وفي سنة ٦٥٩ هـ ١٢٥٩ م، تسمى المستنصر الحفصي بأمير المؤمنين، بعد أن سقطت خلافة بغداد بيد المغول فبايعه بالخلافة ولاة الحجاز - مكة والمدينة -؛ ثم في السنة الموالية بايعوا مماليك مصر. استمرت هذه الدولة طيلة قيامها بين مد وجزر، ووحدة وانقسام، واضطراب وتنازع على السلطان، مع غيرها أحيانًا، وبين أعيانها ورجالاتها أحيانًا أخرى. خضعوا للمرينيين فترة، وللأسبان فترة، وحاربوا في صفوف الصليبيين فترات. واضطروا لإعطاء الجزية إلى ملك صقلية (شارل دانجو)، اتقاءً لاعتداءاته على شواطئهم وأساطيلهم. بل إن المستنصر أخذ يتودد إلى رهابنة النصارى حتى ظن لويس التاسع أنه يميل لاعتناق النصرانية، مما شجعه على غزو تونس في ٢٦ ذي الحجة ٦٦٨ هـ - ١٢٧٠ م؛ ثم تراجعت حملته بعد أن تعهد المستنصر بمضاعفة الجزية للصقليين حلفاء الفرنسيين. ولم ينقذ المنطقة من النفوذ الصليبي إلا الأتراك العثمانيون، الذين أبادوا دولة الحفصيين وضموها إلى خلافتهم، على يد حاكم الجزائر العثماني العلج علي سنة ١٥٦٩م، بعد أن فَرَّ السلطان الحفصي مع الإسبان.
الشرق الإسلامي
الأخباريون المسلمون يؤرخون للمغول الذين هاجموا بغداد بكثير من التحامل، ويحاولون تغطية حقيقتهم، وستر واقع أنظمة الحكم عند المسلمين في تلك الفترة. يصفونهم بالوحشية والبدائية والجهل والتخلف؛ وهذا غير دقيق بالرغم من وثنيتهم وقساوتهم وفظاعة الجرائم التي ارتكبوها في حق المسلمين. ذلك أن المغول قبل أن يهاجموا بغداد السادرة في غفلتها وفسادها - إذ ذاك -، كانوا قد أسسوا إمبراطورية دوخت آسيا وهددت أوربا الشرقية، بعد أن نظمت شؤونها الداخلية والعسكرية بشكل أرقى مما كان لدى ملوك المسلمين في ذلك العهد (٥٧) . ففي الوقت الذي كان فيه ملوك المسلمين يكنزون الذهب والفضة والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة، حتى لتضيق بها خزائنهم، فيتخذون لها الدفائن تحت الأرض، ثم يعكفون على الفساد والفاحشة والعربدة، تاركين لجنودهم ومماليكهم أن يستخلصوا رواتبهم من العامة؛ كان جنكيز خان مؤسس إمبراطورية المغول، ينفق خزائنه على تنظيم جيوشه وتكثير جنوده، وتربيتهم التربية القتالية العالية، ويشكل منهم الكتائب، ومن الكتائب الجيوش يوزعها على مختلف الجبهات. وفي الوقت الذي كان فيه ملوك المسلمين قد ضربوا عرض الحائط بالكتاب والسنة وتشريعاتهما المعجزة، كان جنكيز خان قد وضع قانونه الأساسي (ألياسا) ونظم به حياة أمته وجعل له قدسية فوق الإمبراطور نفسه. وفي الوقت الذي لم تكن فيه لممتلكات المسلمين وثرواتهم حرمة، وكانت معرضة للنهب والمصادرة لأي سبب وبدون سبب، كان المغول قد شددوا في تشريعاتهم على مبدأ احترام حق الملكية، وعاقبوا على السرقة وقطع الطريق والاعتداء على أملاك الغير بالقتل. وفي الوقت الذي مسخ فيه حكام المسلمين المرأة فحولوها أداة من أدوات اللهو والعبث، وأصبحت فيه الجواري والإماء أساس الأسرة لدى الكبار والأعيان والقضاة والأَثرياء، كان جنكيز خان قد حرر المرأة واعترف بقيمتها وبكونها أساس الأسرة، فتمتعت بالاحترام في مجتمعها، وبالاستقلال في مالها، وشاركت في تسيير أمور الدولة والجيش مشيرة ومشرفة ومقاتلة. وفي الوقت الذي كان فيه حكام المسلمين ينطون على كرسي الملك بالسطو المسلح في جنح الليل، أو بالوراثة الغبية التي ترفع إلى سدة الحكم الموتورين والأغبياء والبله والقصر والرضع، كان المغول يسلكون في اختيار أمرائهم سبيل الانتخاب العلني الحر، فتنصب الخيمة الكبيرة في العراء، ويحضر الأعيان والقادة ورجال القبائل وممثلو الدول الصديقة، ويجري اختيار الإمبراطور بطريقة سلمية لا غبن فيها ولا دماء، وبشعور فطري عام بقيم العدالة والمساواة، وما ينبغي أن يتصف به الحاكم إزاء قومه. ولا يسعنا إلا أن نعجب للرسالة التي كتبها هولاكو إلى سلطان مصر وقال فيها (٥٨): (؟ ودعاؤكم علينا لا يسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عن كلام، وخنتم العهود والأيمان. وفشا فيكم العقوق والعصيان؟ وقد ثبت عندكم أننا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة (. إن غزو بغداد لم يكن أمرًا مفاجئًا وطفرة بدون مقدمات، لأن جيوش المغول كانت قبل ذلك قد اخترقت الآفاق، دوخت الصين الشمالية، وقضت على الدولة الخوارزمية المسلمة، وسيطرت على خراسان ومرو وبخارى وسمرقند، وأذربيجان وروسيا الجنوبية، والقرم والقوقاز، دون أن تنتبه بغداد من نومها. وبعد تولي (أوكتاي) الذي خلف جنكيز خان، انقضت جيوشه على شمال جبال الأورال وبحر الخزر ومدينتي موسكو وبلغار على نهر الفولغا، وهزمت البولنديين ودمرت مدينة براسلاف الألمانية، وهزمت حاكم سيليسيا هنري الثاني الذي انتحر للهزيمة. ثم حينما اختارت الأمة المغولية (مانكو) خلفًا لأوكتاي، أقام - على وثنيته - نظامًا متسامحًا تعايشت فيه جميع الأديان إسلامًا ومسيحية وبوذية، وشيدت فيه على قدم المساواة المساجد والكنائس والمعابد. ثم بعد ذلك عهد إلى أخيه هولاكو بغزو الغرب الأسيوي الذي يضم ديار المسلمين وعاصمتهم بغداد؟؛ كل هذا وقع والخليفة مع قادته العسكريين غارقون في غفلتهم. ثم بعد توقف المد المغولي عند فارس والعراق، وانحساره عن الشام بجهاد المماليك ومقاومتهم، ترك أمة ذاهلة واقتصادًا منهارًا ومجتمعًا بائسًا هزيلًا، منغمسًا في الخرافة والفوضى. ثم لطف الله بهذه الأمة فأسلم حكام إيران من المغول، وعلى رأسهم ملكهم (نيكودار)، وتتابع بعده إقبال المغول على الإسلام، لاسيما في عهد " غازان " الذي اختار مذهب أهل السنة وأحسن إلى أهل الشيعة. ثم خلفت مملكة المغول في إيران الدولة المظفرية في كرمان وفارس، والدولة الجلائرية في منطقة ما بين النهرين. وتتابعت بعد ذلك دويلات ضعيفة منقسمة على نفسها. مثل: الأسرة الخلجية الأفغانية (١٢٩٠ م - ١٣٣٠ م) الأسرة التغلقية (١٣٢٥ م - ١٤١٥ م) أسرة الشاة البيضاء (١٣٧٩ م - ١٥٠٣ م) أسرة الأسياد (١٤١٤ م - ١٤٥١ م) الأسرة اللودية (١٤٥٢ م - ١٥٢٦ م)
1 / 12