چهره دیگر مسیح
الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهودية – مقدمة في الغنوصية
ژانرها
إن الصورة التي سنتابع تقصي ملامحها ليسوع المسيح، بصرف النظر عن مصادر خلفيته الثقافية التي لا نستطيع الإدلاء بقول قاطع بشأنها، هي صورة حكيم جليلي عاش في بيئة الجليل التي اختلطت فيها عقائد وثنية تقليدية، ويهودية، وعرفانية سرانية، وانطلق في تعاليمه من نقد الجمود العقائدي اليهودي، والنزعة الطقسية اليهودية، والشريعة التوراتية، مؤسسا بذلك لمفاهيم ذات طابع إنساني شمولي يتجاوز الانغلاق الأيديولوجي، والتعصب الإثني والديني، بعض هذه التعاليم كان سريا ولم يبثه يسوع إلا في حلقة ضيقة من تلاميذه، وهو الذي قاد إلى تكوين المسيحية الغنوصية، التي لم تتجاوز اليهودية فقط، بل وقفت منها موقف العداء السافر، واعتبرت إلهها بمثابة الشيطان الساقط الذي صنع العالم المادي.
في الفصل القادم سوف نستخدم مقاربة تاريخية شاملة، تساعدنا على استقصاء البيئة الدينية والثقافية والإثنية لمنطقة الجليل، وذلك من خلال إطلالة عامة على السياق التاريخي لنشوء الدين اليهودي، والمدى الجغرافي لانتشار اليهودية داخل المنطقة الفلسطينية، وذلك لغرض توفير المعلومات اللازمة للإجابة على عدة أسئلة تتعلق بخلفية يسوع، وجميعها تؤدي إلى سؤال مهم أخير يتعلق بصلة يسوع باليهود واليهودية.
الفصل الثالث
اليهودية في فلسطين ومسألة الجليل
ينشأ كل دين في سياق تاريخي معين وتحت شروط معينة، ثم تأخذ معتقدات هذا الدين في التغير والتطور، حتى تكتسب صيغتها الأخيرة التي لا تبدي استجابة للتغيير إلا في حدود الاجتهادات التي تطال المظهر من دون الجوهر، من هنا، فإن فهم أي دين مرتبط إلى هذا الحد أو ذاك بفهم الشروط التاريخية التي أحاطت بولادته ونشأته وتطوره، تغدو هذه المسألة أكثر حيوية وأهمية في دراستنا للدين اليهودي، وذلك بسبب الصلة الوثيقة التي يعقدها كتاب التوراة بين هذا الدين وتاريخ شعب معين هو «شعب إسرائيل»، وقد صارت هذه الصلة إلى درجة من القوة بحيث يصعب على قارئ التوراة التمييز بين الدين والتاريخ؛ لأن التاريخ هنا لم يعد إلا المسرح الذي تتجلى فيه مقاصد الإرادة الإلهية من خلال علاقة إله التوراة بشعبه المختار إسرائيل، كما أن الرسالة الروحية في كتاب التوراة كما يقدمها محرروه، لا تتكشف دفعة واحدة، وخلال حقبة قصيرة من الزمن، ومن خلال شخصية روحية واحدة، وإنما تتكشف عبر فترة زمنية تمتد قرابة 1300 سنة، ومن خلال شخصيات روحية عديدة تبدأ بإبراهيم، الأب الأول، نحو عام 1800ق.م. وتنتهي بعزرا الكاهن نحو عام 450ق.م.
ولكن إلى أي حد تكتسب الرواية التوراتية مصداقية تاريخية؟ وإلى أي حد نستطيع الوثوق بالمخطط التاريخي العام لتكشف الرسالة الروحية في التوراة كما رسمه لنا محرروه؟ ما هو السياق التاريخي البديل لنشوء اليهودية؟ وما هو المدى الزمني والجغرافي الحقيقي لانتشار اليهودية؟ هل دانت فلسطين يوما باليهودية؟ هل كان لليهود كيان سياسي في فلسطين في يوم من الأيام؟ ومتى وأين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا الفصل، وهو الذي سيوصلنا أخيرا إلى استقصاء البيئة الثقافية لمنطقة الجليل، مسرح الإنجيل.
1
حتى وقت قريب كان الباحثون التوراتيون والمؤرخون، على حد سواء، مقتنعين إلى هذا الحد أو ذاك بالطابع التاريخي للرواية التوراتية، وبالصلة العضوية بين الديانة اليهودية وتاريخ شعب إسرائيل كما ترسمه هذه الرواية، غير أن المعلومات الآثارية والتاريخية التي توفرت بين أيدي الباحثين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبخاصة منذ أوائل ثمانينياته، قد قادت العديد من المؤرخين وعلماء الآثار الراديكاليين في الغرب، إلى الفصل بين الصورة التاريخية لإسرائيل القديمة وصورتها التوراتية.
وكلما كانت هذه المعلومات تتراكم ويتم الربط بينها، تبين للباحثين صعوبة ملاءمتها مع الرواية التوراتية عن أصول إسرائيل، وعن مملكتها الموحدة مملكة شاءول وداود وسليمان، وعن مملكتيها التوأمين السامرة ويهوذا، أي إن النشاط الأركيولوجي المحموم الذي كان يهدف إلى إثبات الرواية التوراتية، قد أدى أخيرا إلى عكس الغاية المنشودة، وبدأت حلقات الرواية التوراتية تخرج واحدة إثر أخرى من مجال التاريخ إلى مجال الأدب الديني، ولم يبق من أحداث ما يدعى بالأسفار التاريخية في التوراة (من سفر يشوع إلى أخبار الأيام الثاني) ما يتقاطع مع المصادر الخارجية، ويتفق مع نتائج التنقيب الأثري، سوى بضعة أخبار من الهزيع الأخير لحياة مملكتي السامرة ويهوذا، يشوبها الغموض والتشوش، ويثقل كاهلها المنظور اللاهوتي للمحررين التوراتيين.
إننا نعرف الآن أن ما يدعى بعصر الآباء الذي ابتدأ بإبراهيم وانتهى برحيل أولاد يعقوب واستقرارهم في مصر، هو عبارة عن مجموعة قصص مستوحاة من ماض خرافي لا يمكن وضعه في إطار تاريخي حقيقي، ونعرف أيضا أن الجماعات التي توطنت في مناطق الهضاب الفلسطينية في عصر الحديد الأول 1200-1000ق.م. (وهي الفترة المفترضة لدخول القبائل الإسرائيلية أرض كنعان) لم تخرج من مصر في هجرة جماعية قوامها مئات آلاف الأشخاص، ولم تدخل فلسطين بعد فترة تجوال في الصحراء، ولم تفتك بالسكان المحليين وتحل محلهم، ولم تأت معها بديانة نزل وحيها في سيناء، إن ثقافة هؤلاء المستوطنين كما تعكسها مخلفاتهم المادية تدل على انتمائهم إلى الثقافة الفلسطينية، فهم سكان محليون من مناطق فلسطين الكبرى تسربوا ببطء إلى مناطق الهضاب الفلسطينية التي كانت خالية من السكان، نتيجة موجة الجفاف الطويل التي ضربت المنطقة خلال عصر البرونز الأخير، ولا علاقة لهم بالقبائل العبرانية التي تسلسلت من أولاد يعقوب الخرافيين.
صفحه نامشخص