واحات العمر: سیره ذاتیه: الجزء الأول
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرها
وبدأ الاحتفال بقراءة القرآن، ثم ألقى مدرس التاريخ خطبته، ثم توالى الخطباء، وبعدها قام جمال عبد الناصر فتحدث حديثا وطنيا حماسيا، ألهب المشاعر، لكنه، رحمه الله، كان يخطئ في اللغة العربية، مما أغضب منه أساتذة العربية وكثيرا من المستمعين، وكانت إجادة اللغة العربية لا تزال المثل الأعلى للخطيب، وانفض الاحتفال بعد أن بدا أن رشيد قد دبت الحياة في أوصالها، وكأنما عشنا من جديد انتصارنا على الإنجليز. ولكن حادثة صغيرة أثناء الحفل دفعت أفكاري في طريق آخر؛ إذ بينما كنا نتزاحم لرؤية الزعماء الجدد، وكنت واقفا على كرسي بجوار صبي في المدرسة غريب عن البلدة، يعمل والده مفتشا للري في البصيلي (اسمه «ميدو») أحسست بيد تخمشني في مكان أوثر ألا أفصح عنه، وابتعدت مرة أو مرتين، ثم استسلمت للإلحاح، فوجدت للخمش لذة تشبه لذة «زردق»، فعجبت أن يحدث ذلك بالنهار وقد اعتدت زيارته ليلا، ونزلت على الفور من الكرسي، وخرجت من السرادق.
7
وقصصت ما حدث لزميلي في القمطر طلعت لبيب عزيز، فقال دون اكتراث: «ألا تعرف ميدو؟ إن لديه دودة!» وتظاهرت بالفهم، وما هي إلا أيام حتى كان الجميع قد عرف بأمر محاولة «ميدو»، وجاءني عبد الستار عبد الغفار (الحجة والمرجع) فحذرني من «ميدو»، وقال لي ببساطة: إنت بتكردش؟ (كردش كلمة عامية ربما كانت تحريفا لكردس) وأجبت على الفور: لا! أبدا! دون أن أعرف ما يعني؛ إذ خشيت أن يكون فعلا قبيحا، ولكنه أردف قائلا وبسرعة: «ولم لا؟ هذا أفضل من اللجوء إلى ميدو وأمثاله!» واضطررت لموافقته، وانصرف.
كان زردق كثير الزيارة في تلك الأيام، وكنت أضطر إلى تسخين ماء بالوابور الجاز (بريموس) في صفيحة كاملة للاستحمام كل يوم تقريبا، ولاحظت جدتي ذلك فنادتني وقالت: «إنت كبرت يا محمد؟» ونظرت في حيرة لا أدري ماذا أقول. ربما كانت تقصد زيارة زردق؟ ولكنني آخر من زاره في الفصل! ولم يكن يبدو أن ذلك شيء مهم. وصممت أن أسأل بعض العالمين ببواطن الأمور في المسألة فقالوا لي إن عبد القادر البنا هو الحجة، فذهبت إليه، وكانت لديه وسيلة خاصة في الإقناع، وهي أسلوب «قدر» - ومعناها «فلنفترض» - وشرحها هو أنه يطرح سؤالا ردا على سؤال السائل يبدأ ب «قدر»، فيضع افتراضا بعد افتراض حتى يصل إلى النتيجة المرجوة، وهو عادة يفترض أسوأ الفروض ثم ينتهي منها إلى حال يطمئن معها بال السائل. وهكذا مضى يلعب هذه اللعبة معي حتى طابت نفسي واقتنعت بأنني لا أعصي الله، وأن «الكردشة» مستحبة لتجنب زيارة زردق ليلا، والاضطرار إلى الاستحمام في الصباح أمام الجميع، مما يمنع الحرج ويجنب الإنسان المعاصي.
وكنت أقابل زملائي الذين أحسوا بأنني هجرت «الإخوان» ولم أعد أزور الشعبة إطلاقا، فانتهزوا فرصة صلاة العصر ذات يوم في جامع المحلي، ودعوني إلى التمشية معهم على شاطئ النيل، وناقشنا موضوع الساعة، ألا وهو خروج الملك وإعلان الجمهورية، والتغيرات المرتقبة في الحكومة، وامتد بنا الحديث، ثم تشعب إلى دور الإخوان في الحكم، وعندها قال عبد المنعم شتا: «الوزارة في جيبي!» ولم أفهم. فأوضح قائلا إنه يعني أسماء الوزراء في الوزارة الجديدة؛ فكلهم من الإخوان، وإن القوة الحقيقية في يدي كمال الدين حسين، وإنه لن يلبث حتى يتولى الحكم ويعزل محمد نجيب، وازداد حماس الشلة لخطط الثورة، مؤكدين أن الحكم سيئول لهم، وأنهم سوف يعودون بالبلد إلى أحضان الاستقامة والصلاح، بعد سنوات الفساد والانحلال. ولم ينس المتحدثون أن يوجهوا تهديدات مستترة إلى كل من عارضهم، خصوصا إلى الذين نكصوا على أعقابهم، «ومن ينكص على عقبيه فلن يضر الله شيئا».
كثيرا ما كنت أحلم أنني استشهدت في قتال الإنجليز ودخلت الجنة، وكنت كثيرا ما أرى نفسي في حالة من السعادة النورانية لا مثيل لها، فأستيقظ هانئا لأبدأ يومي سعيدا، ولكن حلمي الآن لم يعد كذلك؛ فكنت أخاف «الجماعة» وأقول في نفسي هل أعود إلى الشعبة من باب «التقية»، ثم أتردد وأقلع عما اعتزمته، وأعود للقراءة والكتابة.
وفي آخر العام، شهدت رشيد حفلا لم يسبق له مثيل؛ إذ استأجرت المدرسة مبنى السينما لتقديم حفل يتضمن مسرحيات وأغاني واسكتشات، وقد كان نجاح الحفل ساحقا؛ إذ قدمت فيه مسرحية بالإنجليزية اسمها
Dears and Devils (أعزاء وشياطين) من تأليف عصمت والي، مدرس الإنجليزية، وتصور حال مدرس خصوصي مع ثلاثة أولاد أثناء وجودهم في منزلهم، وشاركت في التمثيل فيها أنا وأخي الأصغر، وكانت من إخراج جمال السنهوري أيضا، وقدم الطلبة عروضا بالغة الطرافة؛ مما دفع الناظر إلى السماح بتقديم الحفل مرة ثانية .. وثالثة! وقرر السنهوري استنادا إلى هذا النجاح إنشاء ناد للطلبة، وكان الاشتراك فيه خمسة قروش في الشهر، واشتركنا جميعا، ثم انصرفت شخصيا عنه عندما اقتربت الامتحانات وسافرنا إلى الإسكندرية لأدائها.
كنا في رمضان، وكنت أسافر إلى الإسكندرية هذه المرة وحدي (أي دون والدي) وإن كنت مع الشلة، وأعطتني والدتي جنيهين للإنفاق أسبوعا على كل شيء . وركبنا التاكسي إلى الإسكندرية، ووصلنا إلى «محطة مصر» وهي محطة السكك الحديدية الموصلة إلى «مصر» أي القاهرة، وكان معنا الشيخ أحمد البحة، رحمه الله، وكان يدرس في المعهد الديني (التابع للأزهر) في رأس التين، وتجولنا بين الفنادق فوجدنا أن أحدها واسمه «لوكاندة النيل» يطالب بعشرة قروش في الليلة الواحدة، وضربنا كفا بكف عجبا ودهشة من الجشع، فقلنا نبحث في فنادق أطراف المدينة؛ لعلها أقل تكلفة، ولكن أحمد البحة عرض علينا قضاء الفترة كلها في المعهد؛ فالطلبة المقيمون سافروا لقضاء رمضان مع أهلهم في الريف، وعنابر الإقامة خالية. ووافقنا. وعند الإفطار خرجنا لتناول الإفطار في مطعم قريب (فول وفلافل) ودفع كل منا قرشا ونصفا، وطلبنا الشاي (قرش صاغ)، ثم عدنا إلى المعهد ساخطين على هذا الترتيب، واقترح الشيخ عزت شحاتة أن نعتمد على أنفسنا ونشتري طعامنا، وقال سوف أنفق وأحاسبكم، وفعلا، أيقظنا لتناول السحور، وكان سحورا فاخرا لم يكلف كل واحد سوى قرش واحد.
وانتهينا من الامتحان، فجمع عزت قرشا من كل واحد واختفى ساعة ثم عاد يحمل سردينا مشويا وكوما من الأرغفة الساخنة، ولوازم السلطة وكيسا من الشاي وقمعا من السكر، وقال لنا إنه اشترى أقة سردين وشواها في الفرن، وإنه اكتشف مخبزا يبيع كل ثلاثة أرغفة بقرش، وهكذا قضينا الأيام الباقية، وعندما عدنا إلى رشيد، كنت قد أنفقت ستة وأربعين قرشا، وقدمت باقي المبلغ إلى والدتي وذكرتها بوعدها بأن تهبني ما تبقى، وقالت إنها ستمنحني أربعة قروش فورا، وتدخر الباقي «للزمن».
صفحه نامشخص