والتراث والتجديد يعبران عن موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر، إسقاطا من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث لما كان التراث القديم مكونا رئيسيا في عقليتنا المعاصرة، ومن ثم يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي، ورؤية الماضي في الحاضر، فالتراث والتجديد يؤسسان معا علما جديدا هو وصف للحاضر وكأنه ماضي يتحرك، ووصف للماضي على أنه حاضر معاش، خاصة في بيئة كتلك التي نعيشها حيث الحضارة فيها ما زالت قيمة، وحيث الموروث ما زال مقبولا، فالحديث عن القديم يمكن من رؤية العصر فيه، وكلما أوغل الباحث في القديم وفك رموزه، وحل طلاسمه، أمكن رؤية العصر، والقضاء على المعوقات في القديم إلى الأبد، وإبراز مواطن القوة والأصالة لتأسيس نهضتنا المعاصرة، ولما كان التراث يشير إلى الماضي، والتجديد يشير إلى الحاضر فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان، وربط الماضي بالحاضر، وإيجاد وحدة التاريخ، فكثيرا ما سمعنا في عصرنا هذا عن انفصال الماضي عن الحاضر أو عن قطع جذور الحاضر من الماضي أو عن ماضي عظيم ولى ولن يعود أو عن حاضر أصيل جديد عبقري المثال لا أصول له إلا من ذاته، ربط الماضي بالحاضر إذن ضرورة ملحة حتى لا يشعر الإنسان بغربة عن الماضي أو بغربة عن الحاضر أو بوضع طبقة من الجديد فوق طبقة من القديم مما ينشأ عنه في كثير من الأحيان لفظ القديم للجديد، ورجوع للقديم كرفض العضو للجسم الغريب،
4
فهي إذن مشكلة واقعة تبدأ بمعطى واقعي، وهي كيف يمكن لشعب من الشعوب تحقيق تجانسه في الزمان والبحث عن مسار طبيعي لتطوره، والإبقاء على الاستمرارية في تاريخه، قضية التراث والتجديد إذن هي قضية التجانس الحضاري لشعب من الشعوب، فلا يعني انتقال شعب ما من مرحلة إلى أخرى حدوث قطع أو انفصال حضاري بل يعني استمرار الحضارة ولكن على أساس جديد من احتياجات العصر،
5
قضية التراث والتجديد هي إذن الكفيلة بإظهار البعد التاريخي في وجداننا المعاصر، واكتشاف جذورنا في القديم حتى يمكننا الإجابة على سؤال: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وحتى نعود إلى تطورنا الحضاري الطبيعي، فتحل مشكلة الجمود والتوقف من ناحية، وتحل مسألة التقليد للآخرين والتبعية لهم من ناحية أخرى.
التراث والتجديد يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ، وهو حاجة ملحة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر، كما يكشفان عن قضية «البحث عن الهوية» عن طريق الغوص في الحاضر إجابة على سؤال: من نحن؟ واكتشاف أن الحاضر ما هو إلا تراكمات للماضي بالإضافة إلى واقع جديد هو نفسه نتيجة لضياع الجهاد القديم، والتخلف قد يكون لضياع النظرة العلمية الحضارية القديمة، والفقر قد يكون نتيجة لغياب النظم الاقتصادية القديمة، وإذا كان البحث عن الهوية يأتي عن طريق تحديد الصلة بين الأنا والآخر فإن عملية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بتحقيق ذلك؛ لأنها اكتشاف الأنا وتأصيلها وتحريرها من سيطرة الثقافات الغازية، مناهجها، وتصوراتها، ومذاهبها، ونظمها الفكرية، وتساعد أيضا على مواجهة التحديات الحضارية والغزوات الثقافية التي نحن ضحية لها في هذا القرن، وتنقلنا من وضع التحصيل والنقل إلى وضع النقد والخلق والابتكار.
6 (1-2) إعادة الاختيار بين البدائل
قضية «التراث والتجديد» هي أيضا قضية إعادة كل الاحتمالات في المسائل المطروحة، وإعادة الاختيار طبقا لحاجات العصر، فلم يعد الدفاع عن التوحيد بالطريقة القديمة مفيدا ولا مطلوبا، فكلنا موجدون منزهون، ولكن الدفاع عن التوحيد يأتي عن طريق ربطه بالأرض، وهي أزمتنا المعاصرة.
فالتجسيم، وهو الاختيار القديم المرفوض، قد يثير الأذهان حاليا في الربط بين الله وسيناء، بين التوحيد وفلسطين، فالفصل القديم بين الخالق والمخلوق كان دفاعا عن الخالق ضد ثقافات المخلوق القديمة، ولكن الحال قد تغير الآن، وأصبحت مأساتنا هي مكاسبنا القديمة، الفصل بين الخالق والمخلوق، ومطلبنا هو ما هاجمناه قديما، الربط بين الله والعالم، لقد ساد الاختيار الأشعري أكثر من عشرة قرون، وقد تكون هذه السيادة إحدى معوقات العصر لأنها تعطي الأولوية لله في الفعل وفي العلم وفي الحكم وفي التقييم في حين أن وجداننا المعاصر يعاني من ضياع أخذ زمام المبادرة منه باسم الله مرة، وباسم السلطان مرة أخرى، ومن ثم فالاختيار البديل، الاختيار الاعتزالي، الذي لم يسد لسوء الحظ إلا قرنا أو قرنين من الزمان، بلغت الحضارة الإسلامية فيهما الذروة، هذا الاختيار قد يكون أكثر تعبيرا عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه، ما رفضناه قديما قد نقبله حديثا، وما قبلناه قديما قد نرفضه حديثا، وما قبلناه قديما قد نرفضه حديثا ، فكل الاحتمالات أمامنا متساوية كما كان الحال عند القدماء، فقبلوا منها ما عبر عن حاجات عصرهم، وخطؤنا نحن أننا نأخذ نفس الاختيار بالرغم من تغير حاجات العصر، فقد رفض المذهب الطبيعي قديما لأنه كان خطرا على التوحيد وفاعليته،
7
صفحه نامشخص