبتها الطيب حرصا على جمال ليس لي منه إلا الإعجاب به، فكأنه خلق لأصفه، وكأني خلقت لأعنى به، الله يأبى أن يبقى فؤاد الشاعر في دعة، ويأبى سبحانه أن يظل خاطره في سكون.»
وظاهر من هذه الأسطر وأمثالها أن ولي الدين قد جارى في كتابتها روحا رومانسية عامة كانت سائدة في ذلك العصر عند كتاب مثل المنفلوطي وجبران ومي، وهذه ليست الروح الأصيلة التي تميز بها ولي الدين يكن، وحللناها في الصفحات السابقة، ورأينا أكبر خاصية لها في تلك الانفعالات الفكرية العنيفة التي انبثقت عن اهتماماته السياسية والاجتماعية، وهي تلك الاهتمامات التي طغت على كتاباته وعلى حياته، بحيث يعتبر «عفو الخاطر» جدولا صغيرا رقراقا إلى جوار تيار أدبه العام الصاخب العاتي.
صفحه نامشخص