ومسرحية تاسو من هذا النوع من الأعمال الشعرية التي بدأها الشاعر ثم انتظر ما يزيد على ثماني سنوات حتى تم لها النضج. فنحن نعثر على أول أثر لها في ملاحظة، دونها في مذكراته اليومية في الثلاثين من مارس عام 1780م، حيث يقول: «ابتكار طيب: تاسو». ولكن يبدو أنه لم يبدأ في الكتابة إلا بعد هذا التاريخ بفترة طويلة. تشهد على ذلك ملاحظة أخرى، سجلها في مذكراته اليومية في الرابع عشر من أكتوبر من السنة نفسها،
الشهرين التاليين إلى حبيبته المشهورة «فراوفون شتاين»، فيحدثها عن مشروعه الجديد. ويواصل العمل في مسرحيته إلى أوائل عام 1781م، تشهد على ذلك رسالة كتبها إليها من «فيمار» في العشرين من أبريل حيث يقول: «لا أريد أن أقول لك شيئا عن نفسي ولا عن الغد. لقد تعبدتك وأنا أكتب في «تاسو». روحي كلها لديك. اليوم أريد أن أنشط للعمل.»
ويبدو أن جوته قد استطاع أن يقطع شوطا كبيرا في مسرحيته، بحيث استطاع في اليوم العاشر من نوفمبر أن يقرأ المشهد الأول منها على صديقه «كنيبل»، وأن يتم الفصل الأول كله، ويشرع في الفصل الثاني. ولكن العمل توقف من جديد على أواخر ذلك العام، حيث نجده يتحدث في إحدى رسائله التي كتبها في ذلك الحين عن المسرحية الناقصة. ويبدو كذلك أنه عاد إليها في ربيع سنة 1781م، وأنه قد بلغ فيها ما يشبه النهاية المؤقتة. مهما يكن من شيء، فقد كتب جوته مسرحيته في هذه المرحلة بالنثر الشعري أو بالشعر المنثور، كما نقول اليوم، ثم عاد إلى التفكير في تعديلها وإعادة صياغتها شعرا في أثناء رحلته المشهورة إلى إيطاليا، بين سنتي (1786 و1788م) حتى أتمها في صورتها النهائية المعروفة في سنة 1789م. وأردنا أن نتتبع خطواته في هذه المرحلة، فوجدناه يكتب من روما إلى صديقه «كنيبل» رسالة بتاريخ 19 فبراير سنة 1787م يقول فيها: «أنا الآن أعمل في «تاسو» التي ينبغي الانتهاء منها.» ويدون في مذكرات رحلته الإيطالية وهو في طريق البحر من نابولي إلى «باليرمو» هذه السطور في الثلاثين من مارس من السنة نفسها: «لم أخذ معي من بين أوراقي كلها سوى الفصلين الأول والثاني من «تاسو» اللذين كتبتهما منذ عشر سنوات، ولم يزالا في خطتهما وسير أحداثهما شبيهين بما أفكر فيه اليوم - كان فيهما شيء من النعومة والضبابية، لم يلبث أن اختفى عندما غيرت رأيي فيهما فأحكمت بناء الشكل وأدخلت فيهما الوزن والإيقاع.»
وواصل جوته تفكيره في مسرحيته وراح يتعذب بينه وبين نفسه في إعادة صياغتها من جديد. فهو يقول في اليوم الأخير من شهر مارس في مذكرات رحلته: «... بدأت أمواج البحر ترتفع، ومرض أغلب المسافرين ... وبقيت في مكاني المألوف أفكر في المسرحية كلها من أولها إلى آخرها.» ثم يقول في اليوم التالي مباشرة: «تجرأت أحيانا على الصعود إلى ظهر السفينة، ولكنني لم أدع مشروعي الشعري يغيب عن بالي، حتى استطعت إلى حد كبير أن أتحكم في المسرحية كلها.» ويواصل كلامه في الثاني من أبريل فيقول: «وجدنا أنفسنا في الثامنة صباحا أمام «باليرمو». فقد كانت خطة هذه المسرحية قد ازدهرت في الأيام الأخيرة في بطن الحوت.» ومع هذا كله، فيبدو أن الشاعر لم يكن قد غير تغييرا يذكر في النسخة الأولى التي كتبها نثرا ولم يعثر عليها الباحثون حتى اليوم. وقد رجع في الفصلين اللذين أتمهما منها، ثم عاد فيما بعد إلى صياغتها شعرا إلى حياة الشاعر الإيطالي «توركواتو تاسو»
1
كما كتبها «جوفاني باتيستا مانسو»، وملأها دون ترو أو تدقيق بالخرافات والأقاصيص عن حياة هذا الشاعر الكبير. ومع ذلك فقد استفاد شاعرنا كثيرا من القصة التي اخترعها (مانسو) من خياله وزعم فيها أن تاسو قد هام حبا بالأميرة ليونورة شقيقة ألفونس الثاني أمير «فرار» الذي استضاف الشاعر ورعاه.
لم يشعر جوته بالحاجة إلى كتابة مسرحيته في ثوب شعري جديد إلا أثناء رحلته في إيطاليا. لقد أحس بأن عليه أن يستبعد منها الليونة والغموض، فيحكم بناء شكلها ويصوغها في إيقاع شعري يليق بموضوعها الرقيق النبيل، ألا وهو الصراع الخالد بين الشاعر والواقع، وبين عالم الفن وعالم السياسة. ولقد زاد هذا الإحساس لديه حتى كاد يصبح أزمة حادة يعبر عنها قوله في أثناء زيارته الثانية لمدينة روما في اليوم الأول من فبراير سنة 1788م: «... ثم أعاني أزمة جديدة، لا يستطيع أحد أن يشير علي فيها أو يعينني عليها. يجب أن تصاغ «تاسو» صياغة أخرى؛ فما لدي منها الآن لا ينفع في شيء، ولا يمكنني أن أختمه أو أقذف به بعيدا. هكذا حكم الله على الإنسان بكل هذا العناء!» وتلح عليه الأزمة في أواخر مدة إقامته الثانية في روما. فها هو ذا يقرأ من جديد عن حياة «تاسو» كما كتبها «أباني بيير أنطونيو سيراستي»، وكانت قد ظهرت في روما في سنة 1785م. ويعكف على دراسة هذا الكتاب، ويأخذ منه أشياء جديدة عن الصراع الذي دار بين «تاسو» ورجال البلاد والسياسة كما يتعرف على شخصية «أنطونيو مونتكاتبنو» الذي سيقوم بدور مهم في المسرحية، ويساعد مع صراع الحب اليائس على بلوغ الأزمة في نفس «تاسو» إلى ذروتها، حتى يصل الصدام بينه وبين عالم السياسة والواقع الذي يمثله «أنطونيو» إلى قمته في جنونه الأخير.
ويبدو أن جوته قد ضاق بالمسرحية أو تهيب من إعادة صياغتها. غير أن سحر شخصية «تاسو» كان أقوى من كل تردد، وطبيعته كانت تنبع من أعمق أعماقه بحيث نضج العمل كله على أواخر رحلته الإيطالية، فأقبل في خريف 1788م وربيع 1789م بكليته على العمل، حتى لنجده يكتب إلى صديقه وراعيه الأمير «كارل أوجوست» في فبراير 1789م فيقول: «إن «تاسو» ينمو كشجرة البرتقال في بطء شديد. فلعله أن يؤتي ثمارا حلوة.» واستطاع الشاعر أن يتم مسرحيته في شهر يونيو عام 1789م، وأن ينشرها في المجلد السادس من طبعة أعماله الكاملة. •••
ما من عمل مسرحي يخلو من الصراع أو يستطيع أن يستغنى عنه. ولقد تحدث جوته بنفسه عن الصراع في هذه المسرحية فوصفها في صورة عامة مجردة، بأنها تعالج موضوع التنافر بين الموهبة والحياة. كما وصف أحد النقاد «تاسو» بأنه «فرتر» متطرف أو مبالغ في لهيب حماسه وعواطفه.
والحق أن هذا هو الانطباع الأول الذي يشعر به القارئ من المسرحية، دون حاجة منه إلى مزيد من التعمق والتحليل. ففي المسرحية عالمان يواجه كل منهما الآخر ويصطدم به؛ هناك عالم المجتمع والسياسة، يمثله الوزير «أنطونيو» والأمير «ألفونس» والدوقة «ليونورا سانفيتاله». وهو عالم تغلب عليه روح الحكم والسيادة ويتميز بوضوح الرؤية العقلية، وطموح الغريزة العملية. وهناك عالم الشعور والفن الذي يرفرف فيه «تاسو» كالطائر الوحيد، فيحلق إلى أعلى القمم ويهبط إلى أسفل الأعماق، ويهيب دائما بعظمة الماضي ويحيا على ذكرى الشعراء العظام. ثم يحاول أن يعيش في الحاضر أو ينسجم مع الواقع فيشعر بعجزه، ويزداد إحساسا بانكساره. إنه عالم المطلق والجوهر والفن النقي الخالص الذي لا يمكن أن يقاس به العالم السابق أو يرتفع إلى مستواه، غير أن هذا التنافر بين العالمين لا يستطيع وحده أن يفي مسرحيتنا حقها أو يفسر مأساة بطلها. فوجه الخطورة فيه أنه قد يغرينا بالتفسير النفسي لشخصية البطل، أو إرجاع موقفه التراجيدي إلى ما يوصف به من شذوذ أو تطرف أو جنون، وهي أمور عرضية لا يمكن أن تنشأ عنها مأساة حقيقية؛ ذلك أن سر مأساة «تاسو» أنه يحس كما لا يحس أحد من المحيطين به بذلك الطموح المطلق الذي ينزع إليه الفنان بطبيعته، كما يشعر بالعجز الضروري لهذا الطموح، ويرفض في الوقت نفسه أن يقتنع به أو يستسلم له. هذا الخلاف الأساسي بين عالم الخيال وعالم الواقع هو الإطار الذي تدور فيه أحداث المسرحية. وهو خلاف يبلغ من الشمول والعمق حدا، تتصدع معه العلاقات الإنسانية بين الأفراد، كما يتصدع وجود البطل نفسه من جذوره. ذلك لأنه - مثله في ذلك مثل هاملت - يسمع صوتا لا يسمعه أحد سواه، ويكلف برسالة لا يستطيع أن يحققها في الواقع على الوجه الذي يرضيه، ويحمل أمانة المطلق أو الحقيقة أو الفن. بغير أن تكون لديه الوسائل الكفيلة بأدائها في دنيا الأرض والواقع، أو بغير أن يجد في هذا الواقع أي استعداد لتلقيها. إنه يجد نفسه ملقى به فيما يمكن أن نسميه «منطقة القدر» يحيط به نظام من الأشخاص والعلاقات، كرس كل جهده لتحقيق الأهداف والمنافع. وهو يشعر بعجزه عن تعديل هذا النظام أو الاندماج فيه. والمشهد الثالث من الفصل الأول أساسي في فهم المغزى العام من المسرحية وإلقاء الضوء على موقفها من الزمن والتاريخ. فنحن نرى في هذا المشهد كيف ينعزل وجود الشاعر، وتنعزل كلماته عن عالم الواقع الذي يعيش فيه وكيف يفقد هذا العالم الزخير روحه ومعناه. ولذلك فإن «تاسو» لا يتعب من التعبير عن شوقه إلى الزمن الماضي لأنه يجد فيه - على خلاف الحاضر المحيط به - أن الحقيقة والواقع، والشاعر والبطل، والحكمة والفعل تنجذب إلى بعضها بقوة أشبه بقوة المغناطيس. والحديث عن اللقاء بين «تاسو» والأميرة لا يبعد بنا عن موضوع المسرحية كما حددناه في السطور السابقة. فقد كان هذا اللقاء هو نواة المسرحية، كما تصورها جوته في البداية، ولعله كان هو الباعث الذي دفعه إلى كتابتها بعد أن وجد فيه صدى لحياته وعذابه في ذلك الحين. وأهم ما ينبغي إبرازه في هذا اللقاء هو تلك العناصر التي تشهد على صلة القربى التي تربطها بفلسفة أفلاطون. وقد تنبه الباحثون إلى ذلك، وأكثروا من الإشارة إليه. وليس من قبيل المصادفة أن نسمع الدوقة «ليونورا سنفيتاله» تصف الأميرة في نهاية المشهد الأول من الفصل الأول فتقول إنها تلميذة أفلاطون: «أمثلك يا تلميذة أفلاطون لا تفهم ما تجرؤ مستجدة على الثرثرة به!» وذلك بعد أن وصفت شاعرنا قبل ذلك بسطور قليلة وصفا لا ينطبق إلا على أفلاطوني يتأمل المثل، أو يتملى النموذج الأوحد الأسمى لكل ما في الواقع من صور الجمال:
صفحه نامشخص