انقلاب شعر مدرن از بودلر تا عصر حاضر (بخش اول): مطالعه
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
ژانرها
ما عدت أستطيع أن أمنع ناقلي القطن من الرحيل،
ولا أن أجوس في غرور الأعلام والمشاعل،
ولا أن أسبح تحت عيون الجسور المفزعة. (10) واقع محطم
الصورة هي حياة الشعر.
وهي تنطوي دائما على نوع من الصلة بالواقع. ولكن لن تبلغ بأحد السذاجة أن يقيم الأدب بعامة، والشعر الغنائي بخاصة، على أساس دقة صوره ومضموناته المتعلقة بالواقع الخارجي في التعبير عن هذا الواقع ومطابقته مطابقة تامة. لقد كان من حق الأدب دائما أن يغير الواقع، ويعيد بناءه، ويضيق منه بالتلميح الموجز أو يوسع فيه بالخيال الرحب، ويجعل منه وسطا يعبر عن الوجدان أو رمزا لموقف شامل من الحياة.
ومع ذلك فقد حرص الأدباء والنقاد دائما - عن قصد أو غير قصد - أن تكون هذه التغييرات كلها مراعية للعلاقات الموضوعية الخارجية، وأن تظل متصلة - مهما شط بها الخيال - بعالم الأشياء الواقعية، وأن تبقى في إطار القوى الصورية والاستعارية التي تكمن من بداية الأمر في كل اللغات. ومعنى هذا أنهم حرصوا على أن يكونوا مفهومين على نحو من الأنحاء.
غير أن الشعر بالذات لم يعد يحرص على شيء من هذا بعد رامبو. ولذلك أصبح من الضروري للدارس أن يحلل الواقع ويكشف عنه ليستطيع من المقارنة بينه وبين ذلك الشعر أن يتبين إلى أي مدى تحطم الواقع وإلى أي حد تفجر الأسلوب التقليدي في الصورة والاستعارة.
يقول رامبو في بعض كتاباته المتأخرة على لسان صديقه فيرلين: «كم من ليلة سهرت بجانب جسده النائم؛ لكي أعرف لماذا استبدت به (أي برامبو) الرغبة في الانطلاق من حدود الواقع!» (ص216)، ومن الواضح أن رامبو يتحدث هنا عن نفسه. إنه لا يدري سبب هذه الرغبة التي تستبد به، ولكن أعماله تدلنا على التطابق الواضح بين مسلكه من الواقع وعاطفته التي تشده إلى «المجهول».
وقد عرفنا شيئا من هذا التوتر عند بودلير، ولكن رامبو يزيد عليه أن المجهول عنده قد فرغ من كل مضمون ديني أو فلسفي أو أسطوري، ولذلك فهو يمثل قطب التوتر الذي يعود - بسبب فراغه هذا - فيرتد على الواقع. ولما كان الشاعر يعاني من عجز هذا الواقع وقصوره بالقياس إلى المجهول أو الحقيقة المتعالية (الترانسندنس)، فإن العاطفة التي تشده إلى هذا الأخير تتحول إلى نوع من التحطيم والتمزيق للواقع بغير هدف. وهذا الواقع المحطم يصبح بدوره علامة على عجز الواقع بوجه عام واستحالة الوصول إلى ذلك المجهول. ويستطيع القارئ أن يصف هذا الصراع بأنه ديالكتيك الروح الحديثة. ويستطيع أيضا أن يقول إنه قد تجاوز رامبو وشعره وصار طابع الأدب والفن الحديث بوجه عام.
لعل القارئ يتذكر عبارة بودلير التي يقول فيها إن أول أفعال الخيال هو «التفكيك». هذا التفكيك - الذي كان بودلير يعني به فيما يعني نوعا من التغيير بل التشويه - قد أصبح عملية أدبية ومسلكا فنيا حقيقيا في شعر رامبو. فالواقع عنده - هذا إذا كانت قد بقيت له بقية أو إذا استطعنا أن نحكم على القصيدة من حيث صلتها به - هذا الواقع قد أصبح يحتمل من التعديل والاتساع والتشويه والتمزيق والتقبيح والتوتر بين الأضداد ما يجعله مجرد معبر إلى اللاواقع أو مرحلة انتقال إليه، فالماء والريح مثلا من العناصر الأولية التي يتكون منها عالم رامبو الواقعي. كان الشاعر يروضهما ويكبح جماحهما في قصائده المبكرة، ثم انطلقت قواهما المكبوتة في إنتاجه الناضج والمتأخر؛ فصار لهما دوي العواصف وقصف الرعود، وأصبحا أشبه بطوفان كوني يقوض كل نظام في الزمان أو المكان: «السهول والصحاري والآفاق تصبح ثوبا أحمر يرتديه الإعصار» (ص124). ويذهل الإنسان إذا تفكر لحظة في كل هذه الموجودات التي تظهر في شعره ويأخذه العجب حين يراها قلقة ترتفع إلى قمة لتهوي في حضيض، لا تستقر في مكان ولا تهدأ في زمان (ربما كان السبب في هذا أنها لا ترتبط بشيء في المكان أو الزمان). إن الصور والأشياء تختلط في موكب غريب؛ متشردون وصعاليك، سكارى ومومسات، طرق زراعية وشطآن وحانات، غابات ونجوم، ملائكة وأطفال، فوهات براكين وكتل من الجليد، أبراج ومساجد وملاعب للسيرك، وعالم زاخر بالمناظر العجيبة كأنه «جنة التجهم المجنون» (172). (11) شدة القبح
صفحه نامشخص