وقد كان إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليديه عند القيام في صلاة الفريضة من الأشياء المعروفة المألوفة عند أهل المدينة في الصدر الأول، مما جعل الإمام مالك مع شدة بحثه وتقصيه يقول عندما سئل عن وضع الكف على الكف في الصلاة : (( لا أعرفه في الفريضة )). وهو ثقة يحكي عن واقع يعيشه ويشاهده.
ونظرا إلى مكانة الإمام مالك العلمية، وقربه من عصر التشريع، وموقعه المتقدم بين أئمة أهل السنة، كان لكلمته في هذا الباب وزن كبير، مما جعل بعض المتحيزين يسعون إلى الخلاص مما روي عنه في هذه المسألة، فتارة يكتمونها، وتارة يروون عنه معارضا لها، وتارة يفلسفونها فلسفة بعيدة، فيزعمون أن الإمام مالك ما ترك الضم في الصلاة إلا لأنه ضرب على يده، فكان لا يستطيع أن يمسكها على صدره، وهذا تأويل غير مجد حتى مع صحة الحادثة؛ لأنه إن كان ضرب على يده فلم يضرب على لسانه، حتى يقول: (( لا أعرفه في الفريضة ))!!
ولكي يكون المطلع على بينة من الأمر، سنضع بين يديه بعض التفاصيل المتعلقة بما روي عن الإمام مالك في هذه المسألة فنقول:
اشتهر عن الإمام مالك بن أنس القول بالإرسال، وعليه مضى كبار أصحابه، وروي عنه التخيير بين الإرسال والضم، وحكي آخرون عنه أن الضم مندوب، فهذه ثلاثة مذاهب، سنفصلها جميعا فيما يلي:
المذهب الأول: الإرسال، وهو الأشهر والأكثر رواية، وعليه جمهور أصحابه، وأتباعه ممن لم يتأثر بالمذاهب الأخرى، كما هو الحال في سائر المذاهب، وقد روي عنه في ذلك روايات:
الرواية الأولى: الإرسال وكراهة الضم في صلاة الفريضة، وجواز الضم في النافلة.
ففي (مدونة فقه الإمام مالك): (( عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن الضم، فقال: لا أعرفه في الفريضة. وكان يكرهه ))(1).
صفحه ۲۰