ولكن الصوفي بعد أن سار هذه الخطوات كلها، ووصل مع اللاأدري إلى الشك في قيمة الحواس والعقل، وفي قيمة المعرفة الناشئة عنهما، يعود فيثبت المعرفة عن طريق آخر: هو الإلهام، أو البصيرة، أو العلم اللدني كما يقولون.
قطع الصوفي واللاأدري إذا المرحلة الأولى معا ، فوصلا إلى الشك فرضي به أحدهما واقتنع بألا مطمح وراءه، وخطا الآخر خطوة أخرى خطاها لا يضع لنفسه منطقا أو منهجا يسير عليه ليعتصم من الزلل الذي توقعه فيه حواسه ويوقعه فيه عقله كما يفعل الفلاسفة، وإنما ليصل إلى معرفة من طريق آخر لا يتسرب إليه شك.
لنلق الآن نظرة على النفس الإنسانية، فنرى أنها لا تحب الإقامة على الشك، ولا ترغب في اتخاذ الإنكار مذهبا وقاعدة، وإنها على كثرة حبها للمعرفة وشغفها بالاستطلاع، تريد أن تجعل دائما اليقين قاعدة آرائها وأعمالها، ونرى أيضا أن من أشق أوقات الإنسان تلك الفترة التي تضطرب فيها نفسه، وتتذبذب آراؤه ويختلط عليه الأمر، هذه الحالة تبعث في النفس الضيق والكآبة، فإذا اشتدت واستمرت سببت أحيانا الانتحار وأحيانا الجنون، ولكنها أيضا في كثير من الأحيان تؤدي إلى التصوف، نعم، تؤدي إلى التصوف حيث يجد المتصوف ملجأ تستقر فيه نفسه، وتهدأ وتسكن، وحيث يجد اليقين والإيمان والعلم الثابت.
أما حالة الإمام الغزالي النفسية فقد كان متلهفا على المعرفة محبا للاطلاع والدرس والبحث غارقا في محيط الفلسفة والعلم، ولكنه مع كثرة اطلاعه لم يجد في المذاهب الفلسفية ما يرضيه، ولم يجد في العقلية المؤسسة عليها هذه المذاهب ما يقنعه، ورأى من العبث أن يبدأ في تأليف مذهب فلسفي جديد، ذلك حتما مصير ما سبق من المذاهب التي إن أخذت بإعجاب كثير من الناس، فإنها لا تثبت أمام النقد الصارم؛ إذ ليس فيها من القوة البرهانية ما يقنع.
ليس هناك إلا الشك واللاأدرية إذا.
وفي الواقع شك الإمام الغزالي وشك في العقل وشك فيما ينتج عنهما من معرفة، أما نفسه فقد اضطربت، ونحل جسمه وضاق بالحياة، ولم يجد ملجأ ولا عاصما من هذه الحيرة إلا التصوف فولج بابه واطمأن إليه كما سنوضحه فيما يلي: (1) الغزالي
هو أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، جادت به الحكمة الخالدة في مطلع عام خمسين وأربعمائة للهجرة، وتسع وخمسين وألف ميلادية ببلدة طوس من أعمال خراسان من أصل فارسي، وكان والده فقير اليد غني الروح، يكسب قوته من مغزله ومن قيامه بخدمة رجال الدين والفقهاء في مجالسهم وخلواتهم، وقد حاول بعض المستشرقين وفي طليعتهم العالم الألماني «وستنفليد» أن يثبتوا أن أسرته من أسر العلم الشوامخ، ولكن الحقائق التاريخية لم تذكر لنا دليلا واحدا يجرؤ على الثبات، ولم تحدثنا عن ماضي تلك الأسرة شيئا يطمئن إليه النقد العلمي.
2
ولعل هذا الإحساس الملح والرغبة النفسانية العنيفة في اكتساب المجد العلمي وتقديس الثوب الديني قد ورثهما الغزالي عن والده وإنما في صورة أخرى؛ فقد أتيح للولد ما لم يتح للوالد، ولعلنا في هذا الضوء نستطيع أن نفهم النهم العجيب في الغزالي الذي يدفعه في إلحاح وإصرار إلى الاستزادة من العلوم والإقبال على المعارف.
ومات هذا الوالد والغزالي وشقيقه أحمد في مدارج الطفولة الأولى، فتعهدهما رجل صوفي فقير من أصدقاء والدهما الذي لم يترك لهما إلا صبابة من المال ضئيلة، ولم يترك للصوفي إلا وصية واحدة هي قوله: «كانت أمنيتي في الحياة أن أتعلم الخط فأريد منك أن تحقق أمنيتي في نجلي هذين.» وقد بر الصوفي بتلك الوصية فاهتم بها علما وخلقا حتى نفذت صبابة المال التي تركها والدهما، فضاقت يده عن طعامهما والإنفاق عليهما فقال لهما: «اعلما أنني أنفقت عليكما ما كان لكما، وأما أنا فرجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما وأصلح حالكما، فما لكما ألا تلجآ إلى مدرسة؛ فإنكما طالبان للفقه عساه يحصل لكما مقدار قوتكما.»
صفحه نامشخص