فرماه بنظرة نافذة لاحت كإشعاع بلوري من وراء نظارته السميكة. هل ضبطه متلبسا بابتسامة بلهاء غير مبررة؟ ولكن هذه السخافات يجب أن تساغ في أبريل، شهر الغبار والأكاذيب.
ودبت حركة عجيبة في رئيس القلم فشملت أعضاءه الظاهرة فوق المكتب. حركة تموجية بطيئة ولكنها ذات أثر حاسم. راح ينتفخ رويدا فيمتد الانتفاخ من الصدر إلى الرقبة، فإلى الوجه، ثم الرأس. حملق أنيس زكي في رئيسه بعينين جامدتين. وإذا بالانتفاخ البادئ أصلا بالصدر يتضخم فيزدرد الرقبة والرأس، ماحيا جميع القسمات والملامح، مكونا من الرجل في النهاية كرة ضخمة من اللحم. ويبدو أن وزنه خف بطريقة مذهلة؛ فمضت الكرة تصعد ببطء أول الأمر، ثم بسرعة متدرجة حتى طارت كمنطاد والتصقت بالسقف وهي تتأرجح. وسأله رئيس القلم: لماذا تنظر إلى السقف يا أنيس أفندي؟
آه. ها هو يضبطه متلبسا مرة أخرى. ورمقته الأعين بإشفاق واستهزاء. واهتزت الرءوس في رثاء احتفاء بملاحظة الرئيس وتأييدا لها. وإذن فلتشهد النجوم على ذلك. حتى الهاموش والضفادع تعامله معاملة أكرم وألطف. أما الحية الرقطاء فقد أدت خدمة لا تتكرر لملكة مصر القديمة. أنتم وحدكم أيها الزملاء لا خير فيكم. والعزاء عندما نلتمس العزاء في قول ذلك الصديق الذي قال: «فلتقم أنت في العوامة. لن تتكلف مليما واحدا من إيجارها، وعليك أن تعد لنا كل شيء.»
وبتصميم مفاجئ راح يسرك مجموعة من الخطابات. السيد المحترم. إشارة إلى كتابكم رقم 1911 المؤرخ في 2 من فبراير 1964م، وملحقه رقم 2008 المؤرخ في 28 من مارس 1964م، أتشرف بالإفادة. ومع رائحة الغبار المتسللة ترامت من راديو في الطريق أغنية: «يا اما القمر على الباب». فتوقفت يده عن الكتاب وغمغم: «الله!» فقال زميله الأيمن: يا بختك بفراغ البال!
يا أولاد الأقدمية المطلقة! في انتظار حلم لن يتحقق تحترفون البهلوانية. وأنا بينكم معجزة تخترق الفضاء الخارجي بغير صاروخ.
ودخل الساعي فسرت في بدنه رعدة رغبة، فقال له: واحد سادة.
فأجاب الساعي وهو يقف أمام مكتبه: ستجده على مكتبك عندما ترجع من مقابلة سعادة المدير العام.
غادر الحجرة بقامته الطويلة الضخمة بحكم ضخامة عظامه، لا بسبب أي درجة من الامتلاء.
في حجرة المدير وقف أمام مكتبه خاشعا، وظل رأس المدير الأصلع مكبا على أوراق يراجعها عارضا لعينيه ظهر قارب مقلوب. وطارد بالبقية الباقية له من إرادته أي خاطر يمكن أن يعبث به فيوقعه في مأزق وخيم العواقب. ورفع الرجل وجها مدببا مغضونا، ثم رمقه بنظرة شوكية. أي خطأ يمكن أن يتسرب إلى البيان الذي نقله بعناية خارقة؟! - طلبت منك بيانا مفصلا عن حركة الوارد في الشهر الماضي. - نعم يا سعادة البك وقد قدمته لسعادتك. - أهو هذا؟
نظر إلى البيان فقرأ على الغلاف بخط يده: «مذكرة عن حركة الوارد خلال شهر مارس مرفوعة إلى السيد مدير عام المحفوظات». - هو يا أفندم. - انظر واقرأ.
صفحه نامشخص