وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
ژانرها
الإهداء
مقدمة
1 - وهم الثوابت أو «النزعة الماهية»
2 - نزعة الماهية في البيولوجيا
3 - بين الماهوية والوجودية
4 - فتجنشتين ونزعة الماهوية
5 - اللاماهوية عند كارل بوبر
6 - الماهوية اللغوية
7 - الماهوية في علم التصنيف1
8 - الماهوية الجينية
صفحه نامشخص
9 - الماهوية وتقسيم الاضطرابات النفسية
الإهداء
مقدمة
1 - وهم الثوابت أو «النزعة الماهية»
2 - نزعة الماهية في البيولوجيا
3 - بين الماهوية والوجودية
4 - فتجنشتين ونزعة الماهوية
5 - اللاماهوية عند كارل بوبر
6 - الماهوية اللغوية
7 - الماهوية في علم التصنيف1
صفحه نامشخص
8 - الماهوية الجينية
9 - الماهوية وتقسيم الاضطرابات النفسية
وهم الثوابت
وهم الثوابت
قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
تأليف
عادل مصطفى
الإهداء
إلى الزميل النابه والفنان القدير د. سيد الرفاعي، الذي جعل حياتنا بالفن أجمل وربما خرج بنا منها إلى آفاق قصية ومباهج علوية ما كنا لنبلغها بالخبز وحده.
لا أحد ينزل النهر نفسه مرتين؛
صفحه نامشخص
فلا النهر هو ذات النهر،
ولا الشخص هو ذات الشخص.
هيراقليطس
540-480ق.م
لا شيء في الوجود لديه طبيعة،
لا شيء هنالك سوى امتزاج العناصر وانفصالها،
وما «الطبيعة» سوى «الاسم» الذي يخلعه عليها الإنسان.
أمبدوقليس
490-430ق.م
مقدمة
صفحه نامشخص
كثيرا ما يدس الناس هذا التعبير في مجادلاتهم: «ثوابت كذا»، «ثوابتنا»، «الثوابت» ... إلخ. وكثيرا ما يبلس الخصم إثر هذا التعبير كأنما ألقم الحجر.
وقلما ينتبه أحد إلى هذا التعبير نفسه لكي يضعه على المحك ويرى فيه رأيا. وقلما يدور بخاطر أحد أن يفك هذا الغلاف لكي يتيقن من أن بداخله شيئا. ذاك ضرب نادر من «خفة اليد»
sleight of hand
التي تلطف على الخصم وعلى الشهود وعلى القائل نفسه!
ينتمي هذا التعبير إلى ما يسمى «الألفاظ المشحونة (الملقمة/المفخخة)»
loaded words ؛ لأنها تفترض مسبقا حكما برمته لم تتم البرهنة عليه بعد؛ لذا كان جريمي بنتام
J. Bentham
يطلق على مثل هذه التعبيرات اسم «النعوت المصادرة على المطلوب»
question-begging epithets ، إنها تصادر بما لم تثبت، وتسلم تسليما بما قد لا نسلم به أصلا، وتدس مواقف انفعالية في داخل العبارة التي تحملها. وهذه المواقف ليست جزءا من الحجة، وإنما جرى استدعاؤها على نحو غير مشروع لكي تؤتي أثرا ما كان للحجة أن تؤتيه بمفردها. وبعبارة أخرى تعد هذه المواقف الانفعالية «غير ذات صلة»
irrelevant
صفحه نامشخص
بقيمة صدق العبارة؛ أي بتأسيس صدق العبارة المطروحة أو كذبها. (1) نزعة الماهية
ما ظنك بمن يعامل المتحول معاملة الثابت؟
ويعامل السائل معاملة الصلب؟
ومن ينظر إلى الغامض المتشابه على أنه دقيق محكم؟
وإلى الممتد المتصل على أنه متقطع منفصل؟
يقال لمثل هذا الشخص: إنه «ماهوي»
essentialist
تملكته «نزعة الماهية»
essentialism ، فجعل ينظر إلى كل شيء على أنه «مثول»
instantiation
صفحه نامشخص
لطبيعة محددة ثابتة، مسيجة كتيمة لا تمتزج بغيرها ولا تلتئم بسواها.
يبدو أننا جميعا هذا الشخص (الماهوي) على اختلاف الدرجة، وأن الاعتقاد بوجود ماهية ما - ظاهرة أو خفية - لكل شيء هو اعتقاد عام يشمل البشر جميعا، وأنه اعتقاد «غير واع بذاته، إن صح التعبير؛ أي إننا نضمره دون أن نعي أننا نضمره.
1
ويبدو أننا نحن البشر قد تبنينا هذا النزوع الماهوي خلال تطورنا النوعي كنتيجة لنجاعته التكيفية في تفاعلاتنا مع البيئة، بحيث أصبح هذا النزوع شاملا لجميع الثقافات والأحقاب، ودامغا لجميع مراحل العمر، بدءا من الطفولة الباكرة.
ينبئنا علماء النفس الذين يدرسون نمو اللغة بأن الأطفال ماهويون طبيعيون، وربما توجب عليهم أن يكونوا كذلك إذا كان لهم أن يحتفظوا بقواهم العقلية بينما تقوم عقولهم النامية بتقسيم الأشياء إلى «فئات تصنيفية»
categories
متمايزة، كل فئة منها موسومة باسم فريد.
لقد تركت الماهوية بصمة غائرة في «معمارنا المعرفي»
cognitive architecture ، وضربت أطنابها في «حسنا المشترك»
common sense ، فصار من الصعب اقتلاعها، وأصبحت تشكل عائقا لنا في مجالات البحث التي تتطلب تبني نماذج لا ماهوية.
صفحه نامشخص
ونحن في هذا العمل الوجيز لا نعرض للماهوية من جميع أطرافها؛ فإن ذلك يكون عملا لا آخر له؛ ولا نحن ننحاز لها أو عليها؛ فإن هذا يرمي بنا في مماحكات جدلية لا طائل من ورائها ولا هي داخلة في موضوعنا، وإنما نتخذ لنا (في حدود هذا العمل فحسب) وجهة من الرأي يمكن أن نطلق عليها «اللاماهوية الجزئية (أو الموضعية)»
local anti-essentialism ؛ أي الرأي المضاد للماهوية في مجال بعينه وسياق بذاته، نحن باختصار نريد أن نحذر من الأخطاء التي يمكن أن تنجم حيثما سول لنا الوهم أن نتصور ماهية حيث لا ماهية .
والكتاب شأنه شأن بعض أعمالي القديمة،
2
ليس بحثا أكاديميا صرفا يلتزم بضوابط الرسائل الأكاديمية المستتبة، وإنما هو فصول متفرقة، مزيج من التأليف والتصنيف، منه ما هو ابتكار شخصي خالص، ومنه ما هو قراءة مباشرة لأدبيات فلسفية وعلمية راسخة أشرت إليها في مواضعها. (2) فتجنشتين ومفهوم «التشابه العائلي»
في كتاباته المتأخرة دفع فتجنشتين بمفهوم جديد قدم للفلسفة وللبحث العلمي خدمة جليلة، وجعل بميسورنا أن نستخدم الأسماء العامة دون أن نكون مضطرين بهذا الاستخدام إلى أن نسلم بوجود ماهية وراء الاسم، ذلك هو «مفهوم التشابه العائلي»
family-resemblance concept ، ومفاده أن الأشياء التي يشير إليها حد من الحدود قد ترتبط معا لا بخاصة أو صفة واحدة بل بشبكة من المشابهات العديدة والمتداخلة جزئيا كشأن الأشخاص الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لعائلة معينة.
هذا المفهوم الجديد - الذي توسع فيه العلماء ونوعوا عليه وطبقوه في مجالات متنوعة واتخذ أسماء عديدة
3 - كان اقتحاما جريئا وحصيفا في الوقت نفسه لمصاعب مفهوم «الماهية»
essence
صفحه نامشخص
التي لا حصر لها.
لم يعرض فتجنشتين لوجود الماهيات على نحو صريح، ولم يتورط قط في هذا المسلك الوعر. وكل ما أقر به هو أن مستخدمي اللغة لا يعرفون أي تعريف/ماهية للشيء عندما يستعملون اسمه استعمالا صحيحا، وأن معرفة مثل هذا التعريف الماهوي غير ضرورية للاستعمال الصحيح لأية لفظة. وصفوة القول أن دعوى فتجنشتين لا تعدو أن تكون دعوى «إبستمولوجية» تفيد فقط أن معرفة التعريفات ليست شرطا للاستخدام اللغوي الصحيح (وليست دعوى «أنطولوجية» تفيد عدم وجود خاصة مشتركة ماهوية). بذلك يؤتي مفهومه الجديد تأثيرا «علاجيا» من حيث إنه يجعل المشكلات الفلسفية المرتبطة بالماهيات (التعريفات) تختفي تماما، ويجعل التعريفات الماهوية «أشبه بتروس قطعت صلتها بالآلية».
وقد استخدم العلماء هذا المفهوم الجديد في مجالات بحثية عديدة، مثل البيولوجيا والميثودولوجيا والتاكسونوميا (علم التصنيف) والنوزولوجيا (علم تقسيم الأمراض)، فأسعفهم وأتاح لهم تقدما ملحوظا في فهم هذه المجالات، وأعفاهم من استنفاد جهودهم في غير طائل. (3) آثام أفلاطونية/أرسطية
منذ دفع أفلاطون بنظريته في المثل
ideas ، وقفى عليه أرسطو بنظريته في التعريف؛ استتبت نزعة الماهية ورانت على العقل البشري أكثر من ألفي عام، وصارت الماهوية مكونا أصيلا من مكونات الحس المشترك عاق العقل عن تصور أشياء كثيرة، وعطل علوما كثيرة عن التقدم الحثيث الذي أحرزته الفيزياء على سبيل المثال. (4) في علم التصنيف
في علم التصنيف
taxonomy
ظل النزغ الماهوي يلاحق العلماء حتى بعد أخذهم بنظرية تطور الأنواع. يقول ديفيد هول في مقاله الرائد «تأثير الماهوية في علم التصنيف، ألفا سنة من الركود»: «والآن فقط يبلغ علم التصنيف مرحلة من النضج تضاهي نضج الفيزياء منذ 300 عام مضت، أو تضاهي غيره من العلوم البيولوجية منذ خمسين أو مائة عام. فما السبب؟ يجيب كارل بوبر عن هذا السؤال بقوله: إنه بقدر استخدام كل تخصص لمنهج أرسطو في التعريف فقد ظل هذا التخصص موقوفا في حالة من الحشو اللفظي الفارغ والاسكولائية العقيمة. وإن العلوم المختلفة قد حققت درجة من التقدم بقدر ما تمكنت من التخلص من منهج البحث الماهوي. لا تصدق هذه العبارة في أي علم من العلوم بقدر ما تصدق في علم التصنيف؛ ذلك أن أهمية التعريف لا تتجلى في أي علم قدر تجليها في علم التصنيف.» (5) في البيولوجيا
يقول إرنست ماير: إن فرضية دارون عن التطور الطبيعي لم تكن مجرد نظرية جديدة. إنما هي نوع جديد من النظرية: نظرية أطاحت بالطرائق الماهوية في التفكير البيولوجي، واستبدلت بها ما أسماه ماير
population thinking . تعامل الماهوية البيولوجية الجمال والأرانب والسلاحف كما لو كانت مثلثات أو معينات أو قطوعا متكافئة؛ فالأرانب التي نراها هي ظلال شاحبة للفكرة التامة للأرانب: الأرنب الأفلاطوني الماهوي المثالي المعلق حيث هو في فضاء تصوري إلى جانب جميع الصور الهندسية التامة. إن الأرانب ذات اللحم والدم قد تتباين، ولكن تبايناتها هي دائما نشوز عن الماهية المثالية للأرنب.
صفحه نامشخص
إن النظرة التطورية لهي على تضاد جذري مع هذه النظرة الأفلاطونية/الأرسطية السالفة؛ إذ من الجائز أن يبتعد الأخلاف عن صورة حياة الأسلاف ابتعادا لا نهاية له، وكل ابتعاد يصبح سلفا ممكنا لتنوعات مستقبلية.
إذا كان ثمة «أرنب قياسي» فإن هذا اللقب لا يعني إلا مركز توزع جرسي الشكل لأرانب حقيقية تقفز وتعدو. وهذا التوزع يتبدل مع الوقت. ومع تتالي الأجيال قد تأتي بالتدريج نقطة غير محددة بوضوح عندها سيكون معيار ما نسميه أرانب قد ابتعد كثيرا بحيث يستحق اسما آخر. ليس ثمة «أرنبية» دائمة، ماهية للأرانب معلقة في السماء، بل هناك فحسب «مجتمعات/سكان
populations » من الأفراد الطويلة الآذان المكسوة بالفراء المرتعشة الشوارب التي تبدي توزعا إحصائيا من التباين في الحجم والشكل واللون والميول.
بالنسبة للعقل المغشى بغمامات أفلاطونية فإن أرنبا ما هو أرنب. أما القول بأن نوع الأرانب يشكل ضربا من الغيمة المتنقلة ... سديم إحصائي من المتوسطات الإحصائية، أو أن الأرنب النموذجي في يومنا هذا قد يكون مختلفا عن الأرنب النموذجي الذي كان منذ مليون سنة، أو الأرنب النموذجي الذي سيكون بعد مليون سنة؛ فإن هذا القول هو انتهاك لتابو داخلي.
إن التأخر المزري في وصول دارون إلى المشهد (القرن 19) يعود إلى أننا جميعا كنا قد أشربنا الماهوية وأضمرناها في صميم جيناتنا العقلية. (6) الماهوية الجينية
هي وجهة الرأي القائلة بأن ماهية الكائنات البشرية تقبع في جيناتها، وبأن سلوك الإنسان تحدده جيناته على نحو حتمي لا مرد له، وما تكاد الناس تتلقى خبرا جديدا عن اكتشاف أساس جيني لشيء ما (مرض، سمة شخصية، سلوك ...) حتى تشرئب تحيزاتهم الماهوية السيكولوجية وتسبغ على هذا الشيء صفة الثبات والديمومة والحتمية، وتضرب عرض الحائط بالعوامل البيئية والحرية الشخصية والاختيار الفردي.
الحق أن العلاقة بين النمط الجيني
genotype
والنمط الظاهري
phenotype
صفحه نامشخص
قد تكون شديدة التعقيد، حيث تنبثق الأنماط الجينية كنتيجة لتفاعل متبادل لجينات عديدة حين تتوافر ظروف بيئية معينة، وحين يمكن للجينات أن تحدد أي البيئات يسعى إليها الشخص وبالتالي يتأثر بها، مثل هذه العلاقات المعقدة تتحدى أي جواب ماهوي، وبسبب تعقد التفاعل بين «الطبيعة والتنشئة»
nature and nurture
يستسهل الناس التفسير الجيني ويغضون الطرف عن العلل البيئية والخبروية أو التفاعلية بين الجينات والبيئة.
ليس بميسور عامة الناس أن يتصوروا تعقد العلاقة بين الجينوتايب والفينوتايب، ويتفهموا أن التعبيرات الجينية احتمالية وتحكمها الخبرات والتفاعلات مع الجينات الأخرى، ويستوعبوا كيف يمكن للجينات أن تؤثر في طرائق تفاعلنا معها؛ ومن ثم كيف تشكلها بيئاتنا، وكيف تضطلع العوامل «التخليقية المتعاقبة»
epigenetic
بدور جوهري في نشأة مختلف السمات وشتى الأمراض. ولو أنهم علموا مبلغ تعقد العلاقات بين الجينات ومآلاتها؛ لاستجابوا للتقارير الجينية استجابة صحيحة ووضعوا أمرها في نصابه، واستردوا اهتمامهم بدور البيئة في تشكيل السلوك، وأدركوا صدارة الإرادة الفردية والاختيار الحر.
ويبدو أن فترة المراهقة هي أنسب المراحل العمرية للتحولات المعرفية والوجدانية الكبرى في حياة الإنسان؛ ومن ثم تبدو التدخلات التعليمية لحلحلة الماهوية السيكولوجية الراسخة ملائمة جدا أثناء فصول العلم في المدرسة المتوسطة والعليا. في هذه السن لا يبدي المراهقون ماهوية سيكولوجية قوية كالتي يبديها الأطفال الأصغر، ولا يكون أوان الحتمية الجينية للبالغين قد جاء بعد.
يستمد الناس معلوماتهم عن الجينات من وسائل الإعلام، والإعلام بغريزته يميل إلى الفرقعة والمبالغة والإثارة، ولا يقدم إلا تبسيطات مخلة تومئ إلى تفسيرات جينية قوية للظواهر تتجاوب مع حدوس الناس المشربة بالماهوية، وبذلك تنشأ حلقة موبقة من التدعيم والتحريف يصعب الفكاك منها. ومن شأن التحيز الماهوي أن يدعم «التنميط»
stereotyping
و«التمييز»
صفحه نامشخص
discrimination
بشتى تجلياتهما: العنصرية والجندرية والجنسية ... إلخ. وهكذا تسهم نزعة الماهية في تخليد هذه التحيزات، وتضع عوائق في طريق التقدم العلمي والخلقي للجنس البشري.
وقد كانت «اليوجينيا» (علم تحسين النسل)
eugenics
سليلة شرعية للماهوية الجينية أضلت كثيرا من الناس في النصف الأول من القرن العشرين، ودفعتهم إلى ارتكاب أفعال شائنة وتبرير إجراءات فظة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويسعون إلى تحسين الجنس البشري. (7) الماهوية اللغوية
من آثام الماهوية التي لا تغتفر أنها عطلت الفهم البشري قرونا طويلة عن فهم طبيعة اللغة ومنشئها، وما استتبعه ذلك من نتائج بعيدة الأثر ثقيلة الوطأة. وقد كان تأخر ظهور فرديناند دي سوسير (1857-1913م) في اللغويات مزريا كتأخر ظهور دارون في البيولوجيا.
وقد بلغت عواقب الماهوية في حالة اللغة العربية حدا لم تبلغه في أية لغة من اللغات، وكانت وراء ما نعانيه اليوم من ازدواجية لغوية حقيقية (فصحى/محكية) وجمود إبداعي مقيم وعقدة نقص غائرة.
من شأن نزعة الماهية أن تحمل العقل على أن يتصور اللغة كيانا أزليا ثابتا مكتملا نشأ بتدبير مدبر وفعل فاعل، وأن تجعل تصور اللغة كظاهرة «انبثاقية»
emergent
تنجم عفويا من عملية الاجتماع، تجعله أمرا يند عن الإدراك ويستعصي على الفهم. ومن شأنها أن تجعله يتوهم وجود «مناسبة» بين اللفظ والمعنى، أو رابطة طبيعية منطقية بين الأصوات ومدلولاتها.
صفحه نامشخص
مثل ذلك الماهوي لن يسعه في دراسة اللغة سوى أن يتخذ منهجا «معياريا»، وأن يميل إلى المحافظة على «الحالة» اللغوية ومنعها من التحول والتغير، وفرض قواعدها الموروثة بكل حزم وصرامة. لقد أملى عليه «مذهبه» في منشأ اللغة «منهجه» في دراستها، وخلق منه شرطيا لغويا جافيا، وإرهابيا نحويا فظا، يحفظ الوضع القائم ويحارب كل تجديد ويسميه «خطأ» ينبغي رده إلى الصواب؛ أي إلى القديم.
يعمه الماهوي عن ظاهرة أساسية في اللغة هي «التغير اللغوي»
language change . اللغة كيان متغير، كيان سائل. التغير - إن شئت الدقة - ليس من «خواص»
properties
اللغة بل من «أنطولوجيا» اللغة. التغير ليس «محمولا»
predicate
للغة، بل «كيفية وجود» أو «أسلوب كينونة». اللغة - بحكم طبيعتها ذاتها
ipso facto - متغيرة؛ وذلك لأسباب كثيرة أهمها الطابع «المحايث» للبنية ذاتها؛ أي الميول الباطنة في صميم البنية اللغوية والمسئولة عما يعرض لها من تغيرات.
لم يدرك قدامى اللغويين هذا الجانب الأساسي من أنطولوجيا اللغة: التغير، وكانوا في عمه
agnosia
صفحه نامشخص
عنه. لقد اعتبروا كل تغير خطأ، وتوفروا على رصد الخطأ ومطاردته (بدلا من أن يقوموا بعملهم الحقيقي ويقننوا التغير!) ودبجوا في ذلك أسفارا ومجلدات.
لم يدرس قدامى اللغويين التغير؛ لأنهم اعتبروه «لحنا» فدرسوا اللحن. «كان يجب على قدامى النحاة بعد الفراغ من دراستهم لتلك المرحلة (الفترة من منتصف القرن الثاني قبل الهجرة إلى منتصف أو نهاية القرن الثاني الهجري) ألا يدوروا حول أنفسهم فيها، وإنما يدرسوا ويوصوا بمتابعة الدراسات المتعاقبة ويتتبعوا الظواهر المتغيرة في كل أوضاعها على مر العصور وفي مختلف البيئات ... فلو أنهم رصدوا حركات التطور لأفادوا اللغة التي حاولوا المحافظة عليها، بالإضافة إلى أنهم كانوا ربما اهتدوا إلى معرفة قوانين التطور وإلى تسخيرها لمصلحة اللغة (غير واقفين في وجه سننها) ... وبذلك يكون علاجهم لها علاجا مبنيا على أسس علمية.»
4 «وليس من حق الباحث في اللغة أن يفترض فيها التوقف عند فترة معينة أو جيل خاص أو عدة أجيال، فيجمد الدراسة ويترك عمله الحقيقي في ملاحظة اللغة الدائبة التغير، وينصرف إلى تفريعات ومماحكات وعنت ذهني عقيم لا حاجة باللغة إليه، ثم يفرض ما لاحظه عن اللغة في فترة من فتراتها على فترة أخرى أدى إليها تطورها. وهذا عكس لمهمة الدارس من الوصف إلى التحكم، ومن الملاحظة إلى المصادرة.»
5
هكذا يتبين لنا أن هواة «قل ولا تقل» ليسوا أكثر من نفر لم يكملوا تعليمهم اللغوي؛ لأنهم لم يدرسوا «التغير اللغوي» بما هو تغير لغوي لا بما هو لحن ... بما هو صواب لا بما هو خطأ.
لقد توقف النحاة في تقعيداتهم عند زمن معين لا يتجاوزونه، بينما اللغة الحقيقية تمضي في سبيلها غير عابئة بهم، توقفت القواعد بينما العرف اللغوي يتغير مع الزمن، فاتسعت الفجوة بينهما وصارت هوة. هكذا انشطرت لغتنا إلى لغتين بينهما ثأر وخصام ولدد: المحكية والفصحى. وهكذا تجمدت الدماء في عروق الفصحى وتخلفت عن ركب اللغات، فصرنا ندرس العلم بلغة أجنبية، ونتنفج بلغة الغير وقد غرقنا في الدونية إلى الأذقان.
هذا ما فعلت بنا الماهوية: لقد قتلت العربية وغربتها: غربة الزمان لا المكان، وجعلتها لغة أجنبية يتجافى عنها اللسان وتمجها السليقة. (8) في فهم الأمراض النفسية وتقسيماتها
كان لنزعة الماهية أثر سلبي على فهمنا للأمراض النفسية وطريقتنا في تقسيمها؛ فرغم أن الفئات التشخيصية في الطب النفسي هي مجرد تصورات تنظم الخبرة الإكلينيكية وترشد القرارات العلاجية، فما يكاد يعم استخدام مفهوم تشخيصي - كالفصام ... إلخ - حتى تتناوله النزعة الماهوية بداخلنا بالتشييء
reification
وكأنه كيان واقعي حقيقي أو «ماهية» محددة تقبع وراء أعراض المريض وتفسرها. ورغم أن واضعي الدليل التشخيصي والإحصائي حريصون على الإشارة إلى أن كل فئة تشخيصية ليست كيانا مسيجا منفصلا عن غيره من الفئات وعن السواء
صفحه نامشخص
normality ، فإن مجرد إدراج التصور التشخيصي في دليل نوزولوجي رسمي، وتزويده بتعريف مركب دقيق يحفز نزعتنا الماهوية الصميمة، ويحملنا على هذا التشييء الماكر.
يبدو أن تفاوت الأعراض الطبنفسية هو شيء متصل، ولا يتكتل في تجمعات ذات تخوم حادة، وأن معظم الفئات التشخيصية هي مجرد مواضع اعتسافية في فضاء متعدد الأبعاد. على أن «العقل المتقطع» (بتعبير ر. دوكنز) لا يعي ذلك، ولا يفكر إلا بلغة قاطيغورية (لغة الفئات التصنيفية المنفصلة)، ولا يختزن معرفته الإكلينيكية إلا بهذا الفورمات. يشكل هذا «عائقا طبيعيا» لتقدم الطب النفسي وتقدم البحث العلمي في هذا المجال.
هب أنك تقدم لقطاع البحث العلمي عينات من الحالات المرضية تمثل فئات تشخيصية معينة، اجتزئت وفقا لهذا التوجه الذهني الماهوي، وطلبت منه أن يستكشف لك تلك الماهية القابعة وراء الأعراض: الخلل الجيني على سبيل المثال. إنك لا تجني من الشوك عنبا، ولا من الوهم واقعا؛ لذا تسفر الأبحاث الجينية لعيناتك عن «خلل جيني غير محدد
non-specific ». وكذلك الحال في بقية ضروب السببيات.
لقد طالما سلم القائمون على الطب النفسي وعلم النفس بأن هدف أي نسق نوزولوجي (متعلق بتقسيم الأمراض) هو «تقطيع الطبيعة من مفاصلها». يتضمن ذلك أن ثمة مفصلا وأن المرء لا ينشر في العظم. ولكن إذا لم يكن ثمة حدود طبيعية بين الزملات النوزولوجية، فمن يدرينا - حقا - أننا لا ننشر في العظم؟
إن من الخطأ أن نفهم الزملات الطبنفسية على أنها فئات تصنيفية محددة بحدود ولها شروط داخلية ضرورية وكافية لتشخيصها؛ فهذه طريقة غير صائبة في النظر إلى أي شيء؛ لأنها تصادر بأننا ننظر إليه كما بعين إله، وبأن هناك وصفا دقيقا واحدا لما يكونه هذا الشيء في الواقع، بمعزل عن الطريقة التي نتصوره بها. وعلى الأطباء النفسيين أن يكفوا عن مثل هذه النظرة، سواء تبنوا النموذج الطبي أو النموذج السيكومتري (الخاص بالقياس النفسي). إنما تتخذ الاضطرابات الطبنفسية متصلا
continuum
من «الأنواع العملية»، وأفضل طريقة لتصورها هي الطريقة البراجماتية. (9) الوجودية
الوجودية نقيض الماهوية وضدها المميز. ***
لقد كانت الفلسفات الكبرى في التاريخ فلسفة ماهيات ، تقول بأن للإنسان طبيعة سابقة على وجوده تطبعه بطابعها وتقولبه بقالبها، شأنه في ذلك شأن غيره من الكائنات: إن فكرة التمثال في خيال المثال تسبق عملية نحت التمثال، وتصميم المبنى في مخطط المهندس يسبق بناءه، وطبيعة الشجرة تسبق «وجودها بالفعل»
صفحه نامشخص
actual being
وتكمن في بذرتها الصغيرة وتوجد فيها «وجودا بالقوة»
potential being ، والإنسان الفرد ما هو إلا نسخة جزئية لنموذج سابق هو الطبيعة الإنسانية العمومية. الماهية إذن - وفقا لهذه الفلسفات - سابقة على الوجود (على تفاوت معنى السبق).
وتأتي الوجودية لتعكس الآية وتقول: بل الوجود هو السابق على الماهية. إنما يوجد الإنسان أولا غير محدد بصفة، ثم يجبل هويته بنفسه، ويبتكر أسلوبه في الوجود، ويختار ما يريد أن يكونه. إن عليه أن يحمل عبء حريته، شاء ذلك أم أبى؛ فهو «موجود لذاته»
pour soi ، موجود حر واع بذاته، وليس «موجودا في ذاته»
en soi
وجود العجماوات والجمادات الغارقة في سبات الضرورة وسكينتها. إنه مشروع يظل قيد التحقق على الدوام ولا يكتمل إلا بالموت.
يطبق الشعور بالحرية على الإنسان فيغمره بالقلق، ويبهظه بالمسئولية (القلق دوار الحرية). فينزغ له ما يسميه سارتر
mauvais foi ، وهو لون من خداع النفس يزين له العبودية والاستسلام، والتخلص من عبء الحرية باعتباره مسيرا غير مخير، وضحية قوى بيولوجية وتاريخية واجتماعية حتمية قاهرة ليس له بها يد، وكأنه مجرد «شيء» من الأشياء أو «موضوع» من الموضوعات.
لا جدوى رغم ذلك من محاولة الهروب من الحرية؛ فالإنسان «محكوم عليه بالحرية»، يمارسها بواسطة اختيارات عليه أن يجترحها كل لحظة؛ فالاختيار محتوم، وحتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع.
صفحه نامشخص
كادت الحرية عند سارتر أن تكون ماهية الإنسان، وكاد سارتر من ثم أن يكون ماهويا.
لا فكاك من الحرية ... لقد قذف بالإنسان قذفا في هذا العالم ورمي بحريته.
الحرية هي «الأمانة» التي قدر على الإنسان أن يحملها، فإذا هو كائن مخير مريد تقف القوانين السببية عنده مستأذنة، وتتحدد مصائره بيقين الحتمية مضروبا في «لا يقين» الحرية. إنه المخلوق الخالق الذي يوجد خارج واقعه وخارج ماهيته. إنه الكائن الذي يدخل «الوعي» في نسيج العالم، ويجلب «القيمة» إلى باحة الخليقة، ويسبغ «المعنى» على صمت الكون، ويفرز «عدما» من حوله في قلب الوجود الشيئي المكتمل. إنه الدودة في التفاحة ... أرق في سبات الضرورة، صدع بين «الأشياء»، مملكة داخل المملكة. (10) ابن نفسه!
من الناس من يترك غيره يعبث بعمره ويجبله على هواه،
ويسكه طبعة من قالب مسبق،
طبعة تحمل بلادة القالب وصفاقة الحجر،
وجوده تكرار ... عدم مكثف،
الكون يرمقه بسأم وملال:
حياته نسخة مكرورة، ما أبشعها وإن حسنت! ... ... ... ... ...
ومن الناس من يأبى إلا أن يجعل من عمره تجربة كبرى،
صفحه نامشخص
ابن نفسه يغمدها في كل أفق جديد وطريق بكر،
الكون يرمقه بغبطة واختلاج ودهش وتشوف:
حياته قطعة من خلقه، ما أجملها وإن ساءت!
عادل مصطفى
الكويت في 28 / 12 / 2015م
الفصل الأول
وهم الثوابت أو «النزعة الماهية»
مدخل عام
ثمة خطأ نقع فيه جميعا مرارا وتكرارا، وسنظل نرتكبه حتى لو أدركنا أننا نفعل ذلك.
ذلك أنه خطأ معرفي مفيد يتبطن الإدراك في معظمه، وأنه خطأ ضروري لنا ضرورة الماء والهواء. ونحن إذا كنا نعمد هنا إلى تسميته وتشريحه، فلكي نكتسب استبصارا بحدود إدراكنا البشري وبكيفية عمله. إنه خطأ محتوم لأنه مبيت في صميم جهازنا الإدراكي نفسه.
صفحه نامشخص
يطلق على هذا الخطأ اسم «نزعة الماهية» أو «مذهب الماهية» أو «الماهوية»
essentialism ، وهو الرأي القائل بأن لكل صنف معين من الكيانات (الكائنات)
entities
مجموعة من الخواص لا بد لكل فرد من أفراد هذا الصنف أن يمتلكها كيما يندرج تحت هذا الصنف (لكي يكون ذلك الصنف من الأشياء). يطلق على هذه الخواص اسم «الخواص الجوهرية أو الماهوية»
essential properties
كمقابل لل «الخواص العرضية»
accidental properties
التي قد يتصف بها الشيء أو لا يتصف ولكنها غير داخلة في ماهيته ولا هو محتم عليه أن يتصف بها لكي يندرج تحت هذا الصنف الذي يندرج تحته.
1
إن جرثومة الماهوية قابعة في بيولوجية الإدراك نفسه. ويبدو أن الكائن الإنساني محكوم عليه بنزعة الماهية، ومقدر عليه أن يقارب الفهم الكامل للواقع دون أن يصل إليه أبدا. ثمة استثناءات لهذا الوضع، كالرياضيات مثلا، سنعرض لها وشيكا. وعلى المفكر الحصيف أن يعي جيدا كل هذا، وأن يعي هل هو بإزاء القاعدة (استحالة الوصول إلى الفهم الكامل للواقع) أم بإزاء الاستثناء. وإن غياب هذا الوعي لمن أهم الأسباب التي تجعل العقل المحض عرضة لأن يجر استنتاجاتنا في اتجاهات عشوائية وخاطئة تماما.
صفحه نامشخص
تتعامل أدمغتنا مع رموز
symbols . يتناول الدماغ تمثيلات الواقع ويستخدم هذه التناولات الافتراضية (الخائلية) لكي يقود سلوكنا. وقد ضرب باول بلوم لذلك المثال التالي: حين أشعر بالعطش فإنني آخذ كوبا وأملؤه من الصنبور؛ ذلك أنني أعرف لأي غرض جعلت الأكواب والصنابير. يتطلب هذا تفكيرا رمزيا، حيث «كوب» و«صنبور» رمزان يمكن لدماغي تناولهما، ويجيء كل منهما مرتبطا بالمعلومات الخاصة بما يعرفه؛ فالكوب هو أداة تجعل الشرب أيسر، والصنبور هو جهاز لجلب الماء ... إلخ. هذا الوصف نظري بالتأكيد؛ غير أن هناك العديد من العلماء الثقات الذين يأخذون بهذا الرأي، منهم جاري ماركوس في مقاله الهام «كيف يعمل الدماغ؟ استبصارات من البيولوجيا».
2
ثمة طريقة لوصف فكرة الرموز تأتينا من المنطق/الرياضيات في شكل «فئات التكافؤ»
equivalence classes . فئات التكافؤ هي عناوين/بطاقات يمكن استخدامها كأوصاف اختزالية لمجموعة معطاة من الصفات (الكوب - مثلا - هو كوب إذا كان من الممكن استخدامه لتيسير الشرب بالطريقة الفلانية). فئات التكافؤ أدوات معرفية قوية للغاية؛ لأنها تسمح باطراح كل التفاصيل التافهة وحصر الانتباه فيما هو ذو صلة. فئات التكافؤ إذن هي لبنات البناء لجميع النماذج. والنماذج
models
بمختلف ضروبها أمر ضروري لللإدراك والتفكير والتواصل. (1) مغالطة نزعة الماهية
المشكلة هي أن فئات التكافؤ جد مسعفة (ولا يمكن تفاديها؛ إذ إن كل ما يسع المرء أن يعمله هو أن يتناول رموزا لا أن يتناول الأشياء الحقيقية)، بحيث إنها ما إن تطبق على شيء من الأشياء حتى يكون من السهل أن ننسى أن الرمز ليس هو الشيء الحقيقي (الواقعي).
العقل يتعامل مع رموز وليس مع الأشياء؛ ومن ثم فإن الواقع - بمعنى ما وإلى حد ما - غير قابل للمعرفة! نحن ننسى أن نتعامل مع «فئات تكافؤ»؛ ومن ثم نبيع الدقة في مقابل السهولة ... في مقابل التبسيطات المفيدة.
يستخدم العلماء فئات التكافؤ لكي يشيدوا نماذج مفيدة؛ غير أنهم عندئذ ينجرفون بعيدا، ويشرعون مثلا في الظن بأن النمور تتسم ب «نمرية» ما مطلقة وموضوعية، بينما «النمرية» لا وجود لها في الحقيقة، ولا تعدو أن تكون النتاج المباشر للطريقة التي تعمل بها أدمغتنا.
صفحه نامشخص