وارتج على همام هنيهة وهو يقول: الدين الذي ... - نعم الذي ضمنته فيه، هو طبعا لا يملك شيئا، وأنت ... - الضامن، نعم. إذن فقد خسرت كل شيء، بل أصبحت مدينا أيضا. - إذن ... - أنا تحت أمرك ثروتي كلها طوع مشيئتك، أي شيء تريده، سأبقي على البيت، سأشتريه أنا وأؤجره لك حتى تجمع ثمنه، وأضمنك في أي مبلغ حتى تستعيد ما خسرته. كل ما أرجوه أن تظل أنت كعهدنا بك ثابتا كالجبل، لقد كنت حياتك كلها هكذا فأرجو أن تظل هكذا.
وابتسم همام ابتسامة فيها شكر وفيها تقدير للرجل الكبير الذي يعرض عليه حياته ومستقبله ومستقبل أولاده، لم يقل شكرا فقد رآها ضئيلة لا تقوم بما في نفسه، ولم يقل إنه لا يقبل فقد كان واثقا أن عزت يعلم أنه لن يقبل. إنه لا يقبل أن يعرض ابن عمه وهو كأخيه لمثل ما تعرض له، فبيت عزت بيته، ولئن ينهدم بيته خير من أن ينهدم بيتاه، ولم يقل ماذا سيفعل، فإنه لم يكن يدري ماذا سيفعل.
لم يقل شيئا إلا نظرة الشكر هذه التي أطلت من عينيه وظلت مطلة في ثبات، وإلى هذه الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه وتجمدت ابتسامة يعجز صاحبها أن يستردها وتأبى هي أن تزول. وفي بطء تحرك لسانه في فمه يقول: الأولاد يا عزت.
وسمع عزت الجملة وكأنها تصل إليه من أغوار واد سحيق، فهو يسمعها بذكائه لا بأذنه، وخيل إليه أن هماما أصيب، فأراد أن يستعيد ما سمع أو فهم. أراد أن يقول شيئا أي شيء فهو يسأله: ماذا ... ماذا قلت يا همام؟
ويريد همام أن يقول ثانية، يريد أن يفضي إلى ابن عمه، أخيه، بهذه الفكرة التي تلح على ذهنه في إصرار، الأولاد، والأولاد هم زوجته وأولاده. يريدهم أمانة في عنق هذا الأخ، يريد أن يقول، فيقول، ولكن الكلمة تدور في رأسه وتدور أيضا في فمه، ولكنها عاصية عن الانطلاق أو هي عاجزة عن الانطلاق. ويرى عزت لسان همام يدور في فمه كالعجوز المقعد يدور في الدرب المظلم فلا يبصر الطريق ولا يبلغ المقصد، ويدرك عزت ما وقع بابن عمه. وينفي إدراكه عن ذهنه بأمل واهن أن تكون إلمامة إلى زوال، ولكنه يعلم أنها ليست كذلك. يعلم، ولكن لا بد للمصيبة من أمل - مهما يكن ضائعا - يخفف وقعها أو يمنعها على الأقل أن تنزل دفعة واحدة، هو يعلم ولكن ماذا بيده إلا أن يتعلق بأمل أوهن من خيط العنكبوت وأوهى. يعلم ولكن ماذا بيده إلا أن يقول في جزع: همام ... همام ... ماذا بك يا همام؟
ولا يجيب همام إلا بهذا اللسان التائه العاجز المقعد يتعثر في فمه ولا يبين.
واندفع عزت إلى باب الغرفة في جنون يصيح: خيري! خيري!
ولا ينتظر حتى يقترب منه خيري الملهوف الجازع، بل يقول له: استدع الدكتور حالا، الدكتور عبد العزيز، عبد العزيز إسماعيل، حالا! حالا يا خيري!
ويقول خيري: ماذا ... أبي! هل به شيء؟ أبي ما به يا عمي؟ أبي.
ويندفع إلى حجرة المكتب ويحاول عزت أن يمنعه، ولكنه ينفذ إليها دافعا الضلفة المغلقة من الباب محطما زجاجها صائحا: أبي! أبي!
صفحه نامشخص