واحات العمر: سیره ذاتیه: الجزء الأول
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرها
وكانت أفكار الوهم والواقع، وفكرة العبور والزمن، والشروق والغروب الذي يؤكد «لا زمنية» الزمن، هي التي سيطرت على فكري دون مقابلات لغوية محددة، ولا شك أنها كانت الدافع غير المباشر إلى كتابة مسرحية «البر الغربي» عندما عدنا إلى القاهرة. والذي حدث هو أنني قرأت ذات يوم بعض الأنباء الخاصة بالمسرح في صحيفة الجمهورية، ونقدا كتبه الدكتور محمد مندور لمسرحية «السبنسة» التي كان المسرح القومي يعرضها آنذاك، من تأليف سعد الدين وهبة، فأصابني القلق، ترى ماذا يحدث في مسرح القاهرة؟ هل يريد أحدهم سوءا بمسرحيتي الأولى؟ وقررت العودة خوفا على مصير الدرجة السادسة. وكان الدكتور سويف قلقا كذلك على بعض أعماله في القاهرة، فقرر العودة أيضا، وهكذا انفصلنا عن الركب وعدنا إلى القاهرة دون الذهاب إلى أسوان.
وعندما حادثت مدبولي في التليفون قال لي إن بروفات المسرحية قد توقفت؛ لأن الفرقة تقدم عملا آخر هو «أنا وهو وهي»، ولكنه كان مهذبا فلم يتعرض لما قلته عن اسم المؤلف أو وضع اسم سمير خفاجى مع اسمي. وبعد أسبوع عاد الزملاء من أسوان، فاصطحبني سمير سرحان إلى المسرح حيث تأكدنا من خبر توقف البروفات، ومن ثم اتجهنا - وكانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة ظهرا - إلى منزل الدكتور رشاد حيث وجدناه في انتظارنا، وعندما قصصنا عليه القصة قال لي في حزم: «انس الدرجة السادسة! اكتب مسرحية جديدة!» وأطلعنا أثناء الحديث على أن الوزير قد وافق على إنشاء فرقة مسرحية باسم فرقة توفيق الحكيم، يكون مقرها مسرح محمد فريد، وتحويل اسم ذلك المسرح إلى مسرح الحكيم ونشر مجلة شهرية ابتداء من العام التالي (1964م) اسمها مجلة المسرح، وأنه أي الوزير (عبد القادر حاتم) قد أوكل إليه الإشراف على هذا المشروع !
4
في فبراير 1963م ظهر أول كتاب من تأليفي (لا من ترجمتي) وهو «النقد التحليلي»، وكنت به سعيدا، على صغره وتواضعه، بل على مبالغته وشطحاته ونبرته العالية؛ فقد كنت آنذاك مؤمنا بالفن إيمانا يصل إلى حد التقديس، وكنت أرى أن مهمة الناقد الأولى، ودون جدال، هي «نقد» فن الفنان؛ بمعنى تحليل عناصره ودراسة مبناه والغوص في دلالاته، لا استنباط «هدف» أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي منه، وربما كان حبي للموسيقى والرسم وممارستهما من وراء ذلك، ولم أكن على استعداد مطلقا أن أقبل «مسخ» عمل فني، مهما تكن «رسالته» الظاهرة أو الباطنة بأن أساويه في الكم أو في الكيف مع هذه الرسالة! وكنت أصغي لما يقوله زملائي من النقاد الذين استجابوا لموضة «الاشتراكية» التي أصبحت السياسة الرسمية للدولة، وطفقوا يصنفون الكتاب طبقا لدلالات كتاباتهم على الميل إلى الرأسمالية (إذا عالجوا مشكلات الإنسان الفرد)، أو إلى الاشتراكية إذا عالجوا المشكلات «الجماعية» (مثل مشكلة الموصلات)، وكنت أقرأ ما يكتبون في دهشة، خصوصا عندما ابتدعوا مقابلة مضحكة بين ما أسموه «الفن للفن» و«الفن للمجتمع». وكان موقفي الذي أساء البعض فهمه في هذا الكتاب هو أن حرف اللام هو سر المشكلة. فما معنى «الفن للفن»؟ بل وما معنى الترجمة الأخرى للعبارة الأجنبية الأصلية وهي باللاتينية
ars gratia artis
وبالإنجليزية
art for art’s sake ؟ أي إنك إذا استبدلت «من أجل» باللام لم يزد المعنى وضوحا. فما هو المعنى؟ الواضح أن المقصود هو استبعاد الأغراض غير الفنية عند النظر إلى الفن. ولكن ما هي هذه الأغراض؟ تهذيب الأخلاق مثلا؟ الدعوة إلى فكر سياسي ناضج مثلا؟ وكيف يكون ذلك؟ هل يكون من قبل الفنان أم من قبل الناقد؟ هل يبدأ الفنان - المؤلف الموسيقي مثلا - بفكرة أو برسالة ثم «يحولها» إلى موسيقى؟ أم هل يكون على الناقد أن يستنبط هذه الفكرة أو الرسالة من الموسيقى؟
هذه الحجة تقوم على «فرض خادع» هو سبب الخلط في المقابلة، وهو مفهوم الفن؛ أي ما يعتبر فنا. فالموسيقيون فنانون؛ لأن الوسيط الذي يستخدمونه وهو تناغم الأصوات والألحان والإيقاعات «متفق عليه » منذ قديم الأزل، وكلمة الموسيقى نفسها نسبة إلى ربة الفن (
muse ) وكذلك الرسامون المبدعون. فالوسيط الذي يستخدمونه متفق على أنه فن، ولو تفاوتت مكانة ودرجة إبداع كل منهم. ولكن الخداع يبدأ عندما يتحول الأمر إلى الأدب؛ فاعتبار الأدب فنا يقتضي توافر عناصر فنية معينة غير متفق عليها حتى الآن، وربما لا يتفق عليها النقاد أبدا! فتعريفات الشعر كانت تتراوح بين مقارنته طورا بالموسيقى، وطورا بالرسم، وعناصره الفنية ستظل مثار خلاف إلى يوم يبعثون! فكيف نطبق عليه إذن مقولة الفن للفن؟ هل نفهم من هذه العبارة أن «الخصائص الفنية» التي تجعل الكلام فنا (أي تجعله أدبا) مقصودة لذاتها لا لتحقيق غاية أخرى؟ وكيف نتصور أن الشاعر حين ينظم كلامه يهدف من «النظم»؛ أي من إيقاع الألفاظ (بدلا من النثر غير المنظوم) إلى تحقيق غاية سياسية أو أخلاقية؟ أو كيف نتصور أنه حين يبدع التصوير (بدلا من التقرير) يرمي إلى تحقيق مثل هذه الغايات؟
الواضح أن كلمة «الفن» عند تطبيقها في هذا السياق كانت تعني الكتابة الفنية أو الأدب، وكانت المقولة عند أصحابها تعني ألا تكون الكتابة بلا هدف جليل، أو بلا هدف له دلالته الإنسانية «التي يعتد بها» (وهي العبارة التي قالها لي خالي وأنا طفل)، والمنطقي إذن هو أن الكتابة حين تتوافر لها العناصر الفنية والدلالة الإنسانية معا تصبح أدبا، وهي إذا أصبحت أدبا وغدت بهذا المعنى فنا حقيقيا لم يكن هناك مجال للتساؤل عن الغاية منها. إلا في حدود التساؤل عن الغاية من الموسيقى والرسم والرقص والتمثيل وما إلى ذلك! فالأدب الذي يصور الفرد تصويرا فنيا لا يقل في «قيمته» عن الأدب الذي يصور المجتمع تصويرا فنيا! وأنا أضع خطا تحت كملة «قيمة» لأن ذلك هو مربط الفرس كما يقولون! فالغاية القصوى مما كان محمد مندور يعنيه «بالنقد الأيديولوجي» هو تحديد «قيمة» العمل الفني في ضوء الأيديولوجيا التي يوحي بها؛ أي في ضوء «الاتجاه الفكري» الذي قد يبدو أنه يدعو إليه. وهذا هو ما كنت أرفضه في ذلك الكتاب.
صفحه نامشخص