انقلاب شعر مدرن از بودلر تا عصر حاضر (بخش اول): مطالعه
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
ژانرها
والنزعة الشيطانية التي طالما دمغه الشراح بها لا تلغي هذه الحقيقة، بل قد تؤكد صلته العميقة بالمسيحية أو بالأحرى بما تبقى منها في نفسه. إنه يعلم أن الشيطان يأسره (وهذا وحده دليل على التفكير الديني)، ولكنه لم يعد يؤمن بعقيدة الخلاص التي تبشر بها المسيحية. ونزعته الشيطانية هي سبيله للارتفاع إلى سماء المثال وصفائه. إنها تحاول التغلب على الشر الحيواني (بما في ذلك التفاهة والسوقية) عن طريق شر آخر من صنع العقل وتدبيره، وهدفها هو الوصول إلى قمة الشر كي تنطلق منها إلى سماء المثال.
من هنا امتلأت «أزهار الشر» بألوان بشعة من الفساد والقسوة والسقوط. إن الشاعر يحس «بالعطش إلى اللامتناهي»، ولكنه يغوص إلى حضيض «الشيطان» لكي يتسنى له البحث عن الجديد. إنه إنسان ممزق؛ إنسان ذو طبيعة مزدوجة (كما قال باسكال واليونان من قبل). ثمة قطبان يتجاذبه كل منهما ويشده من ذراع، ولا بد أن يشبع نهم القطب السالب لكي يلمس أثر الموجب على روحه، لا بد أن يطيع الشيطان قبل أن يشتاق إلى السماء. ولا بد أن الشاعر قد أحس بالحاجة إلى هذا «السقوط» إحساسا ملحا وعنيفا، وليس مهما أن يكون قد تأثر بالمانوية والغنوصية والأفلاطونية أو غيرها من الأشكال والمذاهب السابقة على المسيحية، أو يكون قد عرف قليلا أو كثيرا عن نزعة الإشراق
Illumination ، التي سادت في القرن الثامن عشر أو بإيمان جوزيف دي ميستر (1753-1821م)، فأهم من ذلك كله أنه أحس بضرورة «السقوط» كوسيلة لا غنى عنها للسمو والارتفاع، وأنه بهذا يعبر عن ظاهرة أساسية من ظواهر التفكير الحديث الذي يحلو له الرجوع إلى المذاهب الفكرية القديمة كلما رأى فيها تعبيرا عن صراعه وتمزقه الباطن.
ومع هذا كله فإن بودلير لم يهتد إلى طريق المسيحية الحقة.
صحيح أنه طالما أحس في نفسه بالرغبة في الصلاة وطالما شعر شعورا عميقا بخطيئة الإنسان، ولكن الصلاة ماتت على شفتيه، وإحساسه العميق بالعجز والتمزق سد عليه الطريق إلى الله. لقد تغنى في شعره بالألم، وعانى من لعنة الخطيئة الأزلية، وعرف أن العذاب هو أنبل ما في الإنسان. وكان من الممكن أن يجعل منه هذا كله مسيحيا مخلصا، لولا أن الإيمان بعقيدة الخلاص لم يجد له مكانا في قلبه، والخلاص كما نعلم هو جوهر المسيحية وأولى حقائقها. إنه يحس باللعنة، ولكنه يتلذذ بهذا الإحساس. وهو يذكر المسيح أحيانا في شعره، ولكنه يبدو كالطيف العابر أو الاستعارة الخاطفة، كإنسان تركه الله يسقط في الهاوية. وهو يتكلم عن الشر لا كطرف واحد من طرفي الحقيقة والخلق، بل كقوة مستقلة ذات كيان وسلطان. صحيح أن هذا كله لم يكن ممكنا بغير التراث المسيحي. ولكنه لا يجعل منه مسيحيا؛ إذ لم يبق في نفسه من المسيحية إلا بقايا حطام. ولعل هذا هو الذي أكسب شعره الجرأة على الشذوذ والنشاز.
صحيح أن الشعراء المتأخرين - فيما عدا رامبو - سينسون أن هذا الشذوذ لم يأتهم إلا بعد أن تنكبوا الطريق واحتضرت المسيحية في قلوبهم. ولكن الشذوذ نفسه لا يزال على ما هو عليه. ولا يستطيع أكثر الشعراء تمسكا بالمسيحية ودعوة إليها أن ينكر أصل هذا الشذوذ أن يفلت من قبضته. ويكفي أن نقرأ إليوت لنتحقق من هذا الكلام. (7) التقابل والتماثل
كان بودلير يؤمن إيمانا تاما بالضعف البشري؛ ضعفه، وضعف القارئ «المنافق» شبيهي وأخي «كما يقول البيت المشهور في افتتاحية «زهور الشر»». شعر طوال حياته أن مثله تحكم عليه وتدينه، وأنه سيظل دائما يتخبط في دائرة خانقة من الأمل واليأس، ويتمزق بين السماء والأرض، والملاك والشيطان، والمثال والملال ... كل ما كان الأخلاقي المتطهر الكامن في أعماقه يدينه ويحتقره، كان في نفس الوقت يجذب فيه الفنان ورجل الحس والجمال. ولا شك أن هذا التناقض الأساسي هو أصل هذا العمق وهذه الحدة الغريبة التي تميز كل ما كتب. وهو لا شك أيضا علة رفضه الواضح الصريح للتوحيد بين فكرتي الخير والجمال الذي طالما وجدناه في صورة متفائلة وساذجة عند لامارتين وهيجو. ولعله أيضا أن يكون المسئول عما سميناه بنزعته الشيطانية التي تجعله ينتقل دائما من الجمال - مثله الاستطيقي الأعلى أو حلمه الحجري كما كان يسميه - إلى إغراء الجمال الأنثوي المجسد:
ما أهمية أن تأتي من السماء أو من الجحيم
أيها الجمال! أيها الوحش الهائل، المخيف، البريء!
ما دامت عينك، ابتسامتك، قدمك، تفتح لي الباب
صفحه نامشخص