وقوله: تطلب للرقة إلى آخره، معناه لما اتصلت بالجسم صارت أسيرة في وثاقه فهي تطلب تحريرها وفكها من قيود استرقاقه، وقوله: فإن خلت إلى آخره الضمير للنفس على جعلها كالكلمات المنقشة على صفحات الأوراق وهو اصطلاح متعارف بين أول الأذواق.
قال السيد الشريف في تعريفاته: إنها سميت الأعيان كلمات تشبيها بالكلمات اللفظية الواقعة على النفس الإنساني بحسب الخارج، وأيضا كما تدل الكلمات على المعاني العقلية، كذلك تدل أعيان الموجودات على موجدها وأسمائه وصفاته وجميع كمالاته الثابتة له بحسب ذاته ومراتبه، وأيا كل منها موجود بكلمة كن، فإطلاق الكلمة عليها إطلاق إسم السبب على المسبب انتهى.
وقد يعبر عن الحقائق البسيطة بالحروف أيضا عند مشايخ الصوفية، وجعلها بعض متكلميهم ثمانية أنواع، فقال: اعلم أن الحروف على ثمانية أطوار، حروف حقيقية وهي أعيان الأسماء والصفات، قلت وهي التي ذكرها صاحب التعريفات وحروف عاليات وهي ذوات معلومات العلم الإلهي المعبر عنها بالأعيان الثابتات بالعلم الإلهي، قلت وهي التي أشار إليها بعضهم بقوله:
كُنا حُروف عالِياتٍ لَم نَقُل ... مُتَعَلِقاتٍ في ذرا أعلا القُلَل
وحروف روحية وهي الأرواح النورية التي أخبر الله بها هذا الوجود كما أظهر الكلمات بالحروف الملفوظة، وحروف صورية، وهي جوانح هذا العلم العلوي وجوارح الإنسان بالحكم الجزئي، وحروف معنوية وهي حركات الأشياء وسكناتها، ينشا منها حروف تتركب من تلك الحروف كلمات مناسبة لحال ذلك المتحرك كالإنسان في حال قيامه، يتركب منه صورة ألف وفي حال منامه صورة الباء، إلى غير ذلك حتى أنه يتصرف صاحب هذا العلم بحركات جسمية كما يتصرف بالحروف إن كان عارفا بكيفية التصرف بها، وحروف حسية، وهي ما شوهد رقما وكتابة، وحروف لفظية وهي تتشكل في الهوى من قرع الريح الخارجة من الحلق على مخارج الحروف
فَلَلنَسيمِ مَعَها اِتصالُ ... لَيسَ لَها عَن رَوضِها اِنفِصال
قد عرفت مما ذكر آنفا إشارة الناظم قدّس سره في صدر السؤال إلى المقصود منه في ظن براعة الاستهلال، وإن كان ظاهر السياق في تعديد أوصاف الهدية إلى قوله: ما إسم سمي إلى آخره ونحن نمشي على طريقة توضيح المعنى المقصود من النظم فنقول: الفاء في قوله فللنسيم، للتفريع على السابق من قوله: فقد سرت إلى آخره، يعني لما شابهت النسيم في سرعة مسراها كان لها بها اتصال ومناسبة حال تعلقها بالبدن، كما يقود إليه المعنى، وذلك أن النفس التي يعبر عنها بالروح الحيواني من لازمه التنفس وهو استنشاق الهواء إلى الجوف بواسطة الرئة الممدة للقلب بالترويح، ومنه الحديث (لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن) يريد أنها تفرج الكرب وتشىء السحاب، وتنشر الغيث، وتذهب الجدب، وكذلك قوله ﷺ: (إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن) قال في النهاية: عنى به الأنصار لأن الله نفس بهم الكرب عن المؤمنين وهم ثمانون لأنهم من الأزد وهو مستعار من نفس الهوى الذي يرده التنفس إلى الجوف فيبرده من حرارته أو يعدله أو من نفس الريح الذي نتنسمه فيتروح إليه أو من الروضة وهو طيب روائحها فينقرج به عنه انتهى.
وأيضا فالروح والروح مرجعهما في (الاشتقاق) إلى مادة قال في القاموس: الروح بالضم ما به حياة الأنفس وبالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح جمعه أرواح وأرياح ورياح.
وهاهنا أمر ينبغي معرفته وهو أنه سبق لك مرارا أن المراد من الأبيات النفس الناطقة، ولكن الناظم قدس سره نزل الوصف تارة على الروح الإنسانية وأخرى على الروح الحيوانية كما في هذا البيت ولا حرج في ذلك بعد فهم المراد إذ مرجعهما جملة الإنسان:
كَم مرَة قَد اِستَمَدَت عُرفَها ... وَخَلَفَت زَهرُ الرِياضِ خَلفَها
يعني أن النسيم لما بينها وبين النفس من المناسبة والاتصال حتى صار سببا لبقائها في البدن باستنشاقها لم تزل تحمل إلى أهل الذوق والمحبة من أسرارها أطايب التحف، ونفائس الطرف، فهي تستمد من عرفها العبق مجاوزة زهر الرياض، وإن كان ذا منظر أنق. وقد أكثر الشعراء من وصف الريح بترويح المشوق وتنفيسها عل كل قلب بالجوا مطروق كقوله:
أَيا جَبِلِيٌ نُعمانُ بِاللهِ خَلِيا ... نَسيمَ الصِبا يُخلِص إِليّ نَسيمُها
1 / 13