وفي أبيات أخرى استمرت هذه النار تأكل الحجارة والجبال وتسيل سيلا ذريعا في واد يكون طوله أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف وهي تجري على وجه الأرض والصخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك فإذا جمد صار أسود بعد أن كان أحمر ولم يزل يجتمع من هذه الحجارة المذابة في آخر الوادي حتى منتهى الحرة من جهة الشمال حتى قطعت في وادي الشظاة إلى جهة جبل وعيرة فسدت الوادي المذكور بسد عظيم من الحجر المسبوك بالنار كسد ذي القرنين يعجز عن وصفه الواصف ولا مسلك لإنسان فيه ولا دابة فانقطع وادي الشظاة بسببه وصار السيل إذا سال ينحبس خلف السد حتى يصير بحرا مد البصر عرضا وطولا كأنه أرض مصر عند زيادة النيل فانخرق هذا السد من تحته في سنة تسعين وستمائة لتكاثر الماء من خلف فجرى في الوادي المذكور سنتين كاملتين أما السنة الأولى فكان ملء ما بين جانبي الوادي وأما الثانية فدون ذلك ثم انخرق مرة أخرى في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وكان ذلك بعد تواتر الأمطار العظيمة في الحجاز فكثر الماء وعلا في جانب السد ومن دونه مما يلي جبل وعيرة وتلك النواحي وجاء سيل طام لا يوصف ومجراه على مشهد سيدنا حمزة رضي الله عنه وحفر واديا آخر قبلي الوادي والمشهد المذكور قبلي مشهد عينين وبقي المشهد وجبل عينين في وسط السيل نحو أربعة أشهر لا يقدر أحد على الوصول إليها إلا بمشقة وكان أهل المدينة يقفون خارج باب البقيع على التل الذي هناك فيشاهدونه ويسمعون خريرا توجل القلوب دونه ثم استقر الواديين القبلي والشمالي قريبا من سنة وكشف عن عين قديمة قبلي الوادي جددها الأمير ودي وهي الآن دامرة ولو وجدت تحصل لأهل المدينة الشريفة بها غاية النفع. ومن العجائب أن السنة التي ظهرت فيها هذه النار واحترق المسجد زادت دجلة زيادة عظيمة فغرق أكثر أهل بغداد وتهدمت دار الوزير وكان ذلك إنذارا له أيضا لما سيأتي من عظيم جرمه وتهدمت أيضا دور كثيرة وأشرف الناس على الهلاك وسارت السفن في أزقة بغداد، وقد نظم ذلك بعضهم وقد أصلحه أبو شامة منبها على أن الأمرين في سنة بقوله:
سبحان من أصبحت مشيئته......جارية في الورى بمقدار
في سنة أغرق العراق وقد......أحرق أرض الحجاز بالنار
...ثم في أول السنة التي تلي هذه السنة وقعت الطامة الكبرى وهي أخذ التتار لبغداد وقتل الخليفة المستعصم على ما سيأتي بيانه فسبحان الملك العظيم الفعال لما يريد المبدع في عجائب مخلوقاته.
ومن عجائب هذه النار ما ذكره الشيخ جمال الدين المطري قال: أخبرني علم الدين سنجر العزي من عتقاء الأمير عز الدين منيف بن شيحة صاحب المدينة، قال: أرسلني عز الدين بعد ظهور هذه النار بأيام ومعي شخص من العرب وقال لنا ونحن فارسان أقربا من هذه النار وانظرا هل يقدر أحد على القرب منها فإن الناس هابوها لعظمها فخرجت أنا وصاحبي إلى أن قربنا منها فلم نجدها فنزلت عن فرسي وسرت إلى أن وصلت إليها وهي تأكل الصخر والحجر فأخذت سهما من كنانتي ومددت يدي إلى أن وصل النصل إليها فلم أجد لذلك ألما ولا حرا فعرق النصل ولم يحترق العود فأدرت السهم وأدخلت فيها الريش ولم يؤثر في العود.
صفحه ۱۴۷