مقدمة
ولي الدين يكن
معالم حياته1
صورته النفسية
أديب ملتزم
أديب الحرية
آثاره الأدبية
ولي الدين الشاعر
ملحق
مقدمة
صفحه نامشخص
ولي الدين يكن
معالم حياته1
صورته النفسية
أديب ملتزم
أديب الحرية
آثاره الأدبية
ولي الدين الشاعر
ملحق
محاضرات عن ولي الدين يكن
محاضرات عن ولي الدين يكن
صفحه نامشخص
تأليف
محمد مندور
مقدمة
تحدثنا في العام السابق عن الشعر بعد شوقي، فلاحظنا وجود تيارين كبيرين؛ هما تيار الشعر التقليدي، وتيار المجددين، وسايرنا كلا التيارين بعض الشوط، ولكننا لاحظنا بعدئذ أننا قد جاوزنا في الحديث الزمن الذي عاش فيه شاعران كبيران، لم يتحدد لكل منهما مكان في التيارين الكبيرين سالفي الذكر، وهذان الشاعران هما: ولي الدين يكن (1873-1921)، وإسماعيل صبري باشا (1854-1923).
ولم يكن ذلك لضعف في مكانتهما الأدبية، أو تفاهة في إنتاجهما الشعري، ولكن لأن كلا منهما كان في الواقع بمثابة جدول خاص ينساب إلى جوار التيارين الكبيرين، اللذين كانا يشغلان حقل الشعر عندئذ، ويصطرعان اصطراعا مستمرا، لا هوادة فيه، ولا رفق.
والواقع أن هذين الشاعرين لم يثيرا دويا في عالم الشعر العربي المعاصر، ولم يخوضا معارك، ولم يحاولا اجتذاب أنصار، وتكوين مدرسة أو مذهب في الشعر، وإذا كان من النقاد المحدثين من يرى أن إسماعيل صبري يدخل في تيار الشعر التقليدي،
1
بالرغم من ثقافته الفرنسية، وعمله في القضاء المختلط زمنا طويلا، بينما يعتبر ولي الدين يكن شاعرا مجددا في روحه وأسلوبه، إذا كان هذا هو رأي بعض النقاد، فإن الحقيقة الأكثر وضوحا هي ما سبق أن ذكرناه من أن هذين الشاعرين لم ينضم أي منهما إلى تيار من التيارين الكبيرين، اللذين اصطرعا، ولا يزالان يصطرعان في عالم الشعر العربي الحديث.
والواقع أن كلا من ولي الدين يكن، وإسماعيل صبري لم يحترف الشعر، ولم يجعل منه وكده، ولا اشترك في معارك الشعر والأدب، وإن اختلف باعث كل منهما على الموقف الذي وقفه منهما.
فأما إسماعيل صبري، فإننا لا نجد في تحديد موقفه من الشعر خيرا من اصطلاح إيطالي، انتقل من الإيطالية إلى غيرها من اللغات الأوروبية الحديثة ، كالفرنسية والإنجليزية وغيرهما، وهو لفظة ديلليتانتي
صفحه نامشخص
Dilettante ، التي يمكن ترجمتها إلى العربية بلفظة «الهاوي»، فهو لم يكن يقول الشعر لأن من واجبه أن يقوله عندما تعن مناسبة، ولم يكن الناس يحاسبونه على صمته كما يحاسبونه على قوله؛ لأنه قد عرف بين الناس بأنه شاعر؛ أي: محترف، كما أنه لم يحرص على أن يخوض في مناقشة أصول الشعر ومذاهبه، ولا على تحديد مكانه في عالم الشعر، وإنما كان يقول الشعر إذا ساقه مزاجه إلى أن يقوله في غير قصد إرادي، ولا تصميم، وهو الرجل الهادئ المنعم الذي يأخذ الحياة من أيسر سبلها، ولا يعرف الانفعالات العنيفة، أو المشاعر الجامحة، أو التكالب على الأدب وعرش الأدب، حتى لقد وصفه الأستاذ العقاد في كتابه عن «شعراء مصر وبيئتهم في الجيل الماضي» بأنه «شاعر قاهري»؛ لما لاحظه على شعره من روح المدن، ومدينة القاهرة بنوع خاص، حيث تغلب على أمزجة سكانها روح اليسر، وعدم التزمت والانفعال.
وأما ولي الدين يكن، فبالرغم من أن مزاجه العصبي العنيف كان يختلف الاختلاف كله عن مزاج إسماعيل صبري القاهري المرفه الوديع الهادئ الطبع، إلا أنه هو الآخر لا يمكن أن يوصف بأنه قد احترف الشعر، واتخذه غاية في ذاته، أو فنا جميلا قائما بنفسه، وإنما اتخذ الشعر وسيلة للتعبير عن آرائه واتجاهاته السياسية والاجتماعية، حتى لنراه يجمع بين الشعر والنثر في كثير من أبحاثه ومقالاته التي كان ينشرها في الصحف، والتي جمعها بعد ذلك في كتبه: «الصحائف السود»، و«التجاريب»، و«المعلوم والمجهول» بجزأيه، وأكبر الظن أن ولي الدين يكن لم يكن يلجأ إلى الشعر؛ ليستهل به مقالاته إلا لإحساس عميق بأن الشعر يستطيع بفضل موسيقاه وأخيلته أن يستنفد ما في أفكاره من انفعالات، حتى إذا هدأت نفسه، واستراحت من عصبيتها العنيفة الدافقة، لجأ إلى النثر ليفصل القول، ويعالج المشكلة التي يدور حولها المقال، مما يدفعنا إلى أن نحدد الخاصية الأساسية لشعر ولي الدين يكن في قولنا: إنه شاعر الانفعالات الفكرية، كما حددنا من قبل إسماعيل صبري بأنه شاعر الهواية الأدبية.
ثم إن كلا من الشاعرين قد كان مقلا نسبيا في إنتاجه الشعري؛ وذلك لأن إسماعيل صبري كان مشغولا بالحياة ونعيمها الميسر عن الشعر، كما أن ولي الدين يكن قد كان مشغولا بمعاركه السياسية والاجتماعية عن الشعر كفن جميل يقصد لذاته، وكل ما كان يحرص عليه - كما قال في مقدمات كتبه، وفي شعره أحيانا - هو أن يأتي يوم ينتفع فيه مواطنوه من عرب وأتراك بآرائه ونزعاته الإصلاحية، وقد عبر عن هذا الأمل في بيتين حرص على أن يدونهما تحت صورته التي يفتتح بها كتبه وديوانه، وهما:
ما كان أهنأني وأسعدني
لو كان ينفع معشري قلمي
أنا لي فؤاد لا أنزهه
لكن يراقب ما يقول فمي
وهو يردد نفس المعاني في نثره مثل قوله في تقديم كتابه المعلوم والمجهول: «بهذا الكتاب أشياء، وقد فاتته أشياء، وفي أحوال العالم ما يمنع الإفصاح بكل ما يدور في الخلد، على أنني لا أحب أن أخرج من هذه الدنيا قبل إظهار ما عندي من الخوافي، فإذا وفقني الله إلى أمنيتي تلك كنت سعيدا ... حين تذهب دول الظلم، ويذوق الناس نعيم العدل، يقرءون مثل كتابي هذا بارتياح، وإذا وهب الله أقوامنا من الترقي أكثر مما نالوه، وبقيت حيا بينهم، كلمتهم بما يخالج صدري تصريحا لا تلميحا.»
ولي الدين يكن
لا شك أن ولي الدين يكن يعتبر من الظواهر الفريدة بين رجال الأدب والفكر؛ وذلك لأن هذا التركي العنيد يعتبر مثلا قويا في صلابة الرأي، وجرأة الفكر، وانفعال العصب في كل أو معظم ما كتب من شعر ونثر.
صفحه نامشخص
ولا شك أيضا في أن وضعه الخاص، وظروف عصره، وتضارب التيارات السياسية والاجتماعية في أيامه، لا شك أن كل هذا قد أثر تأثيرا بليغا على مكانة ولي الدين؛ ككاتب، وشاعر، وعلى ما خلف من شعر ونثر، وعناية الناس بدراسة تراثه الأدبي.
وذلك لأن ولي الدين ولد تركيا، وهو بحكم هذا المولد لم يكن يستطيع إلا أن يتعصب للجنس العثماني، وأن يغار على مجده وسلطانه، ولكنه من جهة أخرى كان ساخطا على الفساد الذي انتشر في قصر الخلافة، وفي حكم الخلفاء العثمانيين، وقد أخذ يهاجم هذا الفساد والظلم والطغيان هجوما عنيفا لا هوادة فيه، وانضم إلى جماعة تركيا الفتاة، وحزب الإصلاح والترقي، حتى نفاه السلطان عبد الحميد إلى مدينة سيواس حيث ظل في منفاه من سنة 1902 إلى سنة 1909، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن نجحت الثورة ضد الخليفة، وأرغمته على إصدار الدستور، وتقرير الحكم النيابي سنة 1908، ومنذ أن أطلق سراحه قدم إلى مصر، وظل فيها حتى توفي.
وكانت مصر في ذلك الحين تعج بالتيارات السياسية، والدينية، والعنصرية المختلفة المتضاربة.
1
ففيها المنادون بالجامعة العثمانية، المتحمسون للخلافة، والمتمسكون بأهدابها؛ لكي يستعينوا بها على محاربة الاستعمار الإنجليزي، وكان هذا التيار هو الغالب عندئذ، حتى لقد اختلط بفضل مصطفى كامل وزملائه في الحزب الوطني بمعنى الوطنية المصرية العنيفة المتطرفة، بينما كان هناك نفر آخر يبغضون حكم الأتراك، وظلمهم واستبدادهم، ويرون من الوطنية الواعية أن يوفروا الجهد أولا على تخليص مصر من السيطرة العثمانية، حتى ولو أدى بهم ذلك إلى مهادنة الإنجليز والاستعانة بهم ضد الأتراك، وقد استغل هذا النفر شعور العداء الذي ولدته الثورة العرابية ضد الأتراك والجراكسة، وغطرستهم، واحتقارهم للفلاحين، واحتكارهم لمناصب البلاد الكبرى، وخيراتها الوفيرة؛ ولذلك نادى هذا الفريق بمبدأ «مصر للمصريين» حتى يقضوا على الدعوة القائلة بأن مصر للعثمانيين، وهذا النفر هم الذين كونوا حزب الأمة، وإن يكن هذا الحزب قد ضم الكثيرين من وجوه البلاد وباشواتها، وأصحاب الإقطاع فيها، أي أولئك الذين كانوا يسمون أنفسهم بأصحاب المصالح الحقيقية، وكانت هذه المصالح تتفق وترتبط بمصالح الاستعمار الإنجليزي الاقتصادية.
وكانت هذه الوحدة في المصالح من العوامل القوية التي قربت بينهم وبين الإنجليز، وذلك بينما كان الحزب الوطني يرى أن تبعية مصر لتركيا لا تعتبر تبعية استعمارية، وبخاصة بعد أن ضعفت تلك التبعية، وأصبحت أمرا شكليا، لا تعدو نتائجه الفعلية الإتاوة التي كانت تدفعها مصر لتركيا سنويا، ثم بعض المظاهر المعنوية والروحية؛ كالمناداة بالخليفة، والدعاء له في خطب الجمعة بالمساجد .
وفطن الإنجليز بالفعل إلى ضرورة تحطيم فكرة الجامعة العثمانية، والوحدة الإسلامية، لكي تخلص لهم مصر، وغيرها من البلاد العربية، فأخذوا يناصرون المنادين بمبدأ مصر للمصريين، كما أخذوا يناصرون الساخطين على فساد الخلافة وانحلالها وطغيان حكامها، حتى لنراهم يوحون بفكرة انتقال الخلافة إلى العرب، وأولويتهم بها، بحكم أن الدين قد نزل على نبي منهم، كما نزل القرآن بلسانهم العربي.
ولقد ناور معتمدو بريطانيا في مصر - وبخاصة اللورد كرومر - مناورات عميقة مؤثرة؛ لتغليب سياستهم، وجمع الأنصار حولها، فنراهم مثلا يوحون ابتداء من سنة 1892 بإهمال قانون المطبوعات القاسي الذي كان قد صدر في سنة 1881 إبان الثورة العرابية، ويطلقون للصحف حرية مطلقة قلما تشهد مثلها، وظلت هذه الحرية على هذا الإطلاق حتى تغيرت الظروف، فبعثوا من جديد هذا القانون العاتي في سنة 1909، وكان بعثه من ضمن الأسباب التي أدت إلى اغتيال بطرس باشا غالي، وكانت السياسة الإنجليزية ترمي من وراء إباحة حرية الصحف إباحة مطلقة إلى هدفين؛ أولهما: تشتيت الرأي العام الوطني في فرق وأحزاب، يشغلها تطاحنها وسبابها وعنف خصوماتها عن التنبه إلى الاستعمار الإنجليزي، والتكتل لمحاربته، والتخلص منه. وثانيهما: شغل الرأي العام بمشاكل الإصلاح العاجلة وغير العاجلة، وصرفه عن المشكلة الكبرى، وهي مشكلة الاستعمار الإنجليزي.
والواقع أن الإنجليز قد استطاعوا بهذه السياسة الخبيثة وأمثالها أن يجتذبوا إليهم عددا من الوطنيين المستنيرين، الذين طربوا لهذه الحرية، وآثروها على الاستبداد التركي، حتى أصبحت مصر عندئذ موئلا لكثير من الترك والعرب والأرمن وغيرهم، ممن نزحوا من بلادهم التي كانت تركيا تسيطر عليها سيطرة مطلقة، وتنشر فيها أنواعا من الظلم والإرهاب البالغة القسوة.
والواقع أيضا أن الإنجليز قد استطاعوا أن يوهموا نفرا من المصريين المستنيرين بأنهم سينقلون إلى مصر الحضارة الأوروبية، ويساعدون على إصلاح مرافق البلاد، وتعميم الخدمات الشعبية، ويستبدلون بظلام الأتراك نور الحضارة الغربية، بل واستطاعوا أن يقنعوا عددا من المفكرين بأن تعصب رجال الدين في الإسلام وجمودهم وتخلفهم عن مجاراة روح الحضارة، من بين الأسباب الأساسية في تخلف مصر، وغيرها من البلاد الإسلامية، وعجزها عن مجاراة الحضارة الحديثة.
صفحه نامشخص
واستفحلت هذه الدعاية حتى رأينا عددا من المفكرين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، وقصر الدين على تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، بل وتطرف البعض فأخذ يشك في صلاحية الدين الإسلامي نفسه لأن يكون دين حضارة.
ولم تقتصر هذه التيارات المتضاربة على محيط المصريين الأصلاء، بل امتدت إلى عدد كبير من المهاجرين، واللاجئين السياسيين الذين وفدوا إلى مصر من تركيا، أو من البلاد السورية اللبنانية؛ فرارا من استبداد الأتراك، أو مما ظنوه تعصبا دينيا، واحتضن الإنجليز كل هذه العناصر الدخيلة، واستخدموها في تغليب سياستهم، ونشرها بين طبقات الشعب العميقة، وكان من بين هؤلاء النازحين أصحاب المقطم والمقتطف بنوع خاص، إذ نراهم يناصرون الاستعمار البريطاني ورجاله في مصر مناصرة علنية صريحة، بل يكونون حزبا وهميا سموه بالحزب الوطني الجديد، لمناهضة حزب مصطفى كامل، وسياسته الوطنية المتطرفة، واتجاهه العثماني الديني.
وعلى ضوء هذه الحقائق والتيارات نستطيع أن نحدد الوضع، الذي لم يكن بد من أن نجد فيه ولي الدين يكن العثماني بمولده، والساخط على الخلافة العثمانية، وحكمها الظالم الفاسد، بطبعه ومزاجه وثقافته وظروف حياته، ثم موقفه من الإنجليز، وموقف الإنجليز منه، بعد أن تيقنوا من أنه من رجال تركيا الفتاة، الذين يناهضون عبد الحميد الثاني وخلافته الفاسدة المستبدة، بل وموقفه من حركة الإصلاح في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية، وفضلا عن نزعته العنيفة نحو التحرر الفكري، والتخلص من سيطرة الكهنوت الديني، بل والتزمت الإسلامي كله، واتجاهه بكل قوته نحو النظم المدنية والحضارة الحديثة.
وهكذا تآمرت الظروف والأحداث لكي تضع ولي الدين يكن في وضع لم يكن يرضي التيار الوطني المسيطر، أو الآخذ في السيطرة عندئذ، وهو تيار مصطفى كامل وأنصاره من رجال الحزب الوطني، الذين كانوا يحاربون الإنجليز حربا لا هوادة فيها، ويتمسكون بحكومة الخلافة، ويستمدون منها العون ضد الاستعمار الإنجليزي، ويحرصون على الروح الدينية والوحدة الإسلامية. وكان هذا الوضع من الأسباب الرئيسية التي أصابت ولي الدين يكن وأدبه بالخمول حتى يومنا هذا، بالرغم من قوة نزعته التحريرية ونبلها ، وإفناء حياته في سبيل مثل الحرية والتقدم التي آمن بها، وتعصب لها، ودفع في سبيلها أبهظ الأثمان؛ من عذاب النفي، والفقر، والمرض، وإنهاك الأعصاب.
والواقع أن ولي الدين يكن قد اتهم بمناصرة الإنجليز، والإشادة بعدلهم في مصر، وتعميرهم لها؛ وذلك لأنه قد وجد فيهم حماة من الظلم التركي، حتى كانت مصر تعتبر عندئذ موئلا للأحرار من الأتراك والعرب الخاضعين للحكومة التركية المستبدة، وكان ولي الدين يجاهر بهذه الآراء، وينشرها في الصحف في مقالات أو قصائد، مثل المقال الذي نشره في جريدة المقطم، وأعاد نشره في كتابه «الصحائف السود» (ص45-51) تحت عنوان «المحتلون يخرجون من مصر» وفيه يقص حلما لموكب خروج الإنجليز من مصر، وما يترتب على ذلك من آثار مدمرة، ويختتم المقال أو الحلم برؤيته لتمثال إبراهيم باشا، وهو ينزل إلى الميدان ليمنع جيش الاحتلال من الخروج، قائلا: «تريدون اليوم أن تخرجوا من مصر؛ ليصبح عاليها سافلها، وليجري هذا النيل أحمر قانيا، كلا ثم كلا، لأصيحن صيحة تخرق حجب الأزل، وتنفذ إلى من ولجوا غابته، ولأبعثن لكم من تحت المقابر أجسادا تسد دونكم طرق الرحيل، أما والهرمين والنيل ليدخلن أهل الطيش غدا على العذارى في خدورهن، وليأخذون بغدائرهن، وليقومون بعد زماعكم من الشر أضعاف ما أتى بمقامكم من الخير، ارجعوا إلى ثكناتكم مأجورين غير مأزورين، إنما يأنس إليكم أهل الوقار وأنصار الفضل.» وهو يعترف بجميل إنجلترا على الأحرار من أعضاء تركيا الفتاة في رثائه لإدوارد السابع سنة 1910، فيقول:
أبا الأحرار لا ينساك حر
شبابهمو يجلك والكهول
رفعت بناءهم وجريت معهم
كذاك الليث يتبعه الشبول
تناديك الشعوب بكل أرض
صفحه نامشخص
فليتك سامع ماذا تقول
تناجي منك حاميها المرجى
وصولتها إذا قامت تصول
ومع ذلك فالظاهر أن ولي الدين يكن لم يكن يناصر الإنجليز؛ إلا لأنهم يحمونه من عسف الأتراك، ولم يكن كشاعر آخر هو نسيم الذي كان يمدحهم ويذود عنهم طمعا في مغانم الحياة؛ وذلك لأن ولي الدين يكن كان رجلا أبيا عفيف النفس ذا كبرياء، وقد خاصم السلطان عبد الحميد الثاني خصومة عنيفة لا هوادة فيها ولا رفق، وتحمل في شجاعة الذل والفقر والشقاء طوال حياته، وبخاصة أيام نفيه في سيواس على نحو ما نطالع في بعض فصول كتابه «المعلوم والمجهول».
والظاهر أن بغض ولي الدين لعبد الحميد كان من ذلك النوع العنيف الجامح الذي لا تهدأ له ثائرة، والذي قد يغشي البصيرة، ويسوق إلى التماس كافة السبل لإرضاء ذلك البغض، حتى لنراه يستمر في بغضه وهياجه ضد عبد الحميد بعد عزله، كما نراه يغضب من شوقي؛ لأنه رثى لحال عبد الحميد، وأبدى أسفه لعزله عن الخلافة في قصيدته التي مطلعها:
سل يلدزا ذات القصور
هل جاءها نبأ البدور
ثم يقول:
شيخ الملوك وإن تضع
ضع في الفؤاد وفي الضمير
صفحه نامشخص
فاستغفر المولى له
والله يعفو عن كثير
وتراه عند مصابه
أولى بباك أو عذير
ونصونه ونجله
بين الشماتة والنكير
عبد الحميد! حساب مث
لك في يد الملك الغفور
يغضب ولي الدين يكن من شوقي بسبب هذه القصيدة، ويرد عليه قائلا:
هاجتك خالية القصور
صفحه نامشخص
وشجتك آفلة البدور
وذكرت سكان الحمى
ونسيت سكان القبور
وبكيت بالدمع الغزي
ر لباعث الدمع الغزير
ولواهب المال الكثي
ر وناهب المال الكثير
حامي الثغور الباسما
ت مضيع آهلة الثغور
إن كان أخلى يلدزا
صفحه نامشخص
مخلى الخورنق والسدير
أو فاستسرت من سما
ها أنجم بعد الظهور
فلتأهلن من بعدها
آلاف أطلال ودور
وبعد أن عدد مآسي عبد الحميد وظلمه وفجوره، انتهى إلى التعريض بشوقي ومن نحا نحوه من الشعراء، فقال:
لما أديل من السرير
بكاه عباد السرير
نذروا النذور لعوده
هيهات يرجع بالنذور
صفحه نامشخص
أسفوا عليه وإنما
أسفوا على المال الدرير
طلبوا له عفو الغفو
ر وشذ عن عفو الغفور
قلص ظلالك راحلا
ودع البرية في الهجير
وفي الحق أن المقارنة بين قصيدة شوقي «عبرة الدهر» التي قالها في سنة 1909 في خلع عبد الحميد الثاني، وقصيدة ولي الدين يكن التي سماها أيضا «عبرة الدهر»، وقالها مناقضة لقصيدة شوقي السابقة، وجمعتا جنبا إلى جنب في ديوان ولي الدين يكن (ص26-32)، نقول : إن المقارنة بين هاتين القصيدتين يمكن أن نخلص منها إلى تحديد منهج كل من الشاعرين في الحياة، ومزاج كل منهما الشخصي، مما يعيننا على أن نفهم كيف استطاع شوقي بلباقته ومرونته أن يكسب أكبر عدد من الناس حتى يذيع صيته، ويشغل الدنيا بذكره، بينما نرى ولي الدين الصلب العنيد يستكثر من خصومه، ولا يداري أو يواري أو يهادن فيما يراه حقا وعدلا، في حين نرى شوقي يتجنب المزالق، ويحاول أن يرضي الجميع، فهو يرثي لعبد الحميد، ويسهب في وصف ما كان فيه من نعيم، ويتحدث عما يظن أن «حريم» عبد الحميد وجواريه الحسان سيجدنه من حزن ومرارة بعد عزل سيدهن، ويبدي أسفه؛ لأن عبد الحميد المحنك الخبير لم يستطع أن يتدارك الأمر بحكمته، فيحتفظ بعرشه وقصوره وجواريه، قائلا له:
ماذا دهاك من الأمو
ر وكنت داهية الأمور
أين الروية والأنا
صفحه نامشخص
ة وحكمة الشيخ الخبير
إن القضاء إذا رمى
دك القواعد من ثبير
ثم ينتقل في مرونة نخشى أن تكون نفاقا ومداراة إلى تمجيد الثائرين الأحرار، فيقول:
دخلوا السرير عليك يح
تكمون في رب السرير
أعظم بهم من آسري
ن وبالخليفة من أسير
أسد هصور أنشب ال
أظفار في أسد هصور
صفحه نامشخص
بل ويود أن لو احتفظ عبد الحميد بالدستور، ولم يتنكر له، ويشيد بذلك الدستور وبجدواه، ثم ينتقل إلى مدح الجيش الثائر وقادته أنور ونيازي وشوكت، قائلا:
يا أيها الجيش الذي
لا بالدعي ولا الفخور
يخفي فإن ريع الحمى
لفت البرية بالظهور
كالليث يسرف في الفعا
ل وليس يسرف في الزئير
عند المهيمن ما جرى
في الحق من دمك الطهور
يتلو الزمان صحيفة
صفحه نامشخص
غراء مذهبة السطور
في مدح «أنورك» الجري
وفي «نيازيك» الجسور «يا شوكت» الإسلام بل
يا فاتح البلد العسير
وأخذت يلديز عنوة
وملكت عنقاء الثغور
بل ويهنئ الخليفة الجديد ويبايعه، وما كان لشاعر القصور شوقي أن يغفل عن مثل هذه التهنئة، فيقول:
المؤمنون بمصر يهد
ون السلام إلى الأمير
ويبايعونك يا محم
صفحه نامشخص
د في الضمائر والصدور ... إلخ (ص49).
وكل ذلك لا يروق رجلا عنيفا صارما لا يقول الشعر؛ لأن من واجبه أن يقوله، وأن يراعي اللياقة، ويرضي كافة الجهات، بل يقول الشعر لينفس عن مكنون صدره، ولا يضمن شعره إلا الحق الذي يؤمن به، والقول الذي يشفي نفسه مما بها، ولو أغضب من أغضب، وأرضى من أرضى.
وبالرغم من بغض ولي الدين لعبد الحميد، ولكل حاكم تركي مستبد ظالم، فإنه كان يتعصب للعثمانيين كما يتعصب للعرب، حتى لنراه يثور؛ إذ يطالع في جريدة المقطم مقالات لكاتب اسمه عزت الجندي، وفيه يحمل على الأتراك ونكبتهم للبلاد العربية، فيرد عليه في مقال ينشره في المقطم تحت عنوان «الشقاق»، يبدؤه بالبيتين العربيين القديمين:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
ثم يقول: «شهد الله وكل عثماني حر يكون قد قرأ لي شيئا أني لا أتعصب للدين، ولا للجنس، أنا تركي، وأبغض عباد الله إلي تركي يعتدي، أحب العناصر العثمانية كلها، وآخذ بناصر المستضعف منها، ثم أحب العرب حبا خالط الروح، وجرى مجرى الدم من العروق، وأنا عربي الأدب والقلم، عربي النزعة، ومن أبغض العرب فأنا مبغضه، أولئك إخواني الذين أغنيهم فيطربون، وأحدثهم فيقبلون علي بالسمع، غير أني لا أكذبهم، إني كذلك لا أحب من يسب الترك، ولا من يكون لهم عدوا، وكذلك العرب لا يحبون من لا يحب إخوانهم، وإذا جرى بين العرب والترك شر أكون يومئذ بمعزل عن كليهما، داعيا عليهما بالفشل جميعا.» ثم يندد بروح الخصومة بين العرب والأتراك، ويدعو إلى التآخي بينهم.
والواقع أن العصر الذي عاش فيه ولي الدين يكن كان عصرا شديد التذبذب بين الاتجاهات المختلفة، وكان من الشاق أن يتبين المرء السبيل السوي، بل لقد كنا نرى كبار المفكرين والأدباء والسياسيين يتأرجحون بين اتجاه وآخر من الاتجاهات المتضاربة المتعادية، التي كانت تستغلها قوى الاحتلال والتعصب العنصري الديني، بحيث لا يسهل علينا اليوم أن نحكم على هذا الرجل أو ذاك بالوطنية، أو الخيانة ، وبالخير، أو الشر؛ لمناصرته هؤلاء ، أو أولئك، ولاستعانته بهذا الفريق، أو ذاك؛ لمناصرة فكرته، وإن كنا بالرغم من كل ذلك لا نستطيع إلا أن نأسف للظروف التي تآمرت، فساقت ولي الدين إلى المعسكر الإنجليزي يتقي به استبداد الأتراك، مما أساء إلى سمعته، وحد من المجد الأدبي الذي يستحقه ككاتب جيد وشاعر كبير، ورجل حر عزيز النفس، لا يهادن ولا يتملق، ولا يسخر قلمه ومواهبه لأعراض الحياة الفانية.
معالم حياته1
صفحه نامشخص
ولد ولي الدين يكن - كما قلنا - في عام 1873 في الآستانة التي ظل يحن إليها طول عمره، ويتغنى بجمالها، ويرثي لما يصيبها من محن، ويطرب لذكراها، رغم ما لاقى منها من شدائد واضطهاد، وقد فصل الحديث عنها في كتابه «المعلوم والمجهول».
وقد نشرت مجلة الزهور في أحد أجزائها سنة 1913 مقالا في وصف الآستانة، فأرسل ولي الدين إلى رئيس تحريرها كتابا يقول فيه: «لله وصفك لفروق ونوحك عليها، فقد هزا روحي هزا، رعى الله فروق، ما أفتنها، هي أول ثغر بسم لوجهي بعد ثغري الوالدين، ثم لم ألقها بعد ذلك إلا باكية وباكيا، ائتلفت العناصر فقامت بها الأشياء، وقامت فروق من عنصر واحد، لست أدري ما هو، ولكنه عنصر يظلم عنده الراديوم، كنت أشتاق إلى فروق وأنا فيها، فكيف الحال وأنا ناء عنها؟ إن أمة تضيع مثل فروق لمضياع، غير أن فروق ناشز لا تدوم على ود، ليتها لم تكن، وليتها إذ كانت، كانت في دون هذا الجمال ...»
وقد ولد في بيت نبيل، فهو ابن حسن سري باشا يكن، وحفيد إبراهيم باشا يكن ابن أخت محمد علي باشا الكبير، رأس الأسرة التي كانت مالكة في مصر، ولقب أسرته «يكن» معناه باللغة التركية «ابن الأخت»؛ لأن جدها كان ابن أخت والي مصر، وكانت أمه بنت أحد أمراء الشراكسة، وقد ربيت بعد هجرة أبيها من موطنه في قصر الأمير برهان الدين أفندي، أحد أنجال السلطان عبد الحميد، وربما كان لهذه النشأة أثر فيما اتصف به ولي الدين من أنفة وكبرياء، وإباء للضيم، وعناد في الرأي ، ونفور من الاستسلام أو الاستخذاء، وإن لم يفتخر بأصله، بل كان يفتخر بنفسه، ويعتز بصلابة خلقه، ويقول من خالطوه؛ كأنطون الجميل: إنه كان وديعا خافض الجناح.
وقد جاء به والده إلى مصر، وهو لا يزال طفلا، ولم يلبث الوالد أن توفي والولد في السادسة من عمره، فكفله عمه علي حيدر باشا يكن وزير المالية المصرية يومئذ، ثم ألحقه ب «مدرسة الأنجال» الشهيرة التي أسسها محمد توفيق باشا خديوي مصر لتعليم أنجاله، بعد أن ضم إليها عددا من أولاد أمراء مصر ووجهائها، فتلقى ولي الدين دروسه مع الخديوي عباس الثاني في مدرسة واحدة، ودون بعض ذكريات الدراسة في «المعلوم والمجهول»، وأولع بالأدب العربي فأخذ أصوله وفنونه عن أئمة ذلك العهد؛ كالشيخ محمد النشار، وأضرابه، وظهرت مواهبه الكتابية على حداثة عهده، وأتقن العربية إتقانه للتركية مع معرفة واسعة بالفرنسية، وإلمام بالإنجليزية، وانصرف إلى الكتابة في الصحف، تارة أديبا وتارة سياسيا، فكتب في جرائد «القاهرة»، و«النيل»، و«المقياس»، حينا مراسلا، وحينا محررا، ولم ينقطع عن الكتابة في الصحف إلا فترات قصيرة من الزمن، توظف فيها في النيابة الأهلية، ثم في المعية السنية، ولما بلغ الرابعة والعشرين من عمره قصد إلى الآستانة، وقضى فيها حوالي سنة عند محمد فائق بك يكن أحد أعضاء مجلس شورى الدولة، ثم عاد إلى مصر فأصدر جريدة «الاستقامة»، التي منعت حكومة الآستانة دخولها إلى الممالك الإسلامية، فأوقف صدورها وودعها بقصيدة قال فيها:
ولما غدا قول الصواب مذمما
عزمت على أن لا أقول صوابا
فجافيت أقلامي وعفت «استقامتي»
ورحت أرجي للسلامة بابا
وفيها يقول:
أبى الله إلا أن أزيد تصابيا
صفحه نامشخص
لمجدي ومجدي أن يقال تصابى
فمن مبلغ عني الغضاب الألى جنوا
بأني امرؤ ما إن أخاف غضابا
أذم فلا أخشى عقابا يصيبني
وأمدح لا أرجو بذاك ثوابا
علام أحابي معشرا أنا خيرهم
ومثلي إذا حابى الرجال يحابى
وقائلة حتام يفنى شبابه
فقلت إلى أن لا يصير شبابا
إلى أن تزول الأرض عن نهج سيرها
صفحه نامشخص
وتصبح هذي الكائنات خرابا
وأخذ بعد ذلك ينشر مقالات ضافية في السياسة العثمانية في جريدة «المقطم»، وجريدة «المشير». وبعد سنة قصد ثانية إلى الآستانة، فعين في «الجمعية الرسومية الجمركية»، ثم عضوا في «مجلس المعارف الأعلى».
ولم يلبث أن نفاه السلطان عبد الحميد إلى «سيواس»، فظل فيها سبع سنوات، بقي في منفاه إلى أن أعلن الدستور العثماني سنة 1908، فعاد إلى الآستانة، ومنها إلى مصر، وبعد عودته إلى مصر عاود الكتابة في الصحف السابقة، ثم في «الأهرام»، و«المؤيد»، و«الرائد المصري»، كما تولى ردحا من الزمن رئاسة تحرير جريدة «الإقدام» التي أصدرتها في الإسكندرية الأميرة ألكسندرة أفرينو ديفيس ديوسكا، وقد جمع معظم الكتابات التي كتبها في هذه الفترة في كتابي: «الصحائف السود»، و«التجاريب»، كما ترجم من اللغة التركية إلى اللغة العربية كتاب: «خواطر نيازي، أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير»، ونشرت الترجمة في سنة 1909.
وقد عين في وزارة الحقانية المصرية إلى أن تولى السلطان حسين كامل عرش مصر، فدعاه إليه وعينه سكرتيرا عربيا في الديوان العالي السلطاني، وكانت هذه أسعد فترة في حياته؛ لأنه كان معجبا بالسلطان حسين، مرتاحا إلى العمل معه، ولكن سعادته لم تدم طويلا؛ إذ أخذ مرض الربو ينغصها حتى اشتد به المرض، واضطر إلى أن يعتزل منصبه، وأن يلازم منزله في حلوان حتى لقي ربه في سنة 1921، وكان في مدة عمله بالديوان السلطاني قد ترجم من الفرنسية إلى العربية رواية «الطلاق» لبول بورجيه.
ولقد عبر أنطون الجميل عن الشقاء وسوء الحظ اللذين لازما ولي الدين يكن في حياته وموته في رثائه له، فقال: «وقد أبى الله إلا أن يغمط فضله بعد مماته كما غبن في حياته، فقد اجتمعنا في الخامس عشر من شهر أبريل سنة 1921 لتأبينه، فإذا بنا نفر قليل حول قبره، نفتش عن معظم أدباء مصر، وحملة الأقلام فيها فلا نجدهم، مع أنه كان خليقا بهم أن يتألبوا حول ضريح من كان في طليعة الأدباء نزاهة، وإباء، وشرف نفس، وكرم عنصر، ولكن ولي الدين كان يتوقع مثل ذلك.»
صورته النفسية
يخيل إلينا أن الآنسة مي زيادة قد أجادت وصف حالة ولي الدين يكن النفسية عندما قالت: «هو نفس كثيرة الأهواء، منهوكة القوى، متمردة وثابة حساسة رقيقة، حتى لتخال رقتها وإحساسها سقاما أحيانا، وإذا جاء وقت الوثب كان متهورا في شجاعته غير مبال ولا هياب.»
وقد جاء هذا الوصف في مقال نشرته في مجلة الفجر ببيروت بعدد أكتوبر سنة 1920، ثم جمعته في كتابها «الصحائف» (ص88-93). وأوردت فيه بعضا من أحداث حياته وبدواته التي لاحظتها وسجلتها بإحساس المرأة المرهف الدقيق، بحيث يمكن أن يعتبر هذا المقال من المفاتيح الأساسية التي تعين على فهم نفسية ولي الدين يكن، وبالتالي فهم أدبه واتجاهاته فهما دقيقا؛ ولذلك ربما كان من الخير أن نثبت هنا هذا المقال القصير كاملا.
قالت: «استوقفني في ردود على استفتاء قول فتاة أنها تود أن تموت غرقا، وقد سبق أني سمعت هذا التمني ممن لم يكن فتاة، بل كان شاعرا، ولا يندر أن يكون الشاعر فتاة في بعض تخيلاته اللطيفة، وأعني ولي الدين بك يكن.
إن حياة ولي الدين بك تعددت فيها الفواجع البكماء.
صفحه نامشخص
هذا الرجل الذي يعد من أعظم البيوتات الإسلامية في المشرقين، ومن أعظم أسرة مصرية على الإطلاق، قد جلب على نفسه سخط ذويه بزواجه من سيدة يونانية مسيحية، ولأجل شغفه بالحرية تعرض لصواعق عبد الحميد، فخسر منصبه العالي في الحكومة التركية، وذاق - وهو النفس الكبيرة الأبية - الفقر والسجن والنفي، والبعد عن الأهل والوطن، ثم عاد إلى مصر وتكاثرت عليه المصائب في السنوات الأخيرة، فمات ثاني أنجاله - وله من العمر 26 سنة - فجأة بلمس سلك كهربائي، ثم توفيت والدته، وآلمه أكثر من ذلك فقد شقيقته التي كان يحبها حبا شديدا، وهي قرينة أحد أعضاء الأسرة اليكنية، وها هو اليوم في حلوان يستشفي من مرض ألم به، وقد قاطع جميع معارفه وأصدقائه، فنسمع زفراته هنا في نتاج قلمه، كما يسمعونها في سوريا وفي البلدان الأخرى.
ورغم ما نزل به من الرزايا كان مجلسه مجلس ظرف وأدب، وتكاد النكتة تبرز في كل جملة يقولها، وللأشياء عنده مقارنات غريبة ، رأى يوما خط المرحوم شميل - وكانت رداءة خط الدكتور مشهورة - فوضع ولي الدين إصبعه على أحد الحروف قائلا: «تعجبني هذه الألف لأنها تشبه النبوت!» أما كرهه لكلمة «أيضا» فلا حد له، وهو يهجوها بألفاظ ونعوت تضحك الحاضرين حتى تستدر دموعهم، وتجعلهم يتجنبون لفظها ما استطاعوا، فقد يتفق أني أكتب مثلا كلمتين أو ثلاث كلمات أو جملة بتمامها لأتخلص من وجود «أيضا»، وإذا اضطررت وكتبتها مرة أو قرأتها أو سمعتها يوما عاودني بعض ما أضحكني في هجوها، فأسفت لأني دونتها مسوقة.
سألت مرة ولي الدين بك: متى يجاوب الكاتب الذي يناقشه في إحدى الصحف؟ فأجاب بمنتهى الجد: وكيف يمكنني أن أناقش رجلا يدمج في مقالة واحدة عشرين أيضا ولا يموت؟ إذا جاوبته أقول له: ما لي ولك يا أيضا!
وكان يوما في حفلة حافلة بالوزراء والكبراء، وبعد انقضاء ساعة تقريبا قفز بغتة، وخرج من القاعة مسرعا ثم عاد بعد انتهاء الحفلة معتذرا من الذين كانوا بجواره وذهلوا لحركته الفجائية، اعتذر بأنه لم يكن عالما أن فلانا موجود، وأنه لا يحتمل أن يكون وإياه في غرفة واحدة، فقيل له: «أنت تكره فلانا، ولكن لو هو أحبك وطلب صداقتك فماذا تفعل؟» فأجاب لفوره: «أنتحر!»
والغريب أنه لم يكن من علاقة بينه وبين الشخص المكروه، ولم يكلمه مرة في حياته على ما يقال، وليس في خلق ولي الدين بك شيء من التكلف، فهو صادق في ميله، صادق في نفوره، سواء أكان فيهما على هدى أو على ضلال، وللألحان والألوان تأثير شديد في نفسه، قال لسماع فتاة تغني بصوت خافت: «هذه نسمات البسفور.» أما تلك القطعة الموسيقية المرقصة المعروفة باسم كارمن سيلفا، فلا يرى البيانو مفتوحا إلا ويطالب بأن تعزف له، وفي إحدى زياراته لنا رأيت نظره جامدا بعيد وصوله، وإذ سألته ما به قال: «هذه (مشيرا إلى زهرة ليلكيه في ثوبي)، يحزنني هذا اللون الليلكي.» فحاولت نزع الزهرة، فقال: «لا تفعلي أرجوك، يحزنني أن أراها، ويحزنني أكثر من ذلك أن تنزع.» وأنشدنا ذلك المساء أبياتا من شعره الحزين.
وكما أن كرهه ونفوره شديدان، فكذلك حبه وإعجابه، هو معجب بالرسم الذي تعلم مبادئه في المنفى، فلا يندر أن يكتب أبياتا يرسم فيها ذوات المعاني مثل: غرد الطير، فهو يكتب غرد كتابة، ويرسم الطير رسما، وهكذا. وله ولع بخليل مطران وبشعره، فقد رأيناه مرة يضطرب وتتغير ملامحه لمجرد سماع أبيات من قصيدة «الأسد الباكي»:
أنا الأسد الباكي أنا جبل الأسى
أنا الرمس يمشي داميا بين أرماس
فيا منتهى حبي إلى منتهى المنى
ونعمة فكري فوق شقوة إحساسي
صفحه نامشخص
دعوتك أستشفي إليك فوافني
على غير علم منك أنك لي آسي
فهتف ولي الدين بك: «كفى!»
ثم تابع بعد سكون قصير: «آه خليل! خليل! لو سئلت كيف ينظم موكب دفني، لتمنيت أن يرثيني خليل مطران بأبيات ينشدها عزيز نصر على مقربة من نعشي السائر، أريد أن أشيع إلى قبري على هذه الصورة في موكب ينظمه سليم سركيس.»
كتبت كل هذا عن ولي الدين بك؛ لأني أعلم أنه كاتب محبوب في سوريا، وأن أخباره تهم القراء الذين لا يستطيعون الوقوف على مثل هذه المعلومات من الصحف السيارة.
إن الأدب العذب المتسم به هذا الرجل شأن من تربى تربية عالية ممتازة، لا يحول دون شذوذ خاص به، هو نفس كثيرة الأهواء، منهوكة القوى، متمردة وثابة حساسة رقيقة، حتى لتخال رقتها وإحساسها سقاما أحيانا، وإذا جاء وقت الوثب كان متهورا في شجاعته، غير ميال ولا هياب. فلا عجب إذا جذبه البحر، ونبه فيه أشواقا غير مألوفة، ولا عجب أن تسمع منه هذه الجملة: «أود أن أموت غرقا بدلا من أن أموت في سريري بين جدران ضيقة بعد عذاب أيام وحشرجة ساعات. أريد أن أموت غرقا في البحر على غير استعداد؛ لأن في مثل هذه الميتة الشعرية عظمة وشذوذا».»
هذه هي الأخبار والنوادر التي سجلتها مي عن ولي الدين، فأعطتنا مفتاحا لنفسيته، وإن يكن من المفيد أن نتم هذه الأخبار والنوادر بما ذكره أنطون الجميل، وبخاصة عن موت ولي الدين وطريقة هذا الموت ، فهو لم يمت بغتة ولا غرقا، وإنما مات بعد عذاب أليم، ومرض طويل ألزمه البيت سنوات.
وكتب إلى أنطون الجميل في 12 فبراير سنة 1918 يصف هذا المرض فقال: «أنا في يأس شديد من زوال هذا المرض ... الذي عجز الطب عن دفعه وهو المسمى «الربو»
emphyzème . إذا دجا الليل تكاثرت مخاوفي، فلا يغمض جفناي فرقا؛ لأني لا أغفي إغفاءة إلا وأنتبه صارخا مذعورا؛ إذ تتقطع أنفاسي، ويشتد اضطراب قلبي، وتبرد يداي ورجلاي، فأختلج مكاني وأتلوى تلوي الأفعى ألقيت في النار. أريد تنفسا أستعيد به ما يوشك أن يذهب عني من الحياة فلا أجده، حتى إذا بللني العرق وأنهكني التعب، عاودتني أنفاسي شيئا فشيئا، وذهبت النوبة على أن تعود بعد ساعة أو ساعتين، ومصير مثل هذا المرض معلوم وهو مذكور في كتب الطب، لم يختلف فيه طبيبان ... لا أدري أمن الموت وما أنتظره من أهوال يزداد جزعي؟ وما تطلع علي شمس يوم إلا وزادتني قربا من قبري، وا لهفي على آمال تحولت آلاما! ووا حسرتي على أيام عمر ما ضحكت لي مرة إلا جعلت دموعي لها ثمنا! أهذه عاقبة الصبر التي أطلت انتظارها؟ ما أكثر ضلال الحكماء، وما أكثر غش القدماء ...»
وكان آخر ما كتب بيتين وجدا قرب سريره بعد موته، وهما:
صفحه نامشخص