واحات العمر: سیره ذاتیه: الجزء الأول
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرها
كانت الخطابات المتبادلة بيني وبين نهاد خطيبتي شريان حياة، وحبلا يصلني بالواقع الذي كنت أعرف أنني سأعود إليه، ورباطا متينا يشدني إلى مصر، حبي الأول والأخير، ولم تكن نهاد تبخل علي بالأخبار، وإن كانت في تلك الأيام تعمل بجد للانتهاء من دراستها الجامعية والمحافظة على الامتياز والتفوق ودرجة الشرف، ولم يكن لدي من الأنباء ما أنقله إليها؛ فحياتي على طرافتها رتيبة، وما إن انتهت الامتحانات حتى اتفقنا على عقد القران بالتوكيل، فأرسلت توكيلا إلى أخي مصطفى (موثقا من القنصلية المصرية) حتى يوقع العقد نيابة عني (وتم ذلك فعلا يوم 17 يوليو 1966م) وبدأت نهاد في القيام بإجراءات السفر، وكانت شاقة مضنية، وأعلمت الجميع بالخبر، وطلبت من مديرة بيت الطلاب غرفة كبيرة استعدادا لقدوم نهاد، وكانت اللوائح هنا لا تسمح بمكوث الضيف (الطالب) أكثر من عامين، فعلمت أننا لا بد أن ننتقل إلى شقة خاصة بنا مهما بلغ إيجارها.
كنت كثيرا ما أتأمل ترددي بين العالمين اللذين أعيش فيهما، وأعجب للمفارقات التي كتب علي أن أحيا فيها ليل نهار؛ فعملي في مكتب بحوث المستمعين يتيح لي معرفة ثمينة بأفكار مرسلي الخطابات، ومعظمهم من شمال أفريقيا، وهي أفكار أمة عربية ما تزال تتلمس طريق النهضة الذي أتلمسه، وتتأرجح مثلما أتأرجح بين الماضي العربي السحيق الذي يعيش في الوجدان حاضرا ومستقبلا، وبين الحاضر الغربي الذي نحاول التكيف معه دون مساس بذلك الماضي، وكانت تلك الخطابات من النوافذ النادرة على ذلك الفكر، وكنت أقرأ هذه الخطابات وأختزن في ذاكرتي ما أراه ذا دلالة خاصة، أو أنقل في كراسة لدي بعض ما يرد فيها من طرائف، حتى ولو لم تكن من الخطابات التي تترجم أو تلخص.
واستطعت أن أصنع خطوطا عامة للفوارق التي بدأت تتضح بين الدارسين العرب في لندن، وبين البيئة الإنجليزية التي تعتبر غريبة عن تقاليدهم إلى حد التناقض الصارخ، وقد اصطدمت بهذه التقاليد مرتين في الشهور الأولى من عملي في الكلية؛ إذ كان من بين الذين يتناولون طعام العشاء كل يوم دارس اسمه بيتر، له لحية منمقة، وأسلوب خاص في تناول الطعام، وكثيرا ما كنا نتجاذب أطراف الحديث أثناء العشاء، على مدى أربعة أشهر كاملة، حتى أصبحت أتصور أننا غدونا أصدقاء أو معارف على الأقل، وذات يوم شاهدته في فناء الكلية مقبلا نحوي فابتسمت له وحييته ولكنه لم يرد الابتسام ولم يرد التحية ومضى في طريقه كأنني غير موجود، وفي المرة الثانية قابلت مسز تيلوتسون رئيسة القسم فابتسمت لها وحييتها وكان رد الفعل مثل رد فعل بيتر! ترى ما عسى أن يقول العربي إذا فعل ذلك عربي مثله؟ إننا لا نقول إن لهم أعذارهم فهم مشغولون، ولا نقول إن لكل شيء وقتا مخصصا لا يتعداه، فالعمل لدينا يسير أو يتوقف دون أن نحاول وضع نظم زمنية تحكمه، وزملائي قد يطرقون بابي في أي لحظة بل ويدخلون (فالباب مفتوح دائما) سواء كنت مشغولا أو غير مشغول! وقد تعلمت من الإنجليز في تلك الأيام أن أحتفظ بمذكرة (مفكرة يومية
Diary ) أدون فيها المواعيد مثل أوقات الذهاب للمسرح ومقابلة المشرف ومواعيد العمل في ترجمة الخطابات، وأسجل فيها بعض ملاحظاتي، فكانت خير عون لي على التكيف مع حياة العمل الدائب في لندن.
حديقة هايد بارك في الشتاء وقد كساها الثلج شتاء 1966م.
وكان من بين رواد غرفة الأساتذة في الكلية شاب يبدو في أواخر الثلاثينيات اسمه كونراد رسل، كان من أسرة رسل الأرستقراطية، وكان من حولي يقولون إنه ابن برتراند رسل، ولكنني لم أكن ألتفت إلى حسبه ونسبه، بل شدني إليه أسلوبه في الحديث وطريقته المنطقية في صوغ الحجج وبسطها، وكان يتكلم بلهجة المثقفين الخاصة، ولا غرو فقد كان يعمل أستاذا للتاريخ الحديث، وكانت له زوجة شابة تأتي مع طفلها الصغير (الذي لم يتجاوز عامه الثاني) لتناول الغداء معه في الكلية، وقد وجدت نفسي ذات يوم طرفا في مناقشة سياسية لم أكن أتوقعها ولم أكن أريدها، وذلك عندما دخلت إلى غرفتنا بعد الغداء فوجدت كونراد يحادث طالبا هنديا من طائفة السيخ اسمه سوخديف (أو سوخديب) حول مشكلات عهد الاستقلال في الدول التي تنتمي إلى ما أطلق عليه ديجول تعبير العالم الثالث، وكان ديجول قد فاز برئاسة الجمهورية الفرنسية من جديد في ديسمبر 1965م، وفاجأنا بعبارة
le monde tertieme
التي لم تكن ذات معنى محدد آنذاك؛ فنحن في مصر نتحدث عن دول عدم الانحياز، باعتبارها تمثل كتلة لا تنتمي للشرق ولا للغرب، ولكننا لا نعرف ما يقصده ديجول بالعالم الثالث، وعندما دخلت الغرفة كان النقاش قد تركز في مشكلة كشمير، وهي الإقليم المتنازع عليه بين الهند وباكستان خصوصا بعد الحرب التي اندلعت بينهما في سبتمبر 1965م، وكانت الصين تؤيد باكستان، وأمريكا تؤيدها أيضا! وكان سوخديف مهموما بعد زيارة هيوبرت همفري نائب الرئيس الأمريكي في فبراير 1966م إلى باكستان لإعلان استئناف مساعدتها، والآن أصبحت إنديرا غاندي رئيسة للوزراء في الهند ولم تعد تتحدث في رأي سوخديف إلا عن السلام!
ولا أدري السبب الذي جعل سوخديف يتصور أنني سوف أؤيد موقف الهند من قضية كشمير، والأرجح أنه كان مؤمنا بعبد الناصر وكان يرى في حركة عدم الانحياز الوليدة حلفا شرقيا بين الهند ومصر وإندونيسيا وبعض الدول الأفريقية، ولم يكن هذا الموضوع يشغلني البتة؛ فالمعاني المطلقة التي كنا نؤمن بها في شبابنا سرعان ما تصبح نسبية، ومعنى «الوحدة» مثلا باعتبارها مثلا أعلى قد يتغير بتغير الظروف، وكنت أسمع عن سقوط زعماء وصعود زعماء (سقوط بن بيلا في الجزائر ونكروما في غانا وصعود كازافوبو في الكونغو ... إلخ) فأمر على هذه الأنباء مر الكرام؛ لأن انشغالي بالأدب واللغة أدى إلى انشغالي بالناس - بالبشر الذين يعملون ويتعلمون هنا ثم يفصلون تماما بين حياتهم وحياة الآخرين، وكان كونراد رسل أصدق نموذج لهؤلاء.
وعندما دعاني سوخديف للمشاركة في النقاش اعتذرت بأنني لا أعرف شيئا عن المشكلة، وأن لنا في الشرق الأوسط (أو في الوطن العربي) هموما من لون آخر، وهنا قال كونراد بلهجة الواثق مما يقول: «ولكن إسرائيل مشكلة مماثلة، وهي مشكلة لا تزول بتجاهلها.» وأكدت له أنني لا أتجاهلها، ولكنني أومن بأن العرب يسعون لاحتوائها (أي لمنعها من التوسع) وأن النهضة العربية كفيلة بأن تذيب الكيان العنصري حتى تصبح فلسطين مكانا يجمع بين العرب واليهود، مع غلبة الثقافة العربية آخر الأمر؛ فبذا يقضي مسار التاريخ، وقلت إنني أتصور عودة الشعب الفلسطيني إلى دياره حين يختفي التعصب العرقي اليهودي، ويتحول المثل الأعلى من الغلبة العسكرية إلى الارتقاء بمستوى معيشة الناس الذين ما يزالون يعانون من الفقر والجهل والمرض.
صفحه نامشخص