عصر انحطاط: تاریخ امت عربی (بخش هفتم)
عصر الانحدار: تاريخ الأمة العربية (الجزء السابع)
ژانرها
وفي سنة 1085ه ورد مرسوم من السلطنة مضمونه قسمة مدخول مكة أربعة أقسام، الربع لمولانا الشريف وثلاثة الأرباع للسادة الأشراف على السوية.»
6
وقد كان هؤلاء الشرفاء يتمتعون هم وأتباعهم بخيرات الحجاز، وأنهم كانوا سبب الفتن والثورات التي تقع في الحجاز واليمن ونجد، وكانوا أيضا يبذرون فيما يحصلون عليه من الأموال بشكل عجيب في حفلاتهم الخاصة أو ولائمهم العامة، ويتفننون في التبذير تفننا لا يكاد يصدقه المرء، فقد رووا أن الشريف سرورا أنفق على ختان أولاده أموالا باهظة، وأجرى في ذلك الفرح ما لم يسبق مثله، فألبس الملابس الفاخرة لكل من حضر الختان، ونثر الذهب والفضة أعظم النثار، وعرض عليه أهل الحارات وأنعم عليهم بالملابس والعطايا الجزيلة، ومن بعد صلاة المغرب ينتصب الديوان بالعساكر والنوبة تضرب، وعرض عليه السادة الأشراف فألبسهم الملابس الفاخرة وأعطاهم من العطايا ما تقر به العين، وكذا حضر كثير من أهل البادية وعرضوا عليه وأنعم عليهم بالملابس والعطايا، وأولم للسادة الأشراف والعلماء وأعيان الناس وليمة منظمة، ووضع فيها أنفس المآكل وخيار الأطعمة، ثم أولم لبقية الناس ولائم متعددة، وأولم أيضا للعساكر وأشياعه وعبيده، ثم أطلق في الولائم ولم يخص أحدا، فما بقي أحد إلا وحضر تلك الولائم، واستمر هذا الفرح من عشرة من ربيع الأول إلى السابع والعشرين منه، وفي السابع والعشرين أمر جميع عساكره وخيالته أن يحضروا بباب دولته وإمارته، وأمرهم أن يطوفوا بأكناف البلاد في موكب عظيم وألاي منظم؛ فخرجوا بأفخر الملابس ركبانا على الخيل المسومة مصطفين كل أربعة خلف أربعة، مقدما أمام الجيش سبعة من المدافع تسير معه، ولم يبق أحد من أهل البلد إلا خرج يوم الزينة، ولما رجعوا إلى داره العامرة ألبسهم الملابس الفاخرة، ونثر يومها من الدراهم ما اغتنى به كل صعلوك، وفي غرة ربيع الثاني جعل فرحا عظيما للنساء وصنع لهن وليمة، ودعا فيها المغنيات وكساهن أفخر الكساء، فهرع نساء البلد متفرجات، وأكل من الوليمة من حضرها من بواديها وحضرها، والمغنيات يغنين بأنواع الألحان كتغريد الطيور على الأغصان، واستمر فرح النساء على هذا النسق ثلاثة أيام، وتم في هذا الختان ما لم يتم لغيره من السرور،
7
فهذا الكلام يبين لنا أنواع الإسراف الذي ظهر في هذه الحفلات، وليس هذا عجيبا ولا غريبا، فإن أهل الحجاز قوم مشهورون منذ القديم بميلهم إلى الإسراف في الإنفاق، وكثرة العطاء، والميل إلى السرور وحب اللهو إذا ما تيسر لهم ذلك وواتاهم الحظ.
تلك هي حالة الأشراف وحواشيهم، أما سواد الشعب فقد كان في وضع اجتماعي عجيب؛ يأكلون ما تيسر، ويشربون ما وجد، ويقضون أوقاتهم في النوم والعبادة أو في الخصومات التي كانت كثيرا ما تقع بين الأشراف وأمير مكة، أو بين الباشا التركي والجند، فينصرون جانبا على جانب طمعا فيما يعدهم به، وإذا ما حدثت في البلاد حادثة أو زارها زائر جاءهم ما يشغلهم أو يسليهم فترة من الزمن، ويجعلهم يقضون كثيرا من لياليهم في أسمار وأخبار، وخصوصا إذا كان ما وقع يتعلق بأخبار السحرة والمشعوذين، وأكثرهم كان من المغاربة الذين كانوا يجيئون إليهم فيحتالون عليهم ويبتزون أموالهم تحت ستار استخراج الكنوز المخبوءة أو قلب المعادن الرخيصة إلى ذهب وفضة وما إلى ذلك، ومن أفظع هؤلاء الدجالين شخص مغربي قدم إلى الجزيرة العربية في الثاني عشر للهجرة، فأخذ يفتن الناس ويقوم بأعمال غريبة، حتى اتصل بالشريف محمد في سنة 1146ه فقربه إليه وعظمه لما اعتقد فيه من المقدرة والعلم بالفنون السحرية والأسرار الطلسمية، والقوة العجيبة، وقد أراد أن يستعين به وبعلمه على القضاء على خصمه ومنافسه الشريف مسعود الذي كان يكيد له، ولعب السحر والساحر في هذه الفتنة أدوارا مدهشة ذكرها المؤرخ أحمد بن زيني دحلان، فارجع إليها إذا شئت.
8
ومن المشاكل الاجتماعية التي منيت بها الجزيرة في هذه الحقبة: مشكلة التدخين، فقد انقسم الناس في شأنه ما بين محلل ومحرم، وبلغ أمره إلى الأشراف، وأخذ بعضهم يستغل أمره، ويرهق الناس بسببه، ومن هؤلاء الشريف مسعود فقد قرر في سنة 1155ه أن يحرم على الناس تعاطيه في المحلات العامة وبيوت القهوة، وأمر رجاله أن يقبضوا على كل من يرونه يدخن ويضعوه في الأطواق والحديد والسلاسل، وقد اختلف الفقهاء والناس في سبب تشدد الشريف مسعود بأمره، فقال بعضهم: إنه إنما فعل ذلك لأن شربه حرام، وقال آخرون: إنه فعل ذلك وإن لم يكن محرما؛ لأنه انتشر انتشارا عظيما وتعاطاه الناس والسوقة والأراذل والأسافل، وكانوا لا يرفعونه إذا مر عليهم الشريف أو العالم أو الفاضل؛ فلذلك أمر بعدم التظاهر بشربه لذلك،
9
وقد انقسم الفقهاء في أمره؛ فذهبوا إلى مذاهب متناقضة فحرمه بعضهم، وأباحه بعضهم، وكرهه آخرون، وقد وقعت بسببه مشاكل وفتن في الحجاز، بل وفي بعض أجزاء العالم الإسلامي، وأكثر هذه المشاكل وقوعا في الحجاز فقد كان الأشراف يعتقدون بأن لهم سلطانا روحيا وقداسة دينية، وأنهم حماة الشرع، وأنهم أصحاب التحليل والتحريم؛ فلذلك حرمه بعضهم، فقامت طائفة من الفقهاء ترد عليهم وتبين خطأهم حتى قال بعض الفقهاء: من أين جاءوا بهذه الأقوال، ولفقوا هذه الأقاويل، وما أشبههم بقوله تعالى:
صفحه نامشخص