فازداد الشعب حماسة في مقاومة التجنيس ويقظة في المحافظة على مقابره خوفا من أن يدفن فيها متجنس، إلى أن اضطرت الإقامة العامة الفرنسية إلى النزول عند إرادته، وإذا بها تأخذ قرارين في آن واحد فتكون مقابر خاصة بالمتجنسين من جهة، ولكنها من جهة أخرى تصدر أمرا بحل الهيئات السياسية التونسية؛ أي الحزب الحر الدستوري، وبتعطيل الصحافة الوطنية.
ولم يدم الوئام داخل اللجنة التنفيذية للحزب بين عناصر الشباب الناشط الجدي وبين الشيوخ المؤسسين للحزب، بل احتد الخلاف واستفحل لأتفه الأسباب ولم يمكن حسمه، فاجتمع إذ ذاك مؤتمر عام نظامي للحزب بمدينة قصر هلال (مارس 1934) ليكون حكما بينهم، وحضره رجالات الحزب ونواب عن كافة فروعه ومنظماته، وتيقن إذ ذاك شيوخ الحركة أنه أسقط في أيديهم، وأن الأغلبية الساحقة مع الشبان العاملين، فامتنعوا عن الحضور، وانتخب المؤتمر هيئة إدارية وتنفيذية جديدة سميت «بالديوان السياسي» واختار الأستاذ الحبيب بورقيبة أمينا عاما للحزب.
وسمي الحزب الحر الدستوري التونسي منذ ذلك العهد بالدستور الجديد؛ أي المتجدد، كما أطلق اسم الدستور القديم على جماعة الشيوخ الذين أبوا حضور مؤتمر قصر هلال.
وسار الحزب الجديد قدما في أعماله ونشاطه المتزايد باندفاع وحماسة، واتصل قادته بالشعب اتصالا متينا وثيقا لإيقاظ الشعور الوطني فيه وإحياء الوعي القومي في نفسه وتدريبه على الحياة السياسية العملية.
ووصل تونس إذ ذاك الطاغية «بيروطون» كمقيم عام، وأظهر استعدادا للتفاهم بإعطاء ترضيات طفيفة، وسعى لإخماد نشاط الحزب ببعض الوعود، ولم يقيد عمل رجاله ظنا منه أن الخلاف بين التونسيين سيشتد وأن الخصومة بينهم تريح فرنسا واستعمارها منهم جميعا لاشتغالهم ببعضهم، وإذا بالحبيب بورقيبة وصحبه يغتنمونها فرصة لمضاعفة عملهم، فأصدروا جريدة «العمل» وعقدوا الاجتماعات العامة في أكثر مدن المملكة وقراها، وجرفوا وراءهم الشعب جرفا.
فلما رأى «بيروطون» خطر هذه الحركة الجبارة أراد محوها، فألقى القبض على قادتها (2 سبتمبر 1934) ونفاهم إلى برج القصيرة بالصحراء، وكانت موجة من الاضطهاد لم يسبق لها نظير. وكان رد الفعل من الشعب عنيفا شديدا، فعمت الاضطرابات في القطر التونسي كله، وخرج الجماهير في مظاهرات كبرى، وأعلنوا الإضرابات العامة، وتعددت الصدمات الدامية بين الشعب والقوات الفرنسية المسلحة، وكانت أقواها بالمكنين وقصر هلال وطبرية والبرجين ونفطة ومنزل تميم.
واستمر التشويش عامين كاملين حتى أجبرت فرنسا على تغيير سياستها، فاختار رجال الواجهة الشعبية بفرنسا الذين كانوا على وشك استلام الحكم بها «أرمان جيون» لتعويض «بيروطون» الطاغية في الإقامة العامة.
ودخل تونس في أبريل 1936، فبادر بإطلاق سراح القادة المعتقلين وأطلق الحريات العامة.
فاستأنف الحزب نشاطه باندفاعه المعهود، وجدد فروعه في أكثر المدن والقرى، وأصدر صحفه وخاصة جريدة «العمل» وبث دعاته في كل جهة، وساعد على تجديد الحركة العمالية وإحياء النقابات التونسية، وتعددت حوله جمعيات الكشافة والشباب.
وقام زعيم تونس «الحبيب بورقيبة» بسفرتين إلى باريس (1936 و1937) لنشر الدعوة لفائدة بلاده وإقناع الدوائر الفرنسية الرسمية بإرضاء رغبات الشعب. وكان الطلب الرئيسي في الرغبات المستعجلة منح تونس برلمانا وحكومة مسئولة أمامه. وكان لعمل «الحبيب بورقيبة» نتيجة؛ إذ حصل على بعض الوعود التي لم تنجز، ولكنه أقنع الوزير «فيانو» بنظريته، فرأى «فيانو» من المحتوم عليه أن يزور تونس، وألقى خطابا في مذياعها اعترف فيه «بأن الشكوك تحوم حول الإدارة الفرنسية بهذه البلاد»، وأعلن عن وجوب «إصلاح الإدارة التونسية وإشراك التونسيين في إدارة شئون بلادهم»، وإذا بالحكومة الفرنسية تقصي الوزير «فيانو» عن منصبه تحت تأثير العناصر الاستعمارية وحملة الجالية الفرنسية بتونس.
صفحه نامشخص