فأول ما شاع خبر سقوط استياج (كيكاوس) تحالف مع أمم الشرق القديمة، فإن ظهور هذه الدولة الجديدة كان يهددهن كلهن فتحالف مع أماسيس ملك مصر ونابوناهيد ملك كلديا، بل ومع اللقدمونيين، وحينئذ آنس من نفسه قوة بمؤازرة هذه الشعوب له فبدأ بالقتال في ربيع سنة 546، واجتاز نهر هاليس (قزل يرمق) واستحوذ على قلعة بتريا (واسمها الآن بوغاز كوي) لأنها كانت تشرف على البقعة التي لا بد للفرس من اجتيازها لمقاتلته، ولم يتهيأ لكورش (كيكسرى) صد هذه الهجمات إلا في أواخر الصيف، فوقعت بينهما معركة بالقرب من نهر هاليس (قزل يرمق) ولم يتبين فيها الغالب من المغلوب، ولهجوم الشتاء رجع كريسوس إلى سرد (سرت) وصرف جنوده لمدة الشتاء حاسبا أن الفرس لا يهاجمونه قبل حلول الربيع.
ولكن الحوادث لم تحقق هذا الحسبان فإن الفرس والوا القتال في فصل الأمطار، وتقدموا في زحفهم حتى دخلوا إلى قلب ليديا، فباغتوا ملكها وهزموه في أول معركة؛ بحيث التجأ إلى التحصن في سرد (سرت) وبعث يستغيث بحلفائه ويستنجدهم عند الشدة.
وكانت المدينة مشهورة بأنها منيعة لا ترام، فصدت هجمات الفرس مرات عديدة، ولكن اتفق ذات يوم أن أحد عساكر الحامية سقطت خوذته من أعلى القلعة إلى خارجها فنزل وأخذها، ثم عاد من الطريق الذي نزل منه، فأبصره أحد المحاصرين وسار على أثره حتى دخل القلعة مع نفر من رفقائه. وقد كانت المدينة قاومت مدة أربعة عشر يوما (سنة 645) وجاء في الرواية أن كريسوس حكم عليه بالموت في وسط النار ولكن هذه النار كانت بردا وسلاما عليه؛ إذ نجاه من هذا العذاب الإله أبولون الدلفي، فلذلك صار الرجل صديق الملك الذي فاز عليه ومستشاره الأمين. وقد وكل كورش قواده بإتمام فتح القطر فأخضع أريج بلاد ليكيا (صوف زاوية) والمدائن اليونانية التي كانت فازت في مقاومتها العائلة مرمناس، وخرج أهل فوكية من ديارهم، وبعد أن لاقوا في طريقهم جملة حوادث ووقائع ذهبوا إلى بلاد الغاليا وأسسوا فيها مدينة مرسيليا. أما سكان مدينة اكسانثوس فقد استماتوا في الدفاع عن وطنهم حتى هلكوا عن آخرهم ولم يرضوا بتسليم مدينتهم، بخلاف بقية البلاد فقد رضيت بما قدره الله عليها وقبلت سيادة الفرس . (3) فتوح آسيا العليا وبلاد كلديا وموت كورش وهو كيكسرى (529)
وبينما كان أريج يتمم إخضاع آسيا الصغرى كان كورش (كيكسرى) يوالي المحاربات، ويشن الغارات في الأقاصي الشرقية من الهضبة الإيرانية فألحق بمملكته بلاد بلخ
3
والمرج (بقطرياته ومرجياته) وبنى في بلاد الصغد جملة معاقل وحصون أهمها كوروبوليس أو كوريشاته (أي مدينة كورش) وهي مدينة حصينة تشرف على نهر سيحون، ولم يوقفه عن سيره إلى الشمال إلا مفاوز سيبيريا وفدافدها. وكانت الشاش آخر أمة أخضعها في نواحي المشرق. ولما غادرهم مر على بلاد آرية (سجستان والقسم الشرقي من خراسان) وأركوسيا (سستان) وعلى البلاد الواقعة فيما بين نهر كابل والسند، ولكن الظاهر أن صحارى جدروسيا (مكران) كانت أمام جنوده مانعا منعهم عن التقدم والفتوح فاستغرق كورش في هذه المحاربات نحو خمس أو ست سنين (من سنة 545 إلى سنة 529) وترتب عليها اتساع مملكته ضعف ما كانت عليه، وبمجرد عودته نازل كلديا ففاز بسهولة على ملكها نابوناهيد، واستولى على بابل في سنة 538 فخضعت له الأقاليم التابعة لها من غير حرب ولا قتال. وبذلك صارت تخوم الدولة الفارسية مجاورة لحدود المملكة المصرية.
وكان أماسيس ملك مصر هو الذي يظن فيه الكفاءة دون سائر ملوك العالم القديم لمناظرة الفارسيين في السطوة والشوكة، فتوقف كورش (كيكسرى) برهة عن مقاتلته ثم انثنى نحو الشرق واختفى بكيفية عجيبة غريبة (سنة 529) وقد جاء في أشهر الروايات المتداولة أنه طلب أن يتزوج بالملكة طوميرس ملكة المساجيت ولكنها استخفت به واحتقرته؛ فأشهر عليها الحرب العوان وغلبها وأخذ منها ولدها، فقتل الولد نفسه لاستيلاء اليأس والقنوط عليه، ثم إن الدائرة دارت على كورش فانهزم أمامها بعد قليل من الزمان ومات في ميدان القتال، فبحثت طوميروس على جثته ووضعت هامته في زق قد ملأته من دم الناس، ثم أكثرت من سبابه ولعنه وقالت «إني وإن بقيت ممتعة بالحياة وبالنصر ولكنك أعدمتني في الحقيقة؛ إذ خطفت مني ولدي بالحيلة والخديعة، فلأجرعنك الدم تجريعا.»
4
ثم توصل الفرس لأخذ جثة ملكهم ونقلوها إلى بازاركد ودفنوه في بساتين قصره باحتفال عظيم وإكرام بالغ. (4) كمبيز (سنة 529 إلى سنة 522) وفتوح مصر (سنة 529)
وخلف كورش على مملكته كمبيز (ويسمى في كتب العرب قمباسوس، وفي كتب الفرس لهراسب) وهو أكبر أولاده، أما ابنه الثاني بردية (سمرديس) فقد أوصي له بالحكم على جملة ولايات، وكان قصده بذلك أن يمنع الخصومات التي تحصل في بلاد المشرق عادة عقيب انتقال الملك من يد إلى أخرى، ولكن أماني كورش (كيكسرى) ذهبت أدراج الرياح، فإن كمبيز (لهراسب) بمجرد ارتقائه على سرير الملك ذبح أخاه بغاية التستر وكمال التبصر، حتى إن العامة لم تشعر بذلك، وظنت الأمة وأهل البطانة الملوكية أن بردية مسجون في أحد القصور القاصية ببلاد ماداي، وكانوا ينتظرون عودته بعد قليل من الزمان.
صفحه نامشخص