98

تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر

تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر

ژانرها

هذا كل ما رواه التاريخ من سيرته الأولى، وهو يحملنا على أن نترك الثلاثين سنة الأولى من تاريخ حياته صحيفة بيضاء؛ وذلك أمر لا بد منه لمن نشأ في بلدة صغيرة لم تكن ذات شأن كبير من قبل.

وقبل أن نشرح طريقة استيلاء محمد علي على الديار المصرية وإبادته للمماليك يجب علينا أن نصف حالة الدولة العثمانية في إبان شبابه، حتى يتمكن القارئ من الوقوف على سر نجاحه: كانت الدولة العثمانية إذ ذاك مكونة من عدة شعوب مختلفة، ذوي أديان متباينة ونحل متضادة؛ مما طرق إليها الضعف، وأدخل عليها الوهن والاختلال الذي كاد يبلغ أقصاه في عصر محمد علي؛ إذ قد بدأ في عهد صغره أمر «علي باشا والي يانينة»، وهو أيضا من الألبانيين: أولئك القوم الذين فتحوا الشرق بقيادة الإسكندر، واستوطنوا مصر في عهد البطالسة، وهددوا رومية في زمن بيروس. خرج ذلك الرجل على دولته، فنكث فتلها، وأقلق بالها، واستقل بأمر ألبانيا مدة خمسين عاما انتهت بقتله غيلة سنة (1237ه/1822م).

وكانت كذلك جميع أجزاء الدولة مفككة العرى ثائرة على الباب العالي؛ فمصر والأناضول وسورية كلها كانت في فتن وقلاقل، وبلاد العرب مع الدولة في حرب عوان، وكانت الولاة في يانينة وبغداد كأمراء مستقلين، واستقل بالفعل في عكاء أحمد باشا الجزار، وشرع يحذو حذوه معظم ولاة الدولة، ووقف دولاب أعمال الحكومة الداخلية جملة، وكان الجيش مؤلفا من رعاع الناس وسفلتهم، وكان السلطان أشبه بسجين أو ألعوبة في يد وزرائه وعساكره الإنكشارية، وكان الباب العالي مكونا من فئة الوزراء الذين يتهددهم الخطر في كل لحظة؛ فقد كان كل منهم يتحين الفرص لاغتيال زميله، أو للسعي في عزل السلطان وتولية غيره؛ ليكون هو الصدر الأعظم الجديد.

تلك كانت حال الدولة بالاختصار في شبيبة محمد علي، ومنها يسهل تفهم أطوار حياته وعلاقته مع الدولة. وبالرغم من كل هذا كان عامة مسلمي الدولة مطيعين خاضعين للسلطان من آل عثمان؛ لأنه خليفة رسول الله

صلى الله عليه وسلم

والإمام الواجب تنصيبه دينا، ولو لم يكن له من الأمر شيء. بخلاف الوزير أو الوالي اللذين لم يكن كل منهما في نظرهم إلا فردا من رجال الحاشية توصل إلى مركزه السامي بالحظوة أو الرشوة؛ لذلك نرى أن كل الفتن والقلاقل في ذلك العهد كانت نتيجة المنافسة القائمة بين حكام الأقاليم ورجال الباب العالي، وأن فوز أحدهم بأمنيته كان متوقفا على حسن الحظ والإقدام والخداع، لا على الكفاءة الشخصية والمواهب الطبعية.

بلغ محمد علي الثلاثين من عمره عام (1212ه/1798م)، وكان لا يزال في مسقط رأسه بين أولاده الثلاثة: إبراهيم وطوسون وإسماعيل. وقد ذكرنا أن تجارة الدخان لم تعد عليه بربح طائل؛ لذلك كان ميالا للاحتراف بمهنة أخرى، فلم يلبث إلا قليلا حتى دخل في طور جديد من أطوار حياته، والسبب في ذلك يرجع إلى الحملة الفرنسية على مصر.

وذلك أنه في (سنة 1213ه/عام 1799م) أعلن الخليفة الحرب على الفرنسيين لغزوهم مصر، فأصدر الأوامر بجمع الجيوش من أنحاء الدولة، فجمع حاكم قولة «الشربجي» فرقة عددها 300 من الجنود المتطوعين -الباش بزق - بقيادة ابنه «علي أغا»، ورافق محمد علي هذه الفرقة وكيلا له عليها، فتوجهت بطريق البحر إلى الدردنيل، ومن ثمة انضمت إلى عامة الجيش في جزيرة رودس.

ولما وصل الجيش إلى ميناء بوقير من الديار المصرية التحم بالجيش الفرنسي، فكانت الدائرة على الترك، واضطرهم الفرنسيون إلى الالتجاء لسفنهم وسفن الإنجليز المرافقة لها بعد مذبحة شنيعة. وكان محمد علي قد أشرف على الغرق لولا أن قيض الله له «السير سدني سمث» فانتشله من الماء بيده وأنزله في سفينته.

وبعد ذلك رجع محمد علي إلى بلدته، ثم عاد سنة (1215ه/1801م) مع جيش «القبطان حسين باشا» الذي جاء ليساعد القائد الإنجليزي «أبركرومبي» على إجلاء الفرنسيين. ومن هذا الوقت بقي في مصر حتى صار واليا عليها.

صفحه نامشخص