الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
ثلاثة رجال وامرأة
ثلاثة رجال وامرأة
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
الفصل الأول
1
لعل من العبث أن يحاول المرء أن يرسم بالقلم صورة لإنسان أو شيء ما، ولا سيما إذا كان الكاتب رجلا والموصوف امرأة؛ فليس أجهل من الرجل بالمرأة ولا من المرأة بالرجل، وإن كانا يعيشان معا، ويتحابان - لا أدري كيف؟ - ويتزاوجان ويعمران الأرض بنسلهما، ويبذران ذريتهما كالحب، ولا تسألني كيف يأتلف هذان المختلفان، ويتواطن هذان الإنسانان - إن صح أن كليهما إنسان - وكل منهما لصاحبه لغز لا حل له؟ فما كنت خلقتهما أو شهدت خلقهما، أو عاصرت جديهما الأعليين حتى أدري.
على أن التصوير بالقلم - وإن كان لا يفيد أحدا صورة واضحة المعارف بينة السمات متميزة اللمحات - يتيح لكل قارئ أن يرسم لنفسه صورة، يؤلفها خياله مما توحي به الأوصاف، وكفى بهذا مغنما، والله أرحم بالكتاب من أن يجعل عناءهم باطلا وتعبهم لا خير فيه.
فلنتشجع إذن، ولنتوكل على الله الحنان المنان.
كانت الليلة ساجية طلقة، والقمر متسقا مضحيا في سماء تبدو في رأي العين كالمخمل، والدنيا المسحورة من نوره الواضح اللين في فوف منسوج من خيوط سود وأخر فضية، وقد أفضلت لها فضول، والأشجار تذهب في الهواء كأنها عمد مدهونة، وتلقي ظلها مونرا على الأرض، وتعطر الجو، والنوافذ والشبابيك كلها مفتوحة يهفو منها ترجيع شجي يمتد به صوت أنثوي ينتقل من نغمة إلى نغمة في غير تكلف أو جهد.
وكان في حديقة البيت جوسق (كشك) سداسي الشكل مصنوع من أعواد الخشب، وقد تعلق به وارتقى فيه وظلله النبات، وفيه مائدة عليها بقية من لحم، وجزلات من رغفان، وقطع من مخلل الخيار واللفت والجزر والباذنجان، وقرص متصدع من جبن حالوم، وزجاجات جعة بعضها نصفان أو دون ذلك، والبعض لا يزال في الثلج وعليه سداده لم ينزع، وقد جلس إلى المائدة ثلاثة أمامهم الأقداح وقد أبطئوا بها بعد أن كادوا يمتلئون من الطعام والشراب.
وأول هؤلاء الثلاثة وأولاهم بالتقديم - وإن لم يكن أحقهم بالتعظيم - عياد وهو شركسي الأصل، يؤمن بالشارب المفتول، والعين الحمراء والبرجمة في الكلام، والزعقة الشديدة حين ينادي خادما أو غيره، وإن كان الجرس قريبا، وزره يتدلى فوق المائدة من سقف الجوسق. ولا نحتاج أن نقول إنه شخيص لحيم، وإنه شديد الوطء على الأرض، وإنه لا خير فيه ولا شر، إلا أن يجيء الخير عفوا، أو يجيء الشر من قلة العقل أو النفخة الكذابة.
والثاني في هذا المجلس: الأستاذ حليم، وهو مدرس قديم ناهز الخمسين، وآثر الراحة، فاعتزل العالم مكتفيا بدخل خاص يسير، ومعاش يقبضه كل شهر من الحكومة وهو قاعد، وهو ضاوي الجسم خفيف اللحم معروق الوجه، دقيق عظام اليدين والرجلين، يأكل كثيرا ولا يرى أثر ذلك عليه في بدنه، وحديثه طويل فلنرجئه إلى أوانه.
والثالث شاب في العقد الثالث، بتع شديد المفاصل، سريع خفيف حسن الصورة، بياض وجهه تعلوه حمرة، وعلى جلده نمش قليل، وهو خطيب محاسن بنت عياد، وقد آثره على غيره لبياض وجهه، زاعما أن هذا يسلكه مع الشراكسة والأتراك، ويرفعه عن طبقة الفلاحين الغبر الوجوه، وإن كانت الحقيقة أنه فلاح ابن فلاح جلا عن قريته بعد أن أضاع أرضه فيها، فشب ابنه حضريا صرفا وقاهريا محضا، وتعلم الهندسة وفاز بوظيفة في الحكومة، واسمه في شهادة الميلاد محمود، ويدلله أهله تدليلا سمجا فيقولون: «حودة»، ومن الإنصاف أن نقول إنه يستسخف هذا الاسم، وكان يثور على من يدعوه به، ثم رأى أن هذه حكاية شرحها طويل فاكتفى بألا يجيب كأن المنادى غيره.
وكان عياد أكولا شريبا، ولم يكن هذا يعني أحدا سواه، ولكنه كان إذا آكل أحدا أو شاربه، لا يزال يحضه ويستحثه، ويزين له الطعام ويغريه به، ويوالي عليه الكأس دراكا، وكان من السهل على محمود أن يسايره؛ فإنه شاب قوي لا يتعذر عليه - بل لعله يباهي بأنه يستطيع - أن يكثر مخلطا من صنوف الطعام مستقصيا لها.
أما الأستاذ حليم فكان رجلا قد كبر ، فهو يؤثر أن يكون زهيدا لا يأكل إلا دون الشبع، ويأبى له ما عودته مهنة التعليم من المحافظة على وقاره واحتشامه، أن يشرب حتى يتطرح، كان إذا ألحف عليه عياد يرفع الكأس ويميلها على فمه، فعل الشارب، ثم يردها وما حسا إلا قطرة أو بلة ريق، على حين يعب عياد العبة الروية ويضع الكأس كأنما يدق بها المائدة ويقول: «اهح» ممطوطة ممدودة، وكان هذا دأبه حين يشرب؛ يعكف على الشراب جزافا غير حافل بالكيل كأنما هو في سباق أو رهان، ولا يرضيه إلا أن يرى غيره عاكفا مثل عكوفه، فإذا استأنوا كبر في ظنه أنه قصر في التحفي والإكرام، وكان واسع الخلق؛ لا يدع عنده شيئا من الجهد في إكرام ضيفه، ويجد في انبساط نفسه بالكرم راحة ولذة وزهوا، ولكنه كان إذا شرب يثقل على ضيفه ويضجره بالإلحاح عليه أن يقبل على ما قدم له.
وعبثا كان الأستاذ حليم يقول لعياد: يا أخي كن منصفا؛ إن معدتي حوصلة دجاجة، فأين تريد أن أدس كل هذا الطعام والشراب؟ وهو لو وضع في كفة ميزان ووضعت أنا كلي بما علي من ثياب في كفة أخرى، لرجح علي.
فيقول عياد وهو يلمس شاربيه المصمغين - أو هكذا يخيل إلى المرء؛ فما كانت شعرة واحدة تنفلت عن محلها في هذين الشاربين المبرمين بل المجدولين، أو تنطفئ لمعتها: كلام فارغ؛ أنا والله رأيت شابا أصغر منك جسما يأتي على قصعة فت ويجرفها جرفا، وكانت لأربعة فسبقهم إليها ومسحها ولحسها.
فيقول الأستاذ حليم: نعم، معدة جيدة قوية تحتمل الكظة، ولكن معدتي طاعنة في السن، فهي أشبه بمخلاة قديمة. هات لي معدة فتية وأنا أريك كيف أقش وأجرف.
ولكن عيادا يأبى أن يقتنع، بل يأبى أن يجعل باله إلى ما يقال، أو يسمح للحجة بأن تدخل رأسه وتكلفه عناء التفكير فيها؛ لأن معدته هو هي المحك، والمقياس حجة، وما دامت هذه دائبة كالعصرين من دهره في غير كلال أو فتور، فلا عذر لمعدة أخرى إذا قصرت أو ونت ، ولو كانت أقدم من هرم خوفو أو جبل المقطم.
وكان التطريب الذي قلنا إنه كان يهفو في تلك الليلة الساكنة الضحياء إلى الجلوس في الحديقة، مصدره محاسن، وهي فتاة غضة السن صغيرتها، تدلف إلى العشرين، ولكنها فيما يرى أبوها عياد قد صارت إحدى المصائب الكبرى، وكانت دقيقة الطول ممشوقة القد، أو نحيفته إذا اعتبرت خفة اللحم على الذراعين والصدر والبطن، ولكنها كانت عريضة الألواح كالغلام، وثدياها صغيران وإن كانا راسخين كالكمثرى الصغيرة، وحلمتاهما ناشزتان طويلتان وحولهما من السواد أكثر من المألوف في العذارى، كأنما كانت قد ولدت وأرضعت، فأما محياها فأسيل الخدين وإن كانا متهضمين قليلا، وأما شفتاها فرقيقتان جدا، يفتران حين تبتسم عن ثنايا عذاب، إلا أنها ليست بالناصعة البياض؛ لإفراطها في التدخين بكره أبيها ورغمه، وأما عيناها فنجلاوان ظمياوان، ولكنهما تبدوان حين يعروهما فتور أو كمد أو اضطراب ثابتتين، ويخيل إليك أنهما أظلمتا، وكان حاجباها سابغين مهللين كأنهما خطا بقلم، وجبينها عريضا واسعا، وشعرها أسود فينانا في طول واسترسال ونعومة، تفيئه كيف شاءت بغير احتفال أو عناء، وكانت تؤثر أن ترسله ولا تجمعه.
أما أنها إحدى المصائب الكبر؛ فذاك لأنها عرفت من سيرة أبيها ما كان يكره أن تعرف هي أو أمها، ولكنها كتمت سره واكتفت بإذلاله به، فأرخى لها الحبل على الغارب، فركبت رأسها، ولم تعد تحفل غير أمها، وكانت هذه ضعيفة بطيئة الجسم والعقل معا، لا متصرف لها ولا حيلة عندها.
على أن الفتاة لم تكن سعيدة بهذه الحرية أو موفقة فيما تعالج أو تدبر أو تطلب من الأمور، وقد ورثت عن أبويها ضعف الرأي، وقلة الإحكام للمراد، والاستعداد للرضى بالكلام، والاستنامة إلى كل أحد، وشيئا من الزهو والغطرسة والميل إلى التظاهر والتفاخر بالباطل أو بأكثر مما هناك.
وكان جانب الغفلة فيها يكاد يلقيها على المعاطب، فلا يقيها إلا بقية حذر مستفاد من الكبر الموروث والأنفة أن يقال غوت وضلت بنت عياد، ومما أكسبتها الحرية من اعتياد الاعتماد على نفسها في أمورها وإيقاظ ما في رأسها من عقل ليعينها ويمدها بالرأي فيما هي ماضية إليه. على أن الأرجح أن هذا كله ما كان ليجديها ويحميها لولا أن ساعفها حسن حظها.
على أن حسن الحظ أمر نسبي؛ فقد كانت حسنة الحظ إذا اعتبرت ما آلت إليه في كل مرة من السلامة، ولكنها كانت سيئة الحظ إذا اعتبرت أن أملها خاب في كل مرة حتى كادت تصير إلى اليأس في كل ما تطمع فيه وتحرص على إدراكه؟ فاضطربت أعصابها وأتعبها وأقلقها قلبها بنوبات من الخفقان الشديد لا مثيل لها إلا هذا الاضطراب، وقللت طعامها، لا زهادة فيه، ولا عن ضعف اشتهاء له، بل من الضجر والحيرة وقلة التوفيق وكثرة الإخفاق وخفاء ما ينعش من العثرات، ويصلح هذا البخت المقلوب.
وزاد الطين بلة لما تعلق أبوها بحسانة يهودية راح يحملها معه إلى المصايف والمشاتي ويزعم لأهل بيته أنه مندوب لمهمات تستوجب هذا السفر والغياب؛ فأنزفت هذه المهمات أكثر ماله، وقتر على أهله في النفقة، وأصارهم إلى ضنوكة غير معهودة، وإن كانت في ذاتها محتملة ولكن وطأتها ثقلت بالقياس إلى ما كان من السعة، وشق على محاسن أن تلقى نفسها تروم الشيء فلا يتهيأ لها، وأنها اضطرت إلى الكف عن التعلم، وكان مرجوها أن تواصله حتى تبلغ به مناها فتصبح شيئا له قيمة وبه استقلال، فتفيد بذلك مزية تضيفها إلى مزايا الحسن والشباب وكرم الأرومة؛ فقد كانت تعتز بأرومتها الشركسية وإن كانت رقة الحال قد خففت من غلوائها وطامنت من كبريائها.
وكان كل هذا - مضافا إلى ما يهتف به شبابها، وما تجده من الرغبة فيها والإقبال عليها - ربما أغراها بالإطماع في نفسها دون التمكين، فاعتقد الشبان الذين اتصلت بأسبابهم أسبابها نوعا ما، أنها مخادعة عابثة، تظهر خلاف ما تبطن، وتعطيهم باللسان ما ليس في القلب، وتجريهم وراءها لتلهو بهم وتسخر منهم، فانصرفوا عنها ساخطين محنقين، وبسطوا ألسنتهم فيها، فصارت لها سمعة لا تطيب لامرأة، وإن لم تكن من الحق في شيء.
ومع ذلك خطبها غير واحد قبل محمود، فأما أول الخطاب فعلق خطبته على شرط أن يزوج أخته، وكانت تصغره؛ لأنه كان أبر بها من أن يختص نفسه بنعيم الزواج دونها، ولكن عزوبة الأخت طالت فضجر عياد أفندي ومحاسن، ونقضا الخطبة.
وجاء ثان من إخوان عياد أفندي وجلسائه وسماره، ولم يخطب البنت، ولكنه تحبب إليها، وصفت هي إليه بودها؛ فقد كان أنيس المحضر لطيف الفكاهة سخي اليد، وخيل إلى عياد أفندي وامرأته أن المسألة مسألة أيام، ولكن الأيام والشهور تقضت وهو لا يزيد على التودد، ولا يجاوز ما يبدو من إقباله إلى الخطبة والطلب، ولا حتى إلى الوعد، وما زالت نيته مضمرة لا يتحدث بها أو يكشف عنها، وإن كان لا يكف عن إظهار المودة والإعجاب، والغيرة أحيانا.
ثم كان محمود، وهو يحبها، ولا يجهل ما قيل فيها وشاع عنها، وكان يعلل هذا بأنه قدح شبان لم ينالوا منها منالا فذهبوا يشنعون، وللذي قالوا فيها أدعى إلى فخرها، وبحسبها أنها امتنعت عليهم واستعصت على المغريات، ولكن أشياء بقيت مع ذلك تحك في نفسه وتدور في صدره، ولا سيما حين يرى قلة مبالاتها بما يكون منها؛ كأن تذهب إلى السينما مع رجل لم تعرفه إلا في يومها، بل قبل ساعة واحدة من الاقتراح، أو حين تقبل على الأستاذ حليم إقبال الألفة والثقة وتسارره وتضحك، ويساررها ويبتسم كأن بينهما ما يكتمان أو ما يتساقيان تذكره.
ولم تكن محاسن تبادل محمودا حبا بحب، بل لعلها لم تكن تباليه أو تعبأ شيئا بإقباله أو إدباره، إذا صح ما كانت تفضي به إلى الأستاذ حليم حين يخلو لها وجهه، ولو كان محمود حصيفا لكان الأرجح أن يسلس في يده قيادها، ولكنه أثقل عليها ونفرها بأن كان عيابة لا يزال يقع فيها ويذكرها بما يشنع به عليها أهل الحي وعارفوها من غيره، ولا ينفك يسمعها من الكلام كل سوار يأخذ بالرأس كلما رآها طاشت أو نبت في العنان، فتثور به وتكايله وتقول له أوجع مما قال لها؛ فتقع الجفوة وتحل النبوة، ويفسد الحال، ويعجز عياد أفندي عن إصلاحه، فيستجير بصاحبه الأستاذ حليم، فيشكره محمود وهو كاره وفي قلبه غيرة تضطرم؛ لما يراه من سلطانه عليها وطاعتها له.
2
وكان أمر الأستاذ حليم عجبا، وهو رجل يتمثل فيه «نقص القادرين على التمام» كما يقول أبو الطيب؛ فقد كان محيط علم، وكان إلى علمه فهما نجيبا و«لوذعيا يرى بأول ظن آخر الأمر من وراء المغيب»، ومع ذلك أبى أن يكون أستاذا في الجامعة وآثر الإخلاد إلى الراحة؛ ولو شاء مع الراحة وخلو الذرع وانفساح الوقت لجاء الناس بجناة طيبة وثمار يانعة من شجرة علمه المحلال، ولكنه ترك الخلفة واللحق من ثمرها يهمد في موضعه ولا يدرى أو ينتفع به الناس، وكان ماله كافيا للسعة والخفض ونعيم البال، ولكنه كان يعيش عيشة الشظف والضيق كأنه مخفق مخف من المال أو مسكين، وكان أخوف ما يخاف الفقر والحاجة، فهو يضيق على نفسه وأهله خشية الضيق، وكان معافى في بدنه، ولكن طول إكبابه على التحصيل ومواظبته على الدرس والمطالعة مع قلة الطعام وسوئه، أورثاه ضعفا في جسمه وفسادا في معدته وحشاه وتلفا في أعصابه، ومع ذلك لا يستشير طبيبا ضنا بأجرته وثمن الدواء، واكتفاء بما يصفه له إخوانه من العقاقير «البلدية» مثل المصطكا والحلتيت وما يجري هذا المجرى، فلم يصح قط مما به.
ووقع له في عنفوان شبابه ما زاد تلف أعصابه؛ فقد أحب جارة له معلمة مثله، وكانت ذات حسن وشورة، طيبة النفس ضحوكا، وأريبة موثوقا بفضلها وعقلها، ولكنها كانت أيضا ذات فلسفة وعناد، وأحبته سميحة كما أحبها، غير أنها لما عرض عليها الزواج ترددت، وسوفت، وكانت تقول لأختها كلما جادلتها ونهتها عن هذه المماطلة التي لا خير فيها ولا حكمة: إني أحب الأستاذ حليما؛ أحب مظهره ومخبره؛ فإنه سمح واسع الأفق رحيب النفس، وأحب مشيته التي لا تكلف فيها ولا جهد، وأحب صوته ونبرته المرتعشة، وأحب فوق ذلك لمعة عينيه وذلك الإدراك التام الذي لا أخطئه فيهما حين أنظر إليه، ولكن هناك شيئا يخيفني، لا أدري ماذا، وإن في نفسي لشكا عجيبا؛ فأنا أحبه، ما في هذا شك، ولكن أشك في قدرتي على مبادلته حبه لي، فإنه عميق مستغرق، ويفزعني شكي هذا، فأحس كأني أتحسس في الظلام باحثة عما لا أدري.
وأخيرا تم الزواج.
وقالت لها أختها ليلة الجلوة - وكانت أحكم طبعا: إن في حليم كل مشتهى المرأة؛ وأعتقد أنك ستكونين معه سعيدة، ولكني أرجو أن تذكري دائما أن عليك أنت بذل أقصى ما يدخل في طاقتك لإسعاده؛ فإن على المرأة أن تمنح بعلها فوق ما ترجو وتتوقع أن يمنحها.
وكان هذا أشبه بالإنذار، أو التحذير. وكانت سميحة تريد إسعاد حليم، وقد أسعدته؛ ولكنها كانت تبدو شاردة ساهمة كأن بها شيئا، ولم يفت صواحبها هذا، ولكنهن حسبنه من نشوة السعادة، فرحن يركبنها بالفكاهة، وهي لا يسعها إلا أن تبتسم متكلفة، فما كانت تستطيع أن تصارحهن بأنها دهشة فزعة، وأنها تخاف شيئا مجهولا خفيا لا تدري ما يهجم عليها منه.
وقال لها حليم لما انفض الجمع وخلا بها: إنك ما زلت طفلة، وسيكون عليك أن تعرفي الحياة، وتفهمي معناها، وإنه ليسرني أني سأكون معلمك.
فأحست أن هذا تأنيب؛ فكأنه قال لها إنه وجدها دون ما كان يتمثل، ومن أجل هذا يتكلف هذا التعليل لما تبينه من النقص، ولعل الأرجح أنه لم يكن يدرك - ولا هي أيضا - أنها كانت غير ناضجة من الوجهة الجنسية، وكان شعورها بنقص ما فيها يرتسم على وجهها، حتى لقد قال لها بعد يومين من زواجهما: ألا تستطيعين أن تبتسمي لزوجك؟ أتذكرينني؟ إنني الرجل الذي شرفته بأن تكوني امرأته.
فأكرهت وجهها على الابتسام لتستر ما يخالجها.
ثم استقرت الأمور، واطردت الحياة على نحو لا شذوذ فيه عن المألوف، وجاء يوم أحست فيه بدوار واضطربت معدتها، ونهضت فاستشارت طبيبا ثم عادت تحمل أشياء مما يعد للولدان، فلما رأى حليم ذلك أبرقت عينه وسألها: ما هذا؟ قالت: لولدك، فجمعها في ذراعيه مترفقا وقال بصوت خفيض كالهمس: أنت والولد! هذا كل ما ينشد رجل من دنياه.
وكانت تحدث نفسها أنها ينبغي أن تكون سعيدة، وتحاول أن تعتقد أنها كذلك، ولكنها على فرط ما جاهدت وطوله لم تستطع أن تتخلص من ذلك الخاطر المخامر الذي كان لا ينفك يقول لها: إن الزواج غير ما كانت ترجو وتتخيل.
وطال عليها الانتظار وثقل، وملت استشارة الطبيب كل بضعة أسابيع، واجتوت الطعام الموصوف، وتقززت عنه، وشقت عليها إدارة أمور البيت وتكلف البشاشة وهي تحس أن أعصابها كالشوك الحديد، ثم جاءها المخاض في منتصف الليل فذعرت وأيقظت حليما، وأصرت أن ينقلها إلى المستشفى.
وآلت سميحة أن يكون هذا آخر طفل تلده.
وأقبل عليها حليم ذات ليلة يقول لقد كنت جميلة قبل أن تحملي ولكنك الآن ... لا أدري، كأنما تم حسنك، لا أعني أنه كان ناقصا، وإنما أعني أن فيه شيئا جديدا يخونني التعبير عنه.
فقالت: هذا خيال، لقد طال سقمي حتى نسيت كيف كانت هيئتي قبل ذلك.
قال: كلا، فإن لك لوضاءة، وإن بشرتك لتبدو لي كأنما من الشمع، وأنت الآن زهرة يانعة، وكنت قبل ذلك كما.
وانحنى على الطفل وداعب راحته الصغيرة المطبقة بأصبعه الكبير ثم التفت إليها وقال هذه بداية طيبة، وإني لأرجو أن يكون إخوته وأخواته مثله صحة وصباحة.
فقالت له وهي مقطبة: اسمع، إني لا أريد أن أجيئه بإخوة أو أخوات، هذا حسبي، وهو الأخير، فاعرف ذلك.
فقال: لا أظن أنك جادة! وبعد السعادة التي فزنا بها؟!
قالت: التي فزت أنت بها.
وأصرت على أن تنقل سريرها ومهد ابنها إلى غرفة أخرى، كأنما كان هذا لا بد منه ولا غنى عنه، أو كأنما أرادت أن يكون مظهرا حاسما لعزيمة ماضية وإرادة حذاء.
من ذلك اليوم صار الأستاذ حليم كأنه مقيم في فندق لا يربطه بمن فيه غيره سوى الجوار، وفقد لفظ الأسرة معناه، والزواج مدلوله، وانطوى الرجل على نفسه، ولاذ بمكتبته، وانزوى فيها، ولم يقصر في مناشدة سميحة أن تفيء إلى القصد، وأن يفهمها أن اتقاء الحمل لا يقتضي هذا الذي هو فراق في حقيقته، ولا يمنع أن يعيشا زوجين وإن كان لا محيد عن الحذر واتخاذ ما يشير به الطبيب من الحيطة الوافية. غير أنها أبت كل الإباء أن تكون له أكثر من جارة، فقطع الأمل، وأضمر اليأس، وصار يتشمم ولا يذوق، ويشتهي ولا ينتهي له اشتهاء، ويجزع على الحرمان ويضنيه جهد التصبر والتجلد، ولا يجد السلوة وطيب النفس عن الزوجة العصية إلا بالخيال يلجأ إليه والكتاب بين يديه أو على ركبتيه، فيزوده ويغني خياله بصور مما يتلهف عليه من المتع التي فاتته بعد أن ذاقها واستطابها، واعتاض ذلك مما حرمه على إغراقه في الرغبة فيه والطلب له حتى صار ذلك له عادة وديدنا.
وكان ذلك في البداية أشبه بأحلام اليقظة؛ فكان يجلس في حجرة كتبه، ويتناول كتابا يفتحه بين يديه، كيفما اتفق، ثم يذهب يحاول أن يحضر إلى ذهنه صورا مما استحلاه في حياته الزوجية، ولم يكن يتمثلها على حقيقتها وكما كانت أو وقعت، بل كان يتلكأ عند بعض مناظر هذا الشريط الوهمي، ويتريث أو يستوقفه ليطلي متعته به، أو يؤكده ويبالغ في إبراز الصور، ويعمق ألوانها أو يخففها على هواه، ويحسنها على العموم ويطمس أو يحذف جملة ما لم يكن يرتاح إليه، غير أن هذه الصور المستمدة من حياته مع سميحة كانت لا تخلو من تنغيص؛ لأن سميحة لم تكن تثبت في علاقتها به على خلق واحد، ولا كانت تعنى بأن تبدي له اللطف والرقة والإقبال أو اللين والمراضاة، ولعلها لم تكن تستطيع ذلك لدخل في أنثويتها، وكانت معه في الأكثر والأغلب على حال المستسلم على كره ومضض، المزدري لما يضطر إليه، لا على حال الراغب المبتهج ببلوغ سؤل نفسه، فيبوخ مرة وتصيبه من بادي ضجرها وجفوتها قرة تتركه مع ذلك يتفصد عرقا.
من أجل هذا لم يلبث الأستاذ حليم أن زهد في هذه الصور التي يشوبها ويشوهها من كل ناحية ما ينفر منها، ولكن من أين له بصور أخرى ولا عهد له بسواها؟! وألفى نفسه عاجزا عن خلق شيء من لا شيء، أو الإبداع من غير توليد ، وأبت صحراء تجاربه إلا أن تظل سباسب؛ يسبر طولها ولا يلفي سوى رمضائها متقلبا له فيها؛ فاشترى مجهرا قوي العدسات، وكانت الحجرة التي اتخذها مكتبا على الطريق، فصار يوارب الشباك وينظر بالمجهر من الفرجة التي بين المصراعين، وكانت أمام البيت محطة للترام، وعلى كثب منها محطة للأتوبيس، وقلما يخلو الرصيفان من فتيات أو نسوة ينتظرن ليركبن ويتلفتن يمنة ويسرة، ويمشين خطوات من القلق أو الملل: فتبدو له صدورهن، وظهورهن، وجنوبهن، وسيقانهن كأوضح وأقرب ما تكون بفضل المجهر، فإذا جاء الليل وخلا بنفسه، حاول أن يتمثل الصور التي رآها في نهاره، واعتاد من جراء هذا حين يكون على الطريق أو في الترام أن ينظر إلى كل سيدة أو فتاة وهي مقبلة ثم وهي مدبرة، ولكن الفتيات الناهدات كن أحب إليه؛ لأنه وجد أنهن أقدر على ابتعاث نفسه وتحريك شعوره المكبوت، وعلى الرغم من إقباله على النظر وطول تحديقه في القدود، كان يجد عناء في إحضار صورهن إلى نفسه في خلواته، فقد كانت القدود المتخيلة تختلط وتتداخل ويتسرب بعضها في بعض، فيزوغ بصره، ولا يستطيع أن يتشبث أو يحتفظ - على فرط التوضيح - بصورة قوام واحد لا يموج أو يضطرب أو يتداخل في غيره، فيعود وكأنه ناظر إلى إحدى تلك المرايا التي تشوه الشخص فتجعله كله رأسا أو كرشا، وتفعل به غير ذلك من المسخ للتسلية.
ولم يكن الأستاذ حليم همه التسلية، وإنما كان همه سد خلة حقيقية وإخماد ضرم يشتد منه حر جوفه من طول الفطام.
وكان لفرط حيائه، ولما نشأ عليه من الاحتشام والتعفف، ولبخله أيضا، لا يخطر له، ولا يقدر حتى لو خطر له، أن يتخذ له خليلة، أو أن يعرف إحدى هؤلاء الطوافات اللواتي ينقدن لمريدهن ويقررن لما يصنع بهن. أما الزواج بأخرى غير سميحة فمسألة ليس فيها مجال للنظر.
وعلى الأيام صارت أحلام يقظته، مقرونة بأحلام منامه، وكانت أحلامه في أول الأمر ممعنة في الغمض، فإذا استيقظ لم يجد ما يذكر منها، وكان معظمها يدور على ما تشتهي نفسه ولا يجد الوسيلة إليه؛ ثم برز من بينها حلم صار يتكرر من حين إلى حين، ويزداد مع التكرار وضوحا وجلاء حتى كأنه خاطر مخامر، وسر هو به، فراح يعيده على ناظره في يقظته؛ ذلك أنه كان يرى نفسه في منامه يلتقي بأنثى على صورته هو، وكانت تشبهه في كل شيء إلا في الدمامة وفيما يتميز به رجل من امرأة، فكأنها العنصر الأنثوي الذي لا يخلو منه كيان رجل، قد انتزع وتجسد بشرا، وكأن الأستاذ حليما قد آض بذلك إنسانين: واحدا مكتملا يجتمع فيه ويتسق عنصرا الذكورة والأنوثة على نسبة ما في اليقظة، وواحدا ينشطر في المنام شطرين منفصلين: ذكرا وأنثى، متحابين متواصلين متراضيين متوافقين على الاستغناء بنفسيهما عما عز مطلبه في حياة اليقظة وثقلت عليهما وطأة حرمانه؛ فلا حاجة به بعد ذلك إلى تألف النافرة منه، أو مراجعة الممسكة عنه.
وكان أطيب ما وجد من هذا الحلم الذي طال ترداده حتى صار عنصرا ثابتا في حياته الخاصة المحجوبة، أنه كان يفيد منه شعورا مزدوجا، أي شعور عنصريه المتبديين في المنام، فازدهاه ذلك، وخيل إليه أنه بذ الرجال الذين لا يرون ما يرى بوجدانه ما لا يجدون، بفضل هذا الازدواج في شخصيته، وإدراك ما لا يستطيعون أن يدركوه ولا تخيلا.
على أن هذا كان ربما أقلقه وأزعجه؛ فقد كان يخشى أحيانا أن يكون مظهر شذوذ منكر، أو آية ضعف، أو عرضا لمرض، وكان كثيرا ما يهم أن يعرض أمره على طبيب، فيصده الحياء إذا لم يصده البخل، ويعود فيقول لنفسه إنه ليس من فعله، وإنه يحدث له عفوا، وفي منامه حين يضعف سلطان الإرادة، أو يستقل العقل الباطن عن العقل الواعي، وإنه على كل حال لا حيلة له فيه ولا قدرة على منعه، ثم إنه لا يرى منه ضيرا؛ فما زال هو هو في حياته العامة، وعلى العهد به مع الناس، وما أنكر الناس منه شيئا، ولا بدا عليهم أنهم يفطنون إلى هذا التحول الباطني الذي اعتراه، بل ليس هناك ما ينبئ أنهم واقفون على حقيقة ما بينه وبين امرأته، فقد كانت هي بادية السعادة بما صارت إليه من الرهبانية، وبولدها الوحيد الذي لا تبغي من الولد غيره.
غير أن هذا لم يطمئنه، وكيف السبيل إلى اطمئنان من لا يدري، ومن لا يزال يقول في صفة حاله وفي تعليلها وفيما عسى أن يكون لها من آثار بالظن والتخمين؟! وقد ألح عليه خاطر أفضى به إلى ضعف محسوس؛ ذلك أنه قال لنفسه: إن تمثل عنصر الأنوثة في الرجل - ذلك الشطر المكنون أو المغلوب على أمره في اليقظة - في المنام له بشرا، ليس بالأمر المألوف أو الشائع، وإن كان العلم لا يعيا بتفسيره، والعنصران: الذكورة، والأنوثة مندمجان لا ينفصلان، وتفاعلهما على نسبتهما في كيان الرجل هو الذي يكسبه شخصيته الخاصة وما تتميز به من خصائص القوة أو الضعف أو غير ذلك، وهما كموجتين غابت إحداهما في الأخرى، فصارتا موجة واحدة وكلا لا يتجزأ، أو كمصباحين متفاوتين اجتمع ضوءهما، فالنور المنبعث منهما معا وحدة وجملة يستحيل أن تتبين معظمها من أقلها، فإذا أمكن انفصال هذين العنصرين فيما يحس الرجل - ولو في منامه - أفلا يكون هذا تصدعا في كيانه، وإن بقي ثابتا متماسكا فيما يرى ويحس في اليقظة؟! وإذا أمكن أن نتصور تيارا مغنطيسا يلم ذرات أحد العنصرين ويجمعها ويعزلها عن ذرات العنصر الثاني، أفلا يكون مؤدى هذا نقض الشخصية التي كان قد أثمرها اتحاد العنصرين واندماجهما؟ واقتنع الأستاذ حليم بهذا المنطق، وراح يقول لنفسه: إنه كان كائنا حادثا من امتزاج عنصرين وتزاوجهما، فصار ينقصه على الأقل متانة الامتزاج، فهو كالبناء المتصدع المشفي على الانهيار، ولا مفر من أن تحدث هذه الركاكة الطارئة في بناء الإنسان؛ ركاكة في قوته وفتورا في قدرته على العمل والاحتمال، ورخاوة وقلة غناء، ولم يمنعه أن يقتنع بهذا أنه في يقظته يبدو كما خلقه الله، ولا نقص أو تهافت فيه ولا تغير؛ فقد قال لنفسه - كأنما كان مغرى بإقناعها: إن كل ما بين اليقظة والنوم من الفرق أن سلطان العقل الواعي يفتر في أثناء النوم، وأن الإرادة تضعف، فيسع ما وراء الوعي أن يتبدى، والأحلام راجعة إلى هذا، فدلالتها عظيمة، ومن الضلال والحمق الاستخفاف بها أو إهمال أمرها. وهكذا ظل يلح على نفسه بهذا وما إليه حتى أيقن أن به ضعفا جنسيا لا مراء فيه ولا حيلة، ووطن نفسه على ذلك فسكنت أعصابه إلى هذا اليقين، لطول ما ألح في رياضتها عليه.
وكان في وسعه أن يريح نفسه ويستعيد الثقة بها والاطمئنان إلى سلامته وبرئه من هذا الضعف لو قصد إلى طبيب؛ فما خلق الله الأطباء عبثا، ولكن حياءه وبخله أبيا عليه إلا أن يغرياه بالتفلسف على نفسه حتى فسد الأمر.
ومن الغريب مع ذلك أن حياءه لم يمنعه أن يسر إلى صديق له أنه يجد نفسه في هذه الأيام فاترا لا نشاط له؛ فزعم له صديقه أن هذا طبيعي؛ لأنه يعيش بين الكتب لا في الدنيا، وجره معه مرة إلى مجلس لهو لا كلفة فيه عليه، فألفى نفسه أميل إلى الصغيرات منه إلى غيرهن، وآنس بهن، وأقدر معهن على إرسال نفسه على السجية، وتناسي ما يعانيه من توهم الضعف.
ولم يتجاوز الأمر حد المؤانسة والمجالسة والمفاكهة، ولكن الأستاذ حليما انصرف من هذا المجلس وهو يعتقد أن علاجه أن يلتمس مجالسة الفتيات الصغيرات في خلقهن وأسنانهن؛ فإن الدقة في خلقهن توحي إليه معني القوة، وصغر سنهن يشجعه ويرد إليه الثقة بنفسه لغرارتهن وقلة تجربتهن - على الأقل نسبيا، وسره أن فتح الله له هذا الباب وهيأ له مخرجا يعفيه من ثقل وطأة الشعور بالضعف، وما من أحد إلا وهو ينشد القوة والبأس والسطوة، أو يدعيها على صورة من الصور إذا لم تكن مما وهبه الله وآتاه، وقد كان حسب الأستاذ حليم ما آتاه الله من العقل والعلم، ولكن ذلك الضعف الحقيقي أو المتوهم كان يثقل عليه وينغص عيشه، ويأخذ على عقله كل متوجه؛ بل هو الذي كان يوحي إليه ما يصدر عنه من قول أو فعل، فهمه في حياته أن يداريه، أو يعوضه إذا أعياه أن يتغلب عليه، أو يقويه.
وقد انتهى به المطاف إلى محاسن؛ لأنه شام منها عقلا وفطنة تعرف بهما قدره، وغرارة تجعلها تتطلع إليه، وقد طمست شهرته العلمية ضعفه الخفي، وتخيل القليل منه كثيرا عظيما في نظرتها، وآنس منها ثقة به أغرتها بالبث والقول بشجوها، ومصارحته بأخفى الأسرار، وكانت تجد من بساطته وحسن فهمه وسرعة فطنته وإقباله عليها مع سنه وأدبه ما يسهل عليها ذلك، فاتخذت منه قسيسا تعترف له، واتخذ هو منها تلميذة، وارتضت هي هذا المحل، فأقبل عليها يعلمها ويعرفها بالحياة وهو جاهل بها، أو لعل الصحيح أنه كان يمتحن فيها نظرياته وآراءه، وقد يكون الأصح أن نقول: إن نوع استجابتها له كانت دروسا يتلقاها عنها ويستفيدها منها.
ولم يكن أعجب من منظر هذا الأستاذ الضاوي المعروق الذي جلله الشيب - أو كاد - وهو يتأبط ذراع الفتاة الصغيرة ويرتاد بها منازه المدينة، ولم يكن في منظرهما أو حالهما ما يدل على علاقتهما، فكان الذي يرى وقار الشيب واحتشام الرجل ويؤثر حسن الظن يحسبها بنته، والذي يرى رقته لها وتحفيه بها وضحكه إليها ولطفه في مخاطبتها يستريب وينكر، أو يتردد على الأقل بين طرفي الاعتقاد غير قادر على الترجيح أو الجزم.
وكان إذا لقي - وهي معه - بعض زملائه القدامى، لا يضطرب ولا يتكلف، بل يقول لصاحبه في بساطة: بنتنا محاسن، ويبتسم، فينصرف الرجل وأكبر ظنه أنها بنت أخ أو أخت.
على أنه كان يؤثر المكان البعيد الذي لا يطرأ فيه عليهما من يعرف ومن لا يعرف، وكان في ضاحية نائية، فيقصد إليها بها في آخر النهار ومعه زجاجة صغيرة مبططة كانت لدواء، فيها شراب، حتى إذا بلغه وجد عبد الفتاح بائع القازوزة، فألقى عصاه عنده، ويجيئهما عبد الفتاح بكرسيين، وبالثلج والماء لشرابهما، وبخبزات مستديرة يابسة مخلوطة بالسمسم، وقطع رقاق من الجبن لطعامهما، وكان هو يشرب قدحه ويستطيبه ويتمطق أيضا، أما هي فكانت تذوقه وتزوي وجهها وتقبضه، فيضحك، وكان يحرص على أن يدعها تتحدث، مكتفيا بحسن الإصغاء والابتسام المشجع، وهز الرأس من حين إلى حين علامة الموافقة أو الفهم، فتفتح له قلبها وتدلق كل ما فيه، وقلما كان يثقل عليها برأيه وكلامه، ولكنه كان لا يسعه أحيانا إلا أن ينصح لها متلطفا معها ويوجهها إلى ما هو أرشد وأحجى وأولى بأن ينيلها مبتغاها، أو راحة القلب من وجع الدماغ، ويسره منها ويغره أنها كانت تصدر عن رأيه في كل حال.
وكانت محاسن مزاحة طيبة الحديث تقبل الملاعبة ولا تضن بالقبل، ولكنها لا تطاوع على ما سوى ذلك، وكان هو قانعا بهذا القدر، لا ينشد ما جاوزه - وإن كان يشتهيه - ولا يخطر له أن يغافلها، أو يغالطها أو يستدرجها أو يشجعها على ترك التحصن؛ لأنه كان يجد الكفاية من الاستمتاع في هذا القدر من التقارب للغزل، ويرى أن إخلادها إليه بالثقة والاطمئنان قد حمله أمانة، وقد اعتاد الكبح والحرمان، فأيسر الأمرين أن يمضي على ما ألف، وأعسرهما أن يتعرج، ثم إنه كان يخشى عاقبة الطمع، ويتقي أن يهجم - لو أن في طبعه أن يهجم - فيقعد به ما يتوهم أنه صار إليه؛ فقد كانت ثقته بنفسه مضعضعة.
غير أنه كان من العسير أن يلتقيا مرة بعد مرة، وأن تكون بينهما هذه الصحبة المتينة الطويلة، وأن يكون كل منهما للآخر ناموسه وصاحب سره، لا ينشرح للكلام أو يتبسط فيه إلا معه، دون أن يقع شيء ما، وقد أعان على ذلك ويسره اطمئنان محاسن إليه وثقتها بعقله وما تتوهمه من خبرته ومعرفته، ولينها له طول تقاربهما للغزل، وغلبته هو على عقله لهفته على امتحان نفسه، وخيلت إليه اللهفة أن في وسعه أن يغالطها ويستر ضعفه بحيلة ما، إذا أخفق؛ فإنها غريرة، خليقة أن تحسب كل شيء منه هو الغاية التي ليس وراءها غاية، وشجعه اطمئنانه إلى سلامة العاقبة، وظل أياما مترددا مترجحا، ولكن ما يدفعه كان أقوى مما يصده.
وجاءته يوما تقول إنها لم تقر في شهرها وأنه لو لم يمسسها لما أوجست خيفة، فذعر المسكين ولم يعد يدري ماذا يقول أو يصنع، وأنحى على حظه، ولعن نحس طالعه، على أن خوفه كان عليها وجزعه من أجلها، ومن العجب أنها - على قلقها - كانت هي التي تطمئنه وتحاول أن تذهب عنه الروع.
وذهبت إلى طبيب تعرفه، ولم تزد على أن قالت إنها لم تقر، فوصف لها حقنا وعقاقير؛ منها ما يفيد القوة، ومنها ما هو للتنظيم، فلم يفد ذلك.
وكان هو لا يستقر، ولا يدري بمن يعوذ، ومن يشاور؛ فإن المشاورة تقتضي البث والمصارحة، وذلك ما لا يقوى عليه، ومن سخر القضاء أن عيادا كان هو الذي أنقذه؛ ذلك أنه لاحظ عليه الاضطراب والوجوم والكمد، فسأله عن خطبه، فتلجلج، وماذا تراه يستطيع أن يقول لأبي محاسن؟! ولم يفته ما في الموقف من تهكم الأقدار، فضحك - وشر البلية ما يضحك - وألهمه الله أن يلفق قصة طويلة عريضة اخترع كل ما فيها إلا ما يقيمه ويقعده، فطيب عياد خاطره، ودله على طبيبة نظارة مدققة، وعرض أن يرافقه إليها، ولم يكن عياد خالص النية فيما عرض، فقد نازعته نفسه أن يرى هذه الفتاة ويعرفها، وطمع أن تتصل أسبابه بأسبابها، غير أن الأستاذ حليما أبى المرافقة، وهل كان يسعه غير ذلك؟ وقصد إلى الطبيبة وحده أول الأمر ليستوثق من أنها لا تعرف محاسن، لما اطمأن مضى بها إليها، فعالجتها علاجا حكيما فيه بعد نظر واحتياط لكل ما هو محتمل، حتى لا تسيء إلى الفتاة من حيث تريد أن تحسن، وكانت تطلب حقنا وتصف وصفات بلدية تعرف من خبرتها أنها نافعة شافية، وكان الأستاذ حليم يدور على الصيادلة والعطارين ينشد عندهم ما يؤمر أن يجيء به، وقد أنساه الجزع بخله وكزازته فانبسطت يده بعد طول الانقباض، وقضى أسابيع ثلاثة لا يذوق النوم إلا غرارا، وإن كان ثقيل النوم كأنما يشرب مرقدا، وكان يصحب محاسن كل يوم إلى الطبيبة، وينتظر في مقهى قريب، وفي ظنه أن كل جالس أو عابر ينظر إليه ويتعجب، وربما كبر في وهمه أنهم يتهامسون أو يتغامزون عليه بلحظ العين وإيماءة الأصبع، ويتساءلون فيما بينهم عمن يكون؟ وماذا قذف به على هذا الحي؟ فكان يلهج في سره بالابتهال إلى الله أن يتوب عليه ويعفيه من الحاجة إلى غشيان هذا المقهى.
ودعته الطبيبة إليها يوما وأنبأته أنه لم تبق لها حيلة، وأن عليه أن يقصد إلى طبيب أخصائي، فما يسعها هي فوق ما صنعت، وأنها تخشى على نفسها، وعلى محاسن أيضا، إذا هي حاولت شيئا آخر، فتوسل إليها، والدمع يجول في عينيه، أن ترشده إلى هذا الأخصائي، فهزت رأسها وقالت بلهجة الأسف والإشفاق، إنها لو كانت تعرف أحدا لما اجترأت أن تتوسط له في مثل هذا الأمر، ولكنها دلته على طبيبة أجنبية قد يهديها الله فتسدي إليه هذه اليد.
فمضى بمحاسن إليها، ودفعه اليأس وخوف الإخفاق إلى مصارحتها بالأمر كله، فما بقي من هذا بد، عسى أن ينفعه عندها الصدق ويعطفها على الفتاة في محنتها، وكانت تصغي إليه وهي مطرقة تزوم، وهو يتفرس في وجهها لعله يلمح فيه ما يستبشر به، ولما انتهى قال: هذه هي الحكاية، واضطجع وفوض أمره إلى الله.
فقالت له: اسمع يا بك، أنا طبيبة، نعم، ولكني لا أستطيع أن أتكلف مثل هذا الأمر، لا جهلا بل خوفا. غير أن الفتاة جديرة بالرحمة، فإذا شئت استشرت في أمرها طبيبا، وسنرى ما يكون، فعودا غدا في مثل هذه الساعة.
وخرج لا يدري أيطمئن أم يقلق، وثقلت وطأة هذه الجرة عليه، حتى لتمنى أن يقنط؛ فإنه أرحم، وكانت محاسن تضحك منه، فيزجرها ويروح يهول عليها بما يقدر أنه سيكون ويسهب في الوصف ويتوسع في البيان كأنما يجد لذة في تعذيب نفسه، حتى يكاد يخلع قلب المسكينة.
ولكن الله لطف بعبديه، والله يضع رحمته حيث يشاء، وتشهد أستاذنا حليم، ولكن ما عانى من الكرب جاوز طاقته، فآلى ألا يعود.
وصارت محاسن بعد ذلك أهدأ، وأكثر اتزانا، وأقل خفة، فلو رآها الذين كانوا يقولون إنها طامحة الطرف لا تبالي أن تدنو من الرجال لتعجبوا، وأنى لهم أن يعلموا أنها امتحنت أقسى امتحان، وأن عزمها كان مستقرا على الانتحار، وأن تكلفها أن تظل ضاحكة السن قد كلف أعصابها شططا؟
وأنى لمحمود أن يعرف السر فيما صارت تتعمد أن تبديه من التبرم به والإعراض عنه؟
الفصل الثاني
1
ولم تكن محاسن أول من عرف محمود أو أحب أو كاد يتزوج، أو خاب له فيها أمل؛ فقد سبقت له علاقة بفتاة مدنرة مدرهمة، ولم يكن يعرف حين عرفها أن لها مالا، أو يعبأ بذلك. وننصف محمودا فنقول: إنه يؤمن بشيئين: أن من المهانة أن يكون الزوج فقيرا وامرأته غنية، وليس معني هذا أن على المرأة الغنية أن تنزل عن مالها لبعلها حتى يعتدل الميزان في رأي محمود، وإنما معناه أنه ليس مما يحفظ مروءة الرجل ويصون كرامته أن يتزوج امرأة لمالها، وقد يكون هذا رأيا عتيقا، ولكنه رأيه الذي يذهب إليه بدافع من إدراكه الخاص لمعني الكرامة، والثاني: أنه كان - على كونه مهندسا - يؤثر أن يكون «صحافيا»، ويظن ذلك خيرا له وأجدى عليه من تطبيق العلم على العمل، وأبى أبوه له هذا كل الإباء، وأنكر أن ينفق على تعليمه ما أنفق ليكون شيئا محسوبا في الدنيا فيصير «جورنالجيا»، ووفق محمود بين هواه وهوى أبيه، واتفق مع صحيفة على أن يكون مراسلها من ميدان السباق، وفاز بفضل ذلك ببطاقة تخوله دخول الميدان من غير أن يؤدي الرسم المفروض، والآن نجيء إلى ما صار يؤمن به؛ وهو أن الصحافي - فقد أصبح صحافيا بشهادة بطاقة السباق - لا يجوز له أن يتزوج؛ ولو كان أمر التشريع إليه في ذلك الوقت لجعل الصحافة من موجبات العزوبة كبعض الأمراض.
ولم يكن يعرف عن الخيل شيئا، ولا كان مطالبا بهذا العلم، وكان حسبه وحسب الصحيفة أن أندية السباق معارض جمال وأزياء وملتقى كل من هب ودب، ولم يكن عليه إلا أن يجعل باله إلى مناظر الناس لا إلى الخيل وإلى ما يكون منهن، وكفى بهذا تعليقا على السباق.
وقد لقي مرة واحدا من الأجلاف الذين تراهم في كل مكان يحسن أن يخلو منهم، فسأله - أي الجلف - بلا سلام أو تحية: أشر علي؛ على أي حصان ألعب؟
قال محمود: وهل أنا أعرف؟!
وكان صادقا في نفي العلم بالجياد وقيمتها في السباق؛ نعم كان يراهن، ولكنه لم يكن له في الاختيار فضل؛ فقد كان له صديق من المدربين لا يزال يتحفه بأسماء الجياد التي يتوقع لها الفوز، فيراهن بما شاء على ما شاء، ويجعل عينيه كما أسلفنا، لا على الجياد، بل على الناس؛ لأن القول فيهم هو العمل الذي يؤديه للصحيفة التي منحته البطاقة - أو الكارنيه - ويربح أو يخسر - يربح في الأغلب - بفضل هذا المدرب، وهو غير فاهم لماذا ربح أو خسر.
فقال - أي الجلف أيضا - بابتسامة ثقيلة: سم أي حصان، ولو بثلاث أرجل، يكفي أن تختاره ليكسب.
قال محمود: ماذا تعني؟
قال الجلف - وهو يضحك: إنه يسأل ماذا أعني! أعني أنك ولدت وفي فمك ملعقة من فضة.
ومضى عنه وهو يطرف ويغمز بعينه، فلو استطاع محمود أن يخنقه وهو آمن لفعل.
2
ولم يكن محمود في ذلك الوقت قد فاز بوظيفته في الحكومة، فإن أباه كان لا يزال يسعى، فوسعه - أي محمود - أن يعد نفسه صحافيا محترفا لا هاويا، ولما انتقلت الخيل إلى الإسكندرية انتقل معها.
واتفق يوما أنه كان يستريح على رمال الشاطئ في جليم بعد أن سبح حوالي ساعة، وكاد النعاس يغلبه، وهو مستلق على ظهره وذراعه على عينه، وإذا بصوت ناعم موسيقي النبرات يقول: والله عال، كأنه في بيته، وفي غرفة نومه، وعلى سريره! ترى بأي شيء يحلم؟
ولم يخطر له أنه هو المقصود، فإن الناس كثر، ولكنه تنبه ونحى يده عن عينه ورفع رأسه قليلا لينظر، ثم استوى جالسا، فقد رأى فتاة عليها برنس جاثية على ركبتيها وعاكفة عليه تتأمله كأنه حيوان غريب قذف به الموج.
وقال: معذرة، من أنت؟ هل أعرفك؟
قالت وهي ترد الضحك وتغالبه: كلا، ولكن المظلة تعرفني.
فصعد طرفه إلى فوق، فإذا هو تحت مظلة كبيرة مخططة لم يفطن إلى وجودها، ولم يشعر بها حين ارتمى على الأرض وقد تحلل به الإعياء وأنهكه جهد السباحة، ولم يسعه إلا أن يعتذر للفتاة ويرجو منها الصفح، وهم بالنهوض فردته بإشارة وقالت: لا تذهب، ولكن تنح قليلا فإن الشمس حامية.
فوسع لها، فدخلت تحت المظلة وقالت: كلا، لا تذهب فإن لك فائدة؛ إن ها هنا شبانا يلاحقونني ويضيقون علي.
قال: مجانين.
فرمت إليه بنظرة فيها بعض الحدة، ولكنها لم تخل من ابتسام، ومضت في كلامها فقالت: وقد خطر لي حين رأيتك ممددا تحت المظلة أن أتخذ منك مجنا يقيني تطفل هؤلاء ال ...
فقال على سبيل التلقين: المجانين.
فابتسمت وأطرقت، وجعلت أصابعها تعبث بالرمل.
وسألها: أليس معك هنا أحد؟
قالت: أمي، ولكنها لا تفارق الكابين؛ يمكنك أن تراها من هنا (وأشارت إلى صف الكابينات) وبالها طويل، وصدرها واسع وصبرها لا ينفد ...
قال مقاطعا: مسكينة.
قالت: من؟
قال: أمك.
قالت مستغربة: وما الذي يجعلك تظن أنها مسكينة؟!
قال: يظهر أنها احتاجت أن تروض نفسها على الصبر.
قالت: آه.
ثم كأنها تنبهت إلى معني فاتها فسألته: إيه؟ ماذا تعني؟
قال: لا شيء. لا شيء. استمري، فقد أعرناك أذننا. قالت بابتسام: أشكرك. ما اسمك؟ ومعذرة فلست أستطيع أن أظل أدعوك: يا حضرة.
قال: هل تصدقينني إذا قلت لك إن اسمي محمود؟
قالت (ورفعت حاجبيها المرسومين بالقلم، مقدار ملليمتر): ولم لا أصدق؟! محمود ماذا؟
قال: ألا يكفي اسم واحد؟! أقسم لك أني لست هاربا من البوليس، ولا من هؤلاء ال ...
وأشار بيده إشارة عامة شملت كل من على الشاطئ، أو في الماء، فقالت: المجانين. هه؟
فلم يفته مرادها، ولكنه تجاهله وتغابى وقال: على كل حال اسمي ليس سرا، وإن كنت لا أرى أن أكتبه على لوح وأرفعه على سارية، وما أظنه ينفعك العلم به، فما هو أكثر من بطاقة أعرف نفسي بها، فتفضلي، محمود فهمي.
قالت: وأنا اسمي سميرة.
قال: اسمعي، إن خير وقاية لك من هؤلاء ال ... ال ...
قالت: المجانين.
قال: أشكرك، المجانين، هي أن تنزلي إلى الماء وتسبحي.
قالت: هذا هو الذي يجمع الذئاب على الحمل ؛ فإني لم أتعلم السباحة، وكل ما أستطيعه هو أن أقف أو أقعد في مكان غير عميق وأخبط الماء بيدي، فيجيء هؤلاء ويحتاطون بي، ويعرض بعضهم علي أن يعلمني السباحة.
فقال محمود: أنت أخيب الخياب، أعوذ بالله!
فقهقهت ثم قالت: لماذا؟ هل السباحة ضرورية جدا؟
قال: أظنك لا تستطيعين أيضا حتى ولا أن تقلي بيضا؟
قالت: اسمع يا محمود! سأسميك محمودا بلا كلفة، فإن حديثك يعجبني، وأكبر ما يعجبني منك أني لا أعجبك، هذا واضح ...
قال مقاطعا: إن قوامك جميل.
قالت وهي تفحص قوامها بعينها: ألا تظن أني أنحف مما يجب؟
قال وهو يدير عينه فيها: نعم، قليلا. لقد كان لي زميل في المدرسة له مثل قوامك، وكنت أضربه علقة كل بضعة أيام، ولكن ساقيك أجمل، لا محل للمقارنة في الحقيقة، وصدقيني إذا قلت لك إنه ما من فتاة في هذا الزمن تستطيع أن تصل إلى شيء بغير ساقين جميلتين.
قالت: هذا ما أقول لأمي كلما قالت لي إن ثيابي قصيرة؛ يظهر أننا سنتفق.
قال: لا تتسرعي.
قالت: لا تخيب أملي من فضلك، بماذا تشتغل؟
قال: صحافي، وإذا أردت الدقة فإن كل عملي هو أن أذهب إلى نادي السباق وأصف لصحيفتي جماعة الإنسان لا جماعة الخيل المحتشدة هناك.
قالت لا يبدو عليك ذلك؛ هل تعلم أن الصحافيين ثقلاء؟ ولكن الحق على أمي، فإنها لا تزال تدعوهم إلى حفلاتها - لا أدري لماذا؟ أظنها تتوهم أن ما يكتبونه عن حفلاتها يساعد على تزويجي بسرعة؟ ولكن المسألة هي أنني لا أريد أن أتزوج، هل تعرف ماذا أتمنى أن أصنع اليوم؟ أذهب إلى السينما مع واحد مثلك لا أعجبه فلا يغازلني، ثم أتعشى بسندوتش فول مدمس.
قال: ولم لا؟! إني غير مشغول في هذا المساء.
قالت: لا أستطيع، مع الأسف، لقد دبرت لي ماما عشاء مع عمدة من معارفنا، وابنه، يا حفيظ! له أسنان بارزة وعين حولاء وتمتمة، وإني لأخشى أن أضطر إلى التزوج بواحد كهذا لأستريح من هذه المحاورات والمداورات.
قال: وهل تريدين أن تكوني عمدة؟
فضحكت ثم قالت: إنما أريد ألا أقابل أحدا يريد أن يتزوجني.
قال: لا بد أن هناك كثيرين لا يريدون، فلا تيأسي.
قالت: ولكن كثيرين يا محمود يعدونني جميلة.
قال: لا تصدقيهم، فإنهم يخدعونك، وربما كانوا يجاملونك، ولعلهم يظنونك غنية، فهم يطمعون في مالك.
قالت: ولكني غنية.
قال: آه، انحل اللغز.
فسألته: ألا تراني على شيء من الجمال؟
قال: لا أدري، على كل حال لست أحب اللون الأسمر.
كانت هذه هي البداية.
وقد التقيا بعد ذلك مرات على الشاطئ، في جليم أيضا، فإنه حيث يكون الكابين يكون صاحبه أو صاحبته والذين يحومون حولها.
وفي إحدى المرات استبقته، وجاءت بحقيبة كالتي يتخذها التلاميذ سوى أنها من جلد نفيس، وأخرجت منها طائفة من السندوتش ودعته إلى مؤاكلتها وقالت له وهي تقضم: اسمع.
قال: كلي أذن، هاتي.
قالت: خطرت لي فكرة، إنك تريد أن تقضي بقية الصيف في لبنان، هه؟
قال: أتمنى.
قالت: ولكنك لا تستطيع.
قال: صدقت، العين بصيرة، واليد قصيرة، وأبي يهيئ لي وظيفة لأكسب رزقي بعرق هذا الجبين العريض.
قالت: تستطيع.
قال: ماذا؟
قالت: أن تترك لي السندوتش بالبطارخ فإني أحبه.
قال: الضيف مفضل يا آنسة سميرة.
قالت: اسمع. اذهب إلى لبنان.
قال متمثلا: ملنا أم بنا بنا، أم جفانا وقلانا واعتاض منا سوانا؟ ألم أقل لك أن العين بصيرة ...
قالت: ولكنك تستطيع، ألا تفهم؟!
قال: أتراك تعرضين علي قرضا حسنا أو هبة؟
قالت: بل أعرض عليك الزواج.
قال: هذه هي التي لا تريد أن تتزوج؟! الاقتراح مرفوض، والرفض مقرون بنصيحة؛ أن تذهبي إلى الطبيب حالا.
قالت: اسمع لا تكن متعجلا.
قال: أنا؟! أنا المتعجل؟!
قالت نعم، اسمع، تتزوجني وأتزوجك.
قال: مفهوم، زواج متبادل، لا من ناحية واحدة فقط! مرة أخرى أقول: يفتح الله.
قالت: ولكن ماما موافقة.
قال: شيء جميل، إذن فلتتزوجك هي.
قالت: أنت أناني، وقاس، وقلبك كالحجر.
فلم يسعه إلا أن يضحك فقالت: إني أعرف أنك لا ... لا ... إني لا أعجبك، ولكني لا أطالبك بشيء، ستكون بعد الزواج حرا، تحيا وحدك، وتذهب إلى حيث تشاء، وتصنع ما يحلو لك، وكل ما أبتغيه هو أن أستريح من الذئاب التي تحوم حولي وتلوب، ومن المداورات التي لا تنتهي، وإذا شاء الله ووجدت الرجل الصالح، دعوتك أن تطلقني لأتزوجه، فأي بأس في هذا؟! ألا تحب أن تساعدني؟ ألا تريد ...
فقاطعها قائلا: إن كل ما أريده الآن - حالا - هو جرعة من الكونياك لو كان إليها هنا سبيل.
ولم يتزوجها؛ لأنه لم يستطع أن يقنع نفسه بهذا التمثيل الجنوني، ورأى بعد ذلك أن ينأى عنها ويتقي لقاءها؛ واتقاء الفتنة خير من التعرض لها.
وذهب الصيف، وجاء الشتاء، وانتقل ميدان السباق إلى الجزيرة ومصر الجديدة، وهناك كان يلقاها برغمه، وكان يرافقها شاب لا يعرفه ولا يستخف ظله، ودعته مرة إلى الشاي في منزلها، فاعتذر، فألحت، وقالت إنها تريد أن تعرفه بخطيبها، وإنها حدثت خطيبها عنه كثيرا فسألها: من عسى أن يكون؟
فأشارت إلى الشاب.
فقال محمود مستغربا: هذا المخلوق؟!
قالت: ليس بمخلوق، إنه حمدي، ثم إنه يحبني ويعبد التراب الذي أمشي عليه.
قال: ظاهر، ظاهر، فهل تريدين أن أهنئك؟!
قالت: ولم لا؟! ألا يمكن أن تقول لي كلمة ظريفة؟
قال: على عيني ورأسي، ما أرخص الكلام، مبروك، مبروك، وهنيئا له.
قالت: لا تتهكم.
قال: وماذا أصنع إذا كنت ترمين نفسك على هذا القواد؟!
قالت: إنه ليس قوادا، إنه موظف، ثم إني لم أرم نفسي عليه، هو الذي ...
قال: هذا ألعن، يضحك عليك هذا البراد؟
قالت ودبت برجلها: ليس برادا فلا تكن فظا، ثم إنه يحبني.
قال: وأنت؟
قالت: خطيبته. ولم تزد.
وذهب إلى بيتها إجابة لدعوتها، ولم يكن خطيبها هناك، فاستغرب محمود رغم أنه سره أن لم يجده، واستقبلته أمها، وشرعا يتكلمان الكلام المألوف، ويتبادلان الملاحظات المعتادة عن الجو وما إليه، ثم استطردا - بطريقة ما، والحديث ذو شجون - إلى سميرة وخطيبها، فغاظه وأحنقه أن يسمع من هذه السيدة التي كان يظنها عاقلة حصيفة، ثناء على الخطيب، ولا ندري ماذا كان يتوقع غير هذا؟ ولكن الذي ندريه أن الأم نظرت إليه نظرة لم يفهمها وقالت له: إن سميرة في الحديقة، فاذهب إليها، وقبل أن تذهب أحب أن أقول لك إني لم أر في حياتي أغبى ولا أعمى ولا أطرى ولا أضعف منك، ويخيل إلي أن جسمك مصنوع من الجبن الحالوم لا من اللحم والعظم، والآن اذهب.
فخرج إلى الحديقة وقد فتحت له هذه النعوت الجميلة بابا من التفكير كان موصدا.
وألفى سميرة مسندة ظهرها إلى جذع شجرة، وساعداها مطويان على صدرها، تحت ثدييها الناهدين، وهي شاخصة لا تطرف، فوقف إلى جانبها يتأملها وهي كأنها لا تشعر به، ولا تدرك أنه موجود، فتعجب، وكأن في وقفتها من السحر، وفي خطوط قوامها من الجمال والفتنة ما لم يفطن إليه إلا الساعة، كأنه ما رآها قط من قبل.
وتمثل له، وهو واقف حيالها، شخصان: جده الأعلى الذي كان يسكن الكهوف ويعمل بالفأس، ولا يرتدي إلا جلد الحيوان، وشخص آخر منتزع من ثقافة الزمن وحضارة العصر، عرف فيه نفسه.
وكان الأول يقول له وهو يحرك الفأس: أقدم يا شيخ، ما هذا الجبن؟! ألم أنصح لك من قبل مرات أن تعامل هذه الفتاة بالطريقة التي جربت واختبرت ملايين المرات ونجحت في كل مرة؟ ولكنك لم تسمع ولم تطع، ولهذا فقدتها.
وكان الآخر يقول: مهلا، مهلا؛ قد تكون هذه طريقة صالحة في عصور الاستيحاش والهمجية، ولكنا اليوم في القرن العشرين، والفتاة على كل حال مخطوبة، فكيف تشير عليه بأن ...
فيقاطعه الجد الأعلى ويصيح به: مخطوبة أو غير مخطوبة، هذا لا قيمة له، إني أقدم له نصيحة ثمينة، وأشير عليه بالخطة المثلى.
فيقول الآخر: لا يسعني إلا أن أحتج وأعترض على هذه النصيحة وتلك الخطة، وإن على صاحبنا هذا أن يتقبل حظه بالصبر والرضى.
فيصيح الجد الأعلى: كلام فارغ، إن الذي عليه أن يفعله هو أن يجذب هذه الفتاة إليه ويطوقها - ولو كان لها ألف خطيب وخطيب - ولو كنت في زمني، وفي سني ومبعثي، لما رأيتني أتردد، فاسمع مني يا هذا، وأطعني فلن تندم.
وفي هذه اللحظة تنبهت سميرة إلى وجوده، أو أظهرت أنها تنبهت، وجعلت تتمتم: محمود! محمود!
ولا يدري محمود كيف حصل هذا، ولكنه شعر أن الحديقة رقصت، فأما الأشجار فكانت تطول وتقصر، وأما بساط الروض فكان يدور، ويدور، ولكنه هو كان ثابتا - لا يدور ولا يضطرب - وبين ذراعيه سميرة.
وسمع نفسه يسألها: وحمدي هذا ما الرأي فيه؟ ماذا عسى أن تقولي له؟
قالت: ألم تقل لك ماما؟
قال: نعم، قالت لي إني غبي وأعمى ومصنوع من الجبن الطري.
قالت وهي تضحك: إنها ظريفة، أليست كذلك؟!
فسألها: أهذا رأيك في الظرف، ما هو؟
فضحكت وقالت: لقد كادت تجن لأنك أعمى، وغبي، و...
قال متمما: ومصنوع من الجبن الطري.
قالت: حمدي هذا ناظر الزراعة، وقد استقدمته ماما لتفتح لك عينيك به، ولكنه كان لا بد من استعمال السكين على ما يظهر لشق جفونك.
فصاح محمود: هل تعنين ...
قالت: أعني أني أعددت لك سندوتشا بالبطارخ، تعال.
وجرته من يده.
وتنهد ممثل الثقافة والحضارة في القرن العشرين، وغاب، أما الجد الأعلى فكان يهز رأسه مسرورا، ويحيي محمودا بالفأس.
3
ودارت الحياة بعد ذلك دورتها المألوفة؛ بضعة أيام وأفضى محمود إلى أهله بخطبته، فأما أمه فسرها أن ابنها يوشك أن يكون زوجا ورب أسرة، وإن كان قد أقلقها غنى الفتاة، وتحسرت على ما كان لبعلها من مال ضيعه، وكانت قبل ذلك قانعة راضية قريرة العين، لا تأسف على ما فات، ولا تتبرم بحاضر، ولا يعنيها إلا أن ابنها أتم تحصيله وأنه سيكون موظفا ويعيش في دعة وخفض، ويرتقي، ثم يرتقي، ويفخر بالمال والسعة والأهل، وإذا به ينبئها أنه خطب فتاة ذات ضياع عظيمة، قبل أن ينال الوظيفة المشتهاة ويضع قدمه على أولى درجات السلم الذهبي، وإنه لجدير بالسعادة وأهل لكل خير، وقد يكون صحيحا ما خبرها به من أن الفتاة تحبه. المحقق أن هذا هو الصحيح، وإلا لما اختارته وآثرته على عشرات من الشبان كلهم أحسن منه حالا، غير أنها مع ذلك خشيت أن يصغر أهله في عيون أهلها إذا لم يصغروا في عين الفتاة؛ من جراء هذا التفاوت في الرزق.
وأما أبوه فلم يسره أن فتاه ذهب فأحب فخطب من غير أن يشاوره، وصحيح أنه لم يكن يملك أن يرجئ الحب حتى يسأله، ولكنه كان خليقا أن يدرك أن له أبا يراجع في مثل هذه الشئون الكبيرة، وألا يغيب عنه أنه ما زال مكفيا - ولا يقول عاطلا - لا مال له يعيش منه، أفلا انتظر حتى تسلم الوظيفة ثم فكر في اختيار الزوجة؟ وما سر جعل فتاة واسعة الثراء تؤثر فتى لا عمل له ولا مال وليس ينقصها المعجبون ولا الطامعون؟ ولو أن أرض الرجل كانت قد بقيت له لما عبأ شيئا بضياع الفتاة، ولا اكترث لما بين الثروتين من التفاوت؛ فإن شيئا ولو قليلا خير من لا شيء، والعبرة بالاستغناء، وبأن المرء يحور إلى شيء فيه كفاية وعليه اعتماد، وبهذا يسعه أن يحتفظ بكرامته ويكفل الاحترام لنفسه، فيواجه الفتاة وهو ثابت على قدميه، ويقول لها بلسان الحال: إني لا أبالي كثرة مالك وإرباءه على مالي؛ فإن ما جاوز مقدار الحاجة - حتى مع التوسع - زيادة لا انتفاع بها، وبحسبي ما عندي؛ فنحن كفؤان في ذلك النصيب من المال الذي إليه الحاجة وبه يطيب العيش، ولو كان لك فوق ذلك مال قارون لما فضلتني به.
أما الآن ...
وهز الرجل رأسه آسفا متحسرا منكرا على ابنه أن يزج به بغتة في هذا المأزق الحرج.
ولم يعجبه مما قصه عليه محمود وهو يضحك، ما توهمه ائتمارا به من سميرة وأمها، أوهكذا تصنع البنات الطيبات، وأمهاتهن الصالحات؟!
أفلو كانت لنا بنت كسميرة أكانت أم محمود تطاوعها هذه المطاوعة، وتملي لها هذا الإملاء، وترخي لها الحبل على هذا النحو، وتشجعها على التحبب إلى الفتى الذي عليه العين، وتزيد فتدعو إليها ناظر الزراعة أو الضيعة وتأمره أن يمثل دور الخطيب المنافس لمحمود، وتتركهما معا؟ ومن يدري؟! ألا يمكن أن يكون هذا الناظر قد قبلها وعانقها نزولا على مقتضيات التمثيل وما يتطلبه إتقان الدور؟! ألا يمكن أن ينقلب التمثيل حقيقة، والهزل جدا؟! سبحان الله العظيم! وأي فتاة تكون هذه التي تأمر الرجل أن يقبلها؟! بل التي تجيء بموظف من عندها وخادم لها وتقول له: هذا فمي فقبله، وهذا صدري ضمه إلى صدرك، وأحطني بذراعيك وشد على خصري؟! أعوذ بالله! وأي أدب هذا الذي أدبتها أمها؟! وبأي عقل تسمح بهذه المهزلة التي لا يبعد ولا يستغرب أن تنقلب فاجعة؟!
ولكن أبا محمود لم يصارح محمودا بما ساوره من الهواجس، وحاك في صدره من الشكوك، ودار في نفسه من بواعث القلق، واكتفى بأن يعاتبه ويلومه في رفق على هذه المباغتة، وينصح له بالتريث والأناة زمنا كافيا حتى يفوز بوظيفة من جهة، ويدرس أخلاق الفتاة وسيرتها درسا أوفى من جهة أخرى، ثم دعا له بخير.
ولكن الشباب هو الشباب، فلم يتريث محمود ولم يتأن، ولسنا نعني أنه عقد العقد، وإنما نعني أنه صار لا يفارق سميرة في ليل أو نهار أو في معظمهما، وكان لا بد أن تتعارف الأسرتان، وتتزاوران؛ فأما أسرة سميرة فرحبت بالأمر، ولم يخطر لها أن غناها مبعث قلق لأسرة محمود، فلعل الذي حبب محمودا إليها أنه كان بادي الزهادة في مالها، قليل الاحتفال به، وأما أسرة محمود فاضطربت للقاء الأول والزيارة الأولى.
وقال محمود لأمه ذات مساء: لماذا لا تجيئين معي إلى بيت سميرة؟!
قالت: كلا. اذهب وحدك، وخذ معك المعطف؛ فإن الليلة باردة.
قال: سأفعل.
فسألته: ماذا تصنع هناك كل ليلة؟
قال: أجلس معها، أو نخرج معا إلى سينما أو غير ذلك.
قالت: من يؤدي النفقات؟
قال: ماذا تعنين؟!
قالت: أعني أنه لا يليق أن تؤديها هي عنك.
قال: من قال لك إنها تؤدي عني شيئا؟! وهل أحتاج إلى مالها لأدخل معها دارا للسينما؟!
قالت: لا تغضب، فإنما كنت أخشى ...
قال: إنك لا تحبينها؟
قالت: إنك مخطئ، فليس الذي بي لها أني لا أحبها، وكل ما في الأمر أني لا أراها تصلح زوجة لك.
فنهض مستاء، وخطف المعطف ، وقال بحدة وهو يخرج: لا فائدة من هذا الكلام، سأتزوجها والسلام.
ولم يطلع محمود سميرة على شيء من هذا، وما عسى أن يقول لها؟! أيقول لها إن أبويه لا يرضيان بها زوجة له؟! وإذا تشجع وفعل؟ ولكن هذا مستحيل.
ووطن نفسه على الصبر حتى ينال الوظيفة فيسعه حينئذ أن يكون حرا فيما يفعل ويترك.
وسألته سميرة مرة في أعقاب سهرة طويلة: ماذا عساك تقول لماما حين تدخل عليها في مطلع الفجر؟
قال: إننا كنا نتحدث.
قالت وهي تضحك: ولكن هذا لم يكن كل ما نفعل.
وتعانقا، وكانت تضحك وهي تدني فمها من فمه، وكان جسمها كله ينتفض، وإذا به يجمد ويتخشب، ويقصيها عنه ويحدق في عينيها ويسألها: ماذا تعنين؟
فتعجبت، وهزت رأسها مستفسرة، فقال وهو يدع ساعديها يهويان: يظهر أنك مللت صحبتي، وإلا فما سؤالك عما أقول لأهلي حين أعود إليهم من عندك؟! ماذا يدعو أن أقول أنا شيئا أو أن يسألوا هم عن شيء؟!
فاعتذرت، وأسفت لأنها قالت ما يمكن أن يحمل على هذا المحمل.
وألفاها بعد ذلك أكثر جدا وتحرزا في الكلام، وقل ضحكها، وبدت كأنما يدور في نفسها شيء، وصارت تصمت، وتنطوي على نفسها، فتزداد جمالا وفتنة، وبعدا أيضا.
وأحس محمود أن هذا جانب لم يكن يتكشف له من قبل، وأشفق أن تظل ناحية من نفسها محجوبة عنه مزوية عن عينه، لا يطلع عليها ولا يستطيع أن ينفذ إليها.
ورافقها ذات ليلة إلى البيت بعد أن شهدا معا رواية سينمائية وكانت يدها في يده، لم تتخل عنها وهي تفتح الباب، كأنما تدعوه بذلك إلى الدخول فقال: أخشى أن نزعج ماما (يعني أمها).
فقالت: لا تخف، ولا تخافت بكلامك، فإن نومها ثقيل.
ودخلا، فقالت وهي تخلع معطفها: لقد قابلت ماما (تعني أمه هو) اليوم في متجر.
فسبقه لسانه وسألها: ماذا كان منها؟ ألم تكن لطيفة معك؟
قالت نعم؛ فإنها سيدة مهذبة، ولكنها يا محمود لا تحبني، ولا ترضى عني، لا أدري لماذا؟ ولا أعرف كيف أفوز برضاها وأكسب حبها؟ مشكلة!
ونحت وجهها كأنها تستحي أن تنظر إليه، أو تخشى أن تقرأ في وجهه مصداق كلامها، وهي تقول ذلك.
فجذبها من ذراعها، وطوقها، فلم تلن له، وانثنى رأسها على صدرها، ورأى عينيها مغرورقتين، فلثم جفونها وخديها وشفتيها وجبينها، وجعل يهمس: إن أمي لا يسعها إلا أن تحبك، لا مفر من ذلك، إنما يخيفها غناك وفقرنا، ولكن هذا لا قيمة له، فما لنا بمالك شأن، ولن أتخلى عنك أبدا.
فتفلتت من عناقه بلطف، وقالت بصوت هادئ متزن النبرات: ليس يطيب لي أن أفسد ما بينك وبين أمك.
ليس يطيب لي أن أفسد ما بينك وبين أبيك.
قال: ولكن هذا لن يكون، فلماذا تتوهمين أن هذا يمكن أن يقع؟! ألست سأتزوج يوما ما؟! وكيف يعنيهما أن تكون زوجتي غنية أو فقيرة؟! إنها حياتي لا حياتهما، وقد كاد يتم أمر الوظيفة، فلا حاجة بي إلى معونة منهما.
وكأنما جرى ببالها شيء فضحكت وقالت: لن تتخلى عني يا محمود؟ أينا الذي قنص صاحبه؟
فضمها إليه ضمة قوية، وأهوى على شفتيها بالقبلات الحرار، وكانت تضحك وتعالج أن تفلت وهو يأبى أن يدعها؛ فقد كانت كالخائف من مجهول لا يدري ما يهجم عليه منه، ثم أفرج عنها وخلاها، فخيل إليه أنها تخفي عنه شيئا؛ ذلك الجانب المستتر الذي لا يتبدى ولا ينكشف، فعاد يجذبها ويضمها، وهو يشعر أن بينهما حاجزا على الرغم من هذا التداني، وكانت تبادله قبلاته، وتلتقم فاه كأنما كانت هي الرجل، وتقر له وهو يهصرها، وتتمتم بما لا يتبين، ولكنه كان يشعر أن بها الليلة غموضا واعتياصا وبعدا.
ثم قالت له وهي تسوي شعرها: يحسن بك أن تذهب الآن.
وكان يفرك عينيه، كأنما يستيقظ من سنة، وإن كان تام الإدراك لقربها والشعور بحرارتها، وفتنة صباها، وهم بتقبيلها مرة أخرى، ولكنها أسرعت فنهضت قبل أن يلف ذراعه على خصرها، وقالت: أرجو، أرجو أن تذهب، لقد كاد الليل أن ينتصف.
فقال: إني آسف يا سميرة، كان ينبغي أن أخرج قبل ذلك.
قالت: لا تقل هذا، ولكن يحسن أن تعود إلى ... إلى البيت، فقد أصبحت أخشى أن تظن أمك الظنون بنا لطول ما نقضي من الليل معا.
فأقبل عليها بلهفة يقول: وماذا يعنينا ظنها خيرا أو شرا؟! ألسنا سنتزوج؟!
قالت: أرجو أن تذهب الآن.
ولثمت بنانها له وهي تودعه عند الباب، وأحس أن على صدره حجرا وهو يخرج، وخيل إليه أنها لم تكن مصغية حين قال: ألسنا سنتزوج؟! وجعل يردد وهو يمشي: أترانا سنتزوج؟! ثم صارت عبارة السؤال: هل نتزوج؟! وصار خطوه على مقاطعها، كأنها لحن موسيقي.
وزارها في الضحى فلم يجدها، فترك لها رسالة.
وفي المساء كانت أمها جالسة إلى المائدة وحدها تتعشى، فأشارت إليه أن اقعد.
فأراح كفيه على المائدة وسألها: أين سميرة؟
فتمهلت شيئا قبل أن تجيب: سافرت.
وكانت هادئة ساكنة، لا يبدو على وجهها شيء، كأنه درهم مسيح.
قال: سافرت؟! إلى أين؟ ومتى؟ ولماذا؟
فاعتمدت على المائدة بكوعيها، وقالت: ألا تجلس؟! ما هذه الوقفة المزعجة؟!
قال: أريد أن أعلم وأطمئن.
قالت: تطمئن؟! هه، أي رجل أنت! وحركت رأسها يمنة ويسرة.
فانحط على الكرسي، وهم بكلام، ولكنها سبقته إليه، فقالت: هذا أحسن. أستطيع على الأقل أن أريح عنقي.
فسألها: ألا تريحيني أنا أيضا؟!
قالت: أما متى سافرت ففي بكرة الصباح، عرفت هذا من الخدم، وأما إلى أين، فلا أدري، وأما لماذا فعلمه عند الله، فهل استرحت؟
قال: كيف أستريح وأنا لا أعلم أين هي ولا ...
قالت: إيه، افعل ما بدا لك، الدنيا واسعة، اذهب فابحث عنها فيها.
فصاح بها: كيف تقولين هذا؟!
فقاطعته قائلة: يا حبيبي ماذا تريد أن أصنع؟! إنه لا سلطان لي عليها، وإن كنت أمها. وقد كنت أنت القادر على أن تمسكها، ولكنك تركتها تطير، بل حضضتها على الطيران، هل تستطيع أن تقول لي لماذا يعارض أهلك في الزواج منها؟! ولماذا ينفرون منها هذا النفور؟! ودع أهلك وقل لي أنت لماذا كنت تأبى كل هذا الإباء السخيف أن تدعها تنفق مليما وهي معك؟! أمن أجل أنك لست كفؤا لها في الثروة يجب أن تنزل هي عن كل ما ألفت، وأن تروض نفسها على حياة الضنوكة إرضاء لك؟! أليست هذه أنانية صارخة حمقاء؟! كيف يمكن أن تعيشا معا راضيين ناعمين إذا كنت تستكبر هذا الاستكبار المر المتعب؟! أي حياة تكون حياتها معك؟! ما خير مالها إذن؟! ماذا تفيد منه؟! وتجيء وتسألني: أين هي؟ ولماذا سافرت؟ ضجرت يا سيدي، طقت، انفلقت، أيقنت أن حياتها معك ستكون جحيما لها ولك، ولأمك، ولأبيك. هل استرحت الآن؟ هل فهمت يا غبي، يا أعمى؟ لشد ما خيبت أملي فيك! أنا التي لم أزل أحتال حتى حسبتني ظفرت بك لها. لا حول ولا قوة إلا بالله!
فأطرق برهة ثم رفع رأسه وسألها: وبماذا تشيرين علي؟ أرجو أن تظلي حليفة لي.
فقهقهت ثم قالت: يسألني هذا المصنوع من الجبن الطري بماذا أشير؟! تزوجني أنا، عسى أن أذكرك بها. وقهقهت مرة أخرى: اسمع يا حبيبي. إما أن تأكل معي وأنت ساكت، وإلا فاذهب أنت أيضا عني.
ولم يكن يطيق السكوت، ولا كان لسانه يقوى على الدوران، فنهض ومضى إلى الباب في صمت، فلما صارت يده عليه سمعها تقول: إذا أسرعت فقد تدركها، ولست أظنك فاعلا.
فدار وصاح بها: إيه؟ وقد عاد الأمل ينبض.
فقالت، وهي تهز رأسها: كلا. لا أظنك مدركها، عوضي على الله.
فارتد إليها وأقبل عليها يتوسل أن تفصح، ويلثم رأسها وكفيها بطنا وظهرا.
فتنهدت واضطجعت وقالت: إذا كان لا بد أن تعلم، فاستعد لصدمة، كنت أشفق عليك منها لأنك «خرع»، مصنوع من الجبن الحالوم، هذا رأيي فيك كما تعلم، ولكنك ولد طيب، شريف، عفيف، ولقد كنت أطمع أن تكون لي ابنا، فخيبت أملي، الأمر لله، كل حياتي سلسلة آمال خابت، حتى أصبحت لا أبالي شيئا، استوى الخير والشر عندي، والسعادة والشقاء، أظنك تقول إنها عجوز ثرثارة، الحق معك؛ فإنك لا تدري، تراني في نعمة وتسمعني أقول ... أوه ما الفائدة؟! وهل مثلك يمكن أن يفهم شيئا؟!
وأمسكت، فتحامل محمود على نفسه، وألح عليها أن تنتجيه فتبسمت ، وهزت رأسها وأراحت يمناها على كتفه وقالت: الشباب قليل الصبر، إنه لا عمل لي فيما بقي لي من عمر إلا الحديث، وفي الوقت متسع؛ فلنتكلم عن سميرة، فاعلم أنها سافرت إلى الضيعة، وقد استقر عزمها على الزواج من ناظر الزراعة.
فوثب قائما، وجعل يهزها ويصرخ: إيه؟! ماذا تقولين؟! فانتهرته وصاحت به: أمجنون أنت؟ ألا يمكن أن تقعد كخلق الله؟! نعم ناظر الزراعة، وما له؟! إنه على الأقل رجل موثوق بعقله وحزمه، دخال في الأمور.
قال، وأمسك رأسه بيديه: ولكن ناظر الزراعة؟! كيف تقدم على هذا وهي لا تحبه؟!
قالت: تحبه أو لا تحبه، ما قيمة هذا؟! أنا تزوجت أباها ولم أكن رأيته ولا رأيت خياله، ومع ذلك عشت معه سعيدة، إيه!
قال: لست أصدق، مستحيل.
قالت: تصدق أو لا تصدق، هذا شأنك.
فسأل: يجب أن نمنعها، ليس المهم أن تتزوجني، بل المهم ألا تتزوج هذا ... هذا البغل.
فابتسمت وسألته: وكيف بالله تنوي أن تمنعها؟!
قال: أسافر من الغد، وأحاول أن أرد لها عقلها.
قالت: سافر. وهزت كتفيها.
قال: كيف تركتها تسافر ولم تمنعيها؟!
قالت: آه. هذه هي المسألة، كيف لم أمنعها، فاعلم يا سيدي أنه لا سلطان لي عليها؛ فإن أمرها بيدها كله، وما أنا إلا ... ولكن ما الفائدة؟! سافر أو لا تسافر، كما تشاء، ولكن من فضلك لا تقلب لي دماغي، حسبي ما أعاني.
فخرج على وجهه، واستقل القطار في الصباح إلى الضيعة، ولكنه لم يكن يعلم أن القطار الذي التقى به في الطريق كان يعود بسميرة وناظر الزراعة، ليقضيا في القاهرة شهر عسل طويلا، يعدل عمرا مديدا إذا قيس بما يجد القلب وما تؤديه الأعصاب ثمنا للعسل.
وكانت تلك أول خيبة أمل له، وأول زلزلة لنفسه التي لم تكن تعرف غير الاستبشار والثقة والاطمئنان.
وهيهات أن يقتنع الشباب الغرير بأن: «لو اطلع أحدكم على الغيب لاختار الواقع»، وأن ثمار الطيش وصفة نافعة لمن يركب الحياة بجموح الشباب. •••
عاد الأستاذ حليم فقبع في بيته، ولاذ بكتبه، وعاد بخيالاته وأحلامه ، ما اطرد منها وما شذ، ولكن الأمر لم يستقم له، والحياة لم تطب كما كان الحال من قبل، فصار كالفرس الذي يمشي في أرض ذات حجارة، فهو يجري كأنه يتقي، ويتردد كأنه منفلت، ويضجر فيمد رأسه كأنه يريد أن يغالب اللجام، فهو لا يزال يجتهد ولا يستقر، ولا يمر مرا سهلا غير مضطرب؛ ذلك أنه خالف مألوفه ودخل في غيره، مستخفيا محاذرا حتى اطمأن واستطاب ما هو فيه وفضله على ما ترك، فانقبض، وارتد متواريا، وضرب القدر الكأس التي رفعها إلى شفتيه وراح يمص منها، فأطارها وتركه صديان يجمع ريقه تحت لسانه، ويتلهف على رشفة أخرى يبل بها لسانه، ويصر صماخه من الظمأ إلى عذوبة ما حسا منه، ولا يصبر على ما عرف بعد أن جرب أنه كان محلا عنه، وذاك حال كل من يأكل من شجرة المعرفة، وما زال صحيحا أن الحياة إنما تصفو لغافل أو جاهل أو قادر على مغالطة نفسه.
ولم يتغير حاله مع عياد؛ فكان يجالسه ويسامره، ويؤاكله ويشاربه كما كانا يفعلان؛ فقد اتقى الأستاذ حليم أن ينقطع عنه أو يتخلف عن لقائه، ولم يكن يدري ماذا يخاف على وجه الدقة، وإنما كان يشعر أن عليه أن يلازمه على قدر ما يستطيع؛ لعله يحول بذلك دون كشف المستور.
وحرص أيضا على لقاء محاسن، فقد صار بينهما سر ينتجيان به ويتساران، ولا يزالان يتساقيان تذكر فجعته، ونعمة الله عليهما إذ سترهما ولم يفضحهما، وكان يشعر أنه يعطف عليها ويرثي لها، وأنه يخافها، ويبغضها أيضا، فلم يسعه إلا أن يظل على اتصال بها؛ ليجنبها الطيش ويقيها مغبة الخفة، ويدفع عنها عوامل اليأس، ويمنع أن يقع هو في بلية جديدة.
ولم تكن محاسن خيرا منه حالا أو أقل حيرة واضطرابا، وكانت قبل الذي وقع لها، تجترئ على أبيها ولا يجترئ عليها، فأصبحت تغض الطرف حين تراه، وتتلعثم إذ تخاطبه، فرضي هو عن هذا الأدب الجديد ولم يكلف نفسه عناء التفكير فيما فاء بها إليه.
ولم تكن تحب محمودا، ولكنها كانت لا تنفر منه، وارتضت ما ارتضاه لها أبوها، ووطنت نفسها على حياة زوجية معه، كانت هي تزعم أنها ستكون مملة لا محالة، وكان الأستاذ حليم يزينها لها ولا ينفك يقول لها فيما يقول: إن المرأة قد تحب الرجل قبل أن تصبح زوجة له، ولكن هذا حب لا يكون إلا مشكوكا فيه؛ لأن مرجعه إلى الخيال، وإنما العبرة بما تلقى نفسها تحن له بعد الزواج وتجربة حياته وتلقي أثره، وما أكثر النساء اللواتي فتر حبهن، بعد أن يبني بهن بعولتهن! بل انقلب كراهية صريحة؛ لأنهن لم يجدن ما كن يتطلعن إليه ويطمعن فيه ويتخيلنه، فخاب أملهن وثقلت وطأة الاحتمال على أعصابهن التي لا تفتأ تتنبه ولا تسكن. ويا رب امرأة لم تكن تعرف الرجل ولا رأته، أو كانت تعرفه وتراه ولكنها لا تصفو إليه بود، فلما عرفته زوجا لها أرضاها منه ما يرضى، فأحبته، وصار منية النفس كلها وهوى القلب جميعا؛ ذلك أن الزواج هو الامتحان الصحيح، والمرأة في هذا على خلاف الرجل؛ فالرجل الذي لا يشبع من المرأة يقبل ولا يعرض، أما المرأة فإنها إذا ألح عليها هذا السغب تتلف أعصابها وتصب غضبها على من كان علة حرمانها الشبع.
كذلك كان يقول لها الأستاذ حليم، فتصدقه؛ أليس أسن منها وأخبر؟ أليس مشهورا بالعلم والتبحر في المعرفة؟
فلما كان ما كان، صار يحدث لها رعبا أن تتصور أن تكون يوما ما زوجة محمود، وساورها الشعور بأنها خانته، وإن بقي عقلها مدركا أن هذا شطط في التهمة وإسراف على نفسها في الظلم، وخيل إليها أنها لم تعد أهلا له أو جديرة به، وإن كانت لا ترى له مزية تفرده بين أنداده، وكانت كلما ألحت على نفسها بالاتهام والتحقير تثور وتتمرد وتتساءل عن محمود هذا، ما الذي يجعلها تتوهم أنه خير منها وأقوم سيرة وأنظف ذيلا وأعف عينا وقلبا و... ماذا تعرف عنه سوى ما أطروه به وقالوا فيه من الخير؟! ومتى قال أحد في طالب زواج إلا كل حسن وجميل؟!
وكان يثقل عليها جدا اضطرارها إلى كتمان سرها، فتحس بالحاجة إلى البث، وتود لو استطاعت أن تبيح أمها صدرها، وتطلعها على خبيئة نفسها، وكثيرا ما همت بذلك متشجعة بأن قلب الأم أحنى قلب، فيتحرك لسانها، فتجبن وتفزع وتعض عليه.
وقد علمت من الطبيب أن الأثر الذي بقي مما يسهل علاجه، ووعدها خيرا حين تشاء، أو حين تدعو الحاجة إلى الإصلاح، ولكنها مع ذلك بقيت مرة النفس، مشمئزة من هذا التلفيق الميسور والترقيع السهل لما كانت تعتز به وتحرص عليه من آية العفة، وزادها هذا نفورا من محمود، لا كراهة له؛ فقد كان من أغرب النقائض أن شدة تفاعل ما يدور في نفسها ويضطرب به صدرها أفضى بها إلى رقة له في قلبها، وإنما كان نفورها عن استنكاف منها لمخادعته والكذب عليه وستر الحقيقة عنه، ولما كانت لا تأنس من نفسها شجاعة كافية تعينها على مصارحته، وإن كانت تأنف من الكتمان، فقد ألفت نفسها لا تقدر على كف نفورها منه وجفوتها له، ورأى هو من تغير حالها وعسرها في عنادها ووضوح ضجرها منه وزهدها فيه ما نشر المطوي مما أورثته سميرة من سوء ظنه بالمرأة، وسرعة تقلبها، وقلة ثباتها على خلق أو عهد، وسئم أن يكون هذا حظه كل مرة، وأيقن أن في الأمر رجلا آخر، إذا لم يكن ناظر زراعة فأكبر الظن أنه هذا الأستاذ حليم الملعون، وثار على خسة نصيبه من وفاء المرأة، فقطع زيارته لبيت عياد.
ولم يكن بال عياد إلى هذا؛ فقد كان في شاغل من صاحبته الأجنبية؛ فإذا لم يكن معها، فهو في طعام وشراب، وصياح وزعيق، وما جعل الله لامرئ إلا قلبا واحدا في بدنه، وقد استأثرت بقلبه وعقله صاحبته، واستبدت بلبه، وما بقي من ذلك - وهو أقل من القليل - استنفده الشعور بأنه ظالم لأهله، والاجتهاد في خنقه وتلطيف لذعه بالغطرسة، والعجرفة وسوء الخلق.
الفصل الثالث
1
وجدت محاسن أنها لم تعد تطيق الصبر على ما هي فيه، وأنه لم يبق لها ما تتعزى به، أو تتطلع إليه، وتشدد بالأمل فيه؛ فأبوها لا يفتأ يغيب عن بيته ليلة أو ليلتين كل بضعة أيام، ويبيت في حيث لا تعلم، مع صاحبته، ويزعم أنه إنما كان في «مهمة»، وتبلع هذه المهمات معظم ماله، فلا يدع لبيته إلا القليل الذي ليس به اكتفاء، وإذا عاد من «مهمة» برم بالبيت ومن فيه، وأظهر الشكاسة والشراسة، وأبى إلا أن يكون بركانا منزليا في صورة آدمية، واتسعت الهوة على الأيام بين عياد وأهل بيته، وكانت محاسن تجاهد ما وسعها أن تلقي من ناحيتها على هذه الهوة جسرا، غير أنها أخفقت؛ لأن أباها لم يتكلف من ناحيته شيئا من التمهيد أو المعاونة، ولج في نهجه الأعوج، فكان يفسد كل ما هيأت، ويهدم كل ما بنت.
وكانت أمها ضعيفة وهنانة، لا خير فيها ولا اعتماد عليها، غير أنها كانت صابرة لا تشكو ولا تتذمر، وكانت محاسن كثيرا ما تقول لها إن طراوتها هذه هي التي أطمعت فيها زوجها وشجعته على ركوب رأسه، وإهمال حق بيته عليه، فكانت الأم تؤمن على كلامها وتتأوه، وتتنهد ثم تسأل: وماذا يسعني؟! ما حيلتي؟! الصبر طيب. ولم يكن صبرها عن حكمة وبعد نظر، بل عن ضعف ورخاوة وبلادة.
واستشارت محاسن الأستاذ حليما؛ فما كانت تعرف أحدا غيره تستطيع أن تفضي إليه بهذه الأمور؛ فعجز عن أن يشير عليها بما فيه خير أو يدلها على ما هو خليق أن يكشف الغمة ويفرج الكرب.
فسألته: وما رأيك؟ ألا أستطيع أن أزاول عملا أكسب به رزقا؟ إنه لا بد لنا من مال أفيده، وأعوض به النقص؛ فإن أبي يزداد كل يوما ضنا وتقتيرا؛ لأنه يزداد كل يوم تورطا مع صاحبته.
قال: وأي عمل تستطيعين أن تؤديه؟!
قالت: أستطيع أن أتلقى دروسا في الكتابة بالآلة الكاتبة، ثم أعمل في مكتب محام أو في شركة، فما قولك؟
قال: والله إنه لرأي، ويبدو لي أن هذه هي الوسيلة الوحيدة، ولكني أخشى عليك.
فتعجبت وسألته: مم؟
قال: أخشى أن يوقعك سوء الحظ ... تعرفين ما أعني، فقد يتفق أن يكون الذي تعملين عنده أو له خنزيرا فيستغل حاجتك إلى عملك، وأنت مع الأسف ثرثارة طيبة القلب؛ إذا آنست رقة وعطفا من إنسان أقبلت عليه وأفرغت له كل ما في قلبك.
وكان هذا صحيحا، كما عرف الأستاذ بتجربته الشخصية؛ فما كادت تجلس إليه ساعة، وتطمئن إلى عقله وعلمه حتى أطلعته على ما ينبغي أن يستر من دخائل البيوت وأسرارها.
فابتسمت محاسن وقالت بلهجة واشية بمرارة النفس: إذا كان هذا كل ما تخاف، فاطمئن، فقد علمتني ما فيه الكفاية.
فأطرق وقال كأنما يحدث نفسه: هذه وخزة أليمة، وأعترف أني أستحقها، ولكن ما كان جاء عفوا وعلى غير قصد، والحمد لله الذي وقاك - ووقانا - سوء العاقبة، وإنه ليخيل إلي أن كل شيء في هذه الدنيا قضاء وقدر؛ من كان يظن أن الذي لا يحدث إلا في الفلتات النادرة، وفي مرة من كل خمسين ألف مرة، يحدث لنا من أول مرة؟ وعلى الرغم من هذا التحرز والاحتياط؟! سوء حظ ليس إلا، أو قدر جرى به القضاء؛ كنت ذات يوم واقفا في شرفة بيتي، فرفعت عيني إلى البناء المواجه لنا، وهو عمارة ضخمة عالية فرأيت غلاما منحنيا على حافة الشرفة، وكان في الطبقة الرابعة، فذعرت؛ فقد كان نصف الغلام متدليا، وهممت بأن أصيح به ولكن الصوت وقف في حلقي فلم يخرج من فمي شيء، ورأيت أمه مقبلة تعدو، ولكنه انقلب وهوى قبل أن تدركه، تصوري هذا؛ غلام يسقط من الطبقة الرابعة على الرصيف المبني من الحجر، أو من الأسفلت، سيان، وبصرت برجل يمشي على الرصيف وقد قارب أن يكون في طريق الغلام إلى الأرض، فأيقنت أن الغلام سيتفتت عظمه، وأن الرجل سيصيبه أيضا سوء، وتصوري غلاما يقع من هذا الارتفاع على أم رأس رجل، ألا يمكن أن يدق عنقه؟!
وضحك الأستاذ، فجذبته محاسن من كتفه، وسألته بلهفة: وماذا جرى؟
قال وهو لا يزال يرتج من الضحك: جرى؟! جرى؟! لا شيء، نجا الغلام، ونجا الرجل، هل تصدقين هذا؟!
قالت: الحمد لله، ولكن كيف؟ كيف ؟
قال: اسمعي يا ستي، لو كان الغلام وقع من الشرفة إلى الأرض مباشرة لكان قد قتل، ما في هذا شك، ولكن القدر شاء أن تحدث المعجزة؛ فساق هذا الرجل الغافل الذي كان يمشي على الرصيف ولا يدري أن غلاما يهوي، ولم يسقط الغلام على رأس الرجل، وإنما سقط أمامه، على مسافة شبر أو شبرين منه، فاضطرب الرجل ورد رأسه إلى الوراء، ودفع يديه إلى الأمام، وهو لا يدري ماذا يتقي بهما، دفع يديه فدفعتا الغلام، فانقطع خط السقوط وزالت قوته؛ لأن الغلام تحول عن طريق الهبوط؛ كان يهوي من أعلى إلى أسفل، فانتهى هويه باندفاعه في خط أفقي، فلما سقط بعد ذلك على الأرض كان سقوطه من ارتفاع متر أو حوالي ذلك ليس إلا، فلم يضره ذلك، إي نعم، كل شيء في هذه الدنيا قسم وحظوظ وأرزاق؛ هل تعرفين كيف عرفت أباك؟ (وضحك مرة أخرى) قصة لطيفة: كنت سائرا في الطريق وعيني على الأرض، وإذا بكف تلطمني وتكاد تلقيني على الأرض، وكان أبوك هو الذي لطمني، ولم يكن يتعمد ذلك، لكنه - كما تبينت - كان يتحدث ويلوح بيديه، فأصابتني كفه، وأسرف في الاعتذار كما كان يسرف في التلويح بذراعيه، وأبى إلا أن يسقيني شايا في مقهى، وهكذا عرفتك أنت، فهل آمنت أن كل شيء في دنيانا قدر وقسمة؟
فربتت له على كتفه وقالت: ثق أني لا ألومك على شيء، ولكنه لا يسعني إلا أن أشعر بألم ومرارة؛ لأني كنت ضحية هذا القدر؛ فاعذرني إذا فاضت المرارة على لساني.
قال: إني عاذر وشاكر، ولا تحسبي أنك أنت وحدك الضحية - وإن كان أمرك أبين وأوضح؛ فإني أنا أيضا أصبحت إنسانا آخر، ولكن دعي هذا، ولنعد إلى العمل الذي تنشدين.
وأمدها بقدر يسير من المال تستعين به على التدرب على الآلة الكاتبة في أحد المكاتب أو المعاهد المعدة لذلك، فلما أتقنت الكتابة بها بسرعة كافية، قدمها إلى مدير شركة تجارية كبيرة، وأوصاه بها خيرا، ورشحها حسن وجهها قبل أن ترشحها الكفاية، فأفرد لها حجرة قريبة، فيها سجادة نفيسة، وكراسي مكسوة بالجلد الثمين، ومكتب ضخم عليه لوح من البلور، ومروحة كهربائية للصيف، ومدفأة للشتاء، وعنقود من مصابيح الكهرباء يتدلى من السقف، وقال لها إن مرتبها في البداية سيكون ستة جنيهات، وإنه يزيد مع الاجتهاد، وغمز بعينه وهو يضيف إلى ذلك أن حظها بين يديها.
وفي اليوم التالي دعاها إليه، فوقفت بين يديه، فأومأ إليها أن تقعد، وشرح لها واجباتها، وهي هينة، لا تتجاوز كتابة بضع صفحات أو رسائل على الآلة الكاتبة، وإثبات تواريخها وأرقامها في دفتر، والاحتفاظ بصور منها في الملفات الخاصة بموضوعاتها المختلفة، وسألها عن أبيها وعمله، ومسكنها، والطريق الذي تسلكه، وكان يهش لها ويتلطف في الحديث معها، ويكرر لها ألا حد لتجزية المجتهد على اجتهاده، وقال لها وهو يصرفها بلطف إن في وسعها إذا شاءت أن تستلف من مرتبها، واقترح عليها أن تقترض نصف مرتب شهر، على أن ترده أقساطا، فشكرت له عطفه.
ولكن الأستاذ حليما نصح لها بألا تفعل، وقال إنه خير لها أن تأخذ مرتبها كاملا في أول كل شهر، ليتسنى لها حسن التدبير، وإقامة الأمور على حدود مضبوطة، والتصرف بغير اضطراب، وحذرها من المدير؛ فما يعرفه معرفته، ولا هو مطلع على دخائله، وقد يكون المراد من اقتراحه التعسير لا التيسير، لتضطرب أمورها فلا تنقطع حاجتها إليه للاستئذان في الاستلاف، فيبدو كأنه يغمرها بفضله، وهو ما عدا أن شجعها على التطلب، حتى لا يبقى لها آخر الشهر سوى «شوية» يسيرة لا تبلغ أن تكون كافية، وهكذا تظل في عسرة دورية وحاجة إليه لا تنتهي، ومن يدري حينئذ ماذا يحاول، وبماذا يهم؟! وختم محاضرته بقوله: إني أراه فخا فحاذريه.
فتحرزت، وصبرت على قلة الخير، واستحقت في آخر الشهر مرتب عشرة أيام، فلم يحمل إليها أحد شيئا، ومضت أيام وهي لا تسأل ولا تعطى، فعادت إلى الأستاذ حليم فقال لها: لعلهم آثروا أن يضموا الأيام العشرة إلى الشهر الحالي، أو عسى أن يكونوا قد أسقطوها من حسابهم وعدوها أيام تجربة، ومرانة على العمل . على كل حال يحسن أن تنتظري وتتأني، وافرضي أنك لم تلتحقي بهذه الشركة إلا اليوم، وأجرك على الله، وحذار أن تظهري اللهفة، أو أن تقولي أو تفعلي ما يدلهم على أنك لست بخير، فما أراني أطمئن إلى هذا المدير، وإن صدري لتحك فيه أشياء منه، لا أدري لماذا؟ فما أنبأتني بشيء يوجب هذا، ولكنه شعور غامض لا أعرف له باعثا وأرجو أن يكون كاذبا.
وكان المدير مقتصدا في ملاطفتها، غير مسرف في حفاوته بها، فزال ما كان يهجس في خاطرها من كلام الأستاذ حليم وسوء ظنه، أو فتر على الأصح، وكان ربما دخل عليها غرفتها فتنهض، فيشير إليها أن تقعد، ويقول: لا داعي لهذا، ثم إني لن أطيل الوقوف، ويحدثها فيما جاء له، فإذا امتد نفس الكلام قعد على ذراع كرسي واعتمد على مكتبها، ويسألها أحيانا وهو يهم بالانصراف عن عملها، أهو ثقيل؟ وهل هي راضية عنه؟ فتشكره، فيهز رأسه ويخرج.
2
ومضت الأيام، ولم يحدث شيء، وأقبل الشتاء فكثر العمل وقلت فترات الراحة، ولكنه كان على الجملة أطيب وأخف على النفس من العمل في الصيف، وكانت تعود إلى مكتبها في الشركة بعد الظهر في الساعة الرابعة وتمكث إلى السادسة، وكثيرا ما كان المدير يصرفها قبل ذلك رفقا بها، إذا لم يكن ثم ما يستلزم بقاءها.
وانتظمت حياتها، واطردت على وتيرة واحدة؛ فكانت تخرج من بيتها كل صباح - ستة أيام في الأسبوع - في منتصف الساعة الثامنة، فتبلغ الشركة حوالي التاسعة، فتدخل غرفتها الدافئة، وتنضو معطفها، وتنظر في مرآتها الصغيرة وتسوي شعرها، وتصلح ثيابها، ويمر بها الموظفون الآخرون فيحيونها وهم في مدخل الباب، أو يدخل منهم واحد يثرثر معها لحظة، ويقدم المدير حوالي الحادية عشرة، فيدعوها إليه، ويناولها بعض الرسائل، فتشتغل بها إلى الظهر، ثم تتهيأ للخروج في منتصف الساعة الأولى، وفي المساء يكون عملها أكثر، إلا أنه لا يكلفها شططا.
3
وكان معها في الشركة شاب ظريف أنيق الملبس رطب اللسان، يسمونه نسيم بك لسخاء يده ومروءة قلبه، لا مجاملة وتلطفا، وهو شاب أبى له والده الثري إلا التجارة دون الزراعة التي كان مبتغاه أن يشتغل بها في ضيعته الواسعة، وكان والده صديقا للمدير راتب بك فألحقه بشركته ليتدرب، ووضعه عند أولى درجات السلم ليرقى فيه ويتعلم، فلم يمتعض نسيم بك ولم يتسخط، بل أقبل على ما وكل إليه من الأعمال - تسجيل الرسائل الصادرة والواردة وتوجيهها - بنشاط وخفة ومرح، وكان يقول لزميله في الغرفة: اقتد بي يا صاحبي، فإنك خليق إذا ثابرت مثابرتي، وأخلصت كإخلاصي أن ترتقي، حتى تتولى إدارة هذه الشركة العظيمة، إي نعم؛ فإنك أولى من صاحبنا راتب بحجرته الوثيرة ومكتبه الطويل ومقعده الدوار، ولست أحب أن أذكر إنسانا إلا بخير، ولكن الحقيقة أني لا أرضى عن صاحبنا راتب كل الرضى، انظر مثلا إلى الصدرية التي كان يرتديها أمس! أو لا تنظر؛ فإنها تؤذى العين، هل يليق أن يلبس إنسان صدرية كهذه؟! يخيل إليك أنها من ألوان غروب الشمس لولا أننا نعلم أنها من صوف، وتأمل ربطة الرقبة، والحذاء ... أوه! لا لا لا، وإني لأحاوره وأداوره وأعالج أن أصلح ذوقه، ويبدو لي أحيانا أني سأنجح، ولكنه يبدو لي في أحيان كثيرة أخرى أنه يفلت مني ويرتد وينأى، على أني لست يائسا من قدرتي على تهذيبه وتثقيفه، الصبر طيب يا صاحبي، كما كانت جدتي تقول، تالله ما كان أحكمها - عليها رحمة الله - ولكني أضيع وقتك وأشغلك عن عملك، وهذا لا يجوز، كلا، لا يجوز؛ فإننا هنا - أنا وأنت - لنجعل من هذا المكتب الذي نحن فيه نموذجا، أما كيف فمسألة أخرى، ننظر فيها حين يجيء أوانها، وسيجيء هذا الأوان ولا شك، وسيجيء يوم تسير فيه مصلحة السكة الحديدية قطرا مخصوصة بأجور مخفضة للمتلهفين على رؤية هذا المكتب النموذجي وزيارته، على نحو ما تسير قطار الآثار في الشتاء، وقطار البحر في الصيف، والآن يجب أن أكف عن الكلام، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف بأن حديثك ممتع؛ فقد آن أن نعمل، فإن منافسينا في التجارة لا يغمض لهم جفن، وهم ساهرون متربصون، ليغتنموا فرصة إهمالنا، وقد شاع وذاع وملأ الأسماع أن نسيما وعزت صديقه الحميم يقولان ولا يعملان. فأخوف ما أخاف أن تثب الشركات الأخرى وتخطف من أيدينا تجارتنا، هيا بنا إذن إلى العمل.
ولم يكن المدير يدري ماذا خبأ له القدر حين قبل أن يلحق نسيم بك بالشركة مرضاة لوالده؛ فقد راح يطارده، ويقفو أثره في كل مكان، وعرف أنه عضو في ناد فدخل فيه أيضا، والتقى به ذات ليلة في النادي فأنغض إليه رأسه بالتحية ومضى إلى المكتبة، فدعا المدير أحد الخدم وأسر إليه شيئا.
ودخل الخادم على نسيم بك في المكتبة وقال له: معذرة يا سيدي، هل حضرتك عضو؟
قال: أنا نسيم.
فعاد يسأل: يعني أنك عضو؟
قال: برافو، ما أذكاك! ولست أشك أنك سررت سرور الجميع حين طير النادي الخبر إلى أرجاء المعمورة وأعلن إلى الأملاء قاطبة أني أصبحت عضوا، أم تراك كنت في شاغل من عملك حينئذ؟ إذا كان هذا هكذا فإني أقدم لك احترامي، فإني أنا أيضا أعمل، نعم أنا عضو، فهل لك أن تبلغ سعادة راتب بك أسفي، وأني عضو، وأني أديت ما يجب أداؤه من رسم الدخول والاشتراك؟
وفي ليلة أخرى دخل على راتب بك في النادي وهو جالس وبين يديه صحيفة، فهوى إلى كرسي إلى جانبه بقوة، فالتفت راتب بك، فقال نسيم: آه، هذا نحن، إنها دنيا صغيرة، فنحن لا نزال نلتقي فيها، فلم يجب المدير بشيء، فنادى نسيم خادما وقال له: أرجو أن تتفضل علي بفنجان من القهوة، وأنت يا راتب بك؟
قال راتب بك: لا شيء.
قال: ولا شيء لراتب بك.
وانصرف الخادم وعكف راتب بك على الصحيفة، فتركه نسيم لحظة ثم قال: لقد تلقيت اليوم رسالة من والدي.
فارتمت الصحيفة على حجر راتب بك، وقال وهو ينظر إلى نسيم شزرا: وما لي أنا؟!
فتكلف نسيم الدهشة والألم وقال: إيه يا دنيا! من كان يظن أن رجلا كوالدي - ينطوي لك على الإكبار والحب - ورجلا له مثل مواهبك العظيمة تقع بينهما النبوة وتحل الجفوة؟! على أني مستعد لإصلاح ما لعله فسد إذا سمحت لي.
قال هذا لظهره، فقد ألقى الصحيفة، ونهض وخرج.
ولم يزل نسيم يلج في تعقب المدير حتى كف عن الذهاب إلى النادي.
وشكا نسيم إلى زميله عزت بثه وخيبة أمله فقال: إني لا أدري ماذا أقول في صاحبنا راتب؟ ولعلي مخطئ، ولكني كنت أتوقع أن يرحب بابن صديقه، ويتلقاه في كل مكان مفتوح الذراعين، ولكني أرى وجودي في النادي يثقل عليه، وقد بذلت كل ما وسعني لأكسب رضاه وأفوز بحسن رأيه ومودته، ولكنه كان يقابل جهودي بالسخط والاستنكار ومغادرة المكان، لم تبق لي حيلة يا صاحبي إلا الصبر، وهو كما علمتك، طيب.
وكان نسيم هذا هو الذي حمى محاسن من الملل، ورد وجه الحياة وضيئا، وأشاع في نفسها الرضى والاستبشار؛ فقد كان لا يفتأ يدخل عليها ويتحدث إليها فيضحكها ويسليها، وقد يدعوها إلى العشاء فيقول لها مثلا: تواترت إلي الإشاعات بأن على مقربة من شركتنا العظيمة التي تعتمد علينا في أعمالها الجليلة النافعة، مطعما يتكفل بأن يوفر للإنسان ما أتلف الكد في العمل من أنسجة البدن، بثمن زهيد، وقد نظرت الساعة إلى وجهي في المرآة، فراعني ما عراه من الذبول والتغير، فقلت لنفسي: إنك يا نسيم ضحية الإخلاص في العمل، وإني لأخشى أن يقتلك اجتهادك، وحينئذ ماذا يكون؟ كيف تقف هذه الشركة على قدميها بدونك؟! فما قولك؟ أليس هذا حقا؟
فتضحك محاسن، وتسأله: ثم ماذا؟
فيقول: وأنت أيضا، صاحبنا راتب يرهقك بما يكلفك فوق طاقتك، وسأخاطبه في هذا، وأؤنبه عليه، ولكنه لا يجوز - ولا يفيد - أن أفعل هذا ومعدتي فارغة، وجسمي هزيل، ولوني ممتقع، وصوتي خافت من الضعف، فتعالي نجرب هذا المطعم الذي يقول عنه رواده إنه هو المطعم الذي يحتاج إليه، وكان يبحث عنه، أساطين التجارة وأقطابها وعمدها وأسنادها مثلنا، وسننظر في أمر صاحبنا راتب فيما بعد، وإنه ليعز علي أن أدعه ينتظر، وما أشك في أنه سيقضي ليلته حائرا قلقا مسهد الجفن، ولكنه لن يضيره أن يتعلم الصبر ، كما تعلمناه نحن العاملين المجدين، فتعالي.
وكان خير ما فيه أنه لا يحاول أن يغازلها، كأنها رجل مثله، فكانت تحمد له سيرته معها، وتخلد إليه بالثقة ولا يساورها قلق، وإن كان لا يرضيها في سريرتها أنه لا يبدو عليه أنه يشعر بأنها فتاة لها جمال وفتنة. على أنها كانت تتعزى بأنه ما كان ليقبل عليها ويطيب نفسا بصحبتها لولا أنه يرى أن لها حظا من الجمال، وحدثت نفسها أنها تؤثر أن يظل كما هو، لا يقاربها بغزل.
4
وكان نسيم متكئا على مكتبه ذات مساء على عادته بعد أن يفرغ من عمله، فقال له عزت: اسمع يا نسيم.
وكان الموظفون جميعا يحرصون على تلقيبه بالبكوية، فاستغرب إسقاطها الآن، وأحس أن أمرا جللا أنساه ذلك، ولم يكن يعبأ بهذا، أو يبالي كيف يخاطبه الناس، ولكن مخالفة العادة تلفت النظر.
فقال: هات ما عندك يا صاحبي، فقد أعرناك السمع؛ قل، وأفض، فإنه يخيل إلي أن على صدرك أكثر من هذا القميص الذي أستأذنك في القول إن ألوانه شتى لا تعجبني، وإذا كان ما بك من الهم ثقيلا كألوان قميصك، فإن لك أن تثق بعطفي، فألق بكل ذلك أمامي؛ بالهم وبالقميص جميعا.
قال عزت: إن محاسن في غمرة.
محاسن في ... ماذا تعني على وجه الدقة؟
أعني أن صاحبنا يصب على رأسها وابلا من التأنيب والتوبيخ.
هل تريد أن تقول إن زفيفا من غضبه هب عليها؟
فضحك عزت وقال: إنه إعصار؛ لقد دخلت عليه الساعة، وأؤكد لك أنه كان يرمي بكل ما على مكتبه، ويزمجر، ويزأر، وينفخ، ولا يتيح لها فرصة للكلام.
فقال نسيم: مسكين، وإني لأرثي له.
فتعجب عزت وقال: ترثي؟ أولى أن ترثي لها، لقد نهرني وطردني، ولا أكتمك أني خرجت أعدو.
وماذا كان يقول لها؟
لم ألبث لأسمع، فقد رماني بنظرة تشك كذبابة السيف.
فقال نسيم: إني مع إعجابي بقوة حنجرته، وبراعته في بعثرة الأشياء، وعلو لسانه في التقريع، لا يسعني إلا أن آخذ علما رسميا بما أبلغتني، فإن محاسن فتاة حساسة رقيقة الشعور، ولست أقبل أن يتلف لها صاحبنا راتب أعصابها على هذا النحو، وسأنظر في الأمر، وسأسأل محاسن، ولن أتهور أو أطيش، فإذا وجدت أن لصاحبنا راتب عذرا في انفجار بركانه الآدمي، فإنه سينجو من العقاب، أما إذا تبينت أنه أساء إلى محاسن بلا موجب، فإني أكون مضطرا إلى إنصافها منه.
وكانت محاسن، لما دخل نسيم، مذهولة، ولم يكن يخفى عليها أنها أخطأت خطأ فاحشا، في كتابة ما وكل إليها، وزادت في خطئها ووضعت بعضا مكان بعض، وعنونتها إلى جهات غير جهاتها، فدق الذين تلقوها التليفون للمدير مستغربين، ولكنها كانت قد قضت ليلة سوداء لم يغمض لها فيها جفن، فقد انتاب أمها مغص كلوي شديد، وقد تركتها تتلوى، فكان ما كان من الخطأ والتخليط.
واطمأنت على أمها في المساء، فلما كان اليوم التالي، وجاءت إلى المكتب وراجعت صور الرسائل، فطنت إلى ما وقعت فيه من أخطاء شتى، وهمت أن تطلع المدير على الحقيقة، ولكنه سبقها فدعاها إليه، وكان أكبر ظنها أن يلفت نظرها ويسألها عن علة هذا الخطأ، حتى إذا عرف عذر، والأمر على كل حال هين، وليس من شأنه أن يضر الشركة أو يجر عليها خسارة. ولكن الذي لم تكن تتوقع هو أن تتلقى كل هذا التوبيخ الأليم واللعن الوجيع، وفوقه الطرد من الشركة، على ذرى أمواج كالجبال المتقلعة من البذاءة.
وماذا تصنع الآن؟ أي عمل آخر يمكن أن تظفر به؟ وما العمل إذا لم توفق إلى وظيفة وقد بالغ أبوها في التقتير في النفقة لما علم أن لها مرتبا؟
أدارت كل هذا في نفسها وهي حائرة واجمة، وطحنت بأضراسها نصف القلم الذي كان في يدها وهي لا تدري، وإذا بنسيم يدخل ويقول بلا تمهيد: اتصل بي أن صاحبنا راتب كان يمتحن أمامك مقدرته الخطابية أو مبلغ ذلاقة لسانه وقوة بيانه، فهل أقنعك بفصاحته وبلاغته؟
فوثبت إلى قدميها، وقد خطر لها أن نسيما هو الرجل الذي يسعها أن تعوذ به في محنتها.
وقالت بسرعة: اسمع يا نسيم - وأهملت هي أيضا البيكوية؛ (كل امرئ يهملها اليوم) - إني في مأزق، وقد تستطيع أن تشير علي كيف أصنع، فهل لك أن ترافقني إلى مكان أشرب فيه فنجانا من القهوة؟
قال: اقتراح سديد، ولا شك أن الشركة ستفتقدني، وتبحث عني فلا تجدني، ولكن صاحبنا عزت كفء لتصريف الأعمال في فترة غيابي، وأنا أثق به، ففي وسع الشركة أن تطمئن، فلنذهب إذن لتشربي قهوتك، ثم تقصي علي القصة بالحرف الواحد، يعني من غير أن تنسي براعات صاحبنا راتب، فإنه - كما تعلمين بالتجربة، وأعلم بالسماع - من فحول البلغاء، وقد اتصل بي اليوم من مصادر شتى لا يرتقي إليها الشك أنه كما يقول الفرنجة: قد فاق نفسه.
قال بعد أن سمع القصة: هذه الحدة المباغتة من أجل غلطة يسيرة تبدو لي غريبة، وقد درسنا - أنا وأنت - الطبيعة الإنسانية درسا عميقا، وغصنا في بحرها اللجي طويلا، فنحن لا نستطيع أن نسلم بأن خطأ ما، من آنسة رقيقة مهذبة، يمكن أن يهدم سدود الأدب كلها ويطلق كل هذا السيل المتدفق من السلاطة، ولا شك أن صاحبنا راتب غليظ الطبع، وقد أتعبني ترقيقه، ولولا ما تعرفين من طول أناتي وحلمي وحبي لخيره لقنطت، ولكن آل نسيم براحهم بطيء، ولكنا نتحدث عنك لا عن آل نسيم، وإن كان الكلام فيهم يطيب ويحلو، ويعز علي أن أحرمك لذة الاستماع إلى وصف ما وهبهم الله من السؤدد والنجابة وآتاهم من العزم والحزم، ولكنه ما كل ما يتمنى المرء يدركه يا صديقتي، فاصبري وتجلدي، وحسبك عزاء عن هذا الحرمان أن فرعا من هذه الدوحة الكريمة الأصول، يجلس معك ويؤنسك ويطربك، ويطيب خاطرك، كلا، لا داعي للشكر، والآن نعود إلى مولانا راتب، فهل تظنين أن الأصوب أن أدخل في هذا الأمر أو أخرج؟
قالت: لست فاهمة.
قال: معذرة، إنما أعني أن من السهل أن أذهب إلى مولانا راتب وأقول له: اسمع يا صاحبي! لقد كنت عنيفا، واسمح لي أن أقول: سليطا طويل اللسان، مع صديقتي محاسن، من أجل غلطة تافهة ميسورة التدارك، وأنا لا أسمح لإنسان أن يخاطبها بهذه اللهجة التي تفرق الشعر الجميل المسدل على أذنها الصغيرة وتجرحها، فعجل بالاعتذار إليها، والتمس الصفح منها، واجث على ركبتيك بين يديها، فإن فعلت فإني أعدك أن أعينك على تألفها من نفرتها، وإلا فأنت الجاني على نفسك، يا «براقش» هذا العصر، وبعد أن أفرغ في كلتا أذنيه هذه الخطبة البليغة ...
فضحكت محاسن وقالت: عفوا وشكرا؛ ما يدريني ويدريك؟! لعله أصم ...
فقاطعها وهو يلوح بيمناه: إذن نهمل مولانا راتب، ولا نعني أنفسنا بتهذيبه وإصلاحه، الحق معك، فإنه ليس أهلا لكل هذا العناء، ولقد ساورتني الشكوك من زمان طويل؟ ولكني كنت أشفق عليه وأقول لنفسي: مهلا يا نسيم، إذا كنت ستنفض يدك منه فمن ذا غيرك يتولى إصلاحه؟! على كل حال ...
فقالت محاسن: اسمع، إني أرجو ألا تشغل نفسك بهذا الأمر؛ فقد انتهى، وكان ما كان، ولن أعدم وظيفة في مكان ما.
قال: وما حاجتك إلى وظيفة وأنت موظفة؟! يخيل إلى من يسمع كلامك أنك عاطلة!
قالت: ولكني طردت، فكيف أكون موظفة؟
فهز رأسه وهو يبتسم ثم قطب وقال: ومن هذا الذي يجرؤ أن يطردك وأنا حي أرزق؟!
فوضعت يدها على يده وقالت: خلنا في الجد، أرجوك.
قال: وهل أنا أهزل؟! ألا تعلمين - أم تراني نسيت أن أخبرك - أنك مستشارة خصوصية لي؟ لقد كنت أظن أن الواقع من الأمر يغني عن التبليغ الرسمي.
قالت: شكرا لك، وإنك لظريف، وعطوف، ولا أدري ماذا كنت أصنع لولاك، ولكنك تعلم كما أعلم أني لا أستطيع أن أدعك تفعل هذا، إنها لمروءة عظيمة، ولكن ...
فقال: إنك تؤلمينني يا صديقتي، وهذا الذي تقولينه لم يجر لي قط في خاطر، أنا وأنت من رجال الأعمال - أعني أني أنا من رجال الأعمال وأنت من ... من ... انظري كيف تخذلني الألفاظ، فكيف بمن هم دوني امتلاكا لناصيتها؟! نعم كلانا تاجر شاب، وقد عرضت عليك عملا، فإن التجار لا ينفقون أموالهم جزافا؛ عرضت عليك هذا بالفعل لا بالقول، فرحبت به، بالفعل أيضا لا بالقول، ويسرني أن أبلغك رضاي عن حسن أدائك لواجباتك وإن كانت خفيفة هينة إلى الآن؛ فما زادت على رفض الدعوات التي تلقاك من أصحاب التيجان، والإصغاء إلى آرائي القيمة في الحياة والناس، وقد كان أجرك زهيدا أيضا؛ فنجان قهوة، أو تذكرة سينما، أو عشاء خفيفا ...
فقالت: لا تمزح، فإني ...
قال: لا تقاطعي من فضلك؛ فإن حسن الإصغاء في صمت وسرور هو أول واجب على المستشار الخاص، كنت أقول إن واجباتك إلى الآن هينة وكذلك أجرك، ولكني قررت أن أضيف إليها واجبات جديدة، وأن أزيد الأجر؛ فإنه ينبغي أن يكون على قدر المشقة، وعلى قدر الاجتهاد تكون الترقية، نعم ترقيتك من مستشارة إلى ...
قالت: لا أدري كيف أشكرك، ولكنك تعلم أن هذا إحسان.
قال: إحسان؟! يا له من لفظ ثقيل قبيح! وإن كان الفعل في ذاته جميلا! ولكن ما لنا وللإحسان الآن ونحن نتكلم في أعمال تجارية؟! أرجو ألا تقحمي هذا اللفظ مرة أخرى في أحاديثنا الجدية، واسمعي، لقد هداني التفكير الطويل العميق إلى أن فلاحا مثلي لا يفيده ما تعلم من التجارة التي حذقها علما وعملا، وأحاط بها خبرا، إلا إذا طبق ما أفاد من المدرسة ومن تجاربه في الحياة، وقد تعلمين أو لا تعلمين أن لي ضيعة عظيمة، كانت أمي بعيدة النظر صادقة الفراسة في نجابتي، فأورثتني إياها، وخلفتها لي، وفلاحونا لا يحسنون الزراعة، فمن واجبي أن أتعلم وأعلمهم كيف يتقنونها؛ لتكون الغلة أوفر، وهناك واجب آخر؛ ذلك أن فلاحينا قد يجيدون زرع الأرض ولكنهم لا يحسنون عرض المحصول للبيع، وما أكثر ما يوكسون ويبخسون، ويغبنهم سماسرة السوء، وهم إذا ربحوا مرة يخسرون مرات، لجهلهم بالتجارة، فواجبي - وأنا الخبير الحاذق - أن أعلمهم كيف يبيعون، لأستفيد ويستفيدوا، ومن هذا البيان ترين يا صديقتي أن واجباتك كمستشارة لي ستكون عديدة وشاقة، وأنا واثق من قدرتك على الاضطلاع بهذه الأعباء الجسيمة، بفضل ما اكتسبته من الخبرة في هذه الشركة، وما استفدته مني في أحاديثنا الكثيرة.
وعلى ذكر الشركة أقول: إنه يحسن أن نذهب للقاء مولانا راتب؛ فما أشك في أنه الآن قلق مضطرب يتساءل عني أين اختفيت؟ وماذا يصنع بغيري؟!
فسألته: نذهب إليه؟ وأنا ... وأنا ... ما الداعي؟ قال: وجودك ضروري، لا بد منه، وأول درس يجب أن تتعلميه في وظيفتك الجديدة، وإن كانت قديمة، هو طاعة الرئيس، تعالي.
وذهبت معه إلى النادي وهي قلقة، فألفيا راتب بك في حجرة المكتبة يدخن سيجارا ضخما، وكان قد علم أن نسيما انقطع وكف عن الحضور، فاطمأن وعاد يختلف إلى النادي في أوقات الفراغ.
وقبل أن يدخلا عليه، دعا نسيم الخادم وأمره أن يجيئه بكأس من الكونياك المعتق، وقال لمحاسن وهو يدخل بها وبالكأس في يده: لا تحسبي أن هذه الكأس لي؛ فإني لا أشرب خمرا، ولكنها لمولانا راتب؛ فإنه يوشك أن يتلقى صدمة، وقد يحتاج إلى منعش، وما أظن به إلا أنه ضعيف القلب وإن كان عالي الزعقات، على كل حال، لا ضير من الاحتياط.
ودخل ويده ممدودة بالكأس، ورأى راتب بك هذا الموكب، فدهش وقطب، ووضع نسيم الكأس برفق على المنضدة أمام راتب بك وجلس إلى جانبه، وجلست محاسن إلى الخلف قليلا، وتكلف المدير قلة الاكتراث، وتظاهر بأنه لا يراهما، وأقبل على سيجارته يمص وينفخ الدخان.
ولكن نسيما لم يتركه، فقال بلهجة الأسف: إن واجبي ثقيل، وأنا أؤديه وأنا كاره له. فهل أنت مصغ يا راتب بك؟
فقال راتب بك: قابلني غدا في المكتب.
فقال نسيم: آسف، فلن تراني غدا في المكتب.
وقرب الكأس من راتب بك.
ومضى هو في كلامه فقال: خذ رشفة من هذا. تشجع، وثق أن الصدمات لا تلبث أن يفتر أثرها وإن كانت تدوخ في أول الأمر، وبعد أن تفيق تجد أن الشمس لا تزال تشرق، وأن الدنيا ما زالت بخير.
فضجر راتب بك وسأله بحدة: ماذا تريد؟
قال: العجلة من الشيطان. لقد كنت أريد أن أخفف من وقع الخبر الأليم بالتلطف فيه، ولكن كما تشاء، اعلم إذن أننا قررنا - أنا والآنسة محاسن - أن نستقيل من عملنا بالشركة، وإني آسف، ولكن للضرورة أحكاما، ونصيحتي لك أن تتلقى هذا بالصبر.
فكاد الرجل يثب من الغيظ، وهم بكلام، ولكن الله لم يفتح عليه بأكثر من: من أنت يا ... يا ... ولعله خشي أن يخسر المعركة إذا هو جازف بمنازلة هذا الفتى الذرب اللسان، فأمسك وانحط على الكرسي.
وقال نسيم وهو يخرج ويجر محاسن: ليس هذا ما كنت أتوقع، وإني لأعلم أنها صدمة قوية، فإن الخسارة لا تعوض، ولكني كنت أظن أنك أعقل وأذكى من أن تحاول إقناعنا بالبقاء، لا لا، كان ظني بك غير ذلك.
وخرجا.
وتركا الرجل ينفخ، ويضرب كفا بكف.
5
هنئني يا أستاذي.
مبروك، ولكن ما هي الحكاية؟
أصبحت مستشارة.
مست ... مست ... تعنين ... ماذا تعنين؟
ألا تعرف ما هو المستشار؟ يطرح عليك الموضوع، فتبحثه، وتدرسه ثم ترى فيه الرأي، فيؤخذ بما ترى.
فهمت، أعني ... ألا يمكن أن تبدئي من البداية؟
فقصت عليه محاسن القصة، فهز رأسه وقال: يخيل إلي أن هذا أمر له ما بعده.
قالت: إنك سيئ الظن.
قال: ليست المسألة مسألة سوء ظن أو حسن ظن، وكل امرئ - إلا أنت على ما يظهر - يستطيع أن يفطن إلى الآخر من هذا الأول، ومن الجلي أن نسيما هذا يرمي إلى الزواج.
قالت: ولكن هذا مستحيل، من أنا حتى يتزوجني؟! أما قلت لك إنه واسع الغنى؟
قال الأستاذ: لا تكوني بلهاء؛ الرجل يحبك، ما في هذا شك، وفقرك لا يعنيه؛ لأنك أنت همه لا المال الذي عنده منه فوق الكفاية.
قالت: ربما، ولكن هذا لم يخطر لي قط، ماذا أصنع الآن؟
قال: لا شيء، تبقين كما أنت، ولا تغيرين شيئا من حالك معه، حتى يخطو هو الخطوة الثانية.
قالت: وماذا يكون العمل حينئذ؟
قال: الأمر واضح؛ ترجعين إلى الطبيب لينجز لك وعده.
قالت: لا أستطيع أن أخدع نسيما، وأنت تعلم أن هذا هو الذي دفعني إلى مجافاة محمود.
قال: يا محاسن أطيعيني ولا تركبي رأسك، إنك فتاة حصان قاصرة الطرف ولست بغرور فاجرة، والذي كان إنما كان بسوء الحظ، وكان الذنب كله لي، وليس من العدل أن تبوئي أنت بإثمه، وأن تظلي طول عمرك ضحية له، فما جنيت شيئا، وإنما أنا الذي جنيت، وقد يسر الله النجاة، ومن العسير أن تقنعي شابا يحبك ويكبرك ويعرف فيك العفة والتحصن، ببراءتك، وإن كان لا شك فيها، وعهدنا بالرجل يكون كريما رحيب النفس واسع العقل، يؤثر على نفسه في كل شيء، إلا فيما يتعلق بامرأة يحبها ويريدها لنفسه، فإنه ينقلب أنانيا فظا لا يغضي عما يرى أو يسمع من هناتها ولو كان لا ذنب لها فيها، ولا يتغافل عما كان أو يكون منها، ولو كان فلتة وبرغمها، وهذا هو الأغلب والأعم، وهناك من لا غيرة لهم، وهؤلاء قلة، ولا يقاس عليهم، فاسمعي مني، ولا تحملي نفسك وزرا ليس من العدل أن تحمليه، ولا تضيعي نفسك وتشقيها بقلة العقل، وبالإسراف عليها في الظلم، ولا تخيبي أيضا أمل هذا الشاب. ولو كان أسن، أو أكثر تجربة للحياة وعثرات الحظ فيها لأشرت عليك بخلاف ذلك، أي بالمصارحة، ولكنه غني مرفه؛ لم يعرف إلا التوفيق، ولم يشعر بغير الاطمئنان والثقة، ولم يبل ما في الدنيا من ظلم ونكد طالع وعرك ووطء وتفتيت، وقد يكون على خلاف المعهود في أمثاله، ولكن السلامة في الاحتياط والتحرز، فأطيعيني من فضلك تسعدي.
فقالت: إن عقلي مقتنع، ولكن قلبي يحدثني أن الأكرم والأشرف - إذا تكلم، ولست أظنه فاعلا - أن أصارحه بكل ما كان، بلا زيادة أو نقص، ولم لا؟! لست متزوجة رجلا إلا بعد أن يعرفني على حقيقتي بلا تمويه أو تزوير.
قال: هذا أكرم ولا شك، ولن تعدمي رجلا يفهم ويعذر ويهمل الأمر كله، ثم يجيء يوم يغضب فيه لأمر ما، فيتحرش بك ويعيرك بزلة يحمل تبعتها سواك في الحقيقة، ويمن عليك بالصفح عنك، فيفسد الأمر كله ويسود عيشك بعد ذلك، كلا إن الذي أشير به أسلم وأحكم، حتى نرى أي رجل هو؛ أعني نسيما هذا.
فردت وقالت: على كل حال، لا يزال أوان ذلك بعيدا.
قال: لست أراه بعيدا، ومع ذلك يجب أن توطني نفسك من الآن على أحد النهجين.
فوعدت أن تفكر، وتنبئه. •••
وأقلق الأستاذ حليما ما سمع منها، وكان هو في سريرته يؤثر المصارحة، فإنها أقوم وأسلم في النهاية، ولكنه أشفق عليها أن تكفر بالعدل في هذه الدنيا.
واستغرب أنه فاته في حديثه معها أن يسألها عما تطوي لنسيم هذا، أهو يبلغ أن يكون حبا؟ أو هو يقاربه ويسهل أن ينمو، كالماء يعمق تحدره مجراه؟ ولا شك أن محاسن تستظرفه؛ فإنه على ما يستفاد من كلامها خفيف على الأفئدة، فوق أنه كريم معوان، غير منان، يعطي مبتدئا وكأنه هو الذي يأخذ، ويصنع معك الجميل ويزجي إليك الشكر كأنك صاحب الفضل فيه، وأخلق بمن كان خفيف الروح، سخي اليد، ذرب اللسان، حلو الفكاهة، حسن المعاشرة ظريفها، أن تفتح له القلوب. ولا ريب في أنه يحبها، وإلا لما صنع كل هذا لها، ولكن هل هي تحبه؟ ولعلها لو سئلت لترددت، فقد خيل للأستاذ حليم أن نسيما حملها وطار بها بجناحين من ظرف الشخصية وحلاوة اللسان، فهي مدار بها، لا تدري إلى أين يمضى بها؛ لا بل لا ترى أن في طاقتها حتى أن تفكر لسرعة الكر والخطف فيه، ولما يشغلها من فتنة القول والعمل، وتعجبها لجدتها عليها أيضا، فما رأت من قبل أحدا كنسيم.
وما له؟ ألا أثر له في الموضوع؟ أليس المال كل شيء في دنيانا هذه؟! أليس هو الخير والشر، والفضيلة والرذيلة؟! أليس كل أمر مرتهنا به إذا اعتبر الواقع؟! من يدري؟! فإن للمال لسحرا، وقد رثت حال محاسن، وعانت ضنوكة غير هينة؛ لا لفقر بأبيها، فما أنزف ولا أكدى، وإنما طاش وماق، وكان ما كابدت وثقل عليها من الشدة والشظف هو الذي دفعها إلى التماس الكفاية من طريق الوظيفة؛ فالتقت بهذا الشاب، وما كادت تخفق حتى دفع يده فانتشلها وأنقذها من العود إلى الحاجة والتطلب، فماذا يمنع أن تطمع في خصب العيش ونضارة الحياة ووفرة الخير والاستراحة من هذا الهم؟! ولن تحتاج إلى تكلف التحبب إلى مثل نسيم؛ فإنه محبب إلى القلوب.
وخطر للأستاذ حليم أنه قد يستطيع أن يمتحن مروءة نسيم، ورحابة نفسه، وسعة عقله، ومبلغ استعداده للتسامح والإنصاف، فيقص عليه قصة محاسن معزوة إلى غيرها، ثم ينظر وقعها في نفسه؛ فإذا ساء الوقع ظل على ما أشار به عليها من الكتمان، وإذا رآه يتلقى الأمر بصدر واسع وإدراك صحيح، كان لا بأس مما تذهب إليه محاسن من المصارحة، في أوانها. غير أن هذا يتطلب أن يعرفه أولا، وأن يخالطه زمنا متريثا متربصا؛ فما يعقل أن يروي له الخبر في أول لقاء لهما.
وصار السؤال: هل ترضى محاسن أن تمهد له هذا التمهيد، وأن تدعه يمضي في هذه التجربة؟
ودار في نفسه أن لو كان هو أصغر سنا، وغير ذي زوجة وولد ... لماذا قسم له أن تكون زوجته مستعصية عنيدة؟ لقد كان يحبها، وما زال غير كاره لها، وما انفك مستعدا أن يصل ما انقطع، ويستأنف ما مضى، وصار كأنه من أخبار القرون الأولى، ولكن هيهات! وسيظل ولا معاذ له غير خياله وأحلامه، وإنها لأطيب من الواقع؛ فإن الحقيقة محدودة بحدود الطاقة التي لا سبيل إلى مغالطة النفس أو الغير فيها، وما يستفاد منها من المتعة ينقصه - وكثيرا ما ينغصه - ما تخطئه ولا تجده عند شريكك مما تطمع فيه، وتتطلع إليه، ولعلك كنت تحلم به. أما في الخيال فإنك تتصور ما شئت كيف شئت، على هواك، وتنحل نفسك من الطاقة ما حلا لك، وليس للمرء سلطان على الأحلام، ولكن الراسب فيما وراء الوعي يطفو فيها، والكامن يبرز، ويتمثل ويتجسد، وتتألف منه صور بعضها مما يشتهى، ففيها قدر من العوض عما حرمه بسوء حظه.
وحدث الأستاذ حليم نفسه أن أكبر ظنه أنه لطول ما عاش بين خيالاته وأحلامه، خليق أن لا يرضى عن الحقيقة لو تيسرت له، فإنها لن تكون إلا دون ما يرتسم في ذهنه من الصور، ثم راجع نفسه وقال: إن هذا شأن كل إنسان، فما من إنسان إلا وهو يحلم ويتخيل، إلا أن يكون بليدا مغلق النفس؟ وما من أحد إلا وهو يدرك - إلى حد ما - بعد ما بين الحقيقة والخيال، وبعض الناس لا يبالي هذا الفرق، ولا تعنيه إلا الحقيقة وما يفيد منها، والبعض يلوذ بخياله ليسد له النقص ويعوض ما فاته، وهؤلاء مساكين؛ فإنهم إذا لجوا في التخيل أو لجت بهم الحاجة إليه، كانوا خلقاء أن يتبرموا بالحياة ويتسخطوا حظهم ويستقلوا نصيبهم من خيرها، وأشقى الناس من كانوا مثله؛ قد سلبوا الحقيقة كلها وحرموها أجمعها، ولم يبق لهم من مسعف سوى هذا الخيال، وإنه ليسعف ولكنه لا يرضي ولا يقنع، وما تزداد به النفس إلا اشتهاء لما عز مناله، ولا تزداد به الأعصاب إلا تعبا وإعياء، ولا تزداد به الطبيعة إلا تشويها ومسخا.
ورثى الأستاذ حليم لنفسه، وتنهد، وأحس أنه مشف على البكاء، ثم كبح نفسه واستحى أن يتلقى - حتى فيما بينه وبين نفسه - ما تجيء به الحياة بغير الصبر والجلد، وقال إن له أسوة حسنة فيمن يعيشون رهبانا وزهادا؛ ثم عاد يقول: إن هؤلاء لا يكون حالهم خيرا من حالي إذا كانوا قد حملوا على الزهادة، أما إذا كانت الزهادة عن رأي أو عقيدة فذاك حري أن يعينهم على الاحتمال، ويشغلهم ويصرفهم عما أشاحوا عنه، ثم هز رأسه وقال: ومع ذلك ما أظن بهم إلا أنهم يحتاجون إلى رياضة شاقة طويلة، بل دائمة، وإلى التلهي عما تركوا - إي نعم، التلهي - بالعكوف على ما انقطعوا له، وتساءل: أترى لا تخايلهم صور ما زهدوا فيه؟! لا بد أنها تلوح لهم أحيانا فتقض مضاجعهم وتؤرق جفونهم، وكيف يستقيم بال من يخالف آيين الحياة؟!
وسندعه لخواطره هذه؛ فما لها انتهاء، وإنه ليتفرج ويذهب بها هنا وهناك، ثم يكر إلى رأس أمره، ولا حيلة له يعرفها، ولا مخرج يهتدي إليه، إلا أن يتخذ خليلة، وقد خطر له هذا مرارا فنحاه، واستعاذ بالله منه، واستبشع أن يطوف برأسه، وحدث نفسه أنه حتى لو كانت نفسه تطاوعه لما عرف الوسيلة، وضحك وقال: ثم إن الخليلة تكلف مالا، يفتح الله يا سيدي؛ الأحلام أرخص.
6
كانت أعمال «المستشارة» هينة طفيفة، لا تأخذ من وقتها إلا قدر ما يضيع من وقت المترفات المنعمات في المنازه والمطاعم ودور السينما؛ فهي في بيتها معظم النهار إلا إذا دعاها إلى الغداء، ثم تلقاه فيتنزهان ساعة، أو يدخلان ملعبا، أو ينتحيان ناحية في «جروبي» أو «صولت» وما ماثلهما، ويتعشيان في الأغلب ويفترقان.
وكان معها على ما عودها من الحذلقة الظريفة، واللطف والتحفي في غير مبالغة، ودون تكلف للتودد، وكان مرتبها عشرة جنيهات غير ما تحتاج إليه لثيابها وزينتها، وقد اعترضت على هذا وقالت إنها لا تستحق منه قرشا، وإنه يعودها البذخ، فماذا عساها تصنع إذا فقدت وظيفتها الجديدة؟!
فقال لها: تعالي نتفاهم؛ فإني أراك تجورين علي، وتوسعين نطاق حقوقك، وتعتدين بذلك على حقوقي، نعم، فإن عمل المستشار هو أن يشير لا أن يعترض، والاعتراض هو عملي أنا، ويجب أن يعرف كل منا وظيفته ويقف عند حدودها، فإني أخشى أن تتداخل الحدود ويختلط الأمر، ويضطرب الحال، وقد عرضت عليك وظيفة مستشار، وقبلت، ففرغنا من هذا، وأنا أقر وأعترف أن المرتب قليل، بل ضئيل، إذا قيس إلى الجهد المضني الذي تبذلينه، وإنها لمروءة منك أن ترضي به، وستتسع أعمالنا وتعظم بفضلك، فيتسنى حينئذ أن نجزيك التجزية العادلة ...
فقاطعته ضاحكة: أنا أقول إنه كثير، فتعتذر لي من قلته كأني كنت ...
فقال: آه! اختلاف رأي، فلنبق مختلفين إذا شئت؛ فإن رقي العالم لا يتيسر إذا كان الناس كالنسخ العديدة من صحيفة أو كتاب؛ فخلك على رأيك في الاستكثار، وسأبقى على رأيي في الاستقلال، وكلما لاحت فرصة تجادلنا، ومن يدري؟! لعلنا نتفق آخر الأمر، ربما ...
فلم تجد فائدة من الكلام.
وكانت إذا خلت بنفسها تتساءل عن نوع شعورها نحوه؛ أهو حب؟ وتهز رأسها، وتقول إنها تستظرفه جدا، وتعده صديقا حميما، وتحله من نفسها محلا لا ينازعه فيه منازع، وتشكر له حسن صنيعه معها، ولا تجحد فضله، بل نعمته عليها، ولكنها لا تنطوي له على ذلك الحب الذي يلقي بالمرأة على الرجل ويستغرقها ويأخذ عليها كل متوجه.
واستغربت ، وهي تدير عينها في قلبها، أن تجد أن للأستاذ حليما علوقا ونوطة بقلبها، لا تشبهها ولا تدانيها مودتها لنسيم؛ فإن نسيما أقرب إلى الأخ أو الخدن، أما حليم فإنها تشعر له بحنة - خفيفة، نعم، ولكنها حنة - تورث قلبها خفقة، وقد سايرت حليما وانقادت له، ولكنها لا تشعر أنها يمكن أن تنقاد على هذا النحو لنسيم، وإن كانت غارقة في نعمته.
وكانت لها جارة في مثل سنها، رأتها تتمشى عصر يوم في الحديقة الواسعة المهملة، فأقبلت عليها تحادثها، كما تفعل أحيانا.
وكانت الجارة قد راقبت محاسن بعد أن لفت نظرها أنها صارت أنفس ثيابا وأكثر احتفالا بزينتها، فما لبثت أن استطردت إلى ما جاءت من أجله وقالت: هذا يوم جميل لا ينقصه إلا ...
وأمسكت وحدقت في وجه محاسن، فقالت هذه: إلا ماذا؟
قالت الجارة: إلا الحبيب.
فأدهشت محاسن هذه الصراحة، ولم تزد على أن زامت.
فضحكت الجارة: أيدهشك قولي يا محاسن؟ ربما، ولكن ألا تتمنين، عندما تنقشع السحب، وتصفو السماء، وتسطع الشمس، وتحمى الأبدان، أن يقبل عليك حبيبك، والحب يطل من عينيه، وذراعاه مفتوحتان، وشفتاه متهيئتان للتقبيل والهمس الحلو؟!
فاضطرم وجه محاسن، فما خاطبها أحد - رجل أو امرأة - بمثل هذا الكلام الصريح من قبل.
وقالت الجارة: ليس في هذه المنى شيء منكر؛ فإنها طبيعية، وإذا لم يشعر الشاب والفتاة بهذه الحاجة، فلن يكون زواج، وإذا امتنع الزواج انقطع النسل وخربت الأرض.
فقالت محاسن محتجة: أي كلام هذا؟!
قالت الجارة: ما له؟ إن الحب طبيعي، وقد خلقنا له، فلماذا تخجلين منه؟!
فلم تجب محاسن، فألحت عليها جارتها وسألتها: هل تزعمين أنك لم تفكري قط في الحب، أو لم تحلمي بحبيب؟!
قالت محاسن: ربما، أحيانا، ولكن ...
قالت: إذن لماذا كل هذا التكلف؟!
قالت محاسن: ليس هذا تكلفا ولكن الكلام ... عيب.
قالت: عيب؟! كلا، إن الحب - الحب الحقيقي - شيء مقدس لا عيب فيه، وإلا فلماذا يتزوج الناس؟!
فسكتت محاسن، وخطر لها أن لعل فريدة جارتها الجريئة أعلم منها وأفهم وأدرى، وقد تستطيع أن تفتح لها عينيها، وتخرجها من حيرتها، فسألتها: قولي لي يا فريدة: كيف تتصورين الحبيب الذي تتمنين؟
قالت فريدة: الحبيب الذي أتمنى، ما أكثر ما رأيته بعين خيالي؛ طويل، نحيل، جميل الشعر ناعمه، أسود العينين، خفيف الدم، بسام، مليح الفكاهة، يعيش من يوم إلى يوم، ولا يصدع رأسه بالتفكير في الغد، ويداه طويلتان صغيرتان رقيقتان، ووجهه شاحب قليلا، ولكنه غير متهضم أو دميم، وحديثه يحرك الخيال.
فقالت محاسن، قبل أن تستطيع كبح لسانها: كلا، إنه لا يشبه ما أتخيل، فالرجل الذي أراه في أحلامي - أحلام اليقظة - طويل عريض الكتفين، متين البنيان، أسمر اللون، حسن الصورة، وذقنه فيها نقرة صغيرة، وهو مرهوب البأس، ولكنه رقيق القلب، عطوف على الضعفاء، ولا يهاب شيئا، وهو مرح، يقهقه حين يضحك، ولكن في صوته نبرة حزن؛ لأنه قاسى في حياته شدائد وذاق آلاما.
وأمسكت فجأة، فقد كانت كأنها تتكلم وهي نائمة.
فقالت فريدة: أنا لن أرضى عن حبيبي هذا إلا إذا كان حسن الهندام؛ فإني أكره الرجل الذي يهمل مظهره، ويترك شعره يطول أو لحيته تنبت، ولا يكوي ملابسه، وعندي أن الرجل ينبغي أن يعنى بثيابه كالمرأة.
فقالت محاسن: حسبنا أحلاما.
ولما قابلت نسيما في ليلتها خجلت؛ فما كان فيه شيء من صفة الحبيب الذي تتخيله وتحلم به.
الفصل الرابع
1
ألحت على محاسن صورة الحبيب المتخيل، بعد حديثها مع جارتها، وكانت قبل ذلك سابحة على متن التيار، وهي في شاغل من شئون البيت، ومشقة التدبير، والسخط على أبيها، واستهجان سيرته مع صاحبته، وإشفاقها على أمها، وما جرت عليها علاقتها بالأستاذ حليم، وما احتاجت إليه من كسب الرزق بعرق الجبين. وكان مما ساعدها على الانصراف عن التخيل أنها وطنت نفسها على الرضى بالعزوبة والسكون إليها بعد تلك التجربة الأليمة التي جرها عليها سوء حظها، وكانت تعود كل ليلة إلى بيتها مهدودة القوى، وإن كان عملها في الشركة قبل فصلها منها كان هينا، لأنها لم تألف العمل، ومواعيده المنتظمة التي لا تختلف في صباح أو مساء، فكانت تضطرب إذا فاتها ترام، وتشفق أن تتأخر ولو دقيقة واحدة، فمشيها أشبه بالهرولة، وأعصابها لا تهدأ، وقلبها لا يكف عن الخفقان، وكانت إذا انقضى اليوم بسلام وبلغت بيتها تتشهد، ولا تكاد تنطرح على الفراش حتى يأخذها النوم، فإذا حلمت لم تر إلا المدير المرهوب أو الوالد الأخرق وإلا صورا لا تطيب من البأساء والضراء.
وجاء نسيم، فطاب العيش، واستراحت من العمل، ولكن الزواج ظل لا يجري لها في خاطر؛ لما وقر في نفسها، حتى فتح لها الأستاذ حليم عينها ونشر المطوي من الأمل، وعرفها أن ما كانت تظنه مستحيلا قريب المنال، وأنه ما من معضل إلا وله حل ما، فتهيأت نفسها تهيؤا جديدا، وعادت الأرض التي أصارها الإهمال والترك مواتا وجمادا كنودا، حرة جيدة التربة مرجوة الريع، ثم كان حديث الجارة فريدة، وقد تلقته أول الأمر بالامتعاض مما ينطوي عليه من تطلع، ثم ما لبث على قصره أن أيقظ خيالها الذي كان قد بدأ يتقلب ويتنبه؛ فطافت برأسها، فجأة، تلك الصورة لما كانت - في قرارة نفسها وأطواء ضميرها المحجوب عن ناظرها أو إدراكها، بما هي فيه من الهم والكرب - تشتهي أن يكون عليه الحبيب.
وصارت، بعد ذلك، في غدوها ورواحها مع نسيم، لا تزال تنقل عينها منه وتديرها في قلبها، وتقيس الحقيقة الإنسانية الماثلة أمامها في صورة حية من اللحم والدم، إلى الصورة التي كانت مكنونة في أصداف من لأواء العيش، فشق عنها وبرزت، وأخذت معارفها تتجسد، وألوانها تتبدى وتعمق، وسماتها تنجلي، وكثر على الأيام تأملها لها، وطالت إجالة العين فيها، حتى صار يخيل إليها أنها تنظر إلى رسم بارز أو مجسم، وألفت - شيئا فشيئا - أن يرف لها قلبها، ويفتر لها ثغرها، وترق لها نظرة عينها وتلين، وأن تناجيها في خلوتها، وتحاورها، وتنشئ معها أحاديث تفيض عذوبة وحلاوة، وتتخيل لقاءها مع صاحبها، في الحقيقة، على أشكال شتى وفي أماكن عدة، وفي ضروب من الثياب متعددة الألوان، متفاوتة الوشي والتفصيل، مختلفة النسيج، وكانت ربما فتنتها هذه الصور التي تتعاقب على عينها، وهي مع نسيم، فتشرد نظرتها وتشخص وقد ثبت حملاقها، فتبدو له كأنها قد نأت عنه وهي إلى جانبه، وغابت وهي قيد لحظه، فيتعجب، ويحمل هذا منها على محمل الرضى بما هي فيه، ويؤوله أحيانا بأنه هو سهوم الحب، ويتساءل: حب من يا ترى؟ حبه هو؟ أم حب سواه؟ ومن يكون سواه هذا وما يعرف أنها تلتقي بغيره، ولا عهد منها إلا الصدق والصراحة في إطلاعه على أحوالها وأمورها جميعا؟
ولكنه كان امرأ فيه أناة، وميل إلى أخذ الأمور مأخذ التهوين، فكان يقول لها مفاكها على عادته: ممم! يظهر أن مستشارتنا تعبت، وبرح بها فرط اجتهادها لنا، أما والله إن آل نسيم لأنانيون، كيف يتركون مستشارتهم المخلصة ترهق نفسها هذا الإرهاق؟! كلا، هذا لا يجوز، فيجب يا آل نسيم أن تعطوها قسطا من الراحة، وإني بلسانهم - أو ألسنتهم جميعا - أسألك: ما قولك في إجازة؟ إجازة لا تطول حتى تعطل الأعمال، ولا تقصر فيقل بها الانتفاع؟
فتفيق، وترتد إليه، وتبتسم له، وتسأله: ماذا كنت تقول؟ معذرة؛ فقد كنت كأني في عالم آخر.
فيقول: تالله، ما أذكاك يا نسيم وأحد فؤادك! ولا عجب؛ فإن آل نسيم كلهم لوذعيون، إي نعم يا صديقتي المستشارة، فإن الذي كنت أقوله - وفاتتك البراعة فيه لسوء حظك - ليس إلا شاهدا واحدا من آلاف من الشواهد على هذه اللوذعية التي شاعت في آل نسيم علوا وسفلا كالوباء، وتمثلت خاصة في المتشرف بخطابك. كنت أقول - ولا بأس من أن أعيد؛ فإن أمثال هذه البراعات تحلو على التكرار - إن بك حاجة إلى أن تجدي نفسك في عالم آخر، كما قلت تماما، وبعبارة أخرى يجب أن نتعطف فنمنحك إجازة من هذه الواجبات التي تضنيك، تعودين بعدها أنضر وأنشط، وأقدر على الاضطلاع بأعبائك الجسام، فما قولك؟
قالت وهي تضحك: إجازة؟ من قال إني محتاجة إلى إجازة؟! ومن أي شيء وأنا في إجازة دائمة؟!
قال: شكرا لك على هذا اللطف، فإنه دليل الإخلاص في العمل، ولكن فراستنا الصادقة تقول لنا غير ذلك، ومن أجل هذا قررنا أن نمنحك إجازة بمرتب مضاعف، أو غير محدود، للاستجمام والراحة من عناء الأعمال، وقد وقع اختيارنا لك على الإسكندرية، تعرفينها؟ سمعت بها؟
قالت: وهي لا تزال تضحك: ما رأيتها قط.
قال: هي ثغر صغير، صغير جدا، ولكنه على صغره، يقف سدا منيعا في وجه البحر، فلا يزال البحر يكر عليه بأمواج كالجبال، ولا يزال هذا الثغر الصغير الباسل يدفعه ويرده ويترك لججه المتعاقبة متكسرة على صخورها، والمعركة لا تنتهي، ولا تفتر في ليل أو نهار؟ ولكن الثقة وطيدة بهذا الثغر الباسل، وبقدرته على صد كل كرة، وتمزيق كل حملة، فما قولك في أن تقلدي المراسلين الحربيين، وتذهبي إلى هذه الساحة الأبدية لتوافينا بأحدث أنباء هذا النضال؟
فسألته: هل مللتني؟
قال: إنها المرأة لا تكون أبدا إلا كما خلقها الله، لا كما يريد نسيم أن تكون، على أن هذا لا يسوءنا؛ لأنا ندرك بفطرتنا الذكية أن المرأة المخلصة لطبيعتها هي التي تستحق أن يعنى بها الرجل، ولهذا نعنى بك؛ لأنا نراك مخلصة لأنثويتك. كلا، لم نملك يا مستشارتنا العزيزة، وإنما نؤثر لك الراحة، أو نرجو أن تعودي إلينا من معركة ساحل بحر الروم وأنت أشوق إلى مجلسنا الظريف، وأطلب لحديثنا اللذيذ، وأحرص على الاستماع إلى آرائنا النفيسة، وأنشط في أداء واجباتك الكثيرة الأخرى.
فأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها ونظرت إليه جادة وقالت: ألا تمهلني؟
قال: لماذا؟ القطار حاضر، والإسكندرية تنتظر مقدمك السعيد بلهفة.
قالت: لكأني بك تريد أن تحملني الساعة وتضعني في القطار وتدفعه بيديك، ما الداعي إلى العجلة؟!
قال: لا داعي سوى أني أخشى على الوردة الذبول في هذا الجو الثقيل.
وكانت هذه أول عبارة جرى بها لسانه مما يشبه أن يكون إعرابا عن إعجاب، أو يقرب أن يكون غزلا، وكانت هي تحمد الله على اتقائه أن يقول شيئا يجري هذا المجرى؛ فقد كانت تخشى أن تضطر إلى تخييب أمله، وحينئذ يكون ماذا؟
بأي لسان تقول: لا، وهو رب نعمتها؟ وكيف تطيق أن يظن بها الجحود، وهي غير جاحدة؟ وإنها لتعلم - على الأقل مذ نبهها الأستاذ حليم - أن هذا حال لا يمكن أن يدوم، وأنه لا معدى عن الانتقال إلى حال أخرى، وها هو ذا قد أجرى لسانه بأول كلمة تشير إلى قرب الانتقال ووشك التحول، أفلا يحسن أن تغتنم الفرصة التي أتاحها لها وتفر إلى الإسكندرية وتقضي فيها أياما توسع فيها هذا الأمر تفكيرا وتدبرا؟!
ولقد تلطف فأشار إلى أنه سيدعها وحدها، ويتخلف هو في القاهرة، ففي مقدورها وهي بعيدة عنه، أن تنظر في أمره وأمرها معه، وأن تتأمل ما تحسه له وهي نائية عنه، وأن تشاور نفسها فيما عدا ذلك أيضا؛ في مستقبلها معه، أو بمعزل عنه، إذا استقر رأيها على التأبي والنفور، وفيما ينبغي أن تحدثه أو لا تحدثه به إذا آثرت الرضى بما يخطو إليه ببطء وعلى حذر.
دار هذا كله بنفسها في مثل لمح البصر، فقالت له: إذا كنت تبغي جادا أن أسافر، فأنا أفعل ما تأمر، وإن كنت لا أشعر أن بي حاجة إلى ذلك، ولا أعرف لماذا تبغيه، على كل حال، أمرك، وماذا أقول غير ذلك؟!
وكان نسيم تخير لها مكانا خاليا في القطار ولبث معها حتى دق الجرس إيذانا بالرحيل، ثم وقف على الرصيف يودعها ضاحكا.
ولم تجد محاسن مشقة في إقناع أمها بأنها ندبت لعمل في الإسكندرية، أما أبوها فلم تكن بها حاجة إلى استئذانه، وإن كانت في سريرتها تخشاه، ولكنه كان يبيت في حيث لا يعلم أحد، ويغيب يوما أو يومين أو أياما، ثم يئوب على غير انتظار، ويكتفي بأن يقول إنه كان في «مهمة»، ولا يسأل عن شيء أو أحد، كأنما يشفق أن يسأل هو أيضا إذا فتح هذا الباب.
ولبثت محاسن وحدها دقائق، فتناولت قصة بوليسية وهمت بالقراءة، وإذا برجل يدخل ويضع حقيبة ضخمة على الرف، وينحط على المقعد أمامها، فثقل عليها أن يتطفل على وحدتها غريب، ورفعت رأسها وألقت إليه نظرة استهجان لتطفله واستثقال لوجوده، وما كادت تصعد طرفها إليه حتى دهشت وشخصت، فقد كان الرجل تمثالا حيا لمن قالت لجارتها فريدة إنها تحلم به؛ طويلا، أسمر اللون، ملوحا، عريض الكتفين، أرسخ، حاد العين كالصياد، قوى الفم، بارز الذقن متينها.
أخذت عينها هذا كله في أسرع من رد الطرف، لولا أنها لم ترد طرفها؛ لفرط دهشتها، فظلت عينها عليه، والراجح أن محياها فضحها، ونم على ما خالجها من العجب والسرور، فقد خلع الطفيلي طربوشه وحسر عن رأسه، وكان قصير الشعر منتصف المشيب.
معذرة، هل بيننا معرفة؟
فهزت محاسن رأسها أن لا، ووجهها كالجمرة.
وهمت لما سألها هل بينهما معرفة أن تقول: نعم؛ فإنك أنت بطولك وعرضك الذي أراك بعين خيالي حين أحلم بالرجل الذي أشتهي أن يكون بعلي. ولكنها عضت على لسانها ولم تنبس ببنت شفة، وهزت رأسها منكرة أن تكون ثم معرفة، وصبغ وجهها الحياء فزاده وضاءة.
وأمسك الرجل واضطجع، ومضت ثوان أو دقائق أو حقب، وإذا بها تقول له: أحسب أنك تقول في سرك أني جريئة أو سيئة الأدب، ولك العذر، ولكن الحقيقة أنك توأم رجل أعرفه - نعرفه - من زمان طويل.
ولو طاوعت نفسها لقالت له إنها لم تعرف هذا الرجل المزعوم إلا في أحلامها.
فتبسم الرجل - الحقيقي - وقال: صحيح؟ واثقة أني لست به؟ اسمي حمدي؛ حمدي الديناري.
فاتقد محياها مرة أخرى، وهزت رأسها ثانية - ولكن لسانها لم يخذلها فقالت: واثقة، ولكن اسمك أيضا يخيل إلي أنه مألوف، لا أدري لماذا؟
فقال: كلا، لا أظن أننا التقينا من قبل، فما كنت لأنسى هذا الوجه لو كنت رأيته.
فعاد الدم القاني فتدفق إلى وجنتيها.
وآنست منه رغبة في الحديث، فلم تصده، فقالا في الجو، ثم فيما يمران به خطفا من الحقول، وعلمت من كلامه ولهجته أنه يؤثر الريف على المدن، وخيل إليها أن بينهما اتفاقا في الذوق والميول.
وقالت لنفسها لما دنا القطار من بنها: هنا سينزل، ولن أراه بعدها أبدا. وكان هو يسأل نفسه: أترى يليق أو يحسن أن أسألها عن عنوانها قبل أن تنزل في بنها، وينتسخ الحلم إلى الأبد؟
ولكن بنها جاءت ومضت ، وهما جالسان يتحدثان، وقد تنفس كل منهما الصعداء، أو تشهد، في سره.
وأشرفا على طنطا، فأيقن كلاهما أن صاحبه مفارقه فيها، ونفد صبرها قبل صبره، فأخبرته - لتستدرجه - أنها ذاهبة إلى الإسكندرية وأنها ستقضي فيها بضعة أيام، وأن أحد معارفها دلها على نزل حسن في الرمل على ساحل البحر - في جليم - فأشرق وجهه والتمعت عيناه وقال إنه هو أيضا ذاهب إلى الإسكندرية، ولكنه سيكون فيها ضيفا على صديق له.
ونزلا في محطة سيدي جابر، وقال لها وهما يخرجان: هذه السيارة العتيقة لصديقي، فهل تأذنين لي في إبلاغك حيث تريدين؟
قالت: هذا لطف منك، فشكرا.
وكانت تود لو استطاعت أن تظهر التردد، أو أن تقول له إنها لا تحب أن تكلفه عناء أو تؤخره، ولكنها أحست أنه لا محل لهذا التكلف معه.
ولما بلغا النزل الذي اختاره نسيم لها وقف معها على بابه هنيهة ويدها في يده وسألها: هل لي أن أطمع في لقائك مرة أخرى؟
قالت: لم لا؟ إذا شئت، إني هنا وحدي ولست أعرف أحدا.
قال: أشكرك، فما رأيك في أن نقضي النهار غدا في أبي قير؟
قالت: أنت أدرى بهذا البلد، فاختر ما يحلو لك.
قال: حسن، وسأمر بك في منتصف الساعة العاشرة، يوافقك هذا؟
وهكذا دخلت محاسن هذا النزل، وقلبها يغني ويرقص، والسرور يلفها في شملة وردية.
ومر الأسبوع يخطف كأنه ساعة، وكانت تكتب إلى نسيم، تصف له بهجتها واغتباطها بمقامها، فجاءها منه كتاب ينبئها أنه ذاهب إلى بلدته وأن في وسعها أن تقضي أسبوعا آخر، فأحست أنها وهبت أسبوعا ثانيا من حياة الفراديس.
وارتفعت المعرفة إلى مرتبة الصداقة، وتحولت الصداقة بسرعة إلى ما هو أدق وأعمق، ولا عجب إذا ذكرنا أن هذا كان رجل أحلامها، وأنها كانت تعرفه طول حياتها.
وكانت محاسن ربما قلقت أحيانا، فجفاها الرقاد؛ فقد كانت تحبه حبا مستغرقا، وتعرف أنه يعرف ذلك، ولا يخفى عليها أنه يبادلها حبا بحب، كأنما كانت تشعر بالتيار النفسي الذي يجري بينهما حين يلتقيان، أو تلمس يده يدها ، أو تنظر عينه في عينها، ولكنه كان لا ينطق، ولا يفصح، وكان يبدو أحيانا ساهما واجما شارد اللب كأنما يطوي أضلاعه على هم، فكانت تتعجب وتقلب الفكر فلا تهتدي، حتى كان يوم قصدا فيه إلى موضع صخري قصي على ساحل البحر، فمد يده إليها ليعينها على الانتقال من صخرة إلى صخرة، فأهملتها، وصعدت فوق صخرة كبيرة أشرفت منها عليه، وكانت الشمس على محياها الصابح والهواء يعبث بخصل شعرها ويردها عن جبينها الواضح، فراعه حسنها، وقال: إنك هكذا أجمل من ملكة على عرشها.
فأطلقتها ضحكة فضية، وصوبت إليه عينها فزلت قدمها، فصرخت وارتمت بين ذراعيه، فأحاطها بهما، وطوقت هي عنقه، ولبثا هكذا هنيهة أو دهرا فيما يحسان، ثم إذا بالشفاه تلتقي عفوا في قبلة طويلة، ثم تحاجزا قليلا، ونظر كل منهما إلى صاحبه.
قال: كنت أحس أن هذا سيكون لا محالة.
قالت: وأنا أيضا، والحمد لله.
فما راعها إلا أنه أقصاها عنه بلطف وقال: لا تقولي هذا. تريثي حتى تعرفي، فإن هناك أشياء يجب أن تعرفيها أولا.
وتناول ذراعها مترفقا بها، ومضى بها إلى السيارة التي تركاها على الطريق فدخلا فيها، وقلبها يعصره الأسى، ووجهه ناطق بالألم المر.
وانطلق بالسيارة ينهب الأرض ولا يبالي أين يذهب، وهي إلى جانبه لا ترى شيئا مما حولها أو أمامها، حتى خرجا إلى الطريق الذي ينثني إلى الريف فوقف.
وقال لها: قلت لك إن هناك أشياء يجب أن تعرفيها قبل.
قالت: يكفيني ما أعرف وتعرف، وما عدا ذلك لا قيمة له عندي، وليس يعنيني أن أطلع عليه.
قال: كلا، وستعرفين أني على صواب بعد أن تسمعي ما سأقصه عليك.
وسكت برهة، وأرسل عينه أمامه، وبدا كأنه يعالج أن يجمع متفرقا، أو يختصر مطولا، ثم التفت إليها، وأراح أنامله على راحتها وقال: كان ينبغي أن أقول لك هذا من قبل، ولكني لم أكن أظن أن الأمر يبلغ بك هذا، وقد نظرت إليك في القطار فأحببتك، ولكن لم يدر لي في خلد أن تحبني فتاة رائعة مثلك ، ولقد فاجأني حبك فأحسست لحظة أني ميت بعث من قبره، غير أني ما لبثت أن عدت إلى قبري؛ لفت الحقائق المرة كفني علي مرة أخرى وردتني إلى التراب والظلمة، لا تقاطعي فإنك لا تعلمين، إي نعم، فإني رجل ولا كالرجال، رجل باع نفسه، تتعجبين؟ لا أعني أني بعت نفسي للشيطان، وإنما أعني أن امرأة تزوجتني، هي التي تزوجتني لا أنا، وأحسب أني أدير لك رأسك بهذا الكلام الغامض، فيحسن أن أقص عليك القصة: أنا رجل فلاح متوسط الحال، أملك بضعة فدادين، ليس معولي عليها؛ فإنها قليلة وغلتها ضئيلة، وكان في وسعي إصلاحها فيكثر ريعها، وكان من الميسور أن أستأجر غيرها من الأرض الجيدة، وأعمل في هذه وتلك فأعيش في رفاهة، ولكني آثرت الأسهل، فعملت في ضيعة كبيرة لرجل من السادات، وقف أرضه على بنته دون زوجته، وإن كانت سيدة يضن الزمان بمثلها، ومات الرجل، فصار الأمر كله إلي، فأنا المشرف على الزراعة، ولكني لم أخن الأمانة، فبقي مالي الذي أعيش منه هو أجري، والقليل الذي تغله أرضي، وكبرت الفتاة، وصارت من الحوريات الرعابيب، وأنا أزداد كل يوم تعلقا بها ووفاء لها، وقدمت يوما موقومة. لا لا لا، ينبغي أن أوجز مخافة أن تظني أني أحملها التبعة وأبرئ نفسي من الضعف والطمع، ولهذا أقول بإيجاز إنها تزوجتني، إي نعم، قالت لي: كن زوجي، فكنت. وقالت إنها ستحتفظ بالعصمة في يديها، فقبلت عن طيب خاطر، فقد حسبتها تخشى على مالها، ولكن الحقيقة التي عرفتها بعد ذلك أنها لم تتزوجني لرغبة في، بل فرارا ممن تحبه هي، لا تستغربي فإن لها لحكاية، وحكايتها أنها أحبت فتى وأحبها أيضا، وهو جدير بها وإن كان لا مال له، فقد رأيته وعرفته، ولكن قومه فيهم إباء، فهم يستثقلون أن يكون ابنهم فقيرا وامرأته ذات ثراء، ويخشون أن يشقيه ويشقيهم ذلك، وهو أيضا شديد التحرج لا يرضى أن ترضخ له مالها، فألفت نفسها مقبلة على حياة لن يكون نصيبها منها إلا الشظف - بالقياس إلى ما تعودت - والمال عندها مثل التراب في الكثرة وفي الزهد فيه، ولست ألومها؛ فما من شك في أن إسراف صاحبها في التعفف كان خليقا أن يشقيها، ولكنه كان من حقي عليها، وقد اعتزمت أن تهرب منه إلي، أن تفضي إلي بالحقيقة، على أني لا أبرئ نفسي، فقد كان ينبغي أن أتريث وأفكر وأستجلي سر إقبالها علي بغتة، وأحسبني طمعت في رغد العيش ولينه وإن لم أطمع في مالها، على كل حال، هذا ما كان، ولست أشكو، ولكني أقول ما أقول تقريرا للواقع، وما زلت زوجها، ولكن بالاسم، وهي تحملني معها وتبديني للناس هنا وها هنا، وتخلطني بأصحابها، ولكني لا أختلط؛ لأني لست منهم، ولا هم مني، ولست فيما أعلم ضيق الصدر، وأستطيع أن أقول إني لست فظا ولا شكسا، ولكن هؤلاء الذين تجرني إلى مجالسهم وتدور بي معهم وتكلفني أن أنهز معهم بدلوهم، أولى بهم أن يكونوا في المحابس وعليهم القضبان؛ فإنهم لا أكثر ولا أقل - فيما أرى وأحس - من قردة، وعسى أن أكون ظالما لهم، وأعترف أنهم يكرمونني ويلاطفونني، ويحتفون بي، لا أدري لماذا؟ لأجلها على ما أظن، ولكني مللت، ولم أعد أطيقهم، وقد صارحتها بذلك، وآذنتها بالفراق، ولكن الفراق ليس معناه الطلاق؛ فإن الأمر لها وليس لي، وأحسبها ستجري علي نفقة، (وقهقه) ولم يبق أمامي إلا البحث عن عمل آخر أكسب به رزقي، والآن وقد عرفت الحقيقة كلها، وتبينت أي رجل أنا، فهل لا تزالين تحمدين الله؟!
وكانت محاسن - ككل بنات حواء - تستطيع، وتحسن أن تتكلف، ولكنها لم تتكلف في هذا الموقف شيئا، فقد غضبت - له - وتغير وجهها من الحرد وقدحت عينها شررا؛ مما يحتدم في جوفها، وكان هذا مظهر رقة وعطف لم يعرفهما حمدي من قبل، فلا عجب إذا كان حبه قد شب فجأة عن الطوق.
وانطوت يده على أناملها، وانثنى رأسه، ولثمت شفتاه كفها، وهمس: أحسبك تعرفين أني مجنون بك.
قالت: أعرف ذلك، حمدا لله، فإني أنا أيضا مجنونة بك.
فانتفض، فقد كان حسبه منها ما بدا من عطفها ، أما ...
وقال يزجرها: محاسن!
فهزت رأسها، وهي شاخصة لا تطرف، وقالت: صحيح. صدقني.
فطوقها، وأراح خدها على خده، وقال كأنما يحدث نفسه: إني لا أكاد أصدق، وبعد أن كاشفتك بكل هذا! ونحاها قليلا لينظر في عينيها: أما أني أحبك فطبيعي ومعقول؛ فإنك حنانة عطوف، وجميلة رقيقة كالزهرة، أنت كلك من فرعك إلى قدمك طاقة أزهار شتى، لم أر أحدا مثلك، ولا أظن أن لك من يماثلك أو يدانيك، ولكن أنت واثقة أن هذا حب لا عطف؟
قالت: واثقة جدا؛ لقد أحببتك في اللحظة التي رأيتك فيها تدخل القطار.
فهمس: محاسن! محاسن! (وشد على خصرها فارتد رأسها إلى الوراء): إني خائف يا محاسن؛ فإنك نرجسة، لماذا لا أموت الساعة؟ فقد بلغت مناي.
قالت: آه لو كنا نموت الساعة معا! وتعلقت أنفاسها: كلا، ليس حبي لك عطفا عليك متنكرا في صورة حب، فإنه حب، ثم إني أحوج منك إلى العطف، وأولى به، فاسمع أنت أيضا، واعذر واصفح، إذا استطعت، أو أنكر وانفر، فلن ألوم أو أستغرب.
وقصت هي أيضا قصتها، كما وقعت، ولم ترحم نفسها، ولم تحاول أن تبرئها، أو تلطف من وقعها.
ولما انتهت قالت: والآن هات الحكم.
فابتسم وقال برقة: لم يكن هذا ذنبك يا محاسن، فإنك ساذجة عطوف، ومن السهل خداعك وإيقاعك في الشرك.
قالت: لم يكن هناك خداع ولا شرك، ولا كان ما كان شيئا متعمدا، وإنما جاء كله عفوا، كما بينت لك، وما أظن الآن به إلا أنه كان أكثر مني سذاجة، ولعله أولى مني بالعطف والرحمة، مسكين.
قال: ليس لهذا قيمة، فتناسيه كله، وليتني أستطيع أن أنحي ماضي أنا بمثل هذه السهولة، أو أراه أهون من أن أعيره فكرة، ولست أدري الآن ماذا يجمل بي أن أصنع، فإني أحبك حبا لا عهد لي به، ولا كان ظني أن قلبا واحدا يتسع له ويحتمله، ولست أطيق أن أدعك معلقة، وإنه لصعب أن نتحاب هكذا على غير أمل.
2
وعادت محاسن إلى حجرتها في النزل، وراحت تتمشى من النافذة إلى الباب، وقلبها مترع حبا وحزنا، لقد وجدت ضالتها، أخيرا، ووجدت عنده ما كانت تحسب أنه بعيد بل لا سبيل إليه، الفهم والإدراك والصفح أو التجاوز، ولكن يا له من موقف! وأي حال مقلوب! متزوج، ولكن امرأته هي التي تسرحه أو تمسكه، وإن كان يسعه أن يتزوج غيرها، وإنه لمن حسن حظها - أي محاسن - أن حمدي يعد ما كان منه زلة قبيحة وضعفا يزري بالرجولة، ولعل هذا هو الذي وسع صدره لها فغفر زلتها، ولكن انتظارها سيطول ولا ريب، ولكن لماذا؟ وما خير أن تمسكه امرأته هذه، وهي لا تعاشره معاشرة المرأة لبعلها؟ ولم تستطع - على فرط ما أجهدت رأسها - أن تهتدي إلى تعليل هذا، فنفضت يدها منه يائسة وراحت تتساءل عما عسى أن تقول لنسيم، نسيم الذي سخا بماله، وتعهدها وبرها وسرها؟ ولا شك أنه يتطلع إلى اليوم الذي يأنس فيه ميلا منها إليه فيخاطبها، تالله ما أكرمه! فهل يسعها أن تعاجله بهذا الخبر الجديد؟ أو ترى يحسن أن تتريث؟ وما الداعي إلى العجلة؟ أليست ستنتظر الفرج المأمول؟ العمل الذي يطلبه حمدي، فلتنتظر إذن، وإذا احتاجت إلى البث والقول بشجوها، فإن هناك الأستاذ حليما، وابتسمت وقد طاف برأسها أنه سيسره أنها صارحت حمدي ولقيت منه عطفا وفهما وتسامحا، فما كان ينهاها عن مصارحة نسيم إلا إشفاقا عليها، ولكن الكتمان عن نسيم قد يعقد الأمور، ويخلق لها معضلات جديدة بها عنها غنى، فالأوفق والأصوب والأكرم أيضا أن تخبره بما كان، وعلى الله الاتكال.
وآن أن تعود إلى القاهرة، فقد تلقت رسالة من نسيم يقول فيها بأسلوبه المعهود إنه أعد «مشروعا»؛ أمر بأن يفرش رصيف المحطة بالسجاد العجمي النفيس، والطريق رملا أصفر ضاربا إلى الحمرة، وأن تصطف فرق الموسيقى في الميادين لتحيتها والترحيب بها، فكان لا بد أن تكتب إليه تنبئه بموعد إيابها، فترددت واشتهت أن تقضي أياما أخرى مع حمدي تنعم في خلالها بحبه، فهل تطاوع نفسها وتبقى، أو تعجل بالرحيل؟
وأرجأت الرد إلى المساء، حتى تشاور نفسها، وكانت على موعد مع حمدي في سيدي بشر، فقد كرهت أن يمر بها كل يوم في النزل فيلاحظ النزلاء ذلك، ويلغط ذوو الألسنة الطويلة منهم، ولم تكن تجعل بالها إلى هذا أو تخشى القال والقيل، أو تتقي أن يخوضوا فيهما قبل أن يتصارحا، ولكنها بعد ذلك صارت تحس أن كل عين عليها، وكل أصبع ممدود يومئ إليها، وكل همس يجري بقول فيها لا حسن ولا قاصد.
وبارحت الترام في محطة قريبة من سيدي بشر، ومضت إلى حيث تقف السيارات التي تقل الركاب إلى الشاطئ، ووجدت مقعدا خاليا إلى جانب النافذة، وصعد السائق إلى مقعد القيادة وتهيأ للسير، وانطلقت الصفارة فمضت السيارة تخطف في طريقها، وإذا بمحاسن تبصر رجلا وامرأة على الرصيف؛ فأما الرجل فعرفته من ظهره، فما كان غير أبيها، وأما المرأة فما خالج محاسن شك في أنها صاحبته الأجنبية التي أنسته زوجته وابنته وأذهلته عن حقوقهما عليه، وأكلت أكثر ماله، ونازعتها نفسها أن تتوضح هذه المرأة وتحد النظر إليها، وأشفقت أن يراها أبوها، فآثرت التحرز، فحجبت جانب وجهها بكفها، وهي تدير رأسها، وغضت شيئا من بصرها مع إدامته والاستثبات فيه، وكانت النظرة سريعة قصيرة، كما كان لا بد أن تكون؛ ولكنها أرتها ما فيه الكفاية، فأما أبوها فكان على خلاف العهد به في البيت، مشرق الديباجة بشوشا حفيا بصاحبته، وأما المرأة فلم يسع محاسن إلا أن تعترف أنها خود رقراقة حسنة دوائر الوجه، واقتضاها الإنصاف أن تقر لها بالحسن ولأبيها بحسن الذوق، غير أن إقرارها بهذا جعل موجدتها أشد وحقدها أعظم تلهبا، وحدة غيظها أعنف، وحدثت نفسها أن هذا هو الرجل الذي لا ينفك يزعق ويصيح ويزعم أنه يؤدبنا ويقيمنا على طريق الهدى والفضيلة، ويحمينا أن نضل ونغوى، وتجيء امرأة - حسانة، نعم، ولكن من يدري أي امرأة هي؟ - فتظهر له الود، فتنتزعه من أهل بيته، وتذهب به أنى شاءت، فلا يبالي ما صنع أو ترك، وإذا ركبت أنا أمرا على غير هداية، بالغا ما بلغ من التفه، قامت القيامة، فأين العدل هنا؟! وأي قدوة هذه؟ وكانت تستولي عليها الحجة إذا واجهها بغلطة هينة، فالآن ماذا تراه يصنع إذا تركت السيارة وأقبلت عليه وقالت له: آه، بابا؟ ماذا جاء بك إلى الإسكندرية، وكان الظن أنك في مهمة كما تقول كلما غبت وعدت؟ ومن هذه السيدة الجميلة التي تتأبط ذراعها وتضحك إليها؟ ألا تعرفني بها عسى أن أستفيد منها خلقا حسنا فوق ما استفدت من حسن تأديبك باللسان والقدوة الصالحة؟ وماذا تراه يقول إذا ابتسمت له وقالت إن بي حاجة إلى شيء من المال أنفق منه كما ينفق؟ أيضن أم يسخو؟ أيكون هذا ابتزازا؟ أيسخط ويلعن في سره ويدعو الله أن يقبضني إليه وهو يمد يده بما أعطى مضطرا؟ أم تهش لابنته نفسه وترتاح إلى البذل كما ترتاح إذ يخرج عما معه لهذه المرأة التي لا تدع لنا إلا الرقعة من العيش؟ وهبه رآني مع حمدي على شاطئ البحر نتمشى ونتناجى بحبنا، كما يتمشيان ويتناجيان فماذا تراه يجرؤ أن يقول لي، وما أفعل إلا ما يفعل، ولا أحتذي إلا مثاله، بل هو يركب بكهولته - التي كان حقها أن تكون رزانا حافظة لمروءتها تاركة للقبيح والحرام - ما لا أركب أنا بشبابي على فرط ما يهم بأن يجمح بي؟ ولو انقدت لشبابي لكان لي عذر منه ومن غرارته، فما ذقت من نعيم الحياة شيئا إلا تخيلا، على حين امتلأ هو، وكان حريا ألا يشتهي فريدا أو يتصدى له، فإذا به لا يزال مسعورا حريصا على اللذة، يسيم سرح اللهو حيث يتاح، ولا ينفك كالمنهوم الذي ينتصب قاعدا كلما اكتظ، ليوسع مكانا في بطنه لقدر جديد.
وبلغت سيدي بشر، وهذه الخواطر الثقيلة تدور في نفسها، فألفت حمدي في مدخل تلك الرقعة من الشاطئ ينتظرها ويتلفت، فلما رآها أقبل عليها يعدو، ولم يفته تغير وجهها وإشفاؤها على البكاء، فسألها، مالها؟ ماذا جرى؟ قالت: لا شيء، ولكني لا أستطيع أن أبقى هنا، فامض بي إلى أبعد موضع تعرفه، أبعد موضع والسلام.
وكان حكيما فلم يقل شيئا، ولم يسألها عن شيء، ومرت سيارة فارغة فأشار إليها، وأمر سائقها أن يمضي بهما إلى محطة فكتوريا، وهناك انتظرا إحدى السيارات التي تغدو وتروح بين الإسكندرية وأبي قير، واستقلاها إلى تلك الضاحية القصية.
وكان كلاهما صامتا؛ هي تدير في نفسها ما أثارته رؤية أبيها مع صاحبته، وإن كان لا جديد عليها إلا الرؤية، فقد كانت تعرف سره ولا تجهله، ولكن العيان غير السماع، وهو يتساءل فيما بينه وبين نفسه عما اعتراها من الغم والزهق، ما علته؟ وعن رغبتها في الذهاب إلى أقصى مكان، ما داعيه؟ أهي تفر من شيء؟ ولكن هذا وجوم الحزين، لا امتقاع الخائف، ولم ير من اللائق أن يستفسر وهما في السيارة بين الناس، فهل ترى يليق أو يكون من الحكمة أن يسألها عما بها بعد خروجهما من السيارة وافتراقهما عن الناس؟ وكان رجلا طويل السكوت، وقد ألف أن يلم من الأخبار بطرف بعد طرف دون سؤال، وأن يحفظ السر ويتقي أن يبدو أنه ينقب، فكان من أجل هذا ربيئة القرية كلها ومجمع أسرارها، يحدثه كل امرئ بما عنده ولا يحدث هو بشيء، وينظر لغيره في أمره، ولا ينظر له أحد في أمر له.
وبلغا أبا قير فأخذا طريقهما إلى الشاطئ، وهو غير ممهد ومعظمه رملة يتعقد بعضها على بعض، وتنقاد في مواضع وتغيب فيها الأرجل في مواضع أخرى، فشغلت محاسن بالوعس وما كان يدخل في حذائها عن همها الذي تجنه، حتى بلغا البحر، فألفيا هناك كازينو دخلاه وجرا كرسيين إلى النافذة المطلة على الماء وقعدا ينظران إلى البحر، ويسمعان صوته ولا يقولان.
وبعد أن شربا قهوة قالت محاسن: معك سيجارة؟
فهز رأسه، وقال: آسف، لا أدخن، ولكن إذا شئت اشتريت لك سجاير.
قالت: لا بأس. شكرا.
فخرج، ثم عاد بسجاير، وقال لها دون أن يقعد: تعالي انظري.
وتقدمها خارجا، فنظرت إلى حيث أشار فرأت بيتا من خشب ذا طبقتين، مشرفا على البحر وعليه رقعة كتب عليها: للإيجار.
فقالت محاسن: يا له من موقع! إني لأحسد من يقسم له أن يسكنه.
قال حمدي: ما دام أنه للإيجار فلنزعم أننا نبحث عن بيت؛ لندخل ونرى، ونقف برهة في هذه الشرفة الرحيبة الجميلة، ومن يدري عسى أن يأذنوا لنا في البقاء فيها حتى نتغدى، وما المانع؟!
فسرت محاسن وقالت: عسى ولعل، ولقد أجدت لي هذه الشرفة منى، فإن قضينا فيها نهارنا فذاك حسبي من إدراكها.
فصار هم حمدي أن يبلغها سؤلها، ويحقق لها مناها، وسأل صاحب الكازينو عن البيت أهو كله للإيجار أم بعضه فقط؟ فأخبره الرجل أن الطبقة العليا - التي عليها عين محاسن - هي وحدها الخالية، ونادى ربة البيت وأخذ منها المفتاح وصعد قدامهما، ودخلا فإذا بيت فيه من الغرف والأثاث ما لا حاجة بمصطاف إلى أكثر منه.
ووقفوا في الشرفة، فسأل حمدي عن أقصر مدة لاستئجار هذا البيت؟
قال الرجل: إنه لا مستأجر اليوم، ومن شاء أن يستأجره بضعة أيام فله ذلك.
فالتفت حمدي إلى محاسن، فأطرقت، وقد صبغ وجهها الحياء، وطافت برأسها صور لها إغراؤها، وأخرى تخاف وتتقى، وكان يغريها طيب المكان، وإمكان الإخلاد إلى حمدي بالثقة، ولكن الحذر لا يمنع القدر كما لم يمنعه من قبل، وإن حمدي ليحبها، ولكن هل لها أن تأتمنه؟ وفي خلوة تامة كهذه؟ أو هل تأمن نزق نفسها؟ وإذا بدا له منها أنها قد لا تبالي التضييع فماذا يكون رأيه فيها؟ وهبه احتج عليها بأنها ضيعت فلا خوف من زيادة التضييع فماذا تصنع؟
وهاجت حرقاتها على سوء حظها وعلى أبيها، هذا رجل كأنما صاغه الله على هواها، ولكن سوء الحظ يأبى إلا أن تكون له زوجة لا يملك أن يفارقها حتى تطلقه، وأن له إذا شاء أن يتزوج؛ فما انقلب امرأة بأن صار الطلاق لامرأته، ولكنه لا يقدم على ذلك حتى يقع على عمل يغنيه عن عمله في ضيعة امرأته، وما هو بمسحت؛ فإن له لخربة يعيش منها إذا راض نفسه على القناعة، ولكنه يتحرج أن يتزوج وهو مخف، فهل تستطيع يا ترى أن تقنعه بالاكتفاء بهذا القليل، حتى يأتي الكثير؟ هذا أمل تسأل الله أن يتحقق، ولعله إذا تحقق يفتح باب الفرج، فتطلقه تلك الزوجة التي تكتفي من الزواج بوثيقة، لا يدري أحد لماذا، إلا أن يكون بها حب من فرت منه، وهل كان لا بد أن تتزوج هذا لتفر من ذاك؟ أما إنها لخرقاء مدلهة!
وأبوها ما الرأي فيه؟ إنه إن يعلم أن خطيبها زوج أخرى يأب ويركب رأسه، ولهو أحرى أن يلج في العناد إذا علم أن العصمة بيد الزوجة؛ فإنه متكبر متجبر - على أهله على الأقل - والرجل عنده هو الرجل، والمرأة هي المرأة، وما عدا ذلك كلام فارغ، فهل تخفي هذا وتكتمه عنه؟ لم لا؟! وما شأنه هو؟! وهل يقبل حمدي أن يغالط أباها؟ أم ترى الرأي أن تتزوجه أولا ثم تواجه أباها بالأمر الواقع؟ فهل تؤاتيها الشجاعة يا ترى؟ نعم، تؤاتيها، وما عليها إلا أن تصكه بالحجر الذي وضعه في يدها في هذا الصباح ... وأمها المسكينة؟ تتركها تحتمل الإهمال والضنك والشكاسة وحدها؟ إن أمها صابرة أواهة، ولكن محاسن لا تقوى على تركها تكابد هذه الشقوة بلا معين، أفلا سبيل إلى تدبير يرفه عن هذه المسكينة؟ ألا يمكن أن تشاور في أمرها حمدي؟ ولكن المشاورة تحوج إلى الكشف عن سيرة أبيها، وهذه فضيحة يجب أن تستر وتطوى وإذا كان أبوها غير أهل للرحمة؛ فإنها هي قد تضرس بالحصرم الذي يأكله هو. وهو أبوها، كائنا ما كان ما يصنع، وإنها لمن لحمه ودمه، وليس الدم ماء، ولقد حرصت على كتمان خبره عن أمها؛ حتى لا تزيد حرقة كبدها، ولأنه يعز عليها - ولا يهون - أن تكون هي التي تفضح أباها، ولكن هذا لا يوجب أو يسوغ أن تشقى هي وتحرم حقها في الحياة.
والخلاصة؟ إن عين حمدي في عينها، بل في قلبها، فماذا توحي إليه؟ ماذا يكون جواب عينها، أو قلبها، أو ... لا تدري، فإن الجواذب من هنا وها هنا تتركها متحيرة، ضالة، لا تهتدي.
ولم تجب عينها بشيء؛ لأنها خرجت من لا، ونعم، بأن دارت على عقبها، ومضت إلى حافة الشرفة، ووقفت تنظر إلى البحر.
وأقبل حمدي عليها بعد هنيهة يقول: بعد الغداء أذهب وأجيء بحقبتك وحقيبتي، فإن هذا خير من الفنادق، وفي البيت ثلاث غرف للنوم، ثلاثة، فاهمة؟
فما راعها هي إلا أنها دارت وواجهته، ودفعت يديها فطوقت عنقه، وتعلقت به، فأهوى على فمها بالقبلات.
وكان صاحب الكازينو قد نزل، وصعد عينه، فرآهما متعانقين فهز رأسه الذي أخذ من جبينه أكثر مما يأخذ نهار الصيف من ليله وتمتم: شباب، شباب، إيه، يا خسارة.
الفصل الخامس
1
لم يكن أحد يعرف عمر جبران، ولكن الذين استوطنوا أبا قير كانوا يستطيعون أن يخبروك أنهم جميعا جاءوا في أوقات شتى فألفوه هناك، كأنما كان بعض وجوه الأرض، وأنه منذ عشر سنوات، أسن من أن يعمل عملا، وقد يبالغ بعضهم فيقول: إنه هو والبحر توأمان، ولعله هو كان أجهل الناس بسنه؛ فقد ولد قبل أن تعرف شهادات الميلاد، وكان هو إذا روى ما وقع له في شبابه يرده تارة إلى عهد إسماعيل، وتارة أخرى إلى عهد عباس الأول، وتتفاوت سنه في الرواية الواحدة بين خمس عشرة وخمس وعشرين أو ثلاثين، وتلك مسافة من العمر لا تعين على ضبط الحساب.
غير أنه - على تخبخب جلده، وذهاب أسنانه، وضموره وانحنائه - لم تخب عينه ولم تغرورق من الكبر، وكانت فيه بقية جلد، وكان يستطيع أن يمشي وحده، مضطربا، ولكنه ما كان يقعد أو ينهض إلا بمعونة.
وقد قضى حياته كلها في الإسكندرية، ورملتها، ولم يتعلم القراءة والكتابة، ولم يركب قط قطارا أو تراما، أو سيارة، ولكنه على هذا رأى ووعى ما لم ير غيره ممن جابوا الأرض وركبوا البحر، فكان على فقره غنيا.
وكانت له عين سريعة الفطنة إلى الجمال في مظاهره جميعا، فلا عجب إذا كان غنيا، وقد ناهز المائة إذا صح حساب الحاسبين، وفي صباح كل يوم من أيام هذا العمر المديد كان يرقب ميلاد هذا المشهد الجليل الذي يتكرر ولا يسأم على ساحل بحر الروم، ويتأمل اختضاب البحر بأشعة الشمس الطالعة، ثم زرقته السحرية عند الظهيرة، وخضرة الحقول السندسية والظلال الواضحة التي يلقيها كل ذاهب في الهواء، وفي كل مساء كان يشهد آية الغروب ويرقب غموض أسطورتها واستسرارها.
وكان كلما ارتفعت به السن، وقعد به الكبر، يزداد حبا لهذه المشاهد التي لا تتغير كالإنسان، ولا ينقص جمالها أو يعدو الزمن على جدتها كما يعدو على السفائن والثياب والبنى، حتى النساء لم يعد لهن في نظر جبران ما كان لهن من ظرف ورشاقة، وفتنة وإغراء في شبابه.
وهكذا صار جبران لا يصلح لشيء، إلا أن يأخذ بيده واحد من حفدته إلى ظل شجرة عتيقة مثله على مقربة من الساحل، ويتركه هناك على كرسي وعلى ساقيه شملة مخططة من صوف، ينظر إلى البحر الذي لا يهدأ ولا يستريح، حتى يدخل الليل فيرتد به وقد فاز بالمتعة التي لا تبلى جدتها.
ولم تره محاسن أو حمدي، ولم يعرفا قط هذا الأثر المتخلف من زمان غبر، ولكنه هو رآهما مقبلين يدلفان إلى صخور الشاطئ ويقفان عندها - تحت عينه النافذة - وللمرة الأولى منذ سنوات طويلات المدد، هم بأن ينهض وحده، فقد أحس أن هذين لا ينبغي أن يتطفل على حبهما إنسان، ولكن ساقيه خذلتاه، فبقي حيث هو، لا يريم مكانه ولا يتحرك غير إنسان عينه، كأنه أصل شجرة عادية لم يبق منها إلا بعض ساقها.
ورق قلبه الكبير لهما، واشتهى - وقد عزه النهوض - أن يظلا حيث يراهما؛ فما أخذت عينه منذ زمان طويل عاشقين كهذين على ساحل البحر الأبدي.
هذه فتاة حرة، عارية الرأس ممشوقة القوام، جميلة الهندام؛ انظر يا جبران إلى هذه اليد البضة الصغيرة التي تريحها على كتف حبيبها، تأمل بنانها وجمال هذا الإبهام، ومرونة هذا الرسغ، وحسن هاتين الساقين، ورأسها المرفوع فوق هذا العنق الأسطع، والخصل الملتوية التي كأنما يومض فيها ألف نجم ونجم، الله تعالى هو الذي أبدع هذا الشعر، لا الحلاقون، والشمس هي التي غذته بنورها مذ كانت صغيرة.
والفتى الواقف إلى جانبها أهل لها، ما في هذا شك؛ طويل عريض معتدل القامة ، وقوي متين؛ رجل، رجل كما ينبغي أن يكون الرجل؛ تأمل ذراعيه وكتفيه وصدره الواسع العميق ورأسه العاري أيضا يعتدل فوق كتفيه، وعينه صريحة، ووجهه ناطق بالنبل والخير، فهي معه في أمان من المخاوف، رجل صريح قوي القلب وفي، كلا لا يتغير مثل هذا لعزته، كما لا يتغير البحر الذي ينظران إليه.
وسر جبران وشرح صدره أن حمدي تناول راحة محاسن ورفعها إلى شفتيه ولثم بنانها، ثم قعدا وظهراهما إلى جبران المعجب المغتبط وعيونهما على البحر الذي يحبه حبا جما.
وقال حمدي: هذا ما لم أكن أجرؤ حتى أن أحلم به.
قالت، التي لو سئل عنها جبران، وهو يرمقها، لقال إنها خلقت أحسن مما يقول من يصف: ولا أنا كنت أحلم بهذا، ولكني من فرط السعادة أخشى ...
قال: لا تخشي شيئا، سنتزوج، الساعة إذا شئت، ما عليك إلا أن تأمري فأجيء بمأذون، فما أظن إلا أن ها هنا مأذونا.
قالت: كلا، ليس الآن، أقول لك الحق إني لا أدري ماذا ينبغي أن أصنع، ولا أكتمك أني ... تعلم ما أعني، ولماذا لا أفصح؟! إني أحبك، وأخشى أن تطير مني، أخشى من هذا الحب أن يقصيك عني، ولكني أحسب أن التريث أولى؛ لا من أجلي أو أجلك، ولا من أجل أبي، بل، الحقيقة أني لا أدري من أجل من، لا تضحك مني، فإن هذا أول حب لي، وأحسبها أول حيرة أيضا، لا ليست أول حيرة، ولكنها أول حيرة سارة.
قال: لا داعي للحيرة، ألسنا قد اتفقنا؟!
قالت: وماذا تنوي أن تصنع مع ...
قال: مع التي تزوجتني؟ لا شيء، وماذا عسى أن أصنع؟ هي التي بيدها الأمر فلتفعل ما تشاء، وليس يسعها أكثر من تطليقي، وا خجلتاه! ولكنك تعذرينني؟ أرجو ألا تحتقريني.
وتناول كفها بين كفيه، وهي تبتسم له ابتسام العطف والفهم، ومضى هو في كلامه فقال: إنها ما اتخذتني إلا تكأة، وجعلت الأمر بيدها لتكون حرة حينما تريد، وليست بحريصة علي؛ فما كنت زوجها إلا بالاسم، ولا عرفتها كما يعرف الرجل امرأته، ولا عبأت هي شيئا بفراري، أو لعله ينبغي أن أقول: نشوزي؛ فإني - وأنا الرجل - أصبحت في مكان المرأة المستعصية الكارهة النافرة، وضحك ثم قال: لا أخشى على كل حال أن تطلبني إلى محل الطاعة.
فقالت محاسن: لماذا هذه المرارة؟! أرجو ألا تحمل على نفسك هذه الحملة؛ كان ما كان، فليكن أيضا ما يكون، عدني ألا تفكر على هذا النحو أبدا.
فوعدها، ونهضت، فهم بالنهوض، فلمست كتفه وأومأت إليه أن يبقى، وقالت: سأسبقك، ودعني نصف ساعة، ثم الحق بي.
وكانت هذه أول مرة تزينت فيها محاسن لحبيب، فلما صعد إليها حمدي ورآها وقف، كأنما صده شيء، وفتح فمه من الدهشة وندت عنه آهة إعجاب بحسنها، وكانت في ثوب أبيض من الحرير مطرز بفصوص من خرز بنفسجي، ومفتوح الجيب، يكشف عن أعلى الصدر والظهر، وحول جيدها عقد من اللؤلؤ زاده رقة ونصاعة، وفي أذنيها قرطان - من لؤلؤ أيضا - وفي شعرها هلال مكلل بفصوص شتى الألوان على هيئة النجوم، وعلى يمناها سوار مفتول من فضة، وقد طاف برأسها وهي تضع هذه الحلي أنها بعض ما أهدى إليها نسيم.
ودنت منه ولصقت به حتى شعر بدقات قلبها السريعة، فجمعها بين ذراعيه، وضمها إليه بقوة، فطوقت عنقه بيديها وتعلقت به وثنت رأسه إليها، فالتقت الشفاه في قبلة حارة تركتهما ينتفضان، فحملها على يديه كأنها طاقة زهر، ومضى بها إلى الطارقة وقعد وهي في حجره.
وهمس في أذنها: هل تعلمين أنك من وزن الريشة؟ فضحكت، وثنت إليه وجهها، واستدارت شفتاها للقبل.
2
وكل شيء في هذه الدنيا اتفاق، أو حظوظ وقسم، وقلما يغني التدبير والسعي والطلب غناء المصادفة، وما أكثر ما «تأتي المقيم - وما سعى - حاجاته، عدد الحصى، ويخيب سعي الطالب.»
وقد سعت أم سميرة سعيا حثيثا لتحمل سميرة على تطليق زوجها، أو على معاشرته معاشرة الأزواج، بعد أن طاشت، وتسرعت، وسلكت سلوك المأفون الأخرق، فما كان لكل هذا داع، وكان في وسعها أن تنأى عن محمود دون أن تتزوج غيره، وأن تصرفه وهي خافضة وادعة، فإن جهد النفس واحد، وما تتجشم من مرارة القطيعة لا يختلف في الحالين، فأما وقد دفعتها خفة العقل والسفه إلى ما فعلت، فإن عليها أن تراجع نفسها وتشاور عقلها، فإما أن تحيا حياة طبيعية، وإما أن تكف عن هذا العبث الذي تتكلفه وتضيف به عذابا إلى عذاب، وتفيء إلى ما هو أرشد وأولى بأن يبلغها سؤلها؛ فما من شك في أن محمودا انتسخ أمله وقنط لما رآها تزوجت، ولعله زاد نفورا لما علم أنها جعلت العصمة في يدها، فإنه شاب فيه إباء مر، وله خلق وعر، وقد كان يثقل عليه أن لها مالا، فلا بد أنه كره منها أن تستعلي على الرجال، ولكنه خليق إذا علم أنها أصبحت حرة طليقة غير موثقة - وإن كان الزمام في يدها - أن تخايله صورتها، ويعاوده طيفها، وتمثلها المنى لقلبه بعد أن أشاح بوجهه عنها يأسا منها، فما يموت الحب هكذا، ولو كان لهو ساعة لبقيت له بذكراه نوطة في القلب وعلوق بالضمير، وما تنقصه إلا قدحة زناد تطير شرارة ترده مسجورا، والأرجح أن محمودا حاني الجوانح والقلب على حبه مذ حدث ما حدث، ولعله يتجلد ويعاند، ويكابر، ونفسه - وهو يدري أو لا يدري - موكلة بسميرة، مملوءة من حبها، وعسى أن تكون ما زالت عنده مرعى الأماني، ورضى النفس، وحسب الهوى، يراها بالود وإن لم يرها بالعين، ويدنيها الفكر المفجوع حتى تتراءى له توهما. ولكن هذا كله يظل علة شقوة لهما كليهما ما دامت موثقة بهذا الوثاق السخيف، وإن كليهما لمحل عما هو حقه، فإما أن تسكن سميرة إلى الواقع الذي اختارته بفساد عقلها ونزقها، وإما أن تتنكب لتهيئ فرصة جديدة لمحمود ولنفسها.
ولكن منطق الأم الحكيمة المجربة لم يقنع سميرة التي كبر عليها أن تقر بالغلط بل بالنزق والخفة، فظلت معاندة جامحة، حتى كان يوم.
وكان محمود قد كف عن حضور السباق، مخافة أن يلتقي في حلبته بسميرة، فتهيج حرقاته، ويصدر عنه ما لا يحمد أو يليق، ثم ألحق بخدمة الحكومة وصار ذا وظيفة، فرد البطاقة إلى الصحيفة التي كان يكتب إليها مكتفيا بالاعتذار بأن «صاحب بالين كذاب»، ولم تكن الوظيفة تستنفد وقته أو مجهود شبابه، وإنما كان يخشى أن يشهد السباق - كما قلنا - فيتفق أن تكون سميرة هناك، وحينئذ ماذا يصنع؟ يتحمل؟ يغضي؟ يظهر الفتور وقله الاكتراث؟ يحييها؟ يجتنبها؟ وهي، ماذا عساها تصنع؟
ثم خطب غيرها؛ فصنع كما صنعت، وإن كانت هي البادئة، والبادئ أظلم، ولا جناح عليه، ولكنه يحسن أن تطوى تلك الصفحة القديمة طيا ليس له من نشر، ولما لم يكتب له أن يكون مع محاسن أكثر توفيقا، كفر بالمرأة، واعتقد أنها مبنية على الغدر، وأنها حول قلب، لا وفاء لها ولا عهد، وأن من الخير أن يظل حياته مستفردا واحدا.
وصار يتسلى عما ساءه من زمانه بالاختلاف مع إخوانه إلى المراقص ودور اللهو الأخرى، إلى أن كان يوم أقيمت فيه حفلة راقصة لمساعدة معهد خيري، فذهب مع صاحب له، فانتحيا ناحية وراحا يرمقان الناس - والنساء على الخصوص؛ فما كان بين الرجال تفاوت يذكر، وكلهم يرتدي ما يسمى ثياب السهرة، أما النساء فكانت ثيابهن وزينتهن معرض أزياء وأذواق.
وإنه لجالس يدير عينه في هذا الحشد الذي لا يسكن إلا ليموج، وإذا بسميرة داخلة على ذراع فتى وسيم قسيم يشق بها الجمع، ويقبل على الناحية التي هو فيها، وكانت مرتفعة بضع درجات، فكأنما شك في خاصرته سيف، فانتفض واقفا، واندفع هاربا بغير تفكير، فعلقت قدمه بطرف البساط فانكب على وجهه، وهوى على الدرجات، وأصابت سن إحداها ساقه، فهاضتها، فبقي منطرحا لا يقدر على حركة.
وكان صاحبه قد دهش، ثم أفاق، فلما رآه طريحا خف إليه، وكان خلق كثير قد اجتمع حوله وحف به، فجعل صاحبه يدفع الناس ويفرقهم عنه، حتى وصل إليه، فألفى سميرة - وإن كان لا يعرف أن اسمها سميرة - جاثية على ركبتيها، وقد أحاطت ظهره بيسراها وأراحت رأسه على صدرها، وهي تدعو الناس - وتشير إليهم بيمناها - أن يتفرقوا ليتنفس.
وجثا صاحبه مثل جثوها، وقال وهو يمد يديه ليرفعه عن صدرها: عنك يا هانم، وشكرا لك.
قالت: لا لا لا، هذا شأني أنا، ما شأنك أنت؟! اذهب عنا، تعال يا نسيم واحمله معي.
قال صاحبه: إني معه، وأنا صديقه.
قالت: قلت لك إن هذا شأني أنا، ألا تفهم؟! تعال يا نسيم.
فدنا منهما نسيم وقال: بل هو شأن الإسعاف الذي يمثل آل نسيم روحه في كل موقف يدعو إليه. وأشار إلى خادمين واقفين ينظران مع الناظرين، ويزيدان الزحام والضيق ولا يصنعان شيئا، وقال: إن وقفتكما جميلة، ولكني مضطر أن أحرم الجمهور جمال هذا المنظر، فهل لكما أن تتفضلا بمعاونتي على حمله إلى السيارة، شكرا، لم يخب أملي في شهامتكما.
وحملوه برفق إلى السيارة، وكانت سميرة لفرط اضطرابها تعترض طريقهم وتدور حولهم، وتسير مرة أمامهم ومرة خلفهم، وتارة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم كالكلب الوفي، حتى أرقدوه في السيارة، وقعد على الأرض فيها معه نسيم، واتخذت هي مقعد القيادة، وانطلقت إلى بيتها وخلفت صاحبه على الرصيف فاغرا فمه كالأبله.
ولما بلغوا البيت تركت السيارة ومن فيها وذهبت تعدو إلى أمها حتى إذا لقيتها صاحت بها وجدته، وجدته.
فقالت لها أمها: وجدته؟! من عسى أن يكون هذا؟!
وكان لها عذرها إذا لم تفهم؛ فما كانت اطلعت على الغيب، فقالت سميرة: ومن عسى أن يكون سواه؟!
قالت الأم: حلمك، إن الله مع الصابرين، ألا تقولين ...
قالت سميرة: صابرين؟! أهذا وقت الصبر وهو مكسور في السيارة؟!
فضحكت الأم وقالت: وجدته! وليس هذا وقت الصبر! لأنه مكسور في السيارة! ومع ذلك تتركه وتجيء تتكلم بما لا يفهم! طيب.
ونهضت الأم ودعت الخدم وأمرتهم أن يحملوا «المكسور» وأمرت وصيفتها أن تعد له غرفة، وقصدت هي إلى التليفون فدعت طبيبا.
وكان محمود لا يزال فيما يشبه الغيبوبة، من الألم الحاد، والذهول، واعتلاج العواطف في صدره الذي صار كالخضم، فكان ينظر ولا يكاد يدرك ما يجري حوله وما يصنع به، ولكنه كالمدار به، لا قدرة له على قول أو عمل.
ورأته الأم فابتسمت وهزت رأسها، وقالت لنفسها: ما أقل غناء التدبير !
وقال لها نسيم: يا سيدتي، كوني منصفة، ألا أستحق على الأقل فنجانا من القهوة، ودعي الشكر، وإن كنت أهلا له، وليست هذه ساعته على كل حال؛ على أني بذكائي المعهود، وفراستي التي لا أظنك إلا معترفة بأنها صادقة، أرى أني سأكون أهلا لشكر أعظم، في أوانه، وما أرى أوانه إلا قريبا، إي نعم.
فقالت الأم: ماذا تقول؟ عن أي شيء تتكلم؟ ومن أنت أولا؟
قال: لكل سؤال جوابه عندي، فأنا - ولا فخر - نسيم، رفيق السهرة المنبوذ، أو المنسي بعد أن وجد العصفور عشه، فهل اقتنعت الآن بما وصفت لك من ذكائي؟ أما ماذا أقول، فأظن أنك سمعته، ولا بأس مع ذلك من الإعادة؛ فقد تكون فيها إفادة، نعم سمعتني يا سيدتي أقول: إني أستحق فنجان قهوة بما قدمت من معونة مشكورة على رد العصفور إلى قفصه.
قالت: آه، فهمت، لماذا لم تقل هذا من الأول؟
قال: معذرة إذا كنت قد وثبت إلى النهاية وتخطيت البداية، وهذه آفة آل نسيم جميعا؛ كلهم وثاب الذهن كما ترين، ولكني أرى جرسا يتدلى من هذه النجفة البديعة، فحبذا لو ضغطت زره بأصبعين من يدك الجميلة.
وكانت سميرة في أثناء ذلك قاعدة على السرير الذي أرقدوا عليه محمودا، وكانت لا تنفك تحنو عليه وتقبل ما بين عينيه وجبينه وخديه ورأسه حتى أذنيه وأنفه، وكلما هم بكلام وضعت راحتها على فمه لتمنعه، وكلما أدار وجهه ردته إليها برفق وعادت إلى التقبيل والتنهد والتشهد.
وأخيرا ابتسم، لم يسعه إلا أن يبتسم، وقد هدأ الثبج المربد، والموت المعتلج، وتسنى أن تبصر عين الضمير ما كان اصطخاب الأواذي يحجبه ويطويه.
وقالت له: لن أدعك تفر مني مرة أخرى، والحمد لله على ما أصابك؛ فلن تستطيع أن تغافلني وتهرب.
فهم بأن يقول إنه لم يكن هو الذي فر منها، ولكنه عدل عن الجدل والخلاف في مثل هذه الساعة، وأشار إلى فمه، فمالت عليه، وأراحت صدرها على صدره، وضمته وقبلته.
فلم يزد على أن قال: آه، من حلاوة القبلة ورضى النفس .
وكانت أم سميرة قد بقيت مع نسيم ولم تصعد؛ لتتيح للشتيتين أطول اجتماع، وعرفت منه أن أخته من صديقات سميرة، واستطاعت بعد عناء أن تقف على ما وقع؛ فقد كان لا يفتأ يحاورها ويداورها.
وقالت له أخيرا: لماذا تتكلف هذا الأسلوب؟ أتراك خاب لك أمل؟
قال: آل نسيم يخيب لهم أمل؟! كلا، إنما يخيب أمل من يخيب فيه أملهم.
قالت: إنك تدوخني، فلماذا لا تتكلم كخلق الله؟!
قال: سمعا وطاعة، وسترين أني أقدر على هذا أيضا، وهاك مثالا، أظن أن القادم هو الدكتور. (وكان هذا صحيحا.)
وقال الدكتور لنسيم بعد أن سلم وعرف ما دعي له: ألا تصحبني؟
قال نسيم: كلا، بل تصعد وحدك، ولا تخف؛ فإني هنا.
فألقى إليه الطبيب نظرة مبتسمة، وصعد. •••
لو درت محاسن بما حاق براتب بك بعدها، لكان أول ما هو خليق أن يجري لها بخاطر أن الله قد انتقم لها من هذا الظلوم الشرس الطويل اللسان، ثم لكانت حرية أن تبتسم ويدركها عليه العطف وتقول: مسكين!
ذلك أن راتب بك انحدر ضحى نهار مشمس من أيام الربيع يزينه زهر حديقته، فلولا أن هذا مستحيل - في مصر على الأقل، وفي القاهرة على وجه أخص - لقلنا مع أبي تمام إنه كان يبدو - النهار لا راتب بك: «كأنما هو مقمر.»
وكان راتب بك يدير عصاه، وينفخ الدخان ووجهه إلى السماء، والسيجار الغليظ بين أصبعين من يده ليسا أقل غلظا، ولكنه لم يكن يشعر بالرضى المعتاد عن نفسه وعن الدنيا، وخيل إليه وهو يدخل في السيارة أن فطوره في هذا الصباح لم يكن مريئا، بل كان بشعا عسر الابتلاع، كأنما كان بغير إدام أو كان فيه حصى، وأن القهوة أيضا كانت لها زهومة، كأنما كانت قد خلطت بشحم.
ولم يستغرب ألا يشعر بقضض الطعام، وزهومة القهوة، إلا بعد أن أكل وشبع، وارتوى بل تضلع، وأتى على نصف السيجار الأسود - أو البني - الغليظ، وإنما كان يستغرب، وهو مضطجع في سيارته الفخمة، أنه يشعر بامتلاء غير معهود ولا معقول - إذا اعتبرنا سخطه على طعامه في هذا الصباح - وهو امتلاء يمنع أن يواصل التفكير المنتظم فيما كان يشغله مذ فتح عينه على النهار.
ودخل مكتبه ممتلئا، وكان عهده بنفسه أنه يدخل منتفخا، والنفخة - ولو كانت كذابة - تفيده لذة، أما هذا الامتلاء فلا يفيده إلا كربا واضطرابا وارتباكا.
وانحط على كرسيه الدوار، وما كاد يفعل حتى زوى ما بين عينيه وأرسل يده تحته تتحسس، وكان مقعد الكرسي من خيزران فأنى له هذه الوثارة والطراوة، كأنما طرحت عليه وسادة؟
ورد الكرسي - دفعه إلى الخلف بفخذيه - ونهض واقفا، وذهبت يداه تتحسسان بدنه، ثم رفع إحدى قدميه ودس يده في ساق البنطلون، فلمست شيئا ما كان ينبغي أن يكون هناك، فما اعتاد أن يرتدي تحت البنطلون سوى السراويل القصيرة الساقين، ووقف هنيهة، ويده مدسوسة تحت الساق، وفمه فاغر، وعيناه شاخصتان لا تطرفان من فرط الدهشة.
ثم استوى واقفا وأعمل يديه - بلا تفكير - في أزرار البنطلون يفكها بسرعة، فكان ما خاف أن يكون؛ ذلك أنه نسي أن يخلع المنامة (البيجامة) فارتدى البنطلون فوقها. وأوسع نفسه ذما ولعنا، وهو يخرج رجليه من الساقين، ويلقي بالبنطلون على المكتب ريثما يخلع سراويل المنامة.
ولو أن الله كان قد أراد به خيرا لفكر قليلا قبل أن يفعل ذلك، أو لخطر بباله إما أن يتجلد ويصبر على أن يظل بنطلونه محشوا بأكثر من جذعه حتى يئوب إلى بيته فيصنع بثيابه ما شاء، ويطرح عن بدنه منها ما يكره، وإما أن يتحول إلى الحمام فيوصده على نفسه، ويفعل ما هو فاعل في مكتبه بغير عقل، ومن غير أن يكلف نفسه أن يستوثق من الباب، وصحيح أن هذه غرفته الخاصة، وأن بابها غير مفتوح، وأنه لا يدخل عليه فيها داخل بغير استئذان، ولكنها ليست حصنا منيعا لا ينال؛ وآية ذلك أن الآنسة ريا التي حلت محل محاسن، فتحت الباب بخفة، ثم ردته برفق ودخلت تمشي على أطراف أصابعها - أو ذنابة حذائها الدقيق - وعلى ذراعها طائفة من الأوراق، وبين أصبعيها قلم، وعلى فمها وفي عينيها ابتسامة خفيفة، تمهيدا لتحية اللسان.
ولم تخط سوى خطوتين اثنتين - أو خطوة ونصف خطوة، فقد ظلت قدمها اليسرى متخلفة؛ رأس حذائها على الأرض وكعبه مرفوع في الهواء - وغاضت الابتسامة، وثبت الحملاق، وتدانى ما بين الجفون، وما بين مخطي الجبين أيضا، وتحركت الشفتان بكلام لم يتبينه راتب بك ولكنه سمع صوته، فرفع رأسه مرتاعا، وهوى شخصه فغاب في الفضاء القليل بين الكرسي والمكتب - ما خلا رأسه فقد ظل فوق خط الماء - وصاح: اخرجي، اخرجي، ألا ترين أن هذا ليس وقت الدخول؟!
قالت بهدوء: إني أرى كثيرا مما لم أكن أتوقع أن أراه، وقد سلبني ما رأيت الإرادة أو القدرة على الحركة.
فعاد يصيح: أقول لك: اخرجي، ألا تسمعين؟! ماذا يقول الناس إذا دخل داخل ووجدك هنا؟
قالت: لا تخف علي؛ فإنهم سيقولون فيك أولا.
وأحس راتب بك أن هذا الشطر من المنامة قد تدلى إلى قدميه واختلطت جملته بهما، فشرع يرفع قدما بعد قدم ليخرجهما ويخلصهما، عبثا؛ فقد كانت الحركة غير ميسورة وهو قاعد القرفصاء برغمه، وفخذاه إلى بطنه ويداه على ركبتيه.
وأتعبه تكلفه حركة ليست في خير الأحوال بالهينة، فكيف على طرف المكتب! فضاق صدره وانطلق لسانه يقول: ألا تنوين أن تخرجي؟! ماذا عسى أن يقول الناس؟
وكانت ريا فتاة خبيثة، تحسن اغتنام الفرص اللائحة، فقالت: إنهم خليقون أن يقولوا إنك دعوتني لشهود هذا المنظر وآثرتني به في غرفتك الخاصة.
فكاد عقله يطير وزعق: امشي، اخرجي، فأنت مطرودة.
قالت: صحيح؟! وما قولك في أن أصيح كصياحك، وأخرج كالقنبلة، وأجمع موظفي الشركة عليك؟
وكانت وهي تقول ذلك تبدو لراتب بك كأنها تستحلي الكلام، وتستطيب المنظر الذي رسمت له خطوطه الكبرى، وتركت له العناية بالتفاصيل.
قال بصوت ضعيف: أعوذ بالله منك! طيب اخرجي، فلن أطردك، ودعيني أفعل ما أنا فاعل.
قالت ببرود: وهذه الأوراق؟
فأسعفه صوته وصاح: أهذا وقته؟! سبحان الله العظيم!
قالت: سؤال قبل أن أخرج، لماذا لبست المنامة تحت البنطلون؟
قال: لا أردي، وما شأنك أنت؟! أقول لك: اخرجي .
قالت: إنه منظر لا تراه الواحدة منا كل يوم، وفي شركة تجارية، ومكتب كهذا.
فقال محتجا: هل يتصور عقلك الوسخ أن هذه عادة لي؟!
قالت: يحسن ألا تعتادها.
وخرجت بخفة كما دخلت، وردت الباب وراءها، فنهض الرجل وأتم ما كان بدأ، ولعن نفسه والوجه الذي أصبح عليه في يومه، وجرأة ريا وقلة أدبها، وحدث نفسه أنه سيلقى منها ويلا. وطوى المنامة ورمى بها - لقلة عقله مرة أخرى - في سلة الورق المهمل.
ودق الجرس فدخلت عليه ريا مرة أخرى، فألفته جالسا إلى مكتبه على عادته فقالت: هذا أحسن.
وهم بأن يزجرها عن العود إلى الموضوع، ولكن فراش المكتب دخل في هذه اللحظة بالصينية وعليها كوب ماء بارد وفنجان قهوة، ووضعها على المكتب، ودار لينصرف فلمحت عينه المنامة فانحنى، ومد يده فأخرجها ورفعها، وتأمل ألوانها الزاهية، ولمسها وفركها بأصابعه، وهز رأسه معجبا بحريرها الطبيعي النفيس، ثم حول وجهه إلى راتب بك وسأله: هل هذه لك يا بك؟
وكان راتب بك قد غض بصره عجزا منه عن النظر إلى الفراش وهو يقلب المنامة أو شطرها الأسفل - أطرق وأبقى عينه على المكتب، فقال: لا. ولم يرفع رأسه.
قال الفراش: وماذا جاء بها إلى هنا؟ لقد كنست المكتب ونظفته ولم تكن هذه في السلة.
فأحس راتب بك أن رأسه يدور، فقد صار كل امرئ يجترئ عليه بالخلاف والمجادلة، حتى الفراش.
وتشدد وقال: أراك لا تصدقني؟! شيء جميل يا حسنين! اخرج وارمها حيث شئت ولا تكلمني فيها مرة أخرى، سامع؟
وانصرف الفراش، فقالت ريا: أتظن أنك كنت حكيما؟!
فسألها راتب بك: ماذا تعنين؟
قالت: تركت المنامة لحسنين.
قال: وماله؟ ماذا أصنع بها؟! إني لا أطيق أن أراها مرة أخرى، ولا أنت أيضا.
قالت: شكرا، ولكن كل موظفي المكتب سيرونها الآن، وسيعرضها حسنين عليهم واحدا واحدا، ويقول لهم إنه وجدها ملقاة في السلة وأنا معك ...
فصاح بها مقاطعا: ألا تخجلين؟
قالت: هذا شأني أنا، وقد كنت أبين لك شأنك، أنت حر.
فوضع رأسه بين يديه وقال كمن يحدث نفسه: يا له من نهار أسود! ما العمل الآن؟
قالت: ألا ترى أنه يحسن بك أن تكون لطيفا معي؟
فنظر إليها نظرة ملؤها الحقد والمرارة، وقال: لطيف معك؟! أهو ذاك؟!
قالت بهدوئها الذي لا يفارقها: نعم، وتذهب بي مرة إلى السينما، أو إلى ...
قال، بلهجة الزراية: ويراني الناس معك؟! مع مثلك؟!
فأطرقت ريا تتدبر قوله هذا، ثم رفعت رأسها ونظرت إليه وقالت: ولم لا؟ إنك لست دميما جدا.
فصاح: إيه؟!
قالت: لا تزعق، فما أظن بموظفيك إلا أنهم قريبون من الباب.
قال - بصوت خافت: إنك أوقح من رأيت في حياتي.
قالت: لست أوقح منك؛ ألم تخلع منامتك أمام عيني؟!
قال: ما حيلتي؟! أنت دخلت بلا استئذان، فرأيت ما رأيت، لماذا لا تدعين هذا الموضوع؟ إن عملي معطل.
قالت ونتغدى اليوم عند الحاتي؟
قال: طيب، طيب.
وكانت هذه هي البداية، وهي حسب القارئ، وفيها عبرة كافية سقناها غير باخلين بها على من يطيل لسانه على البنات الطيبات. (انتهت)
صفحه نامشخص