انقلاب شعر مدرن از بودلر تا عصر حاضر (بخش اول): مطالعه
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
ژانرها
مثل هذه الموجودات الواقعية لا تدور حول مركز واحد تنتظم حوله وتستمد منه قيمته ومقياسه. إنها آثار محمومة من انفعال عميق محموم. وهو يصورها تصويرا لا صلة له بأي مذهب واقعي. حتى القبح الذي تفيض به بقايا الواقع في نصوصه، لا بد أن نأخذه كانفعال عميق محموم. وليس القبح وحده في ذلك. فالجمال أيضا نوع من هذا الانفعال. صحيح أن هناك مواضع جميلة في شعر رامبو، جميلة في صورها ونغمها على السواء، ولكن المهم أنها لا تقف وحدها، بل تكون دائما بجانب مواضع أخرى قبيحة. ليس الجمال والقبح أضدادا من ناحية القيمة، بل من ناحية الإثارة والتنبيه، الفرق الموضوعي بينهما لا وجود له، تماما كالفرق بين الصواب والخطأ، أو بين الصدق والكذب، والتجاور الشديد بين الجميل والقبيح يؤدي إلى «دينامية الأضداد» التي يدور عليها كل شيء، لأن الصراع هو في الحقيقة كل شيء في هذا الشعر. على أن القبح وحده قادر أيضا على توليد هذا الصراع؛ هذه «الضدية».
كان القبح في الأدب علامة على السخرية أو التعريض بالنقص الخلقي. ويكفي أن نتذكر شخصية «ثيرزيتيس»
9
في الإلياذة، أو الشخصيات العجيبة التي يزدحم بها جحيم دانتي، أو أدب البلاط في العصور الوسطى . وكان الشيطان رمز القبح، ولم يكن من الممكن أن يتصور أحد ملاكا قبيحا، أعمى أو أفطس الأنف أو متشردا في أحياء المدينة كما نرى في بعض الشعر الحديث! وأصبح القبح في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم عند نوفاليس، وأخيرا عند بودلير شيئا مسموحا به، بل جديرا بالاهتمام، ووافق حاجة الفنان والشاعر لشدة الانفعال وعمق التعبير. ثم أصبحت مهمته عند رامبو أن يستجيب لطاقة حسية تريد تغيير الواقع بل تشويهه وتمزيقه بلا رحمة، وتبين أن مثل هذا الشعر الذي لا تهمه مضمونات الأشياء بقدر ما يهمه تصوير علاقات التوتر والصراع الذي يعلو فوق الأشياء يحتاج إلى القبح أشد الاحتياج، لا رغبة في تشويه الواقع فحسب، بل كذلك لإثارة الشعور الطبيعي بالجمال وتوليد ذلك الإحساس بالصدمة الذي تكلمنا عنه في الصفحات السابقة، وقلنا إنه من أهم ما يحرص الشاعر الحديث منذ عهد بودلير ورامبو على بعثه في نفس القارئ عندما يلتقي بالنص.
ومن أدل القصائد على القبح الذي تحدثنا عنه قصيدة رامبو الجريئة «القاعدون» التي كتبها في سنة 1871م. ويروى فيرلين أنها كتبت عن أمين المكتبة العامة في مدينة شارلفيل، وكان رامبو قد غضب منه غضبا شديدا! وقد تكون هذه الرواية صحيحة، ولكنها لن تساعدنا على فهم النص؛ فلغته تزخر باصطلاحات من علم التشريح، وكلمات من اللهجة العامية، واشتقاقات منحوتة، تخلق ما يشبه أن يكون أسطورة للقبح الفظيع. وهي لا تذكر أمين المكتبة المسكين بكلمة واحدة، ولا تورد كلمة واحدة عن الكتب أو المكتبات. إن حديثها كله ينصب على جماعة من العجائز الذين تتجسد فيهم الحيوانية والشر والتعاسة والخمول. لا بل إنها لا تتحدث عن هؤلاء العجائز مباشرة، وإنما تذكر تفصيلات بشعة محزنة: أوراما سوداء، ندوب الجدري، عيونا حولها حلقات خضراء، أصابع هزيلة معقودة حول السيقان، جباها تغطيها تلافيف غامضة مزمجرة أشبه بقروح النبات فوق الجدران القديمة. ثم يأتي دور الشخصيات والوجوه: هياكل عظمية خرافية زاوج أصحابها في وله بينها وبين هياكل الكراسي، وأقدام مصابة بالكساح تلتف حول قوائم المقاعد من الصباح إلى المساء دائما وإلى الأبد، وشموس حارقة تشوي جلودهم، وعيونهم تمتد إلى النوافذ «حيث يذوي الثلج»؛ في القش الذي حشيت به الكراسي. تتوقد أرواح شموس قديمة مختنقة، كان القمع فيما مضى يختمر تحت أشعتها. والعجائز قابعون، ركبهم في أسنانهم، كأنهم عازفو بيان خضر، يدقون بأصابعهم العشر تحت الكراسي، ورءوسهم تتأرجح مع اهتزازات خيالهم العجوز. فإذا ناداهم أحد راحوا يموءون كالقطط المضروبة، ويكشفون عن عظام أكتافهم، وتتسحب أقدامهم الملتوية إلى الأمام وترتطم رءوسهم الصلعاء بالحيطان الكالحة، وتخترق أزرار ستراتهم عين الإنسان خلال الظلام الذي يغشى الممرات، ومن نظراتهم المميتة يترقرق سم كلاب شبعت ضربا. فإذا جلسوا مرة أخرى غاصت أكفهم في أساور قمصانهم القذرة، وتحت الذقن الهزيلة حزمة من الغدد توشك أن تنفجر. إنهم يحلمون بكراسي أجمل، وزهور «الحبر» التي تبصق «بذور حروف العطف» تهدهد هذا الحلم.
مثل هذا القبح لم ينسخه الشاعر من العالم الخارجي وإنما ولده توليدا. إنه يصف لنا مجموعة من الكائنات توجد في كل مكان وزمان. ليسوا بشرا، بل هياكل بشر، هم والأشياء كيان واحد، والأشياء بدورها رفاق أولئك الذين يقعون فوقها. ثم انظر إلى نزعتهم الشريرة العاجزة، والضباب الذي يغشى حالتهم الجنسية في الشيخوخة. كل هذا في لهجة متهكمة، تظل خافية وراء غنائية الأبيات، فكأن القصيدة بأكملها نوع من التنافر بين النغم والصورة. صحيح أنها لا تخلو كما قلت من مواضع «جميلة» ولكن هذه البقية الباقية من الجمال تخدم ذلك التنافر أو هي نفسها متنافرة، تجمع على سبيل التضاد بين صور وعناصر غنائية بطبيعتها وبين أسخف الأشياء وأكثرها تفاهة. فها هي ذي القصيدة تتحدث عن أزهار الحبر، وبذور الشولات أو الفواصل التي تجملها بالمقارنة بينها وبين الفراشات الطائرة على زهور الجلاديولا:
وأزهار الحبر التي تبصق بذور الشولات
تهدهدهم، وهم مقعون على طول الكئوس،
كما يرى الإنسان الفراشات تطير نحو زهور الجلاديولا
ودور القبح هنا واضح. فإذا أردنا أن نقارن بينه وبين القبح العادي وجدنا أن هذا القبح الشاعري قد غير من القبح المألوف وشوهه ، بمثل ما غير الواقع وشوهه، لكي يجعل الانطلاق إلى ما فوق الواقع من خلال هذا التدمير والتمزيق أمرا ملموسا. ولكنه انطلاق إلى الفراغ، لأن الحقيقة المتعالية فوق الواقع فارغة كما علمنا من كل دلالة دينية أو فلسفية أو أسطورية.
صفحه نامشخص