نعم إن صدقي باشا قد حدد عمر وزارته بعشر سنوات، ولكن من يعلم ماذا يأتي به الغيب؟ وإذا ظل في الحكم عشر سنوات كما يظن فسأتحملها، وسأطالب بحقي بعد ذلك.
وشاء الله أن يخرج صدقي باشا من الحكم مباشرة، وأن يتولى وزارة المالية بعده حضرة صاحب الدولة حسن صبري باشا، والرجل كما يعلم الناس جميعا شديد صلب في الحق، فقابلت حضرة صاحبة العصمة حرمه، وكنت أعرفها من المدرسة السنية، فلم تشأ عصمتها أن تسمع مني شكايتي، بل قالت لي في جرأتها المعروفة: لقد علمت من زيارتك لي أنك تطلبين شيئا من زوجي، فحددت لك موعدا لمقابلته غدا قبل أن أراك، وقلت له: إنك على حق فيما تطلبين لما أعرفه من صفاتك أثناء التلمذة، وطلبت منه أن يساعدك بكل ما يستطيع، وهو على استعداد فاذهبي إليه، ولا داعي لشرح شكواك.
أكبرت فيها تلك الهمة، وذهبت إلى دولته في اليوم التالي فأنهى المسألة في أسبوع واحد، وكان ذلك في آخر عام 1933 أي بعد خروجي من الوزارة بثماني سنوات تقريبا، وقبل أن يسلم إلي السركي حصل ما كنت أتوقعه فطلب مني رئيس الرزنامة رد المكافأة، وقال لي بهذا التعبير: «إيدك على المكافأة التي أخذتها.» قلت: «لا يا سيدي! إيدك أنت على صرف معاشي عن هذا الشهر؛ لأنه لم يبق من المكافأة شيء إذا حسبت حقي في المعاش عن كل تلك المدة.» وكان قولي هذا صحيحا؛ فقد اتضح أن لي عندهم بضعة قروش، فكان إذن من صالحي أن أتأخر كل تلك المدة عن صرف المعاش، وإلا اضطررت إلى رد المكافأة التي لم يكن في الإمكان ردها بحال من الأحوال.
استلمت سركي معاشي، واضطررت أن أسلم سركي معاشي عن والدي، وقد كان أثرا طيبا أحب الاحتفاظ به، ولكني سلمته مرغمة.
عزة النفس تقضي علي دائما
كنت من صغر سني ضعيفة النظر، ولولا قلة المتعلمات في ذلك الوقت لما تمكنت من دخول المدرسة السنية، ولا صرح لي بأن أكون معلمة؛ لأن كتب التربية تقضي بأن يكون المعلم - حسب وصفهم - ملء المسامع والأفواه والمقل؛ أي أن يكون عظيما في شكله، حاد الحواس حتى يستطيع أن يضبط نظام التلاميذ، وقد كنت أنا على العكس من ذلك قصيرة القامة، نحيلة الجسم، ضعيفة البصر ، وإن كان منظر عيني لم يكن يدل على شيء من ذلك الضعف، بل كان من يراهما يحسبهما من أحسن العيون.
على أن التجارب العملية أثبتت كذب ما يذهب إليه علماء التربية، فقد كنت على صغر حجمي وضعف بصري، أستطيع حفظ النظام إلى حد بعيد لا ينافسني فيه معلم آخر، وهكذا نحمد الله على قلة المتعلمين والمتعلمات في ذلك العهد، ولولا تلك القلة لما استطعت أنا أن أعمل في معاهد التعليم شيئا.
نجحت في دبلوم معلمات السنية، وعملت كما قدمت معلمة، وبعد مضي سنتين أرادت الوزارة تثبيتي فأحالتني على الكشف الطبي، وكان القائم بذلك الدكتور فيشر، فدهش عندما رأى ضعف نظري، وحتم علي أن ألبس النظارات، وكانت بالطبع النظارات ثقيلة جدا، وقد تألمت في أول لبسها لثقلها، وكان قد أمرني أن أعود إليه بعد أن ألبسها أسبوعا، فعدت وقلت له: إني لا أستطيع الاستمرار على لبس تلك النظارات الثقيلة، فنظر إلي، وكأنه أنف أن يرد علي الجواب، ثم التفت إلى مساعده، وقال له: فهم هذه أنه يجب عليها لبس تلك النظارة. وساءني احتقاره فتألمت، ونظرت إلى مساعده قائلة: دع صاحبك هذا يفهم أني لن ألبسها. وكان المساعد لم يبدأ كلامه، ثم ألقيت بالنظارات أمامهما، وخرجت مسرعة.
وكتب الدكتور فيشر بعد ذلك تقريره فقال فيه إني سأفقد الإبصار بعد سنتين على الأكثر، وإن عيوني لا تتحمل قراءة ثلاثة كتب، وإنه لا يوصي مطلقا بتثبيتي. وبلغني هذا، فكتبت للوزارة أقول إني لا أستطيع العمل في الحكومة إلا مثبتة، وإنهم إذا لم يثبتوني، وجب عليهم أن يعتبروا خطابي هذا استقالة، وقامت الوزارة وقعدت لذلك النبأ؛ إذ لم يكن قد توظف في خدمة الحكومة من معلمات السنية إلا خمس معلمات قبل تخرجي، وثلاث زميلاتي، وكانت الوزارة في حاجة شديدة إلى معلمات لكثرة المعلمين، وقلة المعلمات.
فأكثرت الوزارة من إرسال المفتشين للتفتيش علي، والتبين من كفاءتي العلمية، ومقدرتي على حسن النظام، وقد أثبتت تقاريرهم أنني أحسن المعلمات نظاما وتدريسا، وقد مللت من كثرة المفتشين، وقضت علي عزة النفس أن أباشر التدريس واقفة لا أجلس مطلقا؛ حتى لا أضطر إلى القيام إجلالا لدخول مفتش على كثرة هؤلاء المفتشين، وأخيرا زارني مستر دانلوب مستشار وزارة المعارف بنفسه، ولم أكن أعرفه شخصيا، وكنت قد تضايقت من كثرة المفتشين، وعولت على أن لا أعبأ بأحد منهم.
صفحه نامشخص