وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
ژانرها
وبينما يمثل العنصر والجندر تصنيفات اجتماعية تتأسس عضوية المرء فيها لحظة الميلاد وتبقى ثابتة لا خلاف عليها (مع بعض الاستثناءات المهمة مثل المتحولين)؛ فإن هناك تصنيفات اجتماعية لا تكون واضحة لحظة الميلاد. وفي بعض الحالات - مثل التوجه الجنسي والإجرام والسمنة - ثمة مظاهر سلوكية متصاحبة تدخل فيها الإرادة على نحو ما وتشكل سببا منافسا لغيره من الأسباب. وثمة تصنيفات أخرى - مثل المرض العقلي - من الممكن ألا يقع فيها المرء إلا في مرحلة لاحقة من العمر كأن يصاب بالفصام. يختلف العنصر والجندر عن هذه التصنيفات الفئوية الأخرى في أنهما قلما يدركهما الناس كشيء يخضع للإرادة الشخصية، وهم في ذلك متأثرون بالتحيزات الماهوية الجينية كما قلنا آنفا. (8) الماهوية الجينية والتوجه الجنسي
ثمة تصنيف فئوي اجتماعي طالما ارتبط بالجينات، وهو «التوجه الجنسي»
sexual orientation . في القرن التاسع عشر أشار عدد من العلماء - من بينهم ك. م. بنكارت وباول مورو - بأن التوجه الجنسي شيء مورث، وقد كان المنشأ الجيني للتوجه الجنسي محل نقاش طويل خلال القرن العشرين، واكتسب مصداقية جديدة عندما ادعى هامر وآخرون
20 (1993م) أنهم اكتشفوا أمارة جينية (
Xq28 ) تتسبب جزئيا في الجنسية المثلية في الذكور. جذب هذا البحث انتباه وسائل الإعلام بشدة، وأصبحت العلامة الجينية (وهي تضم مائة جين) تسمى
gay gene
على الرغم من إخفاق المختبرات الأخرى في أن تكرر نتائج هذا البحث.
تتالت بعد ذلك عشرات المقالات وأثارت نقاشا لعواقب هذا الكشف. وعلى الرغم من أن البحث بحد ذاته كان مصوغا بعناية بوصفه كشفا مبدئيا لعلامة جينية قد تضم جينات تضطلع بالتوجه الجنسي لدى الرجال؛ فإن الكثير من المقالات الصحفية بينت أن هذه النتيجة المكتشفة تشير إلى أن الناس ليس لها خيار في تبني أسلوب حياة مثلي. وركزت مقالات أخرى على هموم يوجينية مثل الإجهاض الانتقائي للأجنة «المشبوهة» والاختبارات التشخيصية المصممة للتعرف على مثل هذه الأجنة. وكلتا الاستجابتين تؤكد أن علاقة علية ثابتة بين الجينات والجنسية المثلية قد عرفت. إن نفس النوع من الاستجابات الماهوية لم ينتج مثلا عن مقولة التحليل النفسي بأن الأم المستبدة والأب المنفصل البارد مسئولان عن نشأة الميول المثلية في الطفل، رغم أن التحكم الواعي للرضع في هذه الألوان من السلوك الوالدي ليس أقوى من تحكمهم في جيناتهم. وهذا - مرة ثانية - دليل على أن الحجج الجينية تؤدي إلى ردود أفعال مختلفة كيفيا عما تؤدي إليه الحجج البيئية.
يترتب على فرضية الأساس الجيني للمثلية أن المثلي مغلوب على أمره، ولا يد له في توجهه الجنسي، ولا سلطان له على ميوله المثلية؛ ومن ثم فلا محل للومه وتقريعه والتمييز ضده. وقد كان هذا هو الواقع في كثير من الأحيان؛ فإدراك الأساس الجيني للمثلية من شأنه أن يؤدي إلى تقييمات إيجابية للمثليين.
هذه العلاقة بين إدراك الأساس الجيني وبين التسامح تجاه المثليين تبين كيف يمكن أن تؤدي الماهوية الجينية إلى «مغالطة المذهب الطبيعي» في بعض المجالات، وفي مناخ سياسي ما زال فيه بعض الناس يعتقدون أن المثليين «يختارون» أسلوب حياة «لا أخلاقيا»؛ فإن معرفة أساس جيني للتوجه الجنسي لا يدفع الناس فحسب إلى اعتبار التوجه الجنسي شيئا منفصلا ومحتما بسبب محدد، بل يدفعهم أيضا إلى خفض تحيزهم ضد المثليين. فمن الواضح أن السلوكيات ذات المضامين الأخلاقية تفقد سطوتها الأخلاقية إذا نظر الناس إليها كشيء يتجاوز إرادة الفرد. فما إن تربط حالة موصومة أخلاقيا بحالة جسدية (مثل الاستعداد الجيني) حتى يراها الناس كحالة خارج السيطرة ؛ مما قد يؤدي إلى تعزيز مشاعر التعاطف مع أعضاء هذه الفئة، ويفضي إلى كف الملام والاستهجان. هكذا نرى أن الحجج الجينية قد تخفف التقييمات السلبية في بعض المجالات. ولعل هذا أن يكون ملمحا إيجابيا ممكنا للماهوية الجينية؛ غير أن على المرء أن يضع باعتباره أن السياقات السياسية دينامية، وأن ما يؤخذ اليوم على أنه مخفف إيجابي للتعصب تجاه المثليين قد يتخذ يوما ما ذريعة لممارسات يوجينية.
صفحه نامشخص