واحات العمر: سیره ذاتیه: الجزء الأول
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرها
وبدت لي السرقة واضحة فسألت والدي فقال لي إنه يسمى تضمينا؛ فإن البحر الذي اختاره يماثل بحر شوقي (الكامل)، وهو الذي أتى إليه بالتعبير نفسه، وهذا من المسموح به في الشعر ! والواقع أن القصيدة كان الوالد قد كتبها في «مدح» الإمام حسن البنا قبل اغتياله؛ لأنه يخرج من الغزل إلى القول:
فسألتهن لم البكاء أجبنني
خوفا على الإسلام أن يتقهقرا
فأجبتهن الله أيد دينه
وأقام للإسلام فيه غضنفرا
هو ذلك البنا أساس جهادنا
منه الإله النفس والمال اشترى!
وكانت تلك آنذاك إشارة إلى شرعية جمعية الإخوان، ولكنني لا أذكر قط أن والدي كان يذهب إلى الشعبة (أي المقر المحلي للجمعية)، أو أنه كان يصادق أحدا من رجالها. ولم أفهم إلا بعد وقت طويل سبب عزوف والدي عن المشاركة في أي عمل يقتضي الإلزام والالتزام؛ إذ كان يرى ذلك ماسا بحريته، والحرية لديه هي الحياة نفسها. وكان يرفض الحديث في الموضوع، لكنني ألححت في السؤال، فقال لي إن حسن البنا «رجل طيب» ولم يزد.
وخرجت ذات يوم لصلاة الجمعة، وبعد الصلاة لم أشأ أن أعود إلى المنزل، بل سرت في شارع محرم بك حتى آخره، ودخلت في شارع الرصافة، الذي كان هادئا تظلله الأشجار، ثم عرجت على كوبري محرم بك، ومنه إلى حدائق الشلالات، وساعة الزهور، وعندها سمعت لأول مرة ما يسمى بالصوت الداخلي، أي صوت الأفكار، وهو يتحدث بالعربية الفصحى. كان الحديث أمشاجا مختلطة مما قرأته وسمعته، وقلت في نفسي إن هذا الصوت إذا كتب أصبح تأليفا، ولكنه نثر، أما لو كان نظما فربما أصبح شعرا، وعدت أدراجي مسرعا إذ كان الجو ينذر بالمطر وقد عقدت العزم على كتابة شيء ما، تمنيت أن يكون شعرا، دون جدوى. كان الصوت يتكلم بنبرة خطابية تبدو مضحكة على الورق، وكانت الأفكار هزيلة، فأيقنت أن الفصحى وحدها لا تصنع كاتبا.
لم أكن أدري أن ما انتابني هو صوت المراهق الذي دخل عامه الثاني عشر وأصبح يشعر بذاته لا أكثر، كنت أحس يوما بعد يوم بأنني فريد يختلف عن الآخرين، مثلما يحس كل مراهق، وأنه يريد أن يثبت ذلك بطريقة ما، ولم يكن أمامي إلا الشعر! ولكن الشعر لا يأتي بسهولة، وإن أمكن النظم فهل تأتي القوافي؟ كان الذي يشغلني أولا هو النظم، وكنت أقرأ أبياتا أظنها مكسورة وهي موزونة لأنني كنت لا أعرف شيئا عن الزحافات والعلل، ولم أقرأ ما يكفي من الشعر العربي حتى أعتمد على أذني وحدها، وكنت قد انتهيت لتوي من قراءة كتابين عن حياة نابليون؛ الأول من تأليف ستيفان زفايج، والثاني من تأليف حسن جلال، وهو مستشار في القضاء، يكتب كثيرا في المجلات السيارة. ولذلك فعندما قرأت قصيدة شوقي ومطلعها:
صفحه نامشخص