أَجِدُ بَردها أو تُشَفُ مِني حَرارَةً ... عَلَى كَبِدٍ لَم يَبقَ إِلاّ صَميمُها
فَإِنّ الصِبا ريحٌ إذا ما تَنَفَسَت ... عَلَى قَلبٍ مَحزونٍ تَجَلَى هُمومُها
وكقول الشريف الرضي ﵀ من قصيدة:
أَو ما شَمَمتُ بِذي الأَبارِقِ نَفحَةٌ ... خَلُصَت إِلى كَبَدِ الفَتى المُشتاق
فَجَنى نَسيمُ الريحِ مِن نَجدٍ لَهُ ... حَرقَ الحَشا وَتَحلُبُ الآَماقِ
وَعِرفُها يَدُلُ كُلُ عارِفٍ ... إِن فَقَدَت مِن مَودِعِ الصَحائِفِ
العرف: الريح الطيبة، ويدل: من الدلالة بمعنى الهداية والإرشاد، ووصف روائح الطيب بالدلالة معنى شائع بين الأدباء كقول ابن حجة:
وَضاعَ شَذاكُم بَينَ سِلَعٍ وَحاجِرِ ... فَكانَ دَليلَ الظاعِنِينَ إِليكُم
والمراد بالعرف ها هنا ما يظهر من آثارها ويلوح من أسرارها تشبيها له بالروائح الطيبة وإطلاقه عليه من الإستعارة المصرحة وذكر الدلالة ترشيح، وقوله: إن فقدت إلى آخره يعني لا تستقل بالدلالة إلا بعد التجرد عن الأبدان الشبيهة بالصحائف المستودع فيها وأما قبله فالدلالة إنما تصدر عن الجملة الإنسانية بكمالها ومن ذلك ما ذكره بعض العلماء في سياق ذكر من يتوسل به ويتبرك من الأنبياء والأولياء ما لفظه فثبت بذلك أنهم بعد وفاتهم لا تنقطع آثارهم عن هذا العالم بل يحصل للمستمدين أتم خير وأكمل نفع، وأيضا تواترت الأخبار وتكاثرت الآثار أنهم بعد مفارقتهم للدنيا يرشدون الطالبين ويمدون المستمدين وأورد في معنى ما ذكره حكايات تدل على ذلك تركت إيرادها في هذه النبذة.
وَإِن أَتَت في رَقِها مُحَرِرَةً ... فَهيَ لِما قَد خُلِقَت مَيسَرَة
قوله: وإن أتت معطوف على قوله: فإن خلت أي إن أتت النفس محررة في رقها الذي هو عبارة عن بدنها، أي تعلق هذه حتى صدر عنها إثارة فهي ميسرة لما خلقت له.
قال العلامة أبو السعود في تفسير قوله تعالى: (لَقَد خَلَقنا الإنسانَ في أَحسنِ تَقويم) ذكر بعض العارفين أن النفس الإنسانية مجردة ليست حالا بالبدن ولا خارجا عنه متعلقة به تعلق التدبير والتصرف يستعمله كيفما شاءت فإذا أرادت فعلا من الأفاعيل الجسمانية تلقيه إلى ما في القلب من الروح الحيواني الذي هو أعدل الأرواح وأصفاها وأقربها منه وأقواها مناسبة إلى عالم المجردات إلقاء روحانياي، وهو يلقيه بواسطة ما في الشرايين من الأرواح إلى الدماغ الذي هو منبت الأعصاب التي فيها القوى المحركة للإنسان، فعند ذلك يتحرك من الأعضاء ما يليق بذلك الفعل من مباديه القريبة والبعيدة، فيصدر عليه ذلك، فهذه الطريقة وفي البيت تضمين للحديث عند مسلم من رواية جابر ﵁ قال: جاء سراقة بن جعشم إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله. ومعناه على مذهب أهل العدل أن العبد ميسر لما خلق له من الطاعة والعبادة لا حائل بينه وبينها فهو بمنزلة قوله: لا عذر لكم في هذا يسقط به عليكم الأمر والنهي فأما آمركم بالعمل لتمكنكم وتيسركم منه فالحجة قائمة عليكم بذلك. وقوله ﷺ: كل عامل بعمله معناه ما علمه الله سبحانه فهو كما هو لكن ذلك لا بدافع التمكن، بل بجامعه فلا تعلة بذلك هكذا ذكره العلم الشامخ.
أولا فَإِن طَبعُها لَطيفُ ... تَسيلُ مِن رِقَتِها الحُروفُ
يعني: أولا تأتي محررة في رقها ومتعلقة ببدنها، بل تجردت مستقلة بذاتها فإن طبعها حينئذ لطيف إذ هي من عالم الأمر والمراد أنها في نهاية اللطف والرقة عند كمال تجردها وكذا قال بعض العارفين في معنى النفس هي لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمطالب والمعاتب.
وقوله: تسيل إلى آخره يعني أنها تكاد لرقة ذاتها ولطف طبعها وصفاء جوهرها تسيل منها الحروف الدالة عليها فهو جار مجرى التمثيل كما يقال فلان يسيل طبعه رقة.
1 / 14