هناك يخلو لنا الجو وننسى متاعب الحياة ونذوق طعم السعادة الحقيقية، حيث أجلس بجانبك كل مساء في واسع الفضاء بعد عناء الأشغال ولا أخشى عذولا أو رقيبا وحينذاك أتمتع برؤيتك وأحظى بقربك وأناديك بأعلى صوتي أني أحبك يا مادلين وأجاهر بحبك على رءوس الأشهاد، وأنت حينئذ بماذا تجيبينني يا مادلين؟ - إني أسمع كل ما تقول فابتسم بكل فرح وسرور. - ولكن، هل لا تجيبينني بكلمة واحدة يا حبيبة الفؤاد. - وما عساني أقول لك يا إميل؟ - آه يا قاسية القلب، تقولين: إنك تحبينني أيضا؛ لأني أحب أن أسمع منك هذه الكلمة الرقيقة. - وهل تجهل حقيقة حبي حتى تطلب إلي أن أجاهر لك به؟ - إني لا أجهل ذلك يا مادلين، ولكني أريد أن أسمع هذه الكلمة من فمك فيمتلئ قلبي فرحا وانتعاشا. - حسنا تقول؛ فأنا أحبك يا إميل، وهذه أول مرة جاهرت فيها بحبك، أحبك أكثر مما تفتكر، أحبك حبا خالصا؛ لأنك جمعت بين جمال الخلق والخلق، ولأنك تتألم وتتعذب مثلي، قلت لك إني أحبك وها إني أكرر عليك هذا القول؛ فأنا أحبك حبا مبرحا، فافعل بي ما تشاء؛ فإن أردت الهرب فأنا طوع أمرك، ورهينة إشارتك، فهيا بنا نرحل من هذه الدار إذا شئت ونسكن الخلا ونعيش بمعزل عن جميع الناس. - كفى كفى يا حبيبتي؛ فقد كدت أموت من شدة الفرح. قال إميل ذلك ثم دنا مني وكدنا نغيب عن الصواب.
الفصل الثاني عشر
وبينما نحن في هذا الموقف الرهيب ما أشعر إلا وقد فتح باب غرفتي فجأة، وسمعت صوت عيار ناري أطلق في وجه حبيبي إميل فخر على الأرض صريعا لا يبدي حراكا.
وعند ذلك نظرت؛ فإذا زوجي راعول واقف أمامي، وقد كاد الشرر يتطاير من عينيه وهو قابض بيده على مسدسه، فنظر إلي نظرة الغضب والازدراء، وقال لي بصوت جهير: حسنا تفعلين يا مادلين؛ فيظهر أن هذا الفتى يروق في عينيك أكثر من صديقي فوستير.
ولكني لم أفقه معنى كلامه، ولم أع على شيء مما حولي ، بل سقطت على الأرض مغشيا علي.
وعلى إثر وقوع هذه الحادثة الفظيعة اعتراني مرض عضال وأخذتني نوبة من الحمى فلازمت الفراش، وكنت في ذلك الوقت لا أعي شيئا ولا أعرف من حولي حتى أولادي أنفسهم، وبقيت على هذه الحالة نحو شهر كامل، وبعد ذلك تنبهت حواسي وعاد إلي رشدي، فتذكرت ما حل بحبيبي موريس، وكيف أنه ذهب شهيد الحب؛ فأذرفت الدموع، وبكيت بحرقة على فقد هذا الحبيب المخلص الذي كان خير صديق يواسيني ويشاطرني هموم الحياة.
وكنت أتعجب: كيف أن زوجي علم بكل ما جرى بيني وبين إميل حتى داهمنا في تلك الليلة الدهماء وفتك بهذا الشاب البريء ظلما وعدوانا.
ولكني أخيرا أدركت الحقيقة، وعلمت ما وراء السويداه، فلم أوقع الشبهة إلا على خادمتي دانيز، وقد أقرت هي بفعلها واعترفت به أمامي جهرا، فأمرتها بأن تنفصل من خدمتي ولا تريني وجهها بعد ذلك؛ فلم يكن منها إلا أنها أجابت طلبي، ونفذت إرادتي حالا، وذلك بخلاف عادتها معي؛ ولذا تعجبت من هذا الانقلاب العظيم والتغيير السريع، وقلت: إنه لا بد وأن يكون وراء ذلك سر خفي لم أقف عليه بعد.
وبعد شفائي من هذا المرض ببضعة أيام دخل إلي زوجي راعول وسألني بلطف عن صحتي، فأجبته بغضب: إني سعيدة ما دمت بعيدة عن رؤيتك.
قال: ولكني أريد أن أنبئك بخبر خطير؛ فاسمعي ما أقول؛ لأننا أصبحنا الآن في حالة تستوجب الحزم والتروي، فاعلمي يا مادلين أن ثروتنا كلها نفدت، وهذا البيت الذي نسكنه ليس هو ملكنا اليوم، بل إنه من حقوق المداينين، وسيباع غدا لإيفاء ما علينا من المال، ولكن الله كريم رحيم، فهو لم يرض بوقوعنا تحت طائلة العقاب مرة واحدة، بل قد نظر إلينا بعين لطفه وحلمه؛ فأوجد لنا بيتا آخر نأوي إليه وهو في قرية «سان كولومب» وقد ورثته عن شقيقتي التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى منذ بضعة أيام.
صفحه نامشخص