چهره دیگر مسیح
الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهودية – مقدمة في الغنوصية
ژانرها
حتى وقت متأخر من العصور الحديثة كانت مصادر معلوماتنا عن الغنوصية وأهلها، تقتصر على ما أورده عنها آباء الكنيسة الأوائل من خصوم الغنوصية، والمدافعين عن الإيمان المسيحي القويم في وجه الهراطقة، وهذا ما قاد إلى رسم صورة مهتزة للغنوصية، بعد تمحيصها وإظهار مثالبها من قبل خصومها، فقد اتهم الغنوصيون بتشويه العقيدة المسيحية والارتداد إلى مواقع وثنية، كما اتهموا بالخداع والتزوير والسحر، وجرت متابعة أصولها إلى الشيطان نفسه ، الذي يعمل جاهدا على تقويض الكنيسة، وقد قاد هذا النشاط المحموم في النهاية إلى اختفاء الجماعات الغنوصية، وإلى تدمير ميراثها الفكري، ومع ذلك فقد حفظ لنا هؤلاء المدافعون عن الإيمان القويم نبذة عن العقائد الغنوصية ومقتبسات لا بأس بها من نصوصهم الأصلية، التي ثبت لنا اليوم صحتها ودقة مقتبسيها وأمانتهم في نقلها لنا، على الرغم من أنهم ما أوردوها إلا لغرض نقدها ودحضها وإظهار زيفها.
يعد كتاب الأسقف إيرنايوس، أسقف ليون المعروف بعنوانه اللاتيني المصغر
Adversus Haereses ، أي «ضد الهرطقات » أقدم وأشمل وثيقة وصلت إلينا في دحض العقيدة الغنوصية، وقد ظهر الكتاب بعد عام 177م في خمسة مجلدات، في المجلد الأول عرض المؤلف المذهب الفالنتيني ودحضه، ثم تعرض في المجلدات الباقية للمذاهب الغنوصية الأخرى، فأظهر بطلانها، وتابع أصولها إلى سمعان ماجوس السامري، ومن كتاب إيرنايوس هذا، نعرف للمرة الأولى عن نص غنوصي بعنوان «إنجيل الحقيقة»، وآخر بعنوان «كتاب يوحنا السري»، وكلاهما عثر عليهما في مكتبة نجع حمادي.
2
بعد نحو خمسين عاما كتب مفكر مسيحي آخر هو الأسقف هيبوليتوس في روما مؤلفا موسوعيا شبيها تحت عنوان «دحض كل الهرطقات»، يتكون من عدة مجلدات، وتتوزع موضوعاته على قسمين: في القسم الأول عالج المؤلف ضلالات الإغريق والفلاسفة والمجوس والمنجمين وأهل عبادات الأسرار، أما في القسم الثاني فقد قدم توصيفا لمعتقدات وممارسات ثلاث وثلاثين بدعة غنوصية، خلف هذا التقسيم تكمن رؤية هيبوليتوس الخاصة إلى الغنوصية باعتبارها نتاجا فكريا يونانيا ووثنيا، لا نتاجا مسيحيا، وهو يؤكد بشكل خاص على أن الغنوصيين قد اعتمدوا الفلسفة اليونانية وشوهوها لكي تخدم أغراضهم.
وصل الجدل بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية ذروته خلال الفترة الممتدة بين عام 150 وعام 250م، وإلى هذه الفترة ترجع أعمال مؤلفين آخرين في الرد على الغنوصية وإظهار زيفها، وهم تورتوليان وكليمانت الإسكندري وأوريجين، وضع تورتوليان وهو أول الآباء اللاتين، مؤلفه في إقامة الحجة على الهراطقة نحو عام 200م، ولكن كتابه هذا لا يعطي الكثير من المعلومات الموثقة عن الغنوصية بقدر ما يركز الاهتمام على المعتقد القويم ويظهر تفوقه . فالمعتقد القويم يستند إلى تعاليم يسوع المسيح وتعاليم الرسل وهي أقدم من تعاليم الغنوصية، وهذا القدم وحده كفيل برد الفكر الغنوصي إلى الهرطقة اللاحقة باعتباره تحريفا وتزييفا للتعاليم الأصلية، وهو يرى، مثل هيبوليتوس، أن المعتقدات الغنوصية تقوم على الفلسفة الوثنية بالدرجة الأولى، ولكنها بالنتيجة فكر توفيقي هابط وعدمي حافزه الشيطان.
يقف اللاهوتيان الإسكندرانيان كليمنت وأوريجين على الطرف النقيض من تورتوليان في موقفه من الغنوصية؛ لأنهما ينطلقان من النظرة الجدية إلى العقائد الغنوصية، ويحاولان إيجاد الروابط بينها وبين العقيدة القويمة، الأمر الذي جعلهما يقفان على حافة الهرطقة، عاش كليمنت الإسكندري بين عام 140 أو 150م، وعام 211 أو 215م، وكان أكثر آباء الكنيسة ثقافة واطلاعا، وقد ميز في مؤلفاته بين الغنوصية الوثنية الزائفة والهرطوقية وبين الغنوصية المسيحية التي تسعى إلى معرفة الله والكمال الأخلاقي، وهو في استخدامه الوعي لمفهوم الغنوص المسيحي باعتباره معرفة الحقيقة يعمل على ردم الهوة بين الموقف القويم الذي يستند إلى «الإيمان» والموقف الغنوصي الذي ينطلق من «العرفان» بدلا من البقاء، مثل سابقيه، في الحلقة المفرغة لدحض الغنوصية وإظهار زيفها، أما أوريجين فيقف من ناحيته موقفا مشابها لكليمنت، فهو على الرغم من معارضته للغنوصية بشكل عام، إلا أنه يطرح أفكارا تقربه منها إلى حد بعيد، مثل تفضيله للعرفان على الإيمان الساذج، وقوله بمبدأ الوجود المسبق للروح وسقوطها في المادة ثم عودتها إلى الله، وفي واحد من مؤلفاته التي ضاع معظمها، يعمل على تفسير إنجيل يوحنا ويعرض تأويلاته الغنوصية له، وهو في استخدامه منهج معارضيه في البحث عن المعاني الباطنية للنص المقدس، إنما يسعى إلى صياغة تفسيرات ترضي الكنيسة من جهة، وتكشف عن الأساس «القويم» الذي تقوم عليه الهرطقة الغنوصية من جهة أخرى.
في العقود الأولى من القرن الرابع الميلادي ظهر أول مؤلف في تاريخ الكنيسة، أعده أوزيب القيصاري، الذي جمع فيه مادة غنية مقتبسة من مؤلفات سابقيه من نقاد الغنوصية، لا من الأعمال الغنوصية الأصلية، ومع ذلك فإن هذا الكتاب يتمتع بأهمية خاصة لأنه حفظ لنا مقتبسات من مؤلفات فقدت أو فقد بعض أجزائها فيما بعد، ومن هنا تأتي أهميته بالنسبة إلى دارسي الغنوصية اللاحقين.
في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي نشط إبيفانوس السلاميسي أسقف قبرص، وهو من أصل فلسطيني، لقد أعاد أبيفانوس حركة الجدل مع الهراطقة إلى ذروتها مرة أخرى، من أعماله المشهورة كتاب «صندوق النطاسي» الذي ظهر نحو عام 374م، وتقوم فكرته الرئيسية على أن الغنوصيين وغيرهم من الهراطقة هم سلالة من الزواحف والأفاعى السامة تنفث السم الزعاف في نقاء الإيمان القويم، وأن كتابه يقدم الترياق لكل من أصابته لدغات هؤلاء الهراطقة ليعيدهم إلى الحياة المسيحية مرة أخرى، ولقد عدد في كتابه هذا نحو ثمانين حركة هرطوقية، عشرون منها ما قبل مسيحية، والستون الباقية هرطقات مسيحية، وغنوصية في معظمها، كان أبيفانوس متعصبا بشكل أعمى، ومفتقدا إلى المنهجية العلمية التي ميزت أعمال سابقيه، ونظرا لولعه بالجمع أكثر من التحليل، فقد عني بإيراد أسماء جماعات هرطوقية كثيرة، ولم يلق الضوء إلا على بعضها نظرا لقصور معلوماته بخصوصها، الأمر الذي دفعه غالبا إلى ابتكار المعلومات غير الموثقة واللجوء إلى مصادر مشكوك بأمرها.
في سياق القرن الرابع الميلادي توقف الفكر الغنوصي عن النشاط، وتشتت أتباع الجماعات الغنوصية المسيحية، ومع ذلك، فإن نشاط آباء الكنيسة في مقارعة الهرطقة لم يهدأ. من هؤلاء نذكر أفرام السرياني من الرها (306-373م) وأوغسطين (354-430م) ويوحنا الدمشقي (675-749م)، وثيودور بارقونيا المؤلف السرياني الذي ألقى في كتابه (
صفحه نامشخص