التصوف واللاأدرية
قلنا: إن التصوف هو المذهب القائل بالإلهام أو بالبصيرة، وإذا شئت فبالعلم الإلهي، أي بهذا النوع من المعرفة اليقينية الذي لا يعتوره شك ولا تعبث به سفسطة، ولئن كان هذا التعريف غير منطبق تمام الانطباق على حقيقة التصوف، فإنه ولا شك يرينا ما للمعرفة من أهمية، فتصفية الروح ليست غرضا عند رجال الصوفية، إلا لأنها تمهد للاتصال بالله، ولا ريب أن معرفة تأتي عن طريق الإلهام وتجيء عن طريق الألوهية، فإنها معرفة لا يتطرق إليها الهدم ولا تنهار أمام عواصف المنطق، بل هذه الأمور الصبيانية التي تجدها أحيانا في كلام الصوفية لا تقل في ثبوتها عن البديهيات، وأنت تحاول عبثا إذا أردت أن تبعث الشك عند الصوفي، أو تثنيه عن رأيه، إذ كيف يحيد عن فكرة يعتقد أنه تلقاها من الملأ الأعلى في فترة صفت فيها روحه وتطهرت.
من ذلك يكون اللاأدري شخص لا يعترف بحقيقة، أو لا يعترف بأن هناك طريقا يوصلنا إلى معرفتها على فرض وجودها، وعبثا تحاول أن تقنعه بعقيدة ما؛ إذ هو لا يقتنع إلا بالشك، ولا يرضى برأيه بديلا، وإن يدهش لشيء فإنما يدهش لعدم اقتناعك أنت بفكرته التي يعطيك على صحتها البرهان تلو البرهان والحجة تلو الحجة، حتى لتعترف آخر الأمر بأن لرأيه وجاهته وقيمته.
يقين مطلق إذا من جهة الصوفية وشك عميق من جهة اللاأدريين، اختلاف شاسع إلى تعارض وتضاد.
وبالرغم من أن محاولة التقريب وعقد الصلة بين هذين المذهبين تبدو لكثير من الناس مهزلة مضحكة، فإن الاختلاف بينهما أقل مما نتصور، ذلك أن الصوفية واللاأدرية يتفقان في المبدأ الذي بني عليه كل منهما، أي إن الفكرة التي حدت بالصوفي إلى التصوف هي الفكرة التي حدت باللاأدري إلى مذهبه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اللاأدرية نفسها كثيرا ما تؤدي إلى التصوف، ونحن موضحون هذا فيما يلي:
كلنا يعلم أن هناك طريقين للمعرفة: هما الحواس والعقل، فمعرفتي بالشيء تنتج عن أني أراه أو أحسه إلخ، أو عن أني أستنتجه بدليل عقلي.
كثير من الناس، بل الأغلبية الساحقة منهم تأخذ المعرفة الناشئة عن هذين الطريقين كأنها قضية مسلمة لا تقبل جدلا ولا يحيط بها شك، ولكن في العالم أيضا ذاك الذي يرى أنه ما دامت الحواس تخطئ فهي ليست أهلا للثقة؛ إني أرى السراب فأحسبه ماء، وتسيطر على فكري صورة من الصور وتقوى هذه السيطرة فأرى الصورة ممثلة أمامي، والمريض يرى خيالات لا حقيقة لها، والخائف يرى أشباحا ويسمع أصواتا لا وجود لها، إن الأمثلة على ذلك لا تحصى، وكل يوم، بل كل فترة تعطيني دليلا على خطأ الحواس، فهل بعد هذا أثق فيها أو أثق بمعرفة تأتي عن طريقها؟ كلا!
1
بقي العقل إذا، ولكن ما قيمته؟ كل ينتسب إليه ومع ذلك فلا تجد اثنين يتفقان، هذه المذاهب الفلسفية التي لا تكاد تعد، كلها مبنية على العقل، كلها مؤسسة عليه وقائمة به، وكلها جذابة أخاذة تغري بقوة أدلتها، وتستولي عليك بصرامة منطقها، ومع ذلك كله فلا تكاد تتفق في شيء ما، ثم ماذا؟ ألم يبرهن أحدهم ببرهان عقلي منطقي على أن الأرنب لا يلحق السلحفاة، وآخر على أن السهم في سيره لا يتحرك إلخ، وأنت نفسك، أليست آراؤك في حالة التخمة غيرها في حالة أخرى، وفي حالة السرور غيرها في حالة الحزن، ثم البراهين التي ترى قوتها وتعتقد فيها وأنت في حالة السرور غيرها في حالة الحزن، ثم البراهين التي ترى قوتها وتعتقد فيها وأنت في حالة الحلم ليست أقل من أن يقال عنها إنها براهين عقلية، وهكذا إذا أخذت في تعداد الأمثلة على عدم مقدرة العقل فإنك لا تقف عند حد.
أخطأت الحواس فلا ثقة فيها، وأخطأ العقل فلا ثقة به، فهل معنى ذلك ألا سبيل إلى المعرفة الحقيقية؟ نعم يجيبنا اللاأدري، وسنمكث إلى الأبد محكوما علينا بالجهل أو إذا شئت بعدم المعرفة الصحيحة.
صفحه نامشخص