وإذا كانت البداية العلمية للتغيير تعني البدء بالواقع واعتباره هو المصدر الأول والأخير لكل فكر فإن القيم القديمة التي حواها التراث جزء من هذا الواقع؛ فنحن مثلا نئن تحت الإيمان بالقضاء والقدر الموروث من أهل السلف، ونفسر هزيمتنا بأنه «لا يغني حذر من قدر»، والذي حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة الخف من حدته، كما نرهق عقولنا بالتشبيه والتشخيص سواء في الأوليات - أي العقليات - مثل وجود حقيقة أولى أو أفكار عامة أو في الأخرويات فيما يتعلق بنهاية العالم، ونجد في ذلك عزاء عن عدم الوعي بأنفسنا إما من حيث النشأة أو من حيث المصير. كما أننا نلحق عقولنا بالنصوص، ونقع في التأويلات، ونقطع الصلة بين العقل والتحليل المباشر للواقع باعتباره مصدرا للنص، ونقبل الإمام بالتعيين، ونطيع له خانعين، ضعفاء أو خائفين، ثم ننتقي من التراث ما يدعم هذا الوضع. كما أننا نقف أمام الطبيعة سالبين عنها استقلالها، وعادمين وجودها، وقاضين على قوانينها، ونصفها بالشر والوبال، وندعو للخلاص منها، ومتهمين كل اتجاه طبيعي بالمادية والإلحاد، وحاكمين عليه بالانحلال والسفور دون دراية منا بأن هذا الموقف يعبر عن تطهير أو حرمان أو نفاق. كما أننا نقطع وجودنا إلى جزأين؛ واحد نقذف به تحت التراب والآخر نرفعه إلى عنان السماء، متطهرين أو عاجزين أو منافقين، ومعاقبين البدن وهو لم يحصل على حقه منا، ومزكين النفس وهي عاجزة عن فعل شيء، ذاك بعض الموروث النفسي القديم من علم أصول الدين، أو يسمى بعلم التوحيد.
فإذا أخذنا موروثا نفسيا ثانيا وجدنا أننا ما زلنا نعيش التصور الثنائي للعالم كما ورثناه من الكندي، وآثار ذلك على وحدة السلوك وما يترتب عنه من تطهير وتبرير للنفس، ونفاق وتغطية وتعمية وازدواجية، كما أننا نسلك طبقا للتصور الهرمي للعالم الذي ورثناه من الفارابي خاصة في تصور مجتمعنا ومؤسساته التي يقوم كل منها على الرئيس الذي هو وحده الملهم والقائد والمعلم والكامل والمقدس والمعبود، ثم تقل مراتب الشرف والكمال حتى نصل إلى المرءوسين الذين عليهم إما الطاعة والولاء وإما السجن والعقاب. وإذا كنا نخلط بين العقل والوجدان في فكرنا المعاصر، فنخطب ونظن أننا نفكر، وننفعل ونظن أننا نفعل فذلك لأن العقل في التراث القديم وما ورثناه من السلف كانت مهمته تبرير الدين على الأقل في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة، وأن العقل لم يستقل على الإطلاق ولم يوجه نحو الواقع وهو طرفه الأصيل إلا في علم أصول الفقه الذي انتهى أيضا إلى الثبات وتحجير الأصول وتغليبها على الواقع حتى إنه لم يبق إلا التقليد.
وإن كنا نقاسي في عالمنا المعاصر من إعطاء الأولوية للكليات النظرية على الكليات العملية، واعتبار الجامعات أعلى من المعاهد العليا والمدارس الفنية المتخصصة، وأن الذي يعمل بعقله أفضل قيمة وأعلى شرفا وأزهر منصبا من الذي يعمل بيده، وأن الموظف أفضل من العامل، والمثقف أعلى من الفلاح، فإن ذلك كله قد يرجع إلى إعطاء الأولوية في تراثنا القديم للفضائل النظرية على الفضائل العملية، واعتبار التأمل قمة الفضائل النظرية. وإذا كنا نبغي تغيير واقعنا بين يوم وليلة، وطرد المحتل في التو واللحظة فقد يرجع ذلك إلى نقص في إحساسنا بالتاريخ لغياب البعد التاريخي في تراثنا القديم الذي غرق في البعد الرأسي واضعا الإنسان في طرف مقابل مع الله دون وضعه في التاريخ وفي طرف مقابل مع الجماهير، بل إن علم أصول الفقه الذي حوى بوادر لإمكانية قيام فلسفة في التاريخ من خلال الإجماع والاجتهاد قد انطوى على نفسه وغلب الكتاب والسنة، ولحق بالبعد الرأسي مع علم أصول الدين وعلوم الحكمة وعلوم التصوف.
2
وإذا كان الإنسان بيننا يخرج من منزله في الصباح ولا يعود في المساء، ولا يعلم أحد عنه شيئا، وإذا كان الإنسان يحشر في المركبات وفي المكاتب وفي الطرقات، وإذا كنا نبني ونعمر ثم ينهدم البناء ويخرب العمار فإن ذلك قد يرجع إلى غياب الإنسان كبعد مستقل في تراثنا القديم وحصاره بين الإلهيات والطبيعيات في علوم الحكمة، وابتلاعه في علم التوحيد، وفنائه في علوم التصوف، ومحقه في علوم التشريع؛ فالأفكار إذن ليست مجرد آراء فارغة أو تصورات مجردة بل هي أنماط حياة، ومناهج سلوك، فنحن نعمل بالكندي في كل يوم، ونتنفس الفارابي في كل لحظة، ونرى ابن سينا في كل الطرقات؛ وبالتالي يكون تراثنا القديم حيا يرزق يوجه حياتنا اليومية ونحن نظن أننا نبحث عن الرزق، ونلهث وراء قوتنا اليومي!
والأمثلة كثيرة أيضا من تراثنا الصوفي: فكما نشأ هذا التراث كمقاومة سلبية لانحرافات في الحياة أصبح هو ذاته تقويما لهذا الانحراف بانحراف آخر، ودفاعا بالرجوع إلى الوراء، فكل القيم الصوفية السلبية التي تدعو إلى الفقر والخوف والجوع والصبر والتوكل والرضا والقناعة والتسليم كلها دفاع عن النفس، ولكنه دفاع العاجز الضعيف الذي لا يرى فضائله إلا في أنه صاحب الحق الضائع، هذه القيم ما زالت تفعل في سلوك الجماهير، يذكرها في معازيه، ويعلق على جدران محاله العامة «الصبر مفتاح الفرج»، «توكلت على الله»، وتغنى المواويل الشعبية وكلها يدور حول فضائل الصبر، والتحليلات الصوفية لعالم القلب ولأنواع المعرفة الإلهية يأس من العقل ومن تحليل الواقع، وإيثار لعلم آخر حيث يغيب العلم، ولمعرفة حيث تشح المعرفة، وما زلنا نأخذ بالعلم اللدني، ونقيم عليه حياتنا، ونطمع في الكشف وفي رفع الحجاب إلى درجة السفور، وأخيرا تخيلنا الغاية وقد تحققت بالفعل، والعالم وقد أصبح واحدا، والحقيقة وقد صارت واقعة، ورأينا وحدة الشهود رؤيا ذاتية خالصة تقرب من الوهم، وتحققنا بوحدة الوجود عن طريق الخيال، ومغرقين في عالم التمنيات، وكل ذلك لا يزيد على مجرد انفعال، وإحساس ذاتي بالانتصار، وشتان ما بين الإحساس والواقع، وفرق بين الانفعال الذاتي والحقيقة الموضوعية، فالقيم السلبية تسلبنا المقاومة الفعلية، ويقضي الحب على الصراع بين الأضداد، ويهدم العقل تحت وطأة الانفعال، يحول الواقع إلى مثال، وهو ما زال الواقع المضني.
والأمثلة كثيرة أيضا مما ورثناه من فقهنا القديم، إذ تتشعب المناقشات النظرية التي لا تغير من الواقع شيئا، ويشتد الجدل الذي لا يدل إلا على احتراف أو تعصب أو ادعاء، وكأن المعركة الحقيقية هي معركة الفكر مع نفسه كما هو الحال في فقهنا الافتراضي القديم، تكثر الأحاديث حول النظريات وتتصارع الآراء، والواقع لم يتغير، وتظهر مهارة المفكرين والكتاب في عبقرية الصياغات، وتتناثر الشعارات عن العدل والظلم سائد، وتكثر الخطب عن الفضيلة، والرذيلة هي الأساس، فواقعنا المنهار وجد في تراثنا القديم ما يبرر له انهياره ويؤكده، وكأننا لا نختار من القديم إلا ما نريد ونبغي، وإذا طبقنا الإسلام، وأردنا إعادة الدولة الإسلامية بدأنا بقانون العقوبات، وكأن الغاية هي العقوبة وليست الوسيلة، وكأن المسلم يعاقب وهو لا يعيش في دولة إسلامية، ولم ينشأ نشأة إسلامية، نطلب منه واجباته قبل أن تعطى إليه حقوقه، وإذا أردنا تطبيق الإسلام بدأنا بالمحرمات، ونادينا بتحريم الخمور، أما الرقص الشرقي، والعري، والأغاني الفاضحة، والمسارح العابثة، وأفلام الجنس فنتمتع بها، وكأن الإسلام أساسا هو دولة المحرمات دون أن نبدأ بالمبيحات حتى ينعم الناس بالعالم ويبتهجوا بالطبيعة، وإذا طبقنا الإسلام بدأنا بقانون الأحوال الشخصية، الزواج والطلاق، والخطوبة والمهر، والخلوة والمحارم، أما النظام الاقتصادي السياسي الإسلامي فنطويه إلى ما وراء ظهورنا ونترك للحاكم أن يفعل ما يشاء، ونرضى بأي حكم، ونطيع أي نظام، وكأن الدولة الإسلامية هي الأسرة، وكأن المسلم هو رب الأسرة وليس المواطن الذي يعيش في دولة.
التراث إذن ما زال قيمة حية في وجدان العصر يمكن أن يؤثر فيهم، ويكون باعثا على السلوك، تجديد التراث إذن ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع، فالتراث جزء من مكونات الواقع وليس دفاعا عن موروث قديم، التراث حي يفعل في الناس ويوجه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التغير الاجتماعي، تجديد التراث هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير بدلا من وجود التراث كمصدر لطاقة مختزنة، لا تستعمل أو تصرف بطرق غير سوية على دفعات عشوائية في سلوك قائم على التعصب أو الجهل أو الحمية الدينية والإيمان الأعمى، أو يستعملها أنصار تثبيت الأوضاع القائمة لحسابهم الخاص من أجل الدفاع عن الثبات الاجتماعي، وقد لجأ الثوريون المعاصرون إلى المأثورات الشعبية وإلى تراث الجماعة الممثل في أمثلتها العامية ودياناتها القديمة من أجل تجنيد الجماهير، وصب طاقتها في واقعها المعاصر،
3
تجديد التراث هو حل لطلاسم القديم وللعقد الموروثة، وقضاء على معوقات التطور والتنمية والتمهيد لكل تغيير جذري للواقع، فهو عمل لا بد للثوري من أن يقوم به وإلا ظل القديم شبحا ماثلا أمام الأعين يمثل أرواح الأسلاف التي تبعث من جديد، تتربص بالأبناء شرا إذا هم خرجوا من جبتهم، ورفضوا سلطانهم، ولم يدينوا لهم بالطاعة والولاء أو يقوم أنصار المحافظة والإبقاء على الأوضاع القائمة باستغلال هذا المخزون لصالحهم، وأخذ الجماهير من جانبهم، وقطع خط الرجعة على أنصار التغيير والتقدم، وسحب البساط من تحت أرجلهم.
صفحه نامشخص