أما في الميدان الإداري فإنه - مع ضمان الحالة التي اكتسبها الموظفون الفرنسيون الذين هم في خدمة الدولة التونسية - يتحتم وضع نظام للوظيفة التونسية يتلاءم مع الوضع الجديد، على أن تتعهد الحكومة التونسية من جهة أخرى، بألا تتعاقد إلا مع الفرنسيين فيما يتعلق بالأخصائيين اللازمين للبلاد التونسية وبواسطة الحكومة الفرنسية.
ولم تقتصر الوزارة التونسية على إعطاء تلك الامتيازات للموظفين الفرنسيين، بل أعربت عن نواياها الحسنة نحو الجالية الفرنسية كلها التي كانت دوما تعرقل المفاوضات حتى أصبحت أعظم مشكلة في نظر فرنسا في سبيل حل القضية التونسية حلا عادلا يماشي القانون والتعهدات الفرنسية والمعاهدات نفسها ... فإرضاء لها وحسما لما يمكن أن تكونه من شغب أرادت الوزارة التونسية أن تعطيها الضمانات الكافية الكافلة لها ولحقوقها، بل سارت خطوة أوسع إذ عرضت على فرنسا عقد معاهدة صداقة جديدة فقالت: «وبعد أن تسترجع تونس سيادتها الداخلية، فإنه لا يكون لديها أي مانع من أن تعقد مع فرنسا اتفاقات للمحافظة على أمتن العلاقات بين البلدين في الميادين الثقافية والاقتصادية والاستراتيجية، كما تضمن للفرنسيين المقيمين بتونس التمتع بكامل حقوقهم المدنية وسلامة أملاكهم وأشخاصهم.»
ومرت الأيام والأسابيع والأشهر والوزارة التونسية مقيمة بباريس تنتظر رد الحكومة الفرنسية على مذكرتها، والمفاوضات معطلة، والاتصال قليل، وحامت الريب وقلق شعب تونس، وفرنسا معرضة عن كل جواب كأنها لم تتعهد بشيء لتونس، ولم تقم وزنا للأزمة التونسية، وأصبح سكوتها رفضا واضحا لمطالب تونس وتغافلا عن إرجاع حقوقها لها، وربحا للوقت ونذيرا بما يبيت الاستعمار من مؤامرات جديدة. ولما تيقن دولة محمد شنيق من أن وراء المماطلة سوء النية وخلف الصمت المفتعل نكثا للوعود الفرنسية الرسمية، أراد أن يطلع الرأي العام العالمي على موقف كل من فرنسا وتونس وأن يضع المسئولية في أعناق أصحابها فألقى بيانا في ندوة صحفية جمعها بتاريخ 12 ديسمبر 1951، واستعرض في بيانه الأطوار التي مرت بها المفاوضات كلها ثم قال: «الحكومة التونسية لزمت لحد الآن الصمت التام لكي لا تعرقل سير المحادثات.
أما الآن فإنا نرى أن الوقت قد حان لإثارة الرأي العام العالمي عن المفاوضات التي تقوم بها في باريس، وعن المسئوليات التي قد تترتب عن المأزق الذي نخشى أن تنتهي إليه العلاقات التونسية الفرنسية ...
وإذا اعتبرنا أنه في ظرف السنوات الخمس الأخيرة حصلت دول جديدة تقدر بأكثر من نصف مليار نسمة على استقلالها ومن بينها الهند والباكستان وإندونيسيا علاوة على سوريا ولبنان وجارتنا ليبيا، وجب الاعتراف بأن المطالب التونسية معتدلة غاية الاعتدال.
كما أنه من البديهي أنه مهما تكن الحجج التي يتذرع بها أنصار بقاء الحالة الراهنة، فإن أية صورة من صور الحكم لا يمكن إقرارها رغم إرادة الشعوب، وليس من المغالاة في شيء بعد سبعين سنة من محاولة جس النبض أن نطالب فرنسا مهد الحريات بسياسة حرة صريحة تجاه شعب بلغ من التطور درجة لا تقل عما بلغته شعوب أخرى تتمتع اليوم بكامل سيادتها.
ومهما تكن الظروف فإن تونس لن تتخلى عن المطالبة بحقوقها، وعن الاعتصام بالضمانات التي يخولها لها الضمير العالمي والحقوق البشرية.»
وكانت في تلك الأثناء قضية مراكش تعرض على الجلسة العامة للأمم المتحدة المجتمعة إذ ذاك بباريس، وكانت فرنسا تنتظر قرارها بفارغ صبر وعلى أحر من الجمر، فلما رفضت هيئة الأمم أن تنظر أصلا في القضية المراكشية فضلا عن أن تنصف الشعب الشقيق، اطمأنت إذ ذاك الحكومة الفرنسية وتشجعت على إظهار ما أخفت من نوايا، ومالت مع المستعمرين المتطرفين كل الميل، وجارتهم في جمودهم وأطماعهم وشرهم، وأرادت أن تحتفظ لهم بامتيازاتهم المجحفة، وأن تعطي لاعتداءاتهم على السيادة التونسية صبغة قانونية، وقام أنصار الاستعمار المتطرفون من أعضاء الحكومة الفرنسية - أمثال موريس شومان - بتحرير الرد الفرنسي على مذكرة الحكومة التونسية وسلموه إليها بتاريخ 15 / 12 / 1951.
وتناسوا عند كتابته ما غنمته فرنسا من تونس سواء في الميدان الاقتصادي والمالي أو في الميدان الحربي والدفاع عن فرنسا نفسها، وأعادوا حجج المستعمرين التي يستندون إليها لسلب حرية الشعوب واغتصاب سيادتها واستثمار خيراتها إذ قالوا:
ومع البحث في الإمكانيات لتوجيه تطور الحماية في الاتجاه الذي يرجوه جلالة الباي، فإن الحكومة قد تعجبت لأول وهلة من إهمال الإشارة إلى ما أنجزته فرنسا في الحاضر والماضي من أعمال في تونس، وتعتقد فرنسا أنه يحق لها أن تفخر بالتقدم المحدث خلال سبعين سنة بفضل المساعدة الحكيمة التي قدمها رؤساء الأسرة الحسينية في بلد أنشأت فيه فرنسا الإدارة ونظمت العدالة والتعليم وحققت التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهذا التطور وحده هو الذي أمكن بفضله مواجهة زيادة عدد السكان الذي تضاعف ثلاث مرات منذ انتصاب الحماية.
صفحه نامشخص