فلما دخل علي مستر دانلوب، وناظرة المدرسة، وكنت بالطبع واقفة أدرس أمرت التلميذات بالوقوف، ثم بالجلوس، وسرت في درسي دون أن ألتفت إليه، وتناول هو كراسة التحضير، وكان بها جملة من الأوراق الصغيرة؛ إذ كنت أؤلف كتابا للمطالعة، وقد تركت أصول ذلك الكتاب في دفتر التحضير، فتناثرت الأوراق على الأرض تحت أقدام الطالبات، ومال هو لالتقاطها، وأرادت بعض التلميذات أن تساعده في ذلك، فأمرتهن بالكف عن هذا والالتفات إلى الدرس، وتركته يلتقط الأوراق بنفسه، وسرت في درسي دون أن تلتفت إليه التلميذات، فأعجبته قوة روحي في حفظ النظام، والتقط جميع الأوراق بنفسه، ووضعها في الكراسة كما كانت، ثم وضعها على منضدة المدرس.
كل ذلك وأنا لم ألتفت إليه، ولم أحسب حسابا لوجوده، وكانت السنة التي أدرس فيها الرابعة الابتدائية، وكنت أقرأ معهن قطعة إملاء أمليتها عليهن أمس، وأخذت منها موضوعا للمطالعة، وكانت إحدى التلميذات متغيبة في درس الإملاء أمس، ولم يكن أمامها كراسة، بل كانت تستمع لما يقال، وظن مستر دانلوب أني لم أرها، فقال لي: ألا ترين في فصلك هذا مخالفة لنظم التدريس؟ فقلت: أتقصد هذه التلميذة الجالسة في آخر الحجرة التي ليس أمامها كراسة؟ وكان الرجل يظن أني لضعف نظري لا أرى ذلك فدهش، وقال: نعم.
قلت: إننا نطالع في كراسة الإملاء التي أمليتها أمس عليهن، وقد كانت تلك التلميذة متغيبة، فالإملاء ليست مكتوبة في كراستها؛ ولهذا لم آمرها بإخراجها. قال: أوليس من حسن النظام الظاهري أن تخرج تلك التلميذة كراستها، وإن لم يكن الإملاء مكتوبا فيها؟ قلت: كلا، أنا لا يهمني الظاهر، وإنما يهمني النظام الحقيقي وفائدة التلميذات، فإن تلك التلميذة لو أخرجت كراسة ليس فيها الإملاء، ونظرت إليها لشغلها ذلك عن تفهم درسنا اليوم ؛ إذ هي تنظر إلى غير ما نقرأ نحن فيه، أما إذا جلست بدون كراسة فإنها مضطرة أن تصغي إلى ما يقرأ. قال: صدقت. ثم قال: وما درسك اليوم؟ قلت: مطالعة. قال: إن الوزارة قررت أن تطالعي في كتاب الفوائد الفكرية من صفحة كذا إلى صفحة كذا، وأنت اليوم تخالفين هذا، وتطالعين مع تلميذاتك في شيء لم تقرره الوزارة. قلت: لقد فهمت من هذا القرار الذي قررته الوزارة أنها تريد أن تحدد لي كمية ما يجب أن تقرأه التلميذات لا أن تضطرني إلى قراءة كتاب لا يفسد ذوق التلميذات في اللغة العربية فحسب، بل يفسد ذوقي أنا الأخرى. فنظر إلي وقال: ومن أين أتيت بتلك الإملاء؟ قلت: لقد وضعتها أنا خصيصا؛ لأني في صدد تأليف كتاب مطالعة لهن، فأنا أملي عليهن أصول كتابي. قال: وهل أنت واثقة من أنك لم تخطئي في تلك الأصول؟ قلت: لقد عينتني الوزارة هنا لأدرس اللغة العربية، ومعنى هذا أني أعلم الطالبات المطالعة والإنشاء، فإن كنت أنا نفسي لا أحسن ذلك كان الخطأ واقعا على الوزارة التي عينتني؛ لأنها عينت معلمة تجهل اللغة لتدرس تلك اللغة، أما أنا فإني أقوم بواجبي كمعلمة تعرف تلك اللغة، فإذا اتضح للوزارة غير ذلك كان لها أن تفصلني.
قال: ترجمي لي تلك القطعة. فترجمتها، وسر منها، ثم قال: ومن أين جئت بتلك الأفكار؟ قلت: لقد قرأت كثيرا، ولكني لا أذكر بالذات أني نقلتها من كتاب خاص. قال: إذن كل ما تملينه على الطالبات، وكل ما تطالعينه معهن من إنشائك؟ قلت: نعم. قال: ولم لا تقرئين في كتاب الفوائد الفكرية؟ قلت: لأنه لا يعجبني. قال: وهل أنت أفضل من عبد الله باشا فكري؟ قلت: كلا ولكنه مات، ولو بقي إلى الآن لغير كتابه حسب تغير الزمان، فأنا أفضل منه من تلك الوجهة؛ إذ أنا لا أزال باقية أعرف تغيرات الدهر، وقد مضى هو، هذا فضلا عن أنه رجل قد لا يعرف ما تحتاج إليه السيدات، أما أنا ففتاة أعرف ما تحتاج إليه الفتيات، خصوصا وأني أعاصرهن الآن. قال: ألا تجدين صعوبة في التدريس لضعف بصرك؟ قلت: لا أجد من ذلك شيئا؛ لأني كما ترى أستطيع أن أطالع، كما أستطيع أن أرى آخر تلميذة في الفصل، ولا يطلب من المعلمة إصابة المرمى الدقيق، كما يطلب من الضباط والعساكر. قال: صدقت، ولكنك تجيدين حفظ النظام إلى درجة بعيدة، فكيف تجيدين هذا مع ضعف نظرك؟ قلت: إني أحفظ النظام بمخي لا ببصري، ويكفي أن ترى مني الطالبات عينين سليمتين إذا رفعتهما في طالبة ارتعدت، وظنت أني لا أرى وجهها فقط، بل أرى دخيلة نفسها، وهذا على ما أظن كاف في حفظ النظام. قال: صدقت.
ثم التفت إلى الناظرة، وقال: الحق أني لم أناقش معلمة ولا معلما في منطق هذه المعلمة. قالت: صدقت يا مستر دانلوب؛ فهي دائما قوية المحاورة. وهنا عرفت أنا أن مخاطبي الذي كلمته بجفاء هو القابض على زمام الأمور في وزارة المعارف، وكدت أرتجف لولا رباطة جأش ربيت عليها، وذهب مستر دانلوب بعد ذلك إلى وزارة المعارف، وقال: لو قيل لي إن نبوية موسى عمياء لا ترى ضوءا لثبتها. ثم أراد بعد هذا أن يغير من تقرير الدكتور فيشر الذي تركت له نظاراتي بعد أن دفعت فيها ثلاثة جنيهات، فطلب من مسز ألجود أن تكون الوسيطة بيني وبين الدكتور فيشر لتعديل تقريره، وجاءتني مسز ألجود، وقالت: أريد أن تذهبي مرة أخرى إلى الدكتور فيشر. فقلت: لست بفاعلة، ولو أدى ذلك إلى فصلي. قالت: ولكني لم أسئ إليك، وأنا صديقتك، وسأذهب معك، وأمنعه من أن يكلمك. قلت: إذا كان الأمر كذلك فلا بأس.
ذهبنا إلى الدكتور فيشر فأخذ يلاطفني، ويقول لي: يظهر أن الوزارة ليس عندها غيرك، وما دام الأمر كذلك فنحن نقبل نظرك على العين والرأس. ثم أصلح من تقريره، وكتب تقريرا مناسبا، وثبت بقرار من مجلس الوزراء.
وعلى ذكر الدكتور فيشر أقول إني في سنة 1914 أي بعد أن مضى على تلك الحادثة خمس سنوات أردت أن آخذ رأيه في مسألة بصري، فذهبت إليه في عيادته كإحدى المريضات، فلما نظر إلي، وكان هو الذي يكتب في دفتره أسماء المرضى رأيته يكتب اسمي دون أن يسألني، فعرفت أنه لا يزال يذكرني، فقلت له: ما رأيك؟ هل سأفقد البصر قريبا؟ فضحك، وقد تذكر تقريره الذي قال فيه إني سأفقد بصري بعد سنتين، وكان قد مضى على ذلك التقرير خمس سنوات، ثم قال: لا خوف على بصرك الآن، فإنه على ما يظهر لي يتحسن، وهكذا الغيظ يغير حتى التقارير الطبية التي يجب أن تكون ثابتة.
تدريسي اللغة العربية للمعلمات الإنجليزيات
سمح لي المرحوم الشيخ حمزة فتح الله بتدريس اللغة العربية، فانتهز المعلمات الإنجليزيات هذه الفرصة، وطلبن من الوزارة أن تكلفني تدريس اللغة العربية لهن؛ لأنهن بالطبع يستطعن التفاهم معي لمعرفتي اللغة الإنجليزية، أما المشايخ فقد كان تخاطبهن معهم بالإشارة، وربما أدت تلك الإشارات إلى عكس المعنى المطلوب، وكان هذا سببا في أن أعرف من عادات الإنجليزيات الشيء الكثير، والإنجليز يعملون لأمتهم الدعاية الكافية التي تجعل الأمم الأخرى تثق بهم ثقة عظيمة.
عرفت ذلك من ميول تلميذاتي الإنجليزيات، وإن كن فيما مضى معلماتي، فلم أشأ أن أجاريهن فيه، فكن أثناء درس المحادثة إذا طلبن مني أن أروي لهن خرافة مصرية، طلبت منهن أن يسردن لي خرافة إنجليزية لأشرح لهن أنا خرافة مصرية على طرازها، فكن في أول الأمر يرفضن ذكر خرافات إنجليزية مدعيات أن إنجلترا لا خرافة فيها، ولكنهن اضطررن أمام إصراري على أن كل بلد لا تخلو من الخرافات، واستشهادي ببعض ما كنت أقرؤه من الكتب الإنجليزية ... اضطررن أن يروين لي خرافات إنجليزية، وأروي لهن خرافات مصرية مثلها.
صفحه نامشخص