واحات العمر: سیره ذاتیه: الجزء الأول
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرها
والذي حدث هو أن الدكتور ثروت عكاشة، عندما كان وزيرا للثقافة، كان قد رصد مبلغ مليون جنيه مصري لترجمة دائرة المعارف المذكورة، ووضعها بالكامل تحت تصرف الدكتور لويس عوض الذي عين آنذاك وكيلا للوزارة، وكان له وحده الحق في الإنفاق منها، وكان منهج لويس يتلخص في تمشيط الموسوعة ورصد الأسماء أولا، وتحديد ما يحتاج منها إلى الترجمة؛ أي إلى إفراد أبواب له، ثم تحديد الموضوعات إلى علمية وتاريخية وأدبية وما إلى ذلك، وكانت للبداية بالأسماء أهميتها؛ فربما احتاج صاحب الموسوعة إلى إضافة أسماء أخرى، أو الاستغناء عن البعض، وهكذا كان العمل يجري على قدم وساق في عامي 1960 و1961م في رصد الأسماء، وكان جميع من في المكتب الذي زرناه يكسبون أموالا لا بأس بها من هذا العمل، ولم نكن نعرف منهم غير عبد العزيز حمودة وعايدة شعراوي، وكان يسمح للبعض أن يصطحب أحد مجلدات الموسوعة إلى المنزل لرصد الأسماء منها، وكان سليمان (لا أذكر اسمه الآخر) يفتخر بأنه يوظف الأسرة كلها في هذا العمل، زوجته وأبناءه جميعا؛ فهو مورد رزق للجميع، ورغم تعيين عبد القادر حاتم وزيرا للثقافة مكان ثروت عكاشة فقد كان المشروع لا يزال قائما!
وسعدنا أنا وسمير سرحان بهذا العمل الذي سرعان ما انطوت صفحته، وإن كنا قد كسبنا منه بعض النقود، ومررنا فيه بتجربة لا بد من ذكرها؛ لأنها أصبحت فكاهة نتندر بها أنا وسمير حتى الآن! كان يعمل في مكتب الموظف السوداني الذي يدخن الغليون فتاتان تكتبان الآلة الإنجليزية، الأولى اسمها محاسن وهي سوداء من السنغال، والثانية اسمها سميراميس، وهي سمراء من الحبشة. ولم نضع الوقت أنا وسمير، فخرجنا معهما إلى السينما، وكانت تلك أول وآخر مرة أصادق حبشية، وكانت ميزتها الوحيدة هي الحديث بالإنجليزية، وقد ظللنا على صداقتنا حتى وضع الدكتور حاتم حدا للمشروع، وانطوى حلم الموسوعة ، وتوقف مورد الدخل المنتظم!
وعندما حلت بشائر الصيف رأيت إعدادا لمسرحية اسمها «استشارة محام» قام بها أنور عبد الله عن ترجمة لمسرحية إنجليزية بنفس العنوان وهو
Counsel’s Opinion ، وكانت المترجمة ما تزال طالبة لدينا في القسم، واسمها ساني عبد الحميد، وشاءت الظروف أن تتحول فيما بعد إلى «أنا وهو وهي» على يدي سمير خفاجى الذي أضاف إليها «البهارات المصرية» اللاذعة، وقدمها إلى عبد المنعم مدبولي الذي أخرجها للمسرح الكوميدي بعد مسرحيتي «السكرتير الفني» المقتبسة عن فيلم «توباز» الذي قام ببطولته بيتر سيلرز ومسرحية «جلفدان هانم» من تأليف علي أحمد باكثير. كنت قد شغفت بأداء فؤاد المهندس ومديحة حمدي ومدبولي في «السكرتير الفني» وكتبت مسرحية على غرار هذه وتلك، اسمها «الدرجة السادسة»، وهي لم تنشر حتى الآن ولا أجرؤ على نشرها بسبب طولها الشديد وعيوبها الفنية الواضحة - وأهم تلك العيوب «تصوري» فؤاد المهندس نفسه في دول البطل، وشويكار التي لمعت في «أنا وهو وهي» في دور البطلة، بحيث أصبح أداؤها بالصورة المطلوبة رهنا بوجود أمثال هذين العبقريين!
ولكنني كنت اكتسبت جرأة من تقديم «من أجل ولدي» وأصبحت معروفا في «الوسط الفني» فاتجهت إلى أستاذي القديم مدبولي في صيف 1962م في المسرح العائم حيث كان يعمل، وأعطيته نسخة من المسرحية ووعدني بقراءتها والرد علي في اليوم التالي. وفي اليوم التالي ذهبت في الموعد فقابلني بمفاجأة! إذ إنه انقض علي معانقا مقبلا وقال لي: «مبروك .. بقيت مؤلف يا عناني!» وذهلت من إعجابه بهذه المسرحية وسألته عن «الخطوات» الرسمية الواجب اتباعها في هذه الحالة فقال لي أن أذهب إلى سمير خفاجى حيث يقيم في عمارة التأمين بميدان رمسيس (باب الحديد) وهو الذي سيتولى كل شيء.
وذهبت في مساء اليوم التالي إلى سمير خفاجى فوجدته مشغولا بترجمة مسرحية عن الفرنسية هو وأحد الضيوف، فطلب مني النظر فيها معهما، وسرعان ما بدأت أنا الترجمة وانشغل الاثنان بكتابة ترجمتي وإضافة «البهارات» حتى حل منتصف الليل، فقال لي: «إنت اتأخرت .. نكمل بكره!» وانتهينا من النص بعد أيام، ثم سألته عن «الدرجة السادسة» فقال: «طويلة جدا .. عايزة قصقصة.» ولم أفهم وخرجت كسيفا حزينا مهموما. وأهرعت إلى سمير سرحان أقص عليه ما حدث. فقال لي: ولا يهمك .. خلينا احنا في عندما نحب!
كانت «عندما نحب» قصة قصيرة كتبها محمد التابعي، الصحفي المشهور، وعندما ذهبنا إليه في منزله بالزمالك اندهشنا للجو الأسطوري الذي يعيش فيه، ولقدرته الخارقة على تبسيط الأمور! وكان قد قرأ «الإعداد» (أي النص المسرحي الذي كتبناه)، واعترض على كلمة «ألعب» لأن البطل عداء، وينبغي أن تكون الكلمة «أجري»! وتحدث طويلا عن فن كتابة القصة وقال إنه يكتب القصة مثلما «يلعب عشرة طاولة»؛ أي إنه يكتبها حيثما اتفق وحيثما يقول له النرد! ونصحنا بمقابلة صلاح منصور المخرج؛ للاتفاق على بعض التعديلات. ولكننا عندما قابلتنا صلاح منصور في «جروبي» (فرع شارع سليمان باشا من ذلك المقهى) وجدناه يتكلم لغة غير متوقعة؛ فهو يؤكد ضرورة إحساس المتفرج بالكيان المادي للبطل؛ أي بجسمه، وضرورة إلغاء النبرة «القدرية» التي أضفيناها على النص استحياء للمسرح اليوناني الذي كان هو «الموضة» تلك الأيام، وقال لنا: «عندما أخرجت «بين القصرين» .. خليت البطل يدخل المسرح بملابسه الداخلية وقد ظهرت (...) حتى يشعر المتفرج بحقيقة عالم سي السيد!» ولم نعرف المطلوب تماما، فافترقنا على خلاف.
وبعد أسبوعين عرضت المسرحية المقتبسة عن الفرنسية (
le Roi 23 ) في المسرح العائم، وكانت تحمل اسم المؤلف هكذا: تأليف سمير خفاجى وعبد المنعم مدبولي! ولم أعلق على ذلك رغم دهشتي. وبعد العرض قابلت سمير خفاجى فقال لي: «اسمع! انت أجرك في التليفزيون 200 جنيه .. صح؟ (وأومأت بالموافقة) وأجري أنا 400، فإذا كتبنا تأليف سمير خفاجى ومحمد عناني تقاضينا الأجر الأعلى، وهكذا تحصل أنت على ال 200 وأحصل أنا على 200.»
ولم أنطق. لم أعرف ماذا أقول. هذه مسرحية من تأليفي. تحتاج إلى تعديل. هل يعتبر التعديل مشاركة في التأليف؟ كان نظامي في الكتابة مع سمير سرحان هو وضع التخطيط المشترك ثم كتابة المشاهد، كل مشهد على حدة، حسب الاتفاق، ثم مراجعة ما كتبناه بعد ذلك .. وربما كان ذلك أيضا من قبيل المراجعة؟ وانصرفت مشتت الخاطر .. ولم أخبر أحدا بما دار بيننا من حوار.
صفحه نامشخص