سه مرد و یک زن
ثلاثة رجال وامرأة
ژانرها
فقالت محاسن: لماذا هذه المرارة؟! أرجو ألا تحمل على نفسك هذه الحملة؛ كان ما كان، فليكن أيضا ما يكون، عدني ألا تفكر على هذا النحو أبدا.
فوعدها، ونهضت، فهم بالنهوض، فلمست كتفه وأومأت إليه أن يبقى، وقالت: سأسبقك، ودعني نصف ساعة، ثم الحق بي.
وكانت هذه أول مرة تزينت فيها محاسن لحبيب، فلما صعد إليها حمدي ورآها وقف، كأنما صده شيء، وفتح فمه من الدهشة وندت عنه آهة إعجاب بحسنها، وكانت في ثوب أبيض من الحرير مطرز بفصوص من خرز بنفسجي، ومفتوح الجيب، يكشف عن أعلى الصدر والظهر، وحول جيدها عقد من اللؤلؤ زاده رقة ونصاعة، وفي أذنيها قرطان - من لؤلؤ أيضا - وفي شعرها هلال مكلل بفصوص شتى الألوان على هيئة النجوم، وعلى يمناها سوار مفتول من فضة، وقد طاف برأسها وهي تضع هذه الحلي أنها بعض ما أهدى إليها نسيم.
ودنت منه ولصقت به حتى شعر بدقات قلبها السريعة، فجمعها بين ذراعيه، وضمها إليه بقوة، فطوقت عنقه بيديها وتعلقت به وثنت رأسه إليها، فالتقت الشفاه في قبلة حارة تركتهما ينتفضان، فحملها على يديه كأنها طاقة زهر، ومضى بها إلى الطارقة وقعد وهي في حجره.
وهمس في أذنها: هل تعلمين أنك من وزن الريشة؟ فضحكت، وثنت إليه وجهها، واستدارت شفتاها للقبل.
2
وكل شيء في هذه الدنيا اتفاق، أو حظوظ وقسم، وقلما يغني التدبير والسعي والطلب غناء المصادفة، وما أكثر ما «تأتي المقيم - وما سعى - حاجاته، عدد الحصى، ويخيب سعي الطالب.»
وقد سعت أم سميرة سعيا حثيثا لتحمل سميرة على تطليق زوجها، أو على معاشرته معاشرة الأزواج، بعد أن طاشت، وتسرعت، وسلكت سلوك المأفون الأخرق، فما كان لكل هذا داع، وكان في وسعها أن تنأى عن محمود دون أن تتزوج غيره، وأن تصرفه وهي خافضة وادعة، فإن جهد النفس واحد، وما تتجشم من مرارة القطيعة لا يختلف في الحالين، فأما وقد دفعتها خفة العقل والسفه إلى ما فعلت، فإن عليها أن تراجع نفسها وتشاور عقلها، فإما أن تحيا حياة طبيعية، وإما أن تكف عن هذا العبث الذي تتكلفه وتضيف به عذابا إلى عذاب، وتفيء إلى ما هو أرشد وأولى بأن يبلغها سؤلها؛ فما من شك في أن محمودا انتسخ أمله وقنط لما رآها تزوجت، ولعله زاد نفورا لما علم أنها جعلت العصمة في يدها، فإنه شاب فيه إباء مر، وله خلق وعر، وقد كان يثقل عليه أن لها مالا، فلا بد أنه كره منها أن تستعلي على الرجال، ولكنه خليق إذا علم أنها أصبحت حرة طليقة غير موثقة - وإن كان الزمام في يدها - أن تخايله صورتها، ويعاوده طيفها، وتمثلها المنى لقلبه بعد أن أشاح بوجهه عنها يأسا منها، فما يموت الحب هكذا، ولو كان لهو ساعة لبقيت له بذكراه نوطة في القلب وعلوق بالضمير، وما تنقصه إلا قدحة زناد تطير شرارة ترده مسجورا، والأرجح أن محمودا حاني الجوانح والقلب على حبه مذ حدث ما حدث، ولعله يتجلد ويعاند، ويكابر، ونفسه - وهو يدري أو لا يدري - موكلة بسميرة، مملوءة من حبها، وعسى أن تكون ما زالت عنده مرعى الأماني، ورضى النفس، وحسب الهوى، يراها بالود وإن لم يرها بالعين، ويدنيها الفكر المفجوع حتى تتراءى له توهما. ولكن هذا كله يظل علة شقوة لهما كليهما ما دامت موثقة بهذا الوثاق السخيف، وإن كليهما لمحل عما هو حقه، فإما أن تسكن سميرة إلى الواقع الذي اختارته بفساد عقلها ونزقها، وإما أن تتنكب لتهيئ فرصة جديدة لمحمود ولنفسها.
ولكن منطق الأم الحكيمة المجربة لم يقنع سميرة التي كبر عليها أن تقر بالغلط بل بالنزق والخفة، فظلت معاندة جامحة، حتى كان يوم.
وكان محمود قد كف عن حضور السباق، مخافة أن يلتقي في حلبته بسميرة، فتهيج حرقاته، ويصدر عنه ما لا يحمد أو يليق، ثم ألحق بخدمة الحكومة وصار ذا وظيفة، فرد البطاقة إلى الصحيفة التي كان يكتب إليها مكتفيا بالاعتذار بأن «صاحب بالين كذاب»، ولم تكن الوظيفة تستنفد وقته أو مجهود شبابه، وإنما كان يخشى أن يشهد السباق - كما قلنا - فيتفق أن تكون سميرة هناك، وحينئذ ماذا يصنع؟ يتحمل؟ يغضي؟ يظهر الفتور وقله الاكتراث؟ يحييها؟ يجتنبها؟ وهي، ماذا عساها تصنع؟
صفحه نامشخص