مقدمة المترجم
الكتاب الأول: تاريخ مصر
1 - وصف مصر القديمة والكلام على النيل
2 - في أصل المصريين وتكوين بلادهم
3 - الكلام على منف والدولة القديمة
4 - طيبة والرمسيسيين
5 - تغلب الأجانب على مصر
6 - في الديانة المصرية
7 - الآثار والصناعة
8 - استكشافات شامبوليون والكلام على علماء الآثار المصرية من الفرنساويين
الكتاب الثاني: في تاريخ الكلدانيين والآشوريين
9 - وصف بقعة دجلة والفرات
10 - أصل الكلدانيين والكلام على أيامهم الأولى
11 - الكلام على نينوي وذكر سرجون وخلافائه
12 - ذكر نابوكودونوزور وخراب بابل
13 - الديانة الكلدانية
14 - الآثار والفنون الصناعية
15 - الاستكشافات العصرية
الكتاب الثالث: في تاريخ الفينيقيين
16 - وصف فينيقية وذكر صيدون وصور وتأسيس قرطاجة
17 - الديانة - حروف الهجاية - التجارة - الصناعة
18 - المستعمرات الفينيقية
الكتاب الرابع: في تاريخ الماديين والفرس
19 - وصف إيران - آسيا الصغرى - مملكة الماديين
20 - الفرس - كورش - كمبيز - فتح الفرس للقسم الأعظم من بلاد المشرق المعروفة قديما
21 - دارا - تنظيم مملكة الفرس
22 - الديانة - الأخلاق - العادات - الآثار
مقدمة المترجم
الكتاب الأول: تاريخ مصر
1 - وصف مصر القديمة والكلام على النيل
2 - في أصل المصريين وتكوين بلادهم
3 - الكلام على منف والدولة القديمة
4 - طيبة والرمسيسيين
5 - تغلب الأجانب على مصر
6 - في الديانة المصرية
7 - الآثار والصناعة
8 - استكشافات شامبوليون والكلام على علماء الآثار المصرية من الفرنساويين
الكتاب الثاني: في تاريخ الكلدانيين والآشوريين
9 - وصف بقعة دجلة والفرات
10 - أصل الكلدانيين والكلام على أيامهم الأولى
11 - الكلام على نينوي وذكر سرجون وخلافائه
12 - ذكر نابوكودونوزور وخراب بابل
13 - الديانة الكلدانية
14 - الآثار والفنون الصناعية
15 - الاستكشافات العصرية
الكتاب الثالث: في تاريخ الفينيقيين
16 - وصف فينيقية وذكر صيدون وصور وتأسيس قرطاجة
17 - الديانة - حروف الهجاية - التجارة - الصناعة
18 - المستعمرات الفينيقية
الكتاب الرابع: في تاريخ الماديين والفرس
19 - وصف إيران - آسيا الصغرى - مملكة الماديين
20 - الفرس - كورش - كمبيز - فتح الفرس للقسم الأعظم من بلاد المشرق المعروفة قديما
21 - دارا - تنظيم مملكة الفرس
22 - الديانة - الأخلاق - العادات - الآثار
تاريخ المشرق
تاريخ المشرق
تأليف
غاستون ماسبيرو
ترجمة
أحمد زكي
مقدمة المترجم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقدم، مبيد الأمم ومعيده من العدم والصلاة والسلام على نبيه الذي بعثه بلسان الصدق لهداية الخلق إلى صراط الحق، وعلى آله وأصحابه الذين خلدوا من المآثر والآثار ما يتجدد لنا به الافتخار، على تعاقب الليل والنهار.
وبعد؛ فهذا كتاب في تاريخ الأمم القديمة ببلاد المشرق مهبط أسرار الحكمة، ومشرق أنوار العرفان. وضعه باللغة الفرنساوية العلامة الثقة الحجة الموسيو ماسبيرو، الذي يرجع إلى معارفه في بيان ظلمات التاريخ القديم، ويعتمد على أقواله في شرح أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية وخصوصا أجدادنا المصريين؛ لوثيق معرفته بكتاباتهم وكناياتهم، وتمام درايته فيما يتعلق بحياتهم؛ حتى أصبح ببلاد أوروبا، وهو عمدة أهل التحقيق والتدقيق وأستاذ المستنبطين والمستكشفين، وقد ضمنه الرجل كثيرا من آثار بحثه وتنقيبه، واجتهد في تقريبه للأذهان بعبارة امتزجت فيها الفائدة بالطلاوة، وشخصت للقارئ معيشة أولئك الأقوام، كما هي بالتمام في تلك الأيام. لذلك ما لبث هذا الكتاب أن ظهر بفرنسا حتى أهرعت الأمم المتمدنة إلى ترجمته للغات أوروبا كلها بعد أن تعدد طبعه في فرنسا جملة مرار.
ولما اطلع عليه سعادة يعقوب باشا أرتين وكيل نظارة المعارف العمومية، ورآه منطبقا على برنامج التدريس بالمدارس الأميرية أراد أن لا تكون مصر محرومة من ثمراته، فإن أهلها أولى الأمم بمعرفة أحوال أسلافهم، فقد بنى لإتحاف أهل مصر بل أهل اللغة العربية بهذا الكنز الثمين؛ فشمرت عن ساعد الجد في تعريبه، طبق الأصل بالتمام، مع العناية بضبط ما فيه من الأعلام واختيار الألفاظ الموفية بالمرام.
وقد رأيت من باب الواجب تعليق بعض الشروح في متن الكتاب أو في حواشيه، بحسب المقام، وكلها فيما يختص بالتاريخ والجغرافية والترجمة ونحو ذلك من أبواب العرفان. وأظن أن المطلع عليها سيعرف لي تعبي؛ إذ يرى في هذه الحواشي كثيرا من الفوائد المتشتتة في كتب العرب، مما اعتاد الناقلون عن ألسنة الأعاجم في هذا الزمان على إهماله، أو عدم التنقيب عنه من باب التكاسل أو التجاهل.
وقد حليت ترجمتي هذه بالصور التي ازدان بها الأصل الفرنساوي، كما أني بذلت في تعريب الخرط وضبط أسماء المواقع الجغرافية عناية وتعبا لا يشعر بشيء منهما إلا من كابد مثل هذا العمل الشاق، الذي يوجب ضياع الأيام بحثا في المطولات المتنوعة والمعاجم المتعددة؛ للوقوف على حقيقة اسم واحد، خصوصا وأن هذه الخرط أغلبها يختص ببلاد الشرق. وقد نقل الإفرنج أسماءها محرفة مشوهة أو تعارفوها مختلة معتلة، فكان إرجاعها إلى أصلها موجبا لتعب كثير قد لا يخلو الخائض عبابه من الزلل والتقصير، ولكني أقدر أجاهر بأنه لم يظهر في اللغة العربية إلى يومنا هذا خرائط أكمل من التي ترجمتها ضبطا وإتقانا، أو أوفى منها إحكاما وبيانا.
ولي حينئذ أمل وطيد في أن يكون لترجمتي هذه نصيب وافر في استفادة الدارس، وتذكير الباحث؛ حتى تكون حسنة من حسنات مولانا وولي نعمتنا الخديو الأعظم «عباس حلمي الثاني» الذي رفع رايات المعارف، وسعى بهذه الأمة في طريق الجد والمجد والكمال أدامه الله بدرا في سماء مصر وفخرا لهذا العصر آمين.
سكرتير ثاني مجلس النظار
الكتاب الأول
تاريخ مصر
الباب الأول
وصف مصر القديمة والكلام على النيل (1) النيل
يخرج النيل من عيون وراء خط الاستواء في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ثم يذهب مستمدا بالمياه الجارية من البحيرات الكبيرة بأفريقية الوسطى، ويأخذ نحو الشمال مارا بسهول فسيحة وفدافد واسعة تتخللها غابات ومستنقعات، ويمده بحر الغزال من جهة اليسار بما يزيد من مياه الحوض الذي يمتد بغير انتظام بين دارفور والكونجو.
ومن جهة اليمين يجيئه نهر سوبات والنيل الأزرق ونهر تقزى بالمياه التي تنحدر من جبال الحبشة، ثم لا يلبث أن يمر بالهضبة الكلسية (الجيرية) التي في الصحراء، ويمر في أخدود متعرج بتلك الهضبة، ثم يأخذ مجراه بتثن وانعطاف، فيقاطعه خمسة من الجنادل، ثم يسير الهوينا غير مستمد بعد بشيء من المياه، إلى أن ينصب في البحر الأبيض المتوسط. ومصر هي القسم الشمالي من هذا الوادي فيما بين شلال أسوان والبحر المالح، وما زالت معتبرة كذلك في كل عصر. (2) النيل في مصر
قالوا إن مصر هبة من هبات النيل
1
وهي من ابتداء أسوان إلى ما يجاور مدينة طيبة (ثيبة)، محصورة حصرا ضيقا بين جبلين قد يتقاربان تقربا كليا في بعض المواضع، كما هو عند جبل السلسلة، حتى لا يكون لواديها أثر سوى مجرى النهر، يحف به من الجانبين صخور شامخة من الجلمود، وعرضها فيما بين طيبة والقاهرة خمسة عشر كيلومترا بعد التعديل المتوسط، وينقسم النيل فيها إلى فرعين يذهب كل منهما بحذاء سلسلة من السلسلتين الجبليتين الحافتين بهذا الوادي، فالفرع الغربي أشبه شيء بترعة غير منتظمة، تنتابه أسماء مختلفة في مجراه من ضواحي دندرة إلى البحر المالح، وكثير من أجزائه تجف مياهه مدة شهور كثيرة من السنة، ولا يشبه في سيره النهيرات حقيقة إلا فيما بين أسيوط والفيوم (وهو المعروف ببحر يوسف) ومع ذلك فلا يتيسر للسفائن أن تسير فيه إلا أيام الفيضان وتوارد المياه
2
أما النيل الشرقي وهو النيل الحقيقي فالأحرى به أن لا يدعى نهرا؛ بل بحيرة ذات تعاريج مشحونة بالجزائر الصغيرة، وهو يجري بقوة وانتظام فيما بين سواحل سوداء مقطوعة قطعا عموديا في أراض خصبة؛ مكونة من طمي النيل. والناظر إلى البر لا يقع نظره إلا على غابات صغيرة من النخيل أو أيكات من شجر الأقاقيا
3
والجميز ومزارع القمح والشعير، أو غيطان من الفول والبرسيم، أو كثبان من الرمال يستثيرها أقل ريح، أو منازل مجتمعة متجاورة أو قرية علاها الغبار، أو أخرى صغيرة ألبسها ظليل النخيل رواء وبهاء.
وفيما وراء القاهرة يأخذ الجبلان في الابتعاد عن بعضهما، فتذهب جبال لوبيا إلى أن تنقطع عند البحر المتوسط غربي الإسكندرية، وتذهب سلسلة جبال العرب نحو الشرق إلى أن تكون على مقربة من البحر الأحمر، وهناك منقطعها، وكانت المسافة الفاصلة بين هذين الجبلين فيما سلف من الزمان خليجا من البحر المالح يصب النيل فيه قريبا من المكان القائمة عليه الأهرام، في هذه الأيام، وهي الآن سهل فسيح، مثلث الشكل، تكون من الطمي وتقوت به تربته، وانفسح وفي شماله كثبان متقاطرة وبطائح متوالية، وكانت ترويه في الأحقاب الخالية ثلاثة فروع كبيرة وهي الفرع البيليوزي
4
في الشرق والفرع السبنيطي
5
في الوسط والفرع الكانوبي
6
في الغرب، وقد زال الفرع الأول منذ أجيال طوال وكانت هذه الفروع الثلاثة مرتبطة ببعضها بجملة من الترع الطبيعية أو الصناعية بعضها يصب في البحر مباشرة فتزيد عدد الأشاتيم أي فروع النيل؛ فتجعلها سبعة أو أربعة عشر أشتوما بحسب اختلاف الأوقات. (3) فيضان النيل
تهطل الأمطار الغزيرة في شهر فبراير من كل عام في البقعة التي فيها البحيرات الكبيرة، فيكون من ذلك ازدياد النيل وفيضانه ويمتد هذا الفيضان بسرعة من الجنوب إلى الشمال وينتشر في الوادي كله في بضعة شهور، وتصل مياه الفيضان إلى مدينة الخرطوم في أواخر شهر أبريل، ويظهر أثرها بما يرد إليها من مياه النيل الأزرق، ثم تسير الهوينا فيما بين أراضي النوبة حتى تصل مصر في أواخر شهر يونيو ويظهر أثرها في أسوان يوم ثمانية منه، وفي القاهرة يوم سبعة عشر منه، وبعد ذلك بيومين تعم أراضي الدلتا بأكملها.
وقبل ذلك بخمسين يوما تهب على مصر ريح الخماسين، وتتوالى عليها من جهة الغرب من غير انقطاع، فتلفحها بنارها وسمومها؛ حتى إن كثيرا من جهات القطر تكون كأنها قطعة من البادية متصلة بهذه الديار، ومتى طلعت عليها الشمس علاها الغبار وثار فوقها وهي جرداء قحلاء. فأينما رمى الإنسان بطرفه رأى الأرض على مدى البصر مشققة تشقيقا متقاطعا، ثم ترتفع في الجو طبقة من الغبار الأزرق فتحيط بالأشجار وتعدمها البهجة والحياة. وأما النيل فيقل اتساعه إلى نصف عرضه المعتاد، وتهبط مياهه حتى تكون نصف عشر ما كانت عليه في شهر أكتوبر، ثم لا يلبث أن يعود زاخرا حتى يركب الجسور. وفي نحو منتصف شهر يوليو يخشى من تجاوزه لها وطغيانه عليها؛ فتقطع السدود المانعة له فتنساب مياهه إلى أرض المزارع، وتعمها في بضعة أيام حتى تضرب من الجبل الشرقي إلى الجبل الغربي؛ فيصبح الوادي وهو لجة من الماء العكر يجري بين امتدادين من الرمال والصخور، تطفو عليها القرى والروابي وتلوح للرائي كأنها قمم خضراء ونقط سوداء، وتخترق اللجة جسور تجمع بين القرى فتقسمها إلى مربعات غير منتظمة. ويكون منتهى الزيادة في بلاد النوبة في آخر شهر أغسطس، وفي القاهرة والدلتا بعد ذلك بشهر واحد. ثم يقف الفيضان فلا يزيد النهر ولا ينقص نحو ثمانية أيام متواليات، وبعد ذلك تأخذ المياه في التناقص والهبوط بسرعة حتى إذا ما حل شهر ديسمبر عاد النيل إلى مجراه فلا يتعداه. (4) نباتات مصر وحيواناتها
لا جرم أن القطر الذي تهاجمه المياه في كل عام لا يكون فيه كثير من الأشجار، على أن الجميز وأصناف الأقاقيا والسلم والأثل تنبت بها وتعيش فيها، ومن أشجار بساتينها التين والمشمش واللبخ
7
والسنط الحساس (المستحية) والكرم. وأما نخل الدوم فينبت في الصعيد من غير فلاحة تقريبا وأرضها، موافقة كل الموافقة لإنبات النخيل، فحيثما وجه الإنسان ناظره أبصر أشجاره، صنوانا وغير صنوان، في أفواه المجاري وحوالي القرى، وعلى امتداد السواحل مصفوفا إلى جانب بعضه بنظام يحاكي نظام العمدان، ومغروسا باتساق واعتدال بحيث تتكون منه غابات غير كثيفة، وكلها في غاية البهجة والجمال. وقد يزرعون حول النخيل أشجارا أخرى فيختلف بها المنظر اختلافا يشرح الصدر وترتاح له النفس. وأما النباتات المائية فهي كثيرة في الدلتا تنمو في بحيرات الساحل نموا عجيبا، وتشتبك أغصانها؛ حتى إنها كانت في كثير من الأوقات ملجأ للمغضوب عليهم المهدور دمهم، والأمراء المنهزمين يأمنون فيه من كيد العدو ومباغتة الغريم.
وقد اشتهر من هذه النباتات نوعان هما؛ البردي والبشنين بما كان لهما من الشأن والأهمية في تاريخ مصر المقدس والملوكي. فكان البردي علامة رمزية على الدلتا واتخذوه ورقا للكتابة في قديم الزمان، وأما البشنين فجعلوه عنوانا لإقليم طيبة (الصعيد). وكان القدماء يطلقون اسم البشنين على ثلاثة أنواع من النبات ما بين زرقاء وبيضاء وحمراء، من غير تفرقة في الإطلاق، وقد كاد البردي يكون معدوما، وأما البشنين فهو نادر الوجود. وكان سكان وادي النيل يتناولون كلا من النباتين غذاء مسلوقا أو مشويا أو مطحونا ومتخذا خبزا، وكان هذا الغذاء خاصا بالفقراء والمساكين، وكان القوم يؤثرون عليه ما تخرجه الأرض من غير كبير عناء ولا شديد عمل؛ كالترمس والفول والحمص والبامية والعدس والقمح خصوصا، وغير ذلك من أنواع الحبوب؛ مثل الشعير والأذرة والأذرة العويجة. وكثير من الحيوانات المستخدمة المعروفة عندنا الآن كانت مجهولة في مصر الأولى؛ فإن الفرس لم يدخلها إلا في حدود القرن العاشر قبل الميلاد، والجمل في أيام البطالسة، أما الثور والضأن والعنز والخنزير فقد وجدت صورها ورسومها على أقدم الآثار، وكذلك كثير من أنواع الكلاب الأهلية المستخدمة، والغزلان المستأنسة، وأما الأوز والبط فكان كثيرا فيها، ولكن الدجاج لم يظهر له أثر بها وبقي نادرا مدة طويلة من الزمان. وفيها شيء كثير من الأسماك منها ماهو كبير جدا، وأغلبها صالح للأكل. وأما الحيوانات المضرة المؤذية فهي قليلة، وكانت الآساد وبعض وحوش من فصيلة السنور؛ كالفهد والغيلس والببر، وكثير من أصناف الضباع، وبنات آوى، والذئاب، تختلف إلى أطراف الصحراء. وكثير من العقارب والثعابين السامة مثل الحية القرناء، والثعبان الناشر تدب في المزارع والمساكن. أما فرس البحر فقد غادر بطائح الدلتا في أواخر القرن السادس عشر بعد الميلاد، وقد بقي التمساح في مكانه إلى أيامنا هذه حتى جاءت البواخر فطردته إلى ما وراء الشلال الأول. (5) الإله النيل وعبادته
النيل هو مدار النظام في أرض مصر، وكل ما فيها من نبات تخرجه أرضها وحيوان يدب عليها وطيور تعلو في جوها، وقد أدرك المصريون هذه المزايا كما ينبغي، وعلموا أنه أس الحياة في بلادهم، فألهوه وسموه «حابي ومعناه النيل السعيد». وكانوا يترنمون على الدوام بمديحه وذكر نعمه وفضائله (شكل
1-1 ) فكانوا يقولون:
شكل 1-1:
الإله النيل (نقلا عن التمثال المحفوظ في المتحف البريطاني).
النيل هو موجد القمح، ومخرج الشعير
من الأرض، وسبب الابتهاج والسرور في
المعابد والهياكل، فإذا تفرغت أصابعه عن
العمل، أو ألم به ألم نزلت البلواء والبأساء
بالأقوام؛ لأن الآلهة في السماء متى حل
بها الصغار والهوان هلك الإنسان، ونفق
الحيوان، وصب العذاب على الأرض كلها
بمن فيها من كبير وصغير، ولكن متى أقبل
النيل تغيرت جميع هذه الأحوال أمام
الإنسان؛ فإنه بمجرد ما يبدو للعيان بعد أن يخلقه خنوم إله الشلال
ترى الأرض وقد أخذت زخرفها وازينت، وجميع البطون، وقد
فرحت واستبشرت، وجميع القدود وقد استولى عليها الطرب
والسرور، فاهتزت وترنحت، وجميع الثنايا وقد ابتسمت لما قضمت
فترى الترح قد زال، وحل محله الفرح في كل حال، فدم أيها النيل
في عز ويمن وإقبال، وأحيي الأقوام بالأنعام، والأنعام بالحدائق
والرياض، ألا فدم يا نيل في عز ويمن وإقبال، هيا بنا.
خلاصة ما تقدم (1)
يخرج النيل من البقعة التي بها البحيرات الإفريقية الكبرى، ويستمد في سيره بمياه الحبشة الواردة إليه بواسطة النيل الأزرق، ونهر تفزي ثم يجري بها في خلال النوبة ومصر الحقيقية حتى يصب في البحر الأبيض المتوسط. (2)
ومصر هبة من هبات النيل وتمتد من شلال أسوان إلى البحر المالح، وليست في بدئها إلا واديا ضيقا جدا، يبلغ متوسط عرضه 15 كيلومترا. وفيما وراء القاهرة يكون هذا الوادي مثل سهل فسيح أو دلتا يتفرع فيها النيل فروعا كثيرة وترعا ثانوية، قبل أن ينصب في البحر من الفروع الثلاثة الأصلية التي لم يبق منها سوى اثنين في هذا الزمان؛ وهما فرع رشيد وفرع دمياط. (3)
يفيض النيل في كل عام وتصل الزيادة إلى أرض مصر في أوائل شهر يونيو، ثم تغمر الوادي بأكمله إلى أن يحل شهر أكتوبر، وفي أوائل ديسمبر تكون قد بلغت نهاية الكمال. (4)
إن تعاقب الفيضان في أوقات معينة يجعل الحيوانات والأشجار غير متوفرة في مصر بكثرة، تشبه ما هو حاصل في بلاد أوروبا وغيرها. وليس في هذا الوادي إلا قليل من الأشجار الكبيرة؛ مثل أصناف الأقاقيا والجميز وغابات من النخيل، وفيها كثير من النباتات المائية مثل البردي والبشنين. وأغلب الحيوانات الأهلية كانت معروفة فيها من قديم الزمان، ولكن الفرس لم يدخلها إلا في حدود القرن المتمم للعشرين، قبل التاريخ المسيحي. وقد تلاشى منها كثير من الحيوانات الكاسرة والوحوش الضارية؛ مثل الأسد وفرس البحر، ولم يبق من التمساح إلا عدد قليل. (5)
وكان المصريون يعتبرون النيل إلها من آلهتهم، ويحتفلون له بمواسم عظيمة؛ تمجيدا لشأنه وتعظيما لقدره.
هو قول هيرودوت المؤرخ اليوناني المشهور.
تقسيم النيل بهذه الكيفية هو بحسب تفرعه في الأزمان القديمة لا في عهدنا هذا. فتنبه !
هذا هو اللفظ الوارد في الكتب العربية القديمة ومترجم عن لفظة
Acacia
اليونانية، وهي تدل على الشجرة التي يستخرج منها الصمغ العربي مثل السنط وغيره، ثم توسع النباتيون في هذا الاسم فصار يطلق على أجناس نباتات كثيرة من فصائل مختلفة بحيث بلغ عدد أجناس الأقاقيا 420 أكثرها لا تعرف طريقة استعماله.
نسبة إلى بيلوز التي هي الطينة بقرب الفرما.
نسبة لمدينة قديمة سبتيطة، كائنة بالقرب من تفرعه الآن.
نسبة لمدينة كانوب القديمة وهي مدينة صقع كان بها دير التوبة، ومعبد تحتمي فيه الأرقاء، وكان يحج إليه أغلب الناس ثم عرفت بسد أبي قير.
هو شجر كان يوجد بمصر قديما وله ثمر بقدر اللوزة يؤكل، ولكنه انقطع الآن من مصر بالمرة. واللبخ المعروف اليوم ليس منه في شيء.
الباب الثاني
في أصل المصريين وتكوين بلادهم (1) روايات المصريين عن مبادئ العالم
في الأزل كان «نو» أي البحر المحيط الأول، وكانت أصول الأشياء وعناصر الموجودات تسبح في أقصى أعماقه مختلطا بعضها ببعض، ثم خرج منه «رع» الذي هو الشمس، وخلق الكون بادئ بدء من غير سماء، فأوجد الأرض وحدها بنباتها وحيوانها وأهلها، ثم حكمها قرونا طويلة وأجيالا عديدة إلى أن تآمر عليه الناس في أيام شيخوخته، فذبح فريقا منهم، وخلق السماء على دعائمها، ثم استقر فيها وهو الذي يتراءى في كل صباح في المشرق؛ ليضيء اليوم الجديد.
فلما كمل العالم بخلق السماء تولى الملك بعده أربعة من أكابر الآلهة، وكان القوم ينسبون إلى الثالث منهم وهو أوسيرس وزوجته إيسس إيجاد جميع الاختراعات، التي جعلت الإنسان قادرا على احتمال الحياة، فإنه نظم حقوق الملكية ورتب العائلة ووضع الشرائع وعلم النسيج وحراثة القمح والكرم وتربية الماشية، وقد قتله أخوه تيفون وتولى مكانه، ولكن لم تمض عليه سنون قليلة حتى هاجمه ابن أخيه حوروس واضطره لأن يتنازل له عن أرض الدلتا، وأن يبقي لنفسه الوادي الكائن فيما بين ضواحي منف ومدينة أسوان، ومن ذلك الوقت لم يبق العالم دولة واحدة. ولما انقسمت مصر إلى مملكتين بارحها أولياء تيفون وأشياعه وانتشروا في البلاد المحيطة بها؛ فزنوج كوش في الجنوب، وأهالي آسيا في الشمال، واللوبيون في الغرب، والأعراب من البدو في الشرق.
ثم حكم على مصر بعد حوروس عائلتان إلهيتان من طبقة ثانية، وبعد ذلك صعد الآلهة إلى السماء، وقام الناس مقامهم في ولاية الأحكام فجاء مينيس من مدينة ثيتيس، وأسس أول دولة بشرية. (2) مصر الأولى والكلام على مينيس
تلك هي الروايات التي تناقلتها ألسنة الأهالي، ولا يبعد أن يكون المصريون جاءوا من آسيا عن طريق برزخ السويس، والظاهر أن الأماكن التي استوطنوها أولا كانت في الدلتا، فإن رواياتهم ونقولهم تدور مواضيعها كلها على مدائن الدلتا فيما يتعلق بآلهتهم الذين يبالغون في إعظامهم وإجلالهم؛ أي مبالغة مثل «رع» و«أوسيرس» و«إيسس» و«نيث» كما أن قواعد العقائد قد وضعت في مدينة هليوبوليس
1
التي يزعم مؤرخوهم أنها كانت مقرا للدول الإلهية. وكانت الدلتا في ذاك العهد عبارة عن بطيحة فسيحة، تتخللها جزائر رملية وتغشاها آجام وغياض تجري خلالها فروع النيل متنقلة على الدوام من مكان إلى مكان، ولم يكن الوادي إلى حدود الشلال الأول مرتبا ترتيبا طبيعيا أحسن من الدلتا فإن الصحراء كانت تنهال رمالها؛ حيث لا يجيء الفيضان من نفسه؛ فيغمر الأرض ويحييها. وأينما وصلت مياه الفيضان فلكونها لم تكن مدبرة على يد الإنسان كانت تسيل بسرعة شديدة لا يتأتى معها إخصاب الأرض، أو ترسب عليها مدة طويلة؛ حتى إنها بعد جريانها فيها تتركها ذات وحل متراكم تنبعث منه الأوبئة وأنواع الطاعون.
وقد تغلب المصريون على طبيعة الأرض بالصبر والمواظبة؛ فاتخذوا للنيل جسورا تحفظ مياهه، وجففوا الأرض، وشقوا فيها الترع والخلجان؛ وهي التي ما زال حفظ ثروة البلاد متوقفا عليها إلى يومنا هذا، وأسسوا في هذا العهد القديم معظم مدائنهم مثل؛ تنيس وبوباسطة، وبوتو، وكوئيس، ومنديس، وبسايس، وهليوبوليس، وهيراكليوبوليس، وسيوط، وخميس، وثينيس، ودندرة، وطيوة، وهرمنتيس، وكانت كل مدينة منها عاصمة لولاية مخصوصة كانوا يميزونها عن الأخرى بحسب الرمز الخاص بالإله المعبود فيها فيقولون: ولاية الطرفاء، أو الجميزة، أو البقرة ، أو الخاطوف (وهو الكلاب) أو ابن آوي أو القنومة
2
وقد تجزأت هذه الولايات جملة مرات؛ حتى آل بها الأمر إلى أن صارت في الحقيقة كورا إدارية، ليس إلا، وكان عدد هذه الكور في العادة أربعة وأربعين، نصفها في الدلتا والنصف الآخر في الوادي، وكان القائم على رأس هذه الولايات زعماء يتولون الحكومة فيها بالوراثة، وقد حازوا في أيديهم جميع فروع السلطة من ملكية وعسكرية ودينية، ثم اتحد بعضها ببعض على توالي الأيام، وصارت كلها عبارة عن مملكتين متمايزتين؛ إحداهما مملكة الوجه البحري في الدلتا، والأخرى مملكة الوجه القبلي في الوادي؛ أي في حدود الفيوم إلى جبل السلسلة ثم إلى الشلال الأول.
وفي رواية لا تخلو غالبا من الصحة التاريخية أن منا أومينيس أحد عرفاء ولاية ثينيس، هو الذي حاز الشرف وأحرز الفخار بضمه المملكتين إلى بعضهما، وبتشييد دعائم الدولة المصرية عليهما، وكان ذلك في حدود سنة 5000 قبل المسيح. (3) الفرعون والكلام على العائلات: بحسب ترتيب مانيثون
كان الملك عند قدماء المصريين بمثابة ملكين اثنين في شخص واحد؛ لأنه كان سيد الوجه البحري وسيد الوجه القبلي. وأحب ألقابه لدى رعيته هو لفظة «فرعون» وهذا الاسم مشتق من اسم داريه الكبيرتين «بير-عوى» اللتين يتألف منهما قصره، وكل منهما رمز إلى إحدى مملكتيه. وكان من سلالة الآلهة مباشرة، ويدعو نفسه بابن الشمس؛ ولذلك كان له سلطة أحد الآلهة التي ليس لها حد تقف عنده، وكان القوم يقومون له في ظروف كثيرة بالتعظيم والإجلال على وجه هو أشبه بالعبادة منه بالتأدب المعتاد مع الملوك؛ فكانوا يبخرونه بالبخور ويهللون أمامه ويدعونه بدعوات دينية ويسجدون له ويقربون القربان إلى صوره وتماثيله ويتقربون إليها بالصلوات، فإذا مات قالوا «إنه طار ليلحق بقرص الشمس الذي هو جده»، وحينئذ يخلفه على سرير الملك أكبر أولاده، ويكون عادة من الذكور، ولكن الإناث كان لهن أيضا من حقوق الملك ما للذكور من غير فرق؛ فإذا انقرضت الذكور أو وقعت فتنة فقلبت دولتهم وأنزلتهم عن سرير الملك كان الفرعون الجديد يتزوج بمجرد ولايته بواحدة فأكثر من هذه الأميرات لتأتي بأولاد يكون بهم استمرار جنس الشمس في الوجود؛ ولذلك يؤكد المصريون بأن الذين حكموهم من مبدأ الأمر إنما هم أبناء عائلة واحدة توالت فروعها على عرش المملكة، فتكونت منها عائلات متوالية بمقدار عددهم، على أن المؤرخين منهم لم يتفقوا على عدد هذه العائلات ومدة حكمها وذلك لأن أحد هؤلاء المؤرخين وهو مانيثون
3
من سبنيطوس الذي كان في عصر بطليموس فيلادلف، وقد كتب لليونان تاريخ بلاده؛ قال إن عدد هذه العائلات واحد وثلاثون من عهد مينيس إلى أن افتتحها الإسكندر، وقد اختار الحديثون هذا التقسيم، ولو أنهم لم يقفوا على حقيقة أسبابه إلى الآن. وتمتاز كل عائلة عن الأخرى باسم البلد الذي خرجت منه، ولم تكن هذه العائلات سواء في الشوكة والاقتدار، ولكن المصريين كانوا يعتبرونهن كلهن متناسلات من الشمس تناسلا شرعيا صحيحا. وهذه العائلات تنقسم بالطبع إلى ثلاث طوائف تختلف مدة حكم كل منها عن الأخرى: (1)
فأقدمها وهي العائلة الأولى فالثانية إلى العاشرة قد حكمت في أيام كان مستقر الحياة السياسية والدينية فيها بالجزء من مصر الكائن في مدخل وادي النيل، وهذه هي الدولة القديمة أو العصر المنفي. (2)
وأما العشر عائلات التي جاءت بعدها فقد رفعت شأن الصعيد وأعلنت مكانته على الوجه البحري، فسمي عصرها بالعصر الطيبي، وقد أغارت الرعاة وهم العمالقة (العائلتان 15، 16) على أرض مصر في وسط ذلك العصر، فانقسمت الدولة إلى دولتين؛ وهما الدولة المتوسطة من العائلة العاشرة إلى العائلة الرابعة عشرة، والدولة الأخيرة من العائلة السابعة عشرة إلى العائلة المتممة للعشرين. (3)
ومن ابتداء العائلة الواحدة والعشرين كان لمدائن الدلتا الشأن والسيطرة على بلاد الصعيد، وكانت هي مقر الحكومة وفيها تصاريف السياسة في مصر، إلى أن أتاها المقدونيون وهذا هو العصر الذي حكمت فيه العائلة الصاوية. (4) الثلاث عائلات المنفية الأولى
لا يكاد يكون لدينا تاريخ للعصر المنفي (فيما بين سنة 5000 وسنة 3500ق.م) وقد جاء في الروايات والنقول أن مينيس نظم مجرى النيل بجسور متينة مكينة فوق رأس الدلتا بقليل، وشيد على هذه الأرض المستحدثة مدينة منف أو منفيس واتخذها مقرا لحكومته، وعاصمة لمملكته، ولم يرد عن خلفائه إلا أحوال خصوصية وأشياء خوارق للعادات؛ مثل ظهور غرنوق له رأسان، والطاعون الجارف، وقحط توالى سبع سنين، وانفجار هوة عميقة على مقربة من مدينة بوباسطة ابتلعت كثيرا من الناس. ولذلك لا يمكن للإنسان إلى اليوم أن يحكم على معظم ملوك العائلتين «الأوليين الطيبيتين» هل كان لهم مسمى في عالم الوجود حقيقة أو أنهم من اختراع الوهم والخيال.
على أن الاسفنكس
4
الكبير المعروف بأبي الهول الكائن بجوار أهرام الجيزة، وهو من أغرب الآثار وأعجب الأعمال في العالم بأسره، قد كان تشييده في عهد أولئك الملوك إن لم نقل في أيام الذين سلفوهم، وهذا الاسفنكس الكبير هو رمز تمثيلي للإله «الشمس»، وبعبارة أقرب وأولى هو تمثال لوحش هائل مرعب له جسم أسد ورأس إنسان، يزعمون أنه كان موجودا في الصحراء وقد أرصدوه للإله الشمس، على سبيل الوقف والنذر، وهو منحوت من جلمود أتوا به من أقصى أطراف هضبة لوبيا، وأقاموه بحيث يظهر كأنه يرفع رأسه فوق الوادي كله ليكون أول من يمتع ناظره بالقرص المضيء والسراج المنير. وقد انهالت عليه الرمال وانتهك جسمه فلم يبق فيه من الأسد إلا هيئته العامة وشكله الإجمالي، ثم جاءه قوم متعصبون للديانة فحطموا أسفل عمارته
5
ولحيته وأنفه، هذا وإن الطبقة الحمراء التي كانت تخيل الحياة على تقاطيعه قد كادت تكون لا أثر لها، على أن مجموع هذا التمثال يتجلى مع ما أصابه من صروف الزمان ومحن الأيام في جلباب الرفعة، ويتراءى بمظهر القوة والسلطان. لا جرم أن الصانع الذي تصور في مخيلته تصوير هذا التمثال على هذا المنوال، وأفرغه في قالب الكمال وهو يصطنعه فيما بين الجبال؛ لجدير بالمدح والإجلال، فإن عمله هذا يدل على تقدم فائق وحذق غريب.
وقد نشأ التمدن المصري على يد الأجيال المجهولة لنا، التي تعاقبت تحت أقدام هذا التمثال الهائل، وسعت في إنماء حضارتها وترقيتها محصورة في بلادها لا تتخطاها. ولا بد أن آثار هؤلاء الأقوام موجودة باقية، ولا شك أن الأيام ستكشف لنا مخباها وتوقفنا على مكنوناتها.
وأما الآن فنقول إن حقيقة التاريخ لا تبتدئ أمامنا إلا من العائلة الثالثة؛ فإن الملك سنفرو آخر ملوكها هو أول فرعون وقفنا له على أثر صحيح ونبأ صادق، فقد عثرنا على نقوش بارزة على صخرة في أحد وديان الطور يذكر فيها فوزه وانتصاره على المتبربرين المستوطنين ببادية العرب (شكل
2-1 ).
شكل 2-1:
سنفرو منتصرا على أعدائه (كما في نقش بارز على أحد جبال الطور).
خلاصة ما تقدم (1)
كان المصريون يعتقدون أن آلهتهم حكمت الدنيا مباشرة في مبدأ الأمر وأن رع؛ أي الشمس، هو أول الملوك. وبعد أن توالت الأجيال الطوال على حكم الآلهة جاء مينيس من مدينة ثينيس وأسس العائلات الدولية البشرية. (2)
والظاهر أن أصل المصريين من آسيا، وأن أقدم مواطنهم كانت بالدلتا، وقد حصروا النيل وأبعدوا حدود الصحراء، فظهرت بذلك أرض مصر وأحدثوا فيها ولايات صغيرة تجزأت وانتظمت فيما بعد وتعدلت، فتكون منها 44 قسما إداريا أو كورة، ثم اتحدت هذه الولايات فصارت مملكتين اثنتين؛ وهما الدلتا أي الوجه البحري والصعيد أي الوجه القبلي، وقد ضمهما مينيس إلى بعضهما، وأقام عليهما مملكة الفراعنة. (3)
وعلى هذا يصح القول بأن الفرعون هو ملك مزدوج، واسمه مشتق من لفظة بيرعوي المجعولة علما على قصريه وهو عندهم من سلالة الشمس مباشرة، وكان يلقب نفسه بابنها، وكان عبارة عن إله منتعش بالحياة على وجه الأرض.
وقسم المؤرخ مانيثون الفراعنة إلى إحدى وثلاثين عائلة، فالعائلات العشر الأول يسمى عصرها بالعصر المنفي أو الدولة القديمة والعشر عائلات الثانية (العائلة 11 إلى 20) عصرها هو المسمى بالطيبي، وقد شطرته إغارة العمالقة (الهكسوس) إلى قسمين هما؛ الدولة الوسطى، والدولة الأخيرة، وأما العائلات الباقية فهي داخلة في العصر الصاوي. (4)
لا يكاد يكون عندنا تاريخ للعصر المنفي (فيما بين سنتي 5000 و3500ق.م) ولا نعلم شيئا عن أمر العائلات الثلاث التي جاءت بعد مينيس إلا أسماء بعض الملوك وبعض الأقاصيص عن حوادث خارقة للعادة، وأول فرعون حصلنا على أثر صحيح له هو آخر ملوك العائلة الثالثة، وهو سنفرو، الذي قاتل بدو الأعراب في جزيرة الطور.
هي عين شمس المعروفة الآن بالمطرية بجوار مصر القاهرة وفيها مسلة قائمة إلى اليوم.
سمكة توجد بأعلى الصعيد وتعرف عند الفرنساوية باسم
Oxyrrhynque .
هو كاهن مصري ألف تاريخ مصر القديم من معدنه بأمر بطليموس فيلادلف الثاني وذيله بجدول يشتمل على أسماء الملوك.
الاسفنكس (واسمه عند قدماء المصريين أرماخيس) هو في خرافات الأغارقة عبارة عن وحش، كان له رأس ونهدان كما في المرأة، وجسم شبيه بجسم الكلب ومخالب أسد وأجنحة نسر، وفي ذنبه سهم حاد. وورد في خرافاتهم أنه كان يعيش في بلاد الصعيد على جبل عال، ويلقي الألغاز على من يمر به من الناس، فمن لم يفسرها افترسه في الحال، فنادى أحد ملوك طيبة بأنه يزوج ابنته ويعطي تاجه لمن يريح العالم من شر هذا الآفة، فجاء رجل اسمه أديب وحل اللغز، فأهوى الوحش بنفسه من فوق الصخور وتحطم جسمه وخلص الناس من ضرره. وأما اللغز فهو «ما هو الحيوان الذي يمشي على أربع في الصباح وعلى اثنين في الظهر وعلى ثلاثة في المساء» وجوابه هو الإنسان؛ يحبو على قدميه ويديه في الطفولية، ويسعى على رجليه في الشبيبة، ويتوكأ على عصا في الشيخوخة.
العمارة بالضم هي كل ما يوضع على الرأس لتغطيته، ويقابلها في الفرنساوية لفظة
Coiffure .
الباب الثالث
الكلام على منف والدولة القديمة (1) العائلة الرابعة وذكر الملك خيوبس وخفرن وميقرينوس والكلام على احتلال المصريين شبه جزيرة الطور
الظاهر أن أغلب ملوك العائلة الرابعة (المنفية) كان لهم حزم ودراية في التدبير، وقد رزقهم الله السعادة في إدارة شئون البلاد؛ نخص بالذكر منهم الملك خيوبس، والملك خفرن، والملك ميقرينوس، على أنهم لم يوجهوا همتهم واجتهادهم إلى الاشتغال بما هو خارج عن الديار المصرية، بل حصروا أعمالهم فيها. ولما كانت مصر تحف بها البوادي وتحدق بها الصحاري من كل جهة، فليس لها في الحقيقة من جيران. نعم إن اللوبيين القاطنين بالواحات الواقعة غربي النيل والأعراب الذين كانوا يحومون ويتمورون
1
على قلة عددهم وسوء عددهم في الجهة الشرقية فيما بين النيل والبحر الأحمر كانوا قد يضايقون القطر؛ ولكنهم لم يكونوا بالقوم الذين يخشى بأسهم أو يرهب جانبهم؛ فلذلك كان حسب ملوك مصر أن يغزوهم من حين إلى حين؛ لإلقاء الرعب في روعهم ومنعهم عن العدوان، وحفظ الوادي من غاراتهم.
على أن الفراعنة الأقدمين صمموا على الخروج من ديارهم إلى نقطة واحدة أسسوا فيها مستعمرة باقية مستمرة، وهي شبه جزيرة الطور؛ لأنها كانت تحتوي في بعض وديانها المواجهة لمصر على معادن يكثر فيها النحاس والفيروزج، وما لبثت هذه الجهة أن توطنت فيها العمال واشتغلوا باستخراج هذه المعادن مدة أجيال طوال، وقد أقاموا في مواضع مختلفة جسورا لحبس مياه الأمطار، فكانت منها بحيرات صغيرة أمكن بواسطتها فلاحة بعض الأراضي وتربية قليل من الماشية، وكان البرابرة من أهل الجيزة ينازعون أولئك المستعمرين في امتلاك هذه الواحات الصناعية، وبعد سنفرو قد صد هجماتهم كثير من الفراعنة، ولكن لم يقم بفكر أحد من هؤلاء الملوك أن يتمم غزوته ويستقصي نصرته. ولم يكن بين كور آسيا الممتدة خلف الصحراء التي نشأت منها فيما بعد بلاد فلسطين ويهوذا وبين الديار المصرية؛ إلا علاقات تجارية، وكانت القوافل تتردد بانتظام فيما بين أفريقيا وآسيا، وأما الجيوش فلم تسلك هذه الدروب. (2) الأهرام الكبرى
كان الأمن والسكينة ضاربين أطنابهما في داخل البلاد المصرية، ويظهر لنا من الأوراق المكتوبة في ذلك العصر أن الفلاحة كانت في غاية الفلاح، وأن الصناعة ارتقت في معاريج النجاح، وهناك مئات من القبور تفصح بلسان الحال عن الدرجة السامية التي بلغها فن العمارة والنقش في ذاك الزمان.
وكان الملوك في ذلك العصر كلفين ببناء القبور العظيمة لأنفسهم مدة حياتهم على شكل هرمي قاعدته رباعية، وقد وقف الباحثون في هذا الزمان على أطلال نحو ستين هرما، تتقاطر وراء بعضها في مصر الوسطى من أرباض القاهرة حتى مدخل الفيوم. وأشهرها هي المعروفة بالأهرام الكبرى، وهي قائمة على سفح سلسلة جبال لوبيا إلى الغرب قريبا من المدينة المستحدثة المعروفة بالجيزة (شكل
3-1 ).
شكل 3-1:
الأهرام الكبرى بالجيزة.
وفي كل واحد من هذه الأهرام حجرة واحدة أو أكثر لدفن الموتى، يدخل إليها الإنسان من دهاليز منحدرة منحوتة في نفس البناء وكانوا متى وضعوا موميا
2
الملك أقفلوا الحجرات بصخور من الصوان، ثم يردمون الجزء من دهليز الدخول القريب من الخارج ردما تاما، وبعد ذلك يطلون جميع سطوح الهرم بطبقة كلسية جميلة بهيجة فيختفي الباب، ولا يبقى له أثر يدل عليه. وارتفاع الهرم الأكبر المعروف عند قدماء المصريين بما معناه «الباهي» هو في أيامنا هذه 137 مترا، وكان فيما غبر من الأيام مقبرة للملك خيوبس ولكنه لم يبق فيه الآن سوى خابية التابوت من الرخام الأبيض. والهرم القائم بجانبه هو لخفرن، وأما الهرم الأصغر فبانيه ميقرينوس.
وقد دارت على ألسنة العوام منذ الأحقاب الخوالي جملة أساطير وخرافات بشأن هذه الآثار الثلاثة، فيقال: إن «خيوبس بدأ بإقفال الهياكل، وتحريم القربان، ثم ألزم جميع المصريين بالعمل له، فكانوا يؤخذون للسخرة في كل ثلاثة شهور مائة ألف رجل منهم، وأن مدة شقائهم وبلائهم في بناء الهرم كانت ثلاثين عاما منها عشر سنين في تمهيد أرضيته، وبناء حجراته التي تحت الأرض، وبناء الجسر (الموصل إليه من شاطئ النيل المعد لنقل الأحجار التي بني منها هذا الهرم)، والعشرون عاما الأخرى قضوها في بناء الهرم ذاته. وأن الهرم عليه نقوش تنبئ بمقدار ما صرف في شراء الفجل والبصل والثوم لأجل غذاء الشغالة». وقد بقي هذا الظلم والاستبداد على عهد خفرن، ولم ينقطع أثره إلا بتولي ميقرينوس «فإنه أعاد فتح الهياكل، وأباح للناس أن ينطلقوا إلى شئونهم، ويتفرغوا لأمورهم الدينية، وحكم بالعدل أكثر من جميع الملوك الآخرين.» ولعمري إن هذا من باب الأقاصيص الملفقة؛ ترويحا لنفوس السائحين، فإن خيوبس وخفرن هما من أعظم وأكبر ملوك مصر (شكل
3-2 ).
شكل 3-2:
تمثال خفرن كما هو بمتحف الجيزة. (3) الملوك المنفيون الأخيرون من العائلة الخامسة والسادسة وذكر افتتاح بلاد النوبة
الظاهر أن العائلة الخامسة «المنفية» لا تختلف عن العائلة الرابعة في شيء، فإنها تشبهها في توفر أسباب الثروة واليسار وتوطد دعائم الأمان والنظام والولوع بالترف في العمائر، ولكنها مع ذلك كانت مبدأ لسقوط الدولة المصرية وانحطاطها.
وكان مؤسسو الحكومة الملوكية في مصر لم يخلعوا أمراء الولايات (الكور)، بل كان هؤلاء يتعاقبون عليها بطريق الميراث وجعلهم الملوك إخاذيين
3
تابعين لهم، وأبقوا لهم حقوق الإمارة على شرط أن يدفعوا لهم إتاوة معينة، ويمدوهم بالجند في الخدمة العسكرية، وكانت هذه الولاية الأخاذية ما زالت يانعة زاهرة في مدة الأجيال السابقة، فكان للكثير من العشائر التي يتألف منها هؤلاء الأمراء أملاك واسعة وأقطاع فسيحة؛ بحيث إنها في زمن الفتن كان يخشى على العائلة الحاكمة من أن تكون لها خصما عنيدا يجب الاحتفاظ منه، ولا نعلم كيف أن إحدى هذه العشائر وأصلها من جزيرة «أسوان»
4
استبدت على العائلة المنفية وتناولت دونها الأحكام، ولكنها تعاطت شئون التدبير ومهام الملك؛ بما أوجب لها المهابة والفخار والمعزة والاقتدار (وهي العائلة السادسة). وأقدم الملوك المصريين الفاتحين الذي وقفنا على حروبه هو الملك الثاني من هذه العائلة المعروف باسم بيبي، فإنه انتصر في وقائعه مع الأقوام المستوطنين شرقي الدلتا وغربيها، وحطم ما كان لهم من أشجار التين، وقطع كرومهم، وأحرق قمحهم، وسبى نساءهم وأولادهم، ثم أخضع كور النوبة وهي ما يلي الشلال الأول جنوبا، وأدخل أهاليها في سلك الجيوش المصرية.
وبعد ذلك بقرن ونصف عاد الأمر والسلطان إلى العائلات المنفية (العائلة السابعة والثامنة) ولكن لم يقبل الدهر على فراعنتها إقباله الأول، فلم ترجع لهم أيام العز القديم، وكانت الولايات الإخاذية التي في مصر الوسطى هي الأكثر شوكة واقتدارا في هذا العصر، فجاء أسياد هيراكليوبوليس
5
وهم أصحاب الفيوم فقبلوا دولة الفراعنة الشرعية، ولبسوا التاج، واستأثروا بالملك، ومن ذلك العهد لم تخرج من منف عائلة تولت الأحكام في مصر. (4) العائلات الخارجة من هيراكليوبوليس وجلوس العائلات الطيبية على سرير الملك
إن السيطرة التي حصلت عليها مدينة هيراكليوبوليس لم تبق لها إلا قليلا من الزمن (حكمت فيه العائلتان التاسعة والعاشرة) فقد ظهر لها في الجنوب أخصام ذوو بأس شديد، ولم تكن مدينة طيبة إلى ذلك العهد نالت من الظهور ما يجعل لها حديثا في التاريخ ولم تنل الأهمية ورفعة الشأن إلا بعد سقوط المنفيين وخروج الأمر من يدهم. وكانت في أول الأمر تابعة لهيراكليوبوليس ولكنها ما لبثت أن جاهرتها بالعصيان، وأشهرت عليها الحرب العوان، وجالد أمراؤها فراعنة العائلة العاشرة، وفازوا بالظفر والانتصار حتى استبدوا عليهم وانتزعوا الملك من أيديهم (في حدود سنة 3200ق.م).
واعلم أن تولي العائلة العاشرة الطيبية انتهت به تلك الحركة التي ابتدأت في الوجود عقب سقوط العائلة الخامسة، فقد كانت الحياة السياسية في القطر حالة بأكملها بمصر الوسطى في مبدأ الأمر، ثم انتقلت منها قليلا قليلا حتى كأنها صعدت النهر ووقفت في متوسط مجراه برهة من الزمان، ثم بارحت هذا المكان فأخذت مدينة طيبة الرياسة والتصدر بعد مدينة منف، وبقيت على ذلك أكثر من عشرين قرنا بالتمام.
خلاصة ما تقدم (1)
لم تتوجه همة ملوك العائلة الرابعة وهم؛ خيوبس وخفرن وميقرينوس، ولم يمدوا يد اجتهادهم إلى ما هو خارج عن الديار المصرية، ولم يخرجوا من مصر إلا لاحتلال شبه جزيرة الطور؛ حيث أنشئوا فيها مستعمرات وطيدة الدعائم خصصوها لاستخراج المعادن. (2)
وفي داخل القطر كانت السكينة تامة والأمنية عامة، وكان الفراعنة يتفننون بكل ما في وسعهم في تشييد قبورهم؛ وهي أهرام متقاطرة وراء بعضها فيما بين الفيوم والقاهرة على حافة صحراء لوبيا. وأشهر هذه الأهرام هي التي بجوار الجيزة؛ بنى الملك خيوبس أكبرها، والملك خفرن أوسطها، والملك ميقرينوس أصغرها. وقد دار على ألسنة العامة من الأهالي فيما بعد أنها من صنيع ملوك قست قلوبهم، وكانوا من الزنادقة الملاحدة. (3)
لما قامت العائلة الخامسة أخذت منف في السقوط عما كان لها من السيطرة، وازدادت أهمية الولاة الإخاذين في مصر الوسطى ثم جلست على سرير الملك عائلة أصلها من جزيرة أسوان، وهي العائلة السادسة، وابتدأ أحد ملوكها وهو بيبي الأول في افتتاح النوبة، وظهر على الأمم المتوطنة في شرقي الدلتا وغربيها، وبعده بقليل عاد المجد والعز إلى مدينة منف (في أيام العائلتين السابعة والثامنة) ثم ما لبثت أن فقدت هذه السيطرة إلى أبد الآبدين. (4)
وجاءت عائلتان من مدينة هيراكليوبوليس (وهما التاسعة والعاشرة) وجلستا على سرير الملك، فتمهدت طريقة الانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الوسطى، ثم دبت الحياة السياسية في مصر الجنوبية، واستقرت فيها إدارة البلاد؛ إذ قام ملوك العائلة الحادية عشرة وبعد طول الجلاد استولوا على جميع ما في القطر من البلاد، واتخذوا مدينة طيبة عاصمة لهم، وكان ذلك في حدود سنة 3200ق.م.
أي يجيئون ويذهبون.
الجثة المحنطة المحفوظة من الفساد. وأصل المعنى دواء، وهي كلمة يونانية معناها حافظ الأجسام.
الإخاذة أرض يحوزها الرجل لنفسه، وقد اخترناها للتعبير عما هو معروف بالحكومة الالتزامية؛ لأن اللفظة أعرق في العربية وأوفى بالمرام.
وتسمى أيضا جزيرة البربا، وجزيرة الذهب لكثرة التبر النقي في رمالها، ويوجد بها مقياس النيل المشهور وهي المعروفة عند الفرنج باسم جزيرة الفنتين؛
ELéphantine
أي جزيرة الفيل لأن قدماء المصريين كانوا يسمونها «آب» أي الفيل وكانت سوقا لمبيع سن الفيل، وكانوا يعتقدون أن النيل ينزل من السماء ويتولد في وسط صخور الجنادل والشلالات الكائنة بين هذه الجزيرة وبين جزيرة أخرى تعرف عند اليونان والإفرنج باسم جزيرة فيلة
وذكرت في كتب العرب المعتبرة باسم جزيرة بلاق، وبها الهيكل المشهور المعروف بقصر أنس الوجود. فتنبه للفرق بين الجزيرتين واحتفظ على اسميهما عند العرب.
هو القسم المتمم للعشرين من أقسام الصعيد في الزمن القديم، وهذا هو اسمه اليوناني وقاعدته خينتسو؛ أي إهناس المدينة (بمديرية بني سويف)؛ ولذلك تسمى هذه العائلات بالإهناسية. وقد اصطلح المؤلف في الغالب على وضع أسماء الأشخاص والأماكن بحسب المتعارف في اللغة اليونانية، فتنبه!
الباب الرابع
طيبة والرمسيسيين (1) ذكر العائلة الثانية عشرة والثالثة عشرة وحدوث المملكة المصرية الكبرى
لما تقلد أمراء الجنوب زمام الأحكام وقبضوا على مقاليد الإدارة، ساروا بمصر في وجهة جديدة، واختطوا لها طريقا لم تكن سارت فيه من ذي قبل، فبقدر ما كان سلفاؤهم المنفيون يجنحون إلى السلم كان هؤلاء الملوك ميالين للقتال مولعين بافتتاح البلدان. ففي أوائل حكمهم؛ أي في الدولة الوسطى كانوا لا يكادون يشنون الغارة إلا على بلاد إتيوبيا وذلك لأن موقع عاصمتهم ومقر حكومتهم هو الذي قضى عليهم بانتهاج هذا المنهج فإنهم لقربهم من تخوم النوبة أكثر من سلفائهم كانوا أشد منهم شعورا بالحاجة إلى الاستيلاء على الأقاليم التي يرويها النيل الأعلى، ولكن لم يكتفوا مثل بيبي الأول ببعض غزوات كانت نتيجتها وقتية، بل شرعوا في افتتاح البلاد، واحتلالها بكيفية دائمة مستمرة.
وقد اتسعت مصر في أيام العائلة الثانية عشرة (التي حكمت من سنة 3200 إلى سنة 3000ق.م) فإنها أبعدت بحدودها إلى ما وراء الشلال الثاني، فإن ملوك هذه العائلة المعروفين باسم أمنحعت، وباسم أوسرتسن قد أسسوا بين أسوان ووادي حلفا مستعمرات مصرية عززوها بقلاع وحصون، كان لها السيطرة والأمر على ملاحة النهر. وأما العائلة الثالثة عشرة فقد تقدمت بالتدريج في فتوحها إلى ما وراء الشلال الرابع، وما زالت آثار ملوكها تشاهد إلى يومنا هذا في جهات متفرقة قبلي وادي حلفا فإنهم استولوا على تلك البقاع استيلاء تاما. أما السكان فمنهم من تبدد شملهم، ومنهم من قضى عليه ناموس النسخ والحلول، فتمثلوا بالفاتحين وتشبهوا بهم، فتلاشت لغتهم وكتاباتهم وأخلاقهم وديانتهم وحلت محلها لغة الطيبيين وكتابتهم وأخلاقهم وديانتهم، ثم قسم المصريون البلاد ورتبوها على الأسلوب المتبع في ترتيب الكور (الأقسام) التي بشمالي أسوان.
وبهذا تم للعائلتين الأوليين الطيبيتين توسيع دائرة مصر، فبعد أن كانت تنتهي عند الشلال الأول صارت مملكة كبيرة بعيدة الأطراف؛ بما ضموه إلى جنوبها من أقاليم أفريقية، فإن استمرارهم على القتال مع قبائل قليلة عاجزة عن المقاومة ما كان يحوجهم إلى كبير قوة؛ فلم يكونوا يخشون من هذه الحروب أن تجر وراءها الفقر في القطر المصري أو الضعف في سكانه. وقد نالت مصر على يد الدولة الوسطى من الرفاهية والهدو ما استمر فيها نحو خمسة قرون على الأقل.
وكانت طيبة واقعة على منتصف المسافة الطويلة التي بين الشلال الرابع وبين البحر الأبيض المتوسط؛ ولهذا كانت هي التي يصح بل يتعين أن تكون عاصمة للملكة المصرية المستحدثة، وما كان لها أن تخشى من الأقسام النوبية انشقاقا عليها أو خروجا عن طاعتها، فإنها كانت حديثة عهد بالتأسيس بحيث لا تتعلق آمالها بالاستقلال عنها. أما مدائن الدلتا فما كان يتسنى لها أن تنسى مجدها القديم وعزها الفائت، بل قد اغتنمت إحداها وهي مدينة اكسويس
1
فرصة الثورات والفتن التي ظهرت في أواخر العائلة الثالثة عشرة، فجعلت أمراءها ملوكا على مصر وأعادت النفوذ والسلطان لأهالي الدلتا. (2) الهيكسوس (أي العمالقة)
ولكن الملوك الخارجين من هذه المدينة لم يقدروا على صد غارات الأغراب، قال مانيثون: «تولانا ملك اسمه تيماوس، وما أدري لماذا أرسل الله علينا في عهده ريحا عاكسنا بها، فقدم على بلادنا أناس من المشرق محتقرون مهينون، فأغاروا عليها وأخضعوها بسهولة ومن غير قتال، وهذا أمر بعيد الاحتمال ولم يكن في حسبان إنسان.» فإن الأعراب انقضوا على الدلتا وانتشروا في أنحائها انتشار الجراد، وما لبث أولئك الرعاة أن اختاروا سلاطين أحد رؤسائهم فولوه ملكا عليهم، وألزموا جميع الأمراء الوطنيين الاعتراف به والخضوع لسلطانه (وكان ذلك فيما بين سنة 2300 وسنة 2200ق.م) وقد استمر حكم الهيكسوس (الملوك الرعاة) ستة قرون، وبقيت هذه العشائر وهي متحصنة في معسكر أواريس على حالتها من الخشونة والفظاظة، ولكن ملوكهم ما لبثوا أن رقوا في سلم المدنية ومعراج الحضارة حتى صاروا يشبهون الفراعنة تمام المشابهة، فشادوا المعابد والهياكل، وأقاموا التماثيل والأنصاب، واتخذوا اللسان المصري لغة رسمية لهم، ونشأ منهم عائلتان (الخامسة عشرة والسادسة عشرة) معترف بهما من الجميع، ثم قام ولاة الأقاليم القبلية ورجعوا إلى استقلالهم، وساعدهم على ذلك بعدهم عن الدلتا، ثم مالؤا ملوك طيبة على الملوك المتناسلين من الأغراب فظهرت العائلة السابعة عشرة «الطيبية»، واستمرت مدة قرن ونصف وهي تحاول استرجاع الفيوم والدلتا، وقد استولى الملك أموسيس أول فراعنة العائلة الثامنة عشرة على معسكر أواريس، وطرد من بقي من الرعاة العمالقة إلى بلاد الشام (وذلك فيما بين سنتي 1700 و1650 قبل الميلاد)، وحينئذ صارت طيبة مرة ثانية عاصمة للديار المصرية. (3) العائلة الثامنة عشرة وحروبها في حوض النيل
كانت مدة الحكم الثاني في مدينة طيبة شبيهة بمدة الحكم الأول؛ من حيث نوال الفخار بالفوز والانتصار في الوقائع الحربية والأعمال العسكرية، ولكن ملوك هذه العائلة لم يقصدوا فتح الأقاليم التي غزاها أمراء طيبة قبلهم؛ لأن النوبة ما زالت مصرية في أيام الرعاة، وقد أعاد لها ملوك طيبة رفاهيتها القديمة من غير عناء، وإنما استمروا في الاستعمار إلى أن بلغوا ضواحي بربر وفيما وراءها لم يكن لهم إلا أمراء تابعون لهم أو متحالفون معهم، وكانوا يرسلون السرايا عن طريق النيل حينا فحينا إلى واحات دارفور أو إلى سهول سنار، فيحرقون القرى ويسلبون المواشي ويسبون كل من تصل إليه أيديهم من السكان، ثم يعودون إلى بلادهم من غير أن يتركوا خلفهم مستعمرات ولا حامية من الجنود. وقد تقدموا في غاراتهم حتى بلغوا سفح جبال الحبشة، ولكنهم لم يخاطروا بأنفسهم في الدخول إليها، ومن جهة أخرى كانوا يرسلون أسطولهم أحيانا في البحر الأحمر إلى بلاد بونيت
2 (السومالي واليمن) لجلب عود الند والأعطار وسن الفيل والأخشاب النفيسة الثمينة ولإخضاع قبائل السواحل وجعلها تحت سيادة مصر، ولو في الظاهر، وما كان الأسطول يصادف في هذه الجهات أمة متمدنة تقاومه مقاومة صادقة حقيقية. (4) فتوح الشام وذكر تحوتمس الثالث
بل وجهوا وجهة جلادهم إلى بلاد الشام فجعلوها ميدانا للقتال والنزال، ولم تكن هذه الأقطار مجهولة قبل العائلة الثامنة عشرة، ولكن الفراعنة ما كانوا اقتربوا منها قط فإن أموسيس اقتفى فيها أثر من بقي من الرعاة، وجابها تحوتمس الأول إلى أن بلغ الفرات (في نواحي سنة 1580ق.م)، وأما تحوتمس الثالث (شكل
4-1 ) فقد أخضعها بتمامها (وذلك فيما بين سنتي 1560 و1530ق.م).
شكل 4-1:
الفرعون تحوتموسيس الثالث.
وكان الكنعانيون متوطنين في جنوبها وفي وسطها، والفلسطينيون على شطوطها، وأما شمالها فكان يعمره طوائف الخيثي (الخيثيين) وقبائل بعضها سامي الأصل، يطلق عليه المصريون اسم جنس مخصوص وهو روتنو. وكان نفوذ بابل راجحا في هذه الأقطار حتى أشبهت أخلاق أهاليها وديانتهم أخلاق البابليين وديانتهم، وصارت اللغة البابلية متفاهمة في جميع أنحائها ، والكتابة البابلية شائعة الاستعمال عندهم، فلما ظهر المصريون فيما بين أمم يعادلونهم في الحضارة والانتظام لم يختلج بنفوسهم إنشاء المستعمرات في أرضهم، ولم يروا وجها لتمثيلهم بهم، كما فعلوا مع أهالي النوبة، بل تركوا لهم شرائعهم ونظاماتهم، وأقروا العائلات الحاكمة منهم فيهم، واكتفوا بضرب الجزية السنوية عليهم، وبالتجنيد منهم أحيانا، ثم احتلوا قليلا من الحصون والقلاع مثل غزة ومجدو
3
لأنها كانت كمعالم تهتدي بها الجيوش المصرية في سلوكها، وكانوا يرسلون إلى المدائن في كل عام رسلا من قبل الملك يأخذون الإتاوة، ويسوون ما يقع من الخلاف والنزاع بين الفرعون والأمير التابع له.
وكانت الرابطة التي تجمع بين أجزاء هذه المملكة غير وثيقة، فكان يتكرر انقطاعها ويتوالى فصمها؛ بسبب امتناع بعض الأمراء عن دفع الأموال في أكثر الأحيان، أو بظهور الفتنة في بعض المدائن، أو في جميعها، وكان الفرعون وأعوانه دائما يتوصلون إلى استئصال شأفة الثورة وقمع الخوارج وإعادة السكينة على قدر ما يصلون إليه، واستمرت سلطة الدولة المصرية على هذا المنوال من غير أن تكون وطيدة الأركان، ومن غير أن يعتريها تأثير عظيم من الاضمحلال مدة قرن من الزمان؛ أي من عهد تحوتمس الثالث إلى أيام أمينوتيس الرابع، بل إن نفس ملوك الآشوريين والكلدانيين اعترفوا بهذه السيطرة للدولة المصرية، ورأوا من الحزم والحكمة تحسين صلاتهم مع جيرانهم المصريين ذوي الاقتدار والبطش المبين. (5) العائلة التاسعة عشرة، ومحاربتها مع طوائف الخيثي (الخيثيين)، وذكر رمسيس الثاني
وقد أخذ نجم مصر في الأفول، وازدهارها في الذبول، فتلاشى سلطانها في عهد أمينوتيس الرابع (في حدود سنة 1430ق.م). وقد اتسع نطاق طيبة تخت مصر مما غنمته من الفتوحات والانتصارات، وزادت ثروة معبودها آمون زيادة تفوق الحد؛ بما جيء به إليه من أسلاب الأمم المغلوبة، حتى لقد عظم هيكله بمدينة الكرنك، واتسع (شكل
4-2 ) فصار كأنه مدينة من المدائن. وكانت الأوقاف تتواتر عليه، والهدايا تتوارد إليه، حتى إن أملاكه ملأت وادي النيل، وامتدت إلى آسيا، وصار لكبار كهنته في الدولة نفوذ تام، وسلطان عام، وكلمة عالية، ومكانة سامية، واستفحل الأمر حتى خشي الفرعون نفسه بأسهم، وداخلته الريبة منهم. وقد كان أمينوتيس الثالث حاول معاكسة نفوذهم، فسعى في المساعدة على عبادة الشمس إله هليوبوليس، فلما خلفه ابنه أمينوتيس الرابع رأى من نفسه الاقتدار على إعدام هذا النفوذ، وملاشاته من الوجود، فنقل كرسي مملكته إلى مدينة أحدثها في مصر الوسطى، وجعلها تحت حماية الإله أتنو؛ أي قرص الشمس. ومن هذا العهد صار هذا الإله معبود العائلة الملوكية، وقد حاول خلفاؤه من بعده أن يتمموا عمله، ولكنهم أخفقوا سعيا لما صادفوه من معارضة الأمة والأشراف، فعادت طيبة إلى مكانتها، وصارت تختا للمملكة، كما كانت، ورجع آمون إلى مقامه - مقام حامي مصر وراعيها - وجاء ملك متمسك بسنة الديانة الأصلية، واسمه هرمايس، فأسس عائلة جديدة (هي التاسعة عشرة).
شكل 4-2:
خرائب هيكل آمون بالكرنك.
شكل 4-3:
الملك سيتي الأول كما هو في إحدى الصور التي على قبره.
شكل 4-4:
صورة ملك خيثي في حالة العبادة أمام إلهه بحسب النقش البارز الموجود في إبريز.
وإن الفتن التي ثارت في مصر بسبب مطالب ودعوة هؤلاء الملوك المنشقين عن الدين كانت فرصة لولاة الشام التابعين لهم، انتهزوها في القيام عليهم والخروج عن طاعتهم وفيما كانت مصر تتضعضع أركانها بالحروب الداخلية؛ جمع أحد رؤساء الخيثي (الخيثيين) قبائل أمته في قبضة يده واستولى على كركيش وأسس دولة دخلت فيها كيلكيا والجهات المجاورة لها من آسيا الصغرى من جهة، واشتملت من الجهة الأخرى على حوض نهر العاصي
4
ولم ينجح الملكان الأولان من العائلة التاسعة عشرة، وهما رمسيس الأول، وسيتي الأول (شكل
4-3 ) في تقويض دعائم دولته، وملاشاة سلطنته؛ بل إن رمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم سيزوستريس بعد أن قاتله نحو عشرين سنة اضطر إلى الرضى بما وقع، وبمعاملة ختسارو أمير الخيثي (الخيثيين) معاملة الأكفاء والأقران (شكل
4-4 )، ومن ذلك العهد لم يبق حكم مصر وطيدا إلا في فينيقية، وسورية الجنوبية، وأما شمال الشام، فقامت فيه دولة مستقلة فاصلة بين مصر وآشور (وكان ذلك في حدود سنة 1350ق.م). (6) رمسيس الثالث وذكر انحطاط مصر عما كان لها من الشوكة والاقتدار
وقد ظهر الانحطاط بأكثر من ذلك في القرن التالي، فإن أمم الأرخبيل وسواحل آسيا الصغرى أو إغريقية (أي بلاد اليونان) المعبر عنهم ب «أمم البحر» تواطئوا مع اللوبيين فشنوا الغارة جميعا على الوجه البحري في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني، فهزمهم وردهم على أعقابهم خاسرين. ولكنهم عاودوا الكرة في أيام خلفائه، وساعدهم على نجاح مشروعهم ما حصل من ثورة ولاة الكور، فخلعوا الفرعون من الملك واستبدلوه بصعلوك أفاق مقحام من أبناء الشام، وبقي على رأس الدولة بضعة أعوام، حتى جاء رجل من سلالة الأسرة القديمة الشمسية، وهو رمسيس الثالث، فأعاد مصر كلها تحت سلطان العائلة المتممة للعشرين، وهزم أمم البحر وكسر جنود اللوبيين وافتتح سورية الجنوبية ثانيا (في حدود سنة 1250ق.م) وقد تلقب الملوك الذين خلفوه باسم رمسيس، وحافظوا مدة قرن أيضا على بضع مدائن في أرض الفلسطينيين وعلى سيادتهم على جزء من البلاد المجاورة لها (من سنة 1200 إلى سنة 1100ق.م).
خلاصة ما تقدم (1)
إن جلوس ملوك الجنوب على منصة الأحكام غير أحوال مصر وبدل الطريق التي كانت سائرة فيها بطريق أخرى؛ وذلك لأن العائلات الطيبية كانت مولعة بالقتال كلفة بافتتاح البلدان؛ فالعائلتان الأوليان منها (الثانية عشرة والثالثة عشرة) وجهتا معظم همتهما وجل عزيمتهما إلى أقاليم النيل الأعلى واستعمرتا النوبة لحد الشلال الرابع، فأحدثتا بهذه المثابة مملكة مصرية كبرى كانت مدينة طيبة قاعدتها ومركزا لها، ثم تبدلت الأمور وتقلبت الأحوال فعاد السلطان مؤقتا إلى عائلة من الدلتا هي العائلة الرابعة عشرة السخاوية. (2)
ولم تتمكن هذه العائلة من حماية القطر وصد هجمات الهيكسوس؛ فأغاروا عليه في حدود سنة 2300 قبل الميلاد وحكموه نحو ستة قرون، ثم تم طردهم من البلاد بعد أن طال أمد الجلاد بينهم وبين الملك الطيبي أموسيس مؤسس العائلة الثامنة عشرة. (3)
وقد حافظ فراعنة هذه العائلة على البقاع التي افتتحها ملوك الدولة الوسطى في حوض النيل، بل وأضافوا إليها فتوحات أخرى. (4)
على أنهم فضلوا مهاجمة آسيا، حيث افتتح تحوتمس الثالث بلاد الشام إلى نهر الفرات (فيما بين سنتي 1560 و1530ق.م)، غير أن مملكتهم المؤلفة من مدائن وأمم مضروبة عليهم الجزية وخاضعة لطاعتهم بواسطة بعض الحاميات المصرية قد بقيت محفوظة كما هي مدة جيل تقريبا (من سنة 1530 إلى سنة 1430ق.م). (5)
ثم أخذ ظل دولتهم يتقلص على إثر الحروب الأهلية التي كان سببها مسعى أمينوتيس الرابع في استبدال عبادة آمون بعبادة قرص الشمس ولم يتيسر للفرعونين الغازيين سيتي الأول ورمسيس الثاني (سيزوستريس) من العائلة التاسعة عشرة (فيما بين سنتي 1400 و1300ق.م) أن يعيدا المملكة إلى ما كانت عليه بالتمام والكمال، وأضحت مملكة الخيثي (الخيثيين) من ذلك العهد دولة مستقلة في سورية الشمالية. (6)
ثم ازداد الانحطاط في القرن التالي مع ما كان من انتصار منفتاح ورمسيس الثالث على اللوبيين وأمم البحر في وقائع عديدة، ثم أضاع الملوك المعروفون بالرمامسة من العائلة المتممة للعشرين في مائة سنة من الزمان جميع البلدان التي فتحها أسلافهم في آسيا وإلى الله المآل (1200-1100ق.م).
المعروفة الآن بسخا بمديرية الغربية.
لعل لفظة البن عند العرب مشتقة من هذا الاسم القديم.
اسم مدينة كانت في ذلك الوقت، على ما يقول أهل السير، أعظم من ألف مدينة، وتعرف الآن بتل المتسلم بالشام بالقرب من مدينة اللجيون.
اسمه بالإفرنجية
Oronte
وورد في بعض كتب العرب القديمة المعتبرة أرنط (راجع التفصيل في القاموس الذي وضعته لضبط وتحرير الأعلام الجغرافية).
الباب الخامس
تغلب الأجانب على مصر (1) انحطاط طيبة وذكر العائلة الحادية والعشرين التنيسية
كانت طيبة في مبدأ الدولة الأخيرة قاعدة الديار المصرية، ولكونها واقعة تقريبا في منتصف المسافة التي بين الدلتا والنوبة العليا فكانت هي المركز الذي يتولى فيه الفراعنة إدارة السلطة والأحكام بالسهولة، على طرفي مملكتهم، ثم إن مصر نالت ثروة عظيمة وحظا وافرا من افتتاح الشام في الشمال، وتوسيع مستعمراتها في الجنوب، ولكنها ما لبثت أن عاد عليها ذلك بالخسران فقد شغل الفراعنة من غير انقطاع بكبح جماح الثائرين في آسيا، وبصد هجمات أمم البحر.
ورأوا أن المدينة التي هي في داخل البلاد على مسافة مائة مرحلة وأكثر لا يصح أن تكون مركزا لإدارة الأعمال الحربية؛ فاعتادوا على الإقامة بمدائن الدلتا مثل منف وسايس (صاالحجر) وبوبسطة (تل بسطة) وتنيس، فرجعت إليها الحياة السياسية. ولانعدام توارد الغنائم وأسلاب الفتوحات إلى طيبة نشب الفقر فيها مخالبه، ثم صار الأمر فيها لأكابر الكهان إذ كانت سيطرتهم آخذة على الدوام في الازدياد والامتداد حتى إذا مات آخر رمسيس (في حدود سنة 1100ق.م) تنازع خصمان في الجلوس مكانه على تخت الملك؛ وهما الكاهن حرحور في طيبة، وسمندس التنيسي في الدلتا، ثم فاز سمندس هذا وغلب على صاحبه وأسس عائلة زال بها سلطان طيبة بعد أن توالى دهورا وعصورا.
على أن طيبة لم ترض بخروج السلطة من يدها من غير مكافحة ولا مجالدة، فإنها اعتمدت على أتيوبيا التي كانت تدين بدينها وتسير وفق نظامها؛ فشكلت إمارة واسعة الأرجاء تبتدئ من سهول سنار وتنتهي فيما وراء أسيوط، وكان رئيس هذه الإمارة الإله آمون، وبعبارة أخرى خليفة هذا الإله في الدنيا، وظله على الأرض وهو الكاهن الأكبر. ثم اضطر كبراء الكهان بالرغم عنهم للاعتراف بسيادة فراعنة الدلتا، ولكن هؤلاء لم يقيض لهم البقاء على منصة الأحكام، فإنهم كانوا يعتمدون على عصابات المرتزقة من الجند
1
وقد سمحوا لكبار دولتهم بأن يضعوا أيديهم على أمهات المدن في القطر، وأن ينشئوا لأنفسهم إقطاعا عسكرية تكاد تكون مستقلة، فاستولت إحدى كبار العائلات اللوبية المتوطنة في بوبسطة (تل بسطة) على المناصب السامية في الدولة، وآل الأمر بهم إلى أن جلس رجل منهم وهو ششنق على سرير الملك في نحو سنة 940ق.م. (2) ششنق الأول وذكر انقسام مصر إلى دول صغيرة
استولى ششنق هذا على إمارة طيبة، وجمع تحت سلطانه نصفي الديار المصرية، ثم تداخل في شئون العبرانيين، وأخذ أورشليم من الملك رحبعم (في حدود سنة 925ق.م)، وأعاد شيئا مما قد كان لمصر من النفوذ في الخارج، ولكن بعد وفاته ضربت الفوضى أطنابها في البلاد، فحصر الرؤساء اللوبيون سلطة الفرعون شيئا فشيئا في بعض المدائن، ثم نزعوها منه مرة واحدة، وتلقب بعضهم بألقاب ملوكية، فانقسمت بذلك الدلتا ومصر الوسطى إلى زهاء عشرين دولة ، تكاد تتكافأ قواها، أما ذرية أكابر كهنة آمون فقد لجأوا إلى الجنوب، واستقروا بأتيوبيا، وأنشئوا فيها دولة تختها مدينة نباتا (جبل البرقل)، وكانوا أخذوا طيبة، وصاروا يطالبون ببقية البلاد قائلين بأنها آلت لهم عن أجدادهم، وفي أثناء ذلك استولى تفنخت أحد صغار الرؤساء اللوبيون على مدينة سايس، ثم على منف (في حدود سنة 750)، وساد على أغلب مدائن الدلتا، فأما المدائن التي لم يكن قد أخضعها، فإنها استغاثت بملك أتيوبيا المسمى بعنخي فبادر لتلبية دعوتهم، وقهر تفنخت، وأعاد وحدة مصر، وأدخلها في قبضة عائلته.
ولكن مدينة نباتا التي هي قاعدة الدولة الأتيوبية كانت بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط بعدا لا يسمح لملك مقيم فيها بسهولة المحافظة على سلطانه على الوادي كله، ومن جهة أخرى كان الشغب سائدا في سايس (مدينة صا)، وغيرها من مدائن الدلتا؛ بحيث إنها ما كانت تطيع لسلطان مستقر في داخل أفريقية إلا إذا كانت صاغرة مقهورة بالقوة والاقتدار؛ فلذلك انتشب القتال بين ذرية تفنحت وبين سلالة كبراء الكهنة؛ أي بين الدلتا وأتيوبيا؛ طمعا من كل منهما في نوال السيادة العامة على بر مصر. (3) القتال بين الصاويين والأتيوبيين، وذكر تملك الآشوريين على مصر
فاستمر الحرب بينهما سجالا زهاء قرن كامل (فيما بين سنتي 750 و650ق.م)، وقد فاز ابن تفنخت المدعو بوكوريس على صاحبه الأتيوبي بضع سنوات (كان فيها حكم العائلة الرابعة والعشرين الصاوية)، ثم خلعه سباقون الأتيوبي، ورسخت دولته مدة من الزمان، حتى إنهم جعلوه رأس عائلة رسمية (هي العائلة الخامسة والعشرون الأتيوبية)، وقد تداخل في أمور الشام تداخلا مقرونا بالبأساء والتعساء؛ حتى استوجب ذلك إغارة الأجانب على مصر، وكان ذلك في الوقت الذي تمت فيه الغلبة للآشوريين على ملوك دمشق وإسرائيل، وأخذوا في تضييق الحصار على مدينة صور، وبلاد يهوذا، وأمراء فلسطين؛ فهزمها سرجون وسناحريب، ولم تنج مصر من الدمار والخراب إلا بمعجزة خارقة للعادة؛ وذلك أن جيش سناحريب عندما صار على مقربة منها أباده سيف ملاك الرب، كما يقول العبرانيون، أو أعدمه الإله فتاح كما يزعم المصريون (في سنة 701).
شكل 5-1:
الملك طهراق كما هو في تمثال مبتور بمتحف الجيزة.
على أن الملك الثالث وهو طهراق (شكل
5-1 ) لم يعتبر بهذا، فإنه جلب على نفسه سخط أشرحدون (آشوراخي الدين) بسبب الدسائس التي بثها في الشام بين الولاة التابعين لآشور، فهزمه هذا الملك وأقصاه إلى أتيوبيا، واستولى على منف، ووضع القطر تحت ولاية مرزبان من الآشوريين (في سنة 672)، ثم أعاد الأتيوبيون الكرة ثلاث مرات في مدة عشر سنين (من سنة 671 إلى سنة 660)، وصدهم آشور بأنيال خليفة أشرحدون (آشوراخي الدين) فاغتنمت العائلة الصاوية فرصة انقلاب الدهر عليهم، وزوال الإقبال عنهم، فإن رؤساءها وهم: نخاو الأول، يتلوه أبسماتيك كانوا مذبذبين في موالاة الآشوريين تارة، ومصافاة الأتيوبيين تارة أخرى بحسب ما فيه الحظ والمصلحة لهم، فحافظوا على أملاكهم، بل واكتسبوا سلطة حقيقية، وصار لهم كلمة نافذة على بقية الولاة الأخاذيين، فلما صعد أبسماتيك الأول على كرسي المملكة (في سنة 666) أزال سلطان منازعيه ومناصبيه واحدا بعد واحد، مستعينا في ذلك بالمرتزقة من الجند اليونانيين، والكاريين حتى استخلص مصر من أيدي ملتزميها، واستبد بحكمها، ثم تزوج بأميرة من بيت ملوك أتيوبيا، فاستولى بذلك على إمارة طيبة، وصار له السيادة على جنوبي مصر، وفي سنة 655 اغتنم فرصة انشغال آشور بأنبال في عيلام، فأبى دفع الإتاوة للآشوريين، ونادى لنفسه بالاستقلال. (4) خراب المملكة المصرية الكبرى وذكر الصاوية وفتوح الفرس
فازت العائلة الصاوية، ولكن كان في فوزها ختام انحلال المملكة وتقويض دعائمها، فإن أبسماتيك لم يعمل على إعادة افتتاح النوبة وأتيوبيا، ومن هذا العهد بقيت مصر الكبرى التي كانت تحكمها العائلات الطيبية وتمتد من سهول سنار إلى شطوط البحر المالح، منقسمة إلى قسمين مستقلين عن بعضهما؛ ففي الجنوب كانت مملكة نباتا، ثم أعقبتها مملكة مروى، واستمرتا في بلاد النيل الأعلى على السير بمقتضى نظام الحكومة الدينية (التي على رأسها وكلاء الدين وخلفاء الآلهة) التي كانت لأكبر كهنة آمون ، ولكونهما كانتا منعزلتين عن بقية العالم كانت تأتي إليها عناصر قليلة من الحضارة مما يجاورها ويحيط بها من القبائل الأفريقية، وما لبثت أن أخذت في السقوط شيئا فشيئا في مهواة الهمجية والانحطاط، وأما في الشمال فقد رجعت مصر إلى حدودها في عهد المنفيين؛ أي إلى الشلال الأول ودخلت في الجامعة المؤلفة من أمم آسيا واليونان، وقد كان لها في ثروتها وصنائعها واقتدارها على الابتداع والابتكار وموقعها الجغرافي ما يضمن لها في تاريخ هذا العالم الجديد مقاما وشأنا ربما كانا أقل ظهورا وبهاء مما أصابته في العالم القديم، ولكنهما ليسا أقل منه في الأهمية والخطورة.
وقد كان أول أمر عني به أبسماتيك الثاني توطيد أسباب الأمن، وإعادة دواعي النظام؛ فعمل على إذلال الأمراء الكبار حتى جعلهم تابعين له مطيعين لأوامره، واجتهد بما وصلت إليه يده في تلافي الخراب الذي توالى على البلاد بسبب حروب داخلية وغارات أجنبية، استمرت مدة ثلاثة قرون، وسعى في توسيع نطاق العلاقات التجارية التي كانت بين مملكته وبين الفلسطينيين، وأوجد طريقا للمعاملات مع قبائل الهلاد (اليونانيين)، فرغب اليونان في الوفود على مصر، وأكرم مثواهم، وكان من بعض مقاصده في ذلك أن يتخذ له منهم جنودا وأعوانا يكونون أساسا لجيش قوي متين، ثم أقطعهم الأراضي في نقط كثيرة على الشطوط، فبنوا فيها محالا تجارية. واستطال حكمه من (سنة 666 إلى سنة 611ق.م) وكان السلام ضاربا أطنابه في أيامه؛ حتى إنه شاهد انحطاط وانحلال دولة الآشوريين، ولم يعمد إلى اغتنام شيء منها.
أما خلفاؤه فلم يجروا على سنته في الانحياز والانعكاف، فإن نخاو الثاني (الذي حكم من سنة 611 إلى سنة 595) شن الغارة على بلاد الشام في السنين التي أعقبها سقوط نينوي (سنة 608)، واستظهر في طريقه (في مجدو) على يوشياملك يهوذا، ثم سار حتى بلغ الفرات، وبعد ذلك بثلاث سنين (سنة 605) هزمه نابوكودوتوزور (المعروف ببخت نصر أو نبوخذ نصر) في كركميش؛ فأضاع في يوم واحد جميع البلاد التي افتتحها، واكتفى بعد ذلك بتحريض الملوك الصغار الذين كانوا حاكمين على بلاد يهوذا وموآب وعمون وفينيقية، وإغرائهم على الإيقاع بالكلدانيين. أما ولده أبسماتيك الثاني فقد مات في شرخ الشبيبة، ومقتبل العمر؛ فلم يكن له شيء من المآثر والأعمال (سنة 595 إلى سنة 589ق.م)، ولكن الفرعون وفريس (ابريس) عاود ما شرع فيه أبسماتيك الأول، نعم، إنه لم ينجح في منع سقوط أورشليم (سنة 586) ولكنه ساعد مدينة صور على الفوز في مقاومة بختنصر، وأوجد له سلطة مؤقتة على شطوط فينيقية، وقد أرسل جنودا لمقاتلة المستعمرة اليونانية المتوطنة في قورين
2 (غربي مصر) فلم يفز بالنجاح، وكان ذلك سببا في هياج المصريين عليه، ولم يكن لديه من يستعين به على قمع الثورة العامة إلا المرتزقة من اليونانيين؛ فانهزم في مومنفيس وقتل بها وقام بالأمر بعده أماسيس، ولم يكن من العائلة الملوكية.
وكان أماسيس هذا (سنة 569 إلى سنة 526) آخر الفراعنة العظيمين من الوطنيين، وبعد أن صد غارات الكلدانيين التي وقعت في مبدأ حكمه أفرغ جهده في اجتناب أية حرب هجومية، واكتفى بحفظ بلاده في حالة الدفاع، وقد اعتمد على العنصر اليوناني أكثر من أسلافه بكثير، وأقطع اليونان بالقرب من سايس (صا) أرضا جعلوا فيها مستعمرة نقراطيس، وجعل حراسه منهم، وقد عقد المحالفات وأبرم المواثيق مع الليديين والكلدانيين لكي يعوق التقدم الغريب الذي كانت مملكة الفرس آخذة فيه، وتيسر له اجتناب القتال مع كورش ملك الفرس، ومات في سنة 526 قبل الميلاد حينما كان قمبيز زاحفا على مصر؛ لمهاجمته، فوقعت الغارة على ولده أبسماتيك الثالث فانهزم في بيلوزة (مدينة الطينة)، ووقع أسيرا في منف بعد أن حكم ستة شهور (من سنة 526 إلى سنة 525 قبل الميلاد)، وصارت مصر تحت إدارة مرزبان فانحطت عن مقامها الرفيع وأصبحت بمنزلة عمالة بسيطة من عمالات الدولة الفارسية.
خلاصة ما تقدم (1)
أن حروب الآشوريين ألزمت الفراعنة بالإقامة على تخوم آسيا؛ ولذلك عادت الحياة السياسية إلى مدائن الدلتا، وبعد موت آخر الرمسيسية أقامت مدينة تنيس عائلة ملوكية جديدة هي الحادية والعشرون، وسقطت طيبة عن مكانتها الرفيعة فلم تكن إلا قاعدة لإقطاع يحكمها كبراء كهنة آمون. (2)
وأول ملوك العائلة الثانية والعشرين وهو ششنق استولى على أورشليم سنة 924، ولكن ذريته لم يتيسر لها حفظ وحدة مصر، فانقسم وادي النيل إلى دول صغيرة. وفي نحو منتصف القرن الثامن قبل الميلاد حاول تفنخت أمير سايس (صاالحجر) أن يضمها إلى بعضها، ولكن بعنخي ملك نباتا منعه من إنجاز مشروعه وجعل لأتيوبيا السيادة على مصر كلها. (3)
وبقيت سيادة أتيوبيا على الديار المصرية نحو قرن كامل (فيما بين سنتي750 و650ق.م)، وتكونت العائلة الخامسة والعشرون الأتيوبية من ثلاثة من ملوكها وآخرهم طهراق؛ هزمه آشورحدون، وطرده إلى ما بعد الشلال الأول، وحكم الآشوريون مصر من البحر المتوسط إلى أسوان مدة عشرين سنة تقريبا (من سنة 673 إلى سنة 650 تقريبا) ثم طردهم منها أبسماتيك الأول الصاوي، ومع ذلك فإن فوزه كان فيه تمام انحلال مصر الكبرى وانقسامها إلى مملكتين وهما؛ مملكة أتيوبيا في الجنوب وقاعدتها نباتا تارة ومروى أخرى، ومملكة مصر الحقيقية فيما بين الشلال الأول والبحر الأبيض المتوسط. فتلاشى صنيع العائلات الطيبية ورجع ملك الفراعنة إلى حدوده التي كانت له في أيام العائلات المنفية. (4)
استمرت العائلة السادسة والعشرون الصاوية قريبا من قرن ونصف (من سنة 666 إلى سنة 525) وكان مؤسسها أبسماتيك الأول الذي حكم (من سنة 666 إلى سنة 611) من الملوك الجانحين للسلم وقد اشتغل بتوفير ثروة رعاياه وإنمائها، واستخدم جنودا يونانيين بالرزق، وأحضر تجارا منهم، وكانت نتيجة سعي خلفائه في إعادة فتح الشام وبلاد برقة أن انهزم نخاو الذي حكم (من سنة 611 إلى سنة 595) بالقرب من كركميش (سنة 605) وأن خلع ابريس (سنة 569) وحكم أماسيس (من سنة 569 إلى سنة 526) وهو آخر الفراعنة العظام. وقد رحب باليونانيين وأكرم وفادتهم في وادي النيل فتقاطروا عليه من كل فج عميق، ولم يحكم ولده أبسماتيك الثالث إلا بضعة شهور قليلة (فيما بين سنتي 526 و525)، وجاءه قمبيز فهزمه في الطينة وصارت مصر عمالة من عمالات الدولة الفارسية بعدما كان لها من المجد والسلطان، والأمر لله الواحد القهار.
هم الجنود المكريون
Mercenaire
والمرتزقة لفظ عربي ينبغي الاحتفاظ به؛ لوروده بهذا المعنى في كتب التاريخ المعتبرة مثل المقريزي وغيره.
Cyréne
وهي المعروفة في كتب العرب ببلاد برقة، وغلط غلطا فاحشا من ترجمها بالقيروان؛ لأن هذه مدينة أحدثها المسلمون في تونس، وأما تلك فبلاد قديمة واسعة بين مصر وطرابلس، وكانت مستعمرة مهمة لليونان.
الباب السادس
في الديانة المصرية (1) الآلهة الأصليون في مصر
كانت الأمة المصرية تعتبر في الأحقاب الخالية أشد الأمم تمسكا بدينها، وهذا هو الواقع، فإن من نظر إلى آثارها يكاد يتوهم أن أرض مصر إنما كانت تسكنها الآلهة على الخصوص، وما كان فيها من بني الإنسان سوى من يقوم بحاجات العبادات؛ إذ كان لكل إمارة في أول الأمر إله أكبر خاص بها لا يتعدى سلطانه حدودها، وكان الحال كذلك حينما انقسم القطر إلى كور كبيرة؛ بحيث إن مصر كانت للآلهة ولايات التزامية أخاذية، كما كانت كذلك للأمراء من بني آدم.
وكانت الآلهة في بعض الأحيان عبارة عن النيل مثل الإله أسيريس؛ في قسم مندسيوس، والإله خنوم الخاص بالشلالات، وتارة عبارة عن الأرض السوداء الخصبة مثل الإلهة أيسيس المعبودة في بوتو، ومثل الإله بتاح أو فتاح المعبود في منف، وتارة عبارة عن السماء مثل حارويرس. وكان أخص الآلهة عندهم الشمس مثل رع في هيليوبوليس، أو أنحوري في سبنيطوس، وفي ثنيس. وكان لبعض هذه الآلهة صورة إنسان مثل بتاح، وأزيريس، وآمون، والبعض الآخر على شكل حيوان مثل الكبش، والتيس، والأسد، والثور أبيس أو منيفيس، أو على هيئة ابن آوي مثل أنوبيس، أو الباشق مثل حوروس. واعلم أن الاعتياد على تصوير الآلهة بهاتين الصورتين جر المصريين إلى تمثيلها يهيئات مركبة تختلط فيها أشكال الإنسان بصور الحيوان فصاروا يصورون حوروس على هيئة إنسان له رأس باشق، وأنوبيس على هيئة إنسان له رأس ابن آوي، وهاتور على هيئة امرأة لها رأس بقرة. وللآلهة الأصليين عندهم حشم كثير وحاشية وافرة من الآلهة الثانوية تكون حولها بمثابة أمة تحاكي في العدد أمة الأنام.
وكل هذه الكائنات كان لها جسم أشد لطافة من جسمنا؛ فكان غير مرئي، ولكنه كان شبيها بجسدنا من حيث إمكان الوصول إليه، وإصابته بالجراح بل، وإعدامه الحياة. وكانت الآلهة تأكل وتشرب وتكتسي، وأحسن ما يتزلف به إليها وينال به رضوانها أن يقدم لها الإنسان ما يلزم لحياتها. وكانت عبادتها في الحقيقة عبارة عن جملة أفعال وهيئات؛ متى قام بها الإنسان أوصل إلى الآلهة في دنيانا هذه كل ما تحتاجه لحفظ حياتها، وسد رمقها، فكانوا يقدمون لها القرابين والضحايا من الحيوانات والطيور واللحم والخبز والنبيذ والمشروبات والفطير والفاكهة اللازمة لطعامها، وكانوا يعينون في صلاتهم أثناء تقدمة القربان الإله الذي يقصدون إتحافه بهذه الطيبات، ويذكرون النعم والعناية التي يطلبونها منه نظير القربان. (2) التأليه التساعي على مذهب هليوبوليس وذكر خلق الدنيا
كان الآلهة الأخاذيون يشبهون الأمراء الأخاذيين في مصاهرة بعضهم بعضا، ويراعون مع بعضهم حقوق الجوار، وكانوا يتناولون في أغلب الأحيان اختصاصات بعضهم، فيتحد الواحد بالآخر ويصيران فردا واحدا؛ مثال ذلك آلهة السماء مثل حارويرس، قد حل في رع إله الشمس وتمثل فيه، كما أن آلهة الشمس مثل رع وأنحوري وغيرهما قد امتزجت ببعضها؛ حتى صارت شخصا واحدا عبدته مصر كلها، ولكن فريقا آخر من الآلهة وقعت بينهم الشحناء حتى استحكم النفور والبغضاء؛ مثل أوسيرس وتيفون واجتهد كل واحد في إبادة صاحبه. وقد وجد العالم وبقي موجودا يتمازج الائتلاف والاختلاف بين هؤلاء الآلهة. وقد زعم الكهنة أمناء الدين جملة مزاعم في وظيفة كل منها عند أحداث العالم.
والقول الذي مالت إليه الأهالي، ورجحته على المذاهب الأخرى من قبل مينيس، هو الذي قال به كهنة هيليوبوليس، وفحواه؛ أن العالم أحدثه تسعة من الآلهة بين ذكور وإناث اتحدوا على هذا الصنيع، وكان لكل منها قسط من العمل، فكان الكون في أول الأمر عبارة عن لجة من المياه يحيط بها الظلام، وكانت الشمس مختفية في وسطها، ثم ظهرت الشمس فخرجت الأرض والسماء من الماء مختلطتين ببعضهما، وممتدة إحداهما على الأخرى، وعلى هذا كان رع - أي الشمس - هو الإله الأول، وقد صدرت منه إشارة فتولد عنها زوج من الآلهة، وهما: شو، وتفنويت، فدخل شو فيما بين الأرض والسماء وفتق رتقهما، ثم رفع السماء على ذراعيه وأبقاها معلقة في الفراغ (شكل
6-1 )، وبذلك ظهر زوج ثان من الآلهة وهما: سيبو أي الأرض، ونويت أي السماء.
شكل 6-1:
شو واقفا بين سيبو أي الأرض ونويت أي السماء بحسب رسم على نعش في طيبة.
وكانت الدنيا التي أوجدها هؤلاء الآلهة الخمسة أشبه بصندوقة رباعية الشكل يكتنفها الماء الأول، وأرضيتها هي الأرض وغطاؤها السماء وجدرانها الجبال الشامخة، التي تتكئ عليها السماء كما يتكئ سقف المنزل على جدرانه؛ فتمنع السماء عن السقوط على الأرض. ويجري نهر عظيم على طول هذه الجدران تحت السقف السماوي بقليل، وهذا النهر يجري مترائيا للأبصار في جهة الجنوب، ثم يسيل فيما بين الجبال أو ينساب في مجرى طويل تحت الأرض، ويسبح فيه على الدوام زورق فيه الشمس، ويخرج هذا الزورق في كل صباح من المشرق من مجرى النهر الذي تحت الأرض، ثم ينحدر إلى الجنوب، وترسل الشمس الأنوار إلى مصر، ثم تدخل كل مساء في الجبل من جهة الغرب. والاثنتا عشرة ساعة التي تمضيها الشمس في اختراقه هي ساعات الليل الاثنتا عشرة، ثم تولد من الأرض والسماء إلهان وإلهتان تكون منهما زوجان، فأنما تكوين العالم؛ وأولها هو مركب من أوسيرس وأيسس جاءا بالحضارة والمدنية في الدنيا كما سبق لنا القول به. وثانيهما وهو مركب من تيفون ونفتيس أتيا بالشر والموت. (3) رجحان الشمس على بقية الآلهة
قد أقرت جميع الهياكل والأماكن المعدة للديانة في مصر بالآلهة التسعة المذكورة مع تعديل قليل؛ فإنهم حفظوا الآلهة الثمانية ولكنهم أبدلوا رع رأس الآلهة بالإله المحلي؛ مثال ذلك أنهم في منف وضعوا بدله بتاح، وفي طيبة استعاضوه بآمون، وفي الشلالات بخنوم، ولكن لم يؤدهم هذا إلى إسقاط اعتبار الشمس، وجحود ما كان لها من الشأن الأكبر في خلق الدنيا؛ بل إنهم جعلوا الآلهة التسعة الرئيسية متحدة بالشمس حالة فيها متمثلة بها، مهما كانت خاصيتها في أول الأمر، فصار بتاح وآمون وخنوم شموسا وصارت الشمس هي الإله المعتبر في جميع الأديان الأخاذية بالديار المصرية ، وبهذا لم يبق إلا شيء قليل للاعتراف والمناداة بأن الشمس هي الإله الوحيد، أو أنه ليس هناك إلا إله واحد هو الشمس، وأن جميع الآلهة الأخرى ليسوا إلا أسماء لها، ولكن المصريين لم يفعلوا ذلك، ولم يقولوا به؛ لأن كل فريق كان يؤثر البقاء على ما هو عليه وإعلاء شأن الإله الذي كان خاصا به، فلم يزل أهل كل كورة على القول والاعتقاد بامتياز إلههم عما جاوره من الآلهة الأخرى وعلوه عليها في مكانته واقتداره، ولم ينتشر بينهم الاعتقاد بوحدانية الإله انتشارا كثيرا على فرض أنه وجد عندهم.
بل قد اتفق في كثير من الأحوال أن تصاريف السياسة قضت بجعل السيادة والمتبوعية لبعض الآلهة على البعض الآخر؛ مثال ذلك أن طيبة لما وصلت من ابتداء العائلة الثانية عشرة إلى درجة عظيمة من الشوكة والاقتدار نهضت بمعبودها آمون؛ فرفعت مكانته وأحلته محل الإحلال والإكبار وأصبح آمون ملكا حقيقيا على جميع الآلهة طول ما بقي الزمان مقبلا على طيبة، ولم يكن له السلطان على الآلهة الأجنبية فقط؛ بل كان له الأمر والنهي أيضا على الآلهة الوطنية المحلية، ومع أن بتاح وحارويرس وخنوم كانوا في نظر المتعبدين لهم نظراء آمون وأقرانه، ولكنهم كانوا في الحقيقة أتباعا له كما كان أمراء الكور التي هم معبودون فيها، تابعين للفراعنة الحاكمين في طيبة، ولكن هذه السيادة زالت بزوال العائلة المتممة للعشرين، كما تلاشت شوكة طيبة وذهبت معزتها فرجع الآلهة الأخاذيون إلى ما كانوا عليه من الانفصال والاستقلال. ولم يتيسر بعد ذلك لإحدى المدائن أن تنال من العظمة والمجد ما يتيح لها إلزام بقية القطر بالخضوع لملوكها مدة مستطيلة من الزمان؛ بحيث يترتب عليها زوال حرية الآلهة وحياتهم كما حصل ذلك من الإله آمون؛ بل استمر الشرك وتعدد الآلهة ببلاد مصر إلى ما بعد ظهور المسيحية. ولم تنمح آثار الآلهة كلها وتتقوض دعائم الشرك بأسرها إلا ببزوغ أنوار الدين الإسلامي في القرن السابع من التاريخ المسيحي. (4) الكلام على أوسيرس وما ستلاقيه النفس البشرية في الدار الآخرة
ومع ذلك فقد فاز أحد الآلهة بجعل جميع المصريين يعترفون به بدون أن يغار منه الآلهة الآخرون، أو أن يقلل من سلطانهم؛ ألا وهو إله الأموات. وفي أول الأمر كان إله الأموات في كل ناحية هو إله الأحياء فيها، ولكنه ينتقل من الحياة إلى الوفاة. ففي الكور التي كان فيها إله الأحياء هو الشمس الحي (رع، وأنحوري، وحوروس) كان إله الأموات هو الشمس الميت، فلما نكب المقدس تيفون بالمقدس أوسيرس، وأعدمه الحياة صار أوسيرس هذا إله الأموات في كورته، ثم آل به الأمر شيئا فشيئا إلى أن صار إله الأموات في بلاد مصر كلها، والذي تناقلته الألسنة، وتبادلته الأفواه عن هذا الإله، أنه بعد أن قاتله قطعه إربا إربا، جاءت زوجته أيسيس، وجمعت أعضاءه، ثم حنطتها بمساعدة الإلهين توت وأنوبيس، وكانت هذه أول جثة حفظت بالتحنيط (المومياء الأولى) (شكل
6-2 )، وقد تلا عليها حورس صلوات، وعمل أعمالا ردتها إلى الحياة، ولكنها ليست بالحياة التي تمكنها من المعيشة فيما بين الناس، ثم أعطى أوسيرس في بطائح الدلتا أولا، وفي القسم الشمالي من السماء ثانيا أملاكا (هي غيطان الفول) يعيش فيها مثل المعيشة التي على وجه الأرض، ولكنها فوق كل خطر وضرر.
شكل 6-2:
مومياء أوسيرس بحسب تمثال صغير من البرونز في متحف الجيزة.
وكان الذين يتحنطون تحنط هذا الإله ويحتفل بهم كما احتفل به؛ يدعون خادمي حوروس، ثم يقبلون لمقاسمته في هذه السعادة وهذا النعيم بعد اختبارات متنوعة وامتحانات متعددة، وبعد الدينونة التي يزن فيها الإله توت قلوبهم بقسطاس الحق، ومن نظر إلى الأقوال التي يلقيها الأموات في وقت الدينونة رأى فيها أجمل خلاصة لتهذيب الأخلاق عند المصريين، فإن الميت يقول «إني لم أعذب الأرملة، ولم أكذب أمام القضاة، ولم أعرف الخيانة، ولم أدنس الأشياء المقدسة، ولم أسع في ضرر العبد عند مولاه، ولم أجع أحدا، وما أبكيت أحدا، ولم أقتل النفس قط، ولم أسرق ميرة الموتى ولا عصائبهم، ولم أغتصب اللبن من أفواه الرضعاء، فأنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر.» وبعد هذا التنصل (الإقرار السلبي) يقبل الميت للتمتع بالنعيم في الفردوس، ثم يأخذ بالاشتغال في الفلاحة ويحصد فيها كثيرا من القمح الفائق العظيم.
وفي أثناء ذلك يذوق فيها أنواع اللذاذات ويتنعم بصنوف الصفاء؛ مثل الولائم والرقص والغناء ولعب الدامة، ويقرأ ما ينتعش به البال وينشرح له الفؤاد، ثم يتريض بالنزهة على الماء ويتناول الطعام تحت الأشجار الباسقة، ويستنشق النسيم العليل الذي يهب من الشمال، أو يركب في زورق الشمس ويطوف معها حول الأرض في الليل والنهار، ثم إن أوسيرس يفني آلهة الأموات كلها فتحل فيه.
وقد انتهى أمره بعد سقوط الدولة المصرية أن صار إلها دوليا معروفا عند جميع الأمم والملل، وانتشرت عبادته في جميع أنحاء المملكة الرومانية، وكان معبده في جزيرة بلاق (المعروفة عند الإفرنج باسم فيلة بالقرب من أسوان) آخر هيكل لاذت به الديانة الوثنية، وهي على وشك السقوط والزوال، ولم تقفل أبواب هذا الهيكل إلا على يد الإمبراطور يوستنيانوس في أواسط القرن السادس للميلاد.
خلاصة ما تقدم (1)
كان المصريون أشد الأمم تمسكا بدينهم، وكان لهم آلهة كثيرة بعدد ما في بلادهم من الكور، وكانت هذه الآلهة عبارة عن النيل «مثل أوسيريس وخنوم» والأرض «مثل إيسس وبتاح» والسماء «مثل حار ويريس» والشمس «مثل رع وأنحوري». وكانت لها أشكال آدمية أو حيوانية ولها حشم وأتباع من عدة آلهة ثانويين، وكانت تشبه بني الإنسان في احتياجاتها وأميالها وقبائحها، وكانت عبادتها عبارة عن قرابين وضحايا يقصد بها إنالتها كل ما تحتاجه في معيشتها من مأكل ومشرب وغير ذلك من لوازمها، وكانت هذه الآلهة تتصاهر وترتب على توافقها وتباغضها مع بعضها بعضا حدوث هذا العالم وبقاؤه، ومن مقتضى مذهب هيليوبوليس أن خلق الدنيا كان على يد ثمانية من هؤلاء الآلهة؛ تحت رئاسة رع تومو الذي هو الشمس. (2)
وقد أقرت جميع الكور على هذا المذهب التساعي مع استبدال تومو بالإله المعبود في كل كورة منها؛ أي بآمون في طيبة، وبتاح في منف مثلا. وهذا ما حمل علماء الديانة على اعتبار جميع الآلهة الأصلية بمثابة أشكال تشكل بها تومو، الذي هو الشمس، أو أسماء مختلفة أطلقت للدلالة عليه، وقد كانت سيادة طيبة على القطر المصري سببا في سيادة آمون على بقية الآلهة الآخرين . (3)
أما الإله الوحيد الذي اعترف به جميع المصريين فكان أوسيريس إله الأموات، وكان المؤمنون يحضرون يوم الدينونة أمام محكمته ثم يبررون أنفسهم ويزكونها بالتنصل، وبعد ذلك يقبلون في غيطان الفول، حيث يعيشون عيشة تشابه عيشتهم على وجه الأرض مشابهة كبيرة. وفي القرون الأولى التي أعقبت ظهور الديانة المسيحية كان أوسيريس شبه إله دولي انتشرت عبادته في جميع أنحاء المملكة الرومانية.
الباب السابع
الآثار والصناعة (1) ما بقي من الآثار المصرية
ربما كانت الآثار التي خلفها لنا المصريون أكثر مما تركته أية أمة عظيمة من أمم السلف؛ فإن الوادي كله مشحون ببقايا معابدهم ومدائنهم متراكما بعضها فوق بعض، حتى إن من نظر إلى السلسلتين اللتين تكتنفان هذا الوادي رأى القبور منحوتة في جميع أجزائهما بحيث إنهما يعتبران كمقبرة واحدة، هذا واعلم أن الآثار التي شوهدت وأمكن البحث فيها إلى الآن هي شيء قليل في جانب ما بقي تحت البحث والنظر، وما عساه ينكشف لنا مع توالي الأيام. (2) فن العمارة وذكر المعابد
العمارة هي الفن الذي برع فيه المصريون أكثر من غيره، وفازوا فيه بالقدح المعلى، والنصيب الأوفر الأوفى، وقد تركوا لنا نموذجات ورواميز لهذا الفن هي البالغة في الإتقان والكمال؛ فقد بنوا معابدهم بالحجارة الكلسية، أو الأحجار الرملية، وأما الأبواب وبعض الحجرات الداخلية فكانوا يصنعونها من الصوان (الجرانيت) الوردي أو الأسود، وقد يندر أن تكون الكتل متساوية موضوعة بوضع منتظم تمام الانتظام، بل وتختلف أحجامها والمداميك تأخذ مواضع بعضها، ولكنها كلها مرصوفة منضدة بحذق زائد، ومهارة تامة، حتى إنها قاومت الدهور، وصبرت على ممر الزمان، بل صبر ويصبر على ممرها الزمان، مع أن العمائر التي اعتبر بناؤها أحسن وأجود قد ذهبت في خبر كان. ثم إن أغلب معابد الدلتا ومصر الوسطى ليست الآن إلا أطلالا دراسة ورسوما دائرة، لا يكاد يتهيأ للمتبين أن يميز الشكل الذي أقيم عليه بناؤها، والصورة التي أعطيته عند تشييدها. أما معابد الوجه القبلي فحظها من الحفظ أوفر، ونصيبها في البقاء أكثر، فإن كثيرا من هذه الهياكل في جزيرة بلاق (شكل
7-1 ) وإدفو ودندرة محفوظة حفظا تاما؛ بحيث إن أقل ترميم يكفي لإعادتها كما كانت زمن تلك العبادة.
شكل 7-1:
هيكل جزيرة بلاق (فيلة) المعروف بقصر أنس الوجود منظورا من أعلى الصرح الأول.
واعلم أن هذه المعابد منظمة على نسق واحد، وذلك أن الهيكل الحقيقي هو عبارة عن حجرة مظلمة تسكنها صورة الإله سواء كان بتمثاله أو برموز العبادة الخاصة به، وكانوا يقتصرون على هذه الحجرة في المدائن التي ليس لها أهمية كبيرة، ومتى ساعدت الظروف أضافوا إليها غرفا أخرى يعدونها لوضع القرابين وللاحتفال فيها بقداس الإله في أيام معينة، وما كان الدخول في هذا القسم من العمارة مباحا في كل وقت إلا للكهنة والملك، وكان من عاداتهم أن يقيموا أمامها حجرة كبيرة واسعة ذات عمدان يكاد يكون الولوج فيها مباحا للجمهور، وكانوا يجتمعون فيها في أيام المواسم والأعياد، وكان باب هذه الحجرة يوصل إلى فناء حوله أبواب محصنة بصرح
هو عبارة عن باب كبير هائل له فتحة على يمينها ويسارها برجان يكونان في الغالب مرتفعين ارتفاعا شاهقا، وهذا الشكل يتكرر في جميع أنحاء وادي النيل مع اختلاف قليل؛ فهو الذي تراه في العمائر الفخيمة بطيبة والكرنك والأقصر ومدينة هابو، وهذا الرسم هو المتبع أيضا في بلاد النوبة. غير أن بعض غرف الهيكل أو الهيكل كله (كما في أبي سمبل) تراه منقورا في الصخر بحيث يكون مغارة فسيحة هائلة.
ولما كانت الآلهة تحب أن تحيط بها الأسرار كان القوم يبنون المعابد؛ بحيث إن الإنسان لا يشعر بالانتقال من نور شمس العالم الخارجي إلى ظلام الحجر الإلهية؛ فإن مداخل الهيكل تكون فسيحة يتخللها الهواء، وينبعث فيها الضياء من غير أن يصادفهما أدنى عارض وأما الإيوان الكبير ذو العمدان، فيقل النور فيه ثم يشتد الظلام في المحراب فيكون شبيها بشفق غير واضح، حتى إذا وصل الإنسان إلى قدس الأقداس رأى الليل الحالك والظلام التام. (3) زخرفة المعابد
كانت الزخرفة في غاية البهاء ونهاية الرواء، فكانت جدران كل غرفة مزدانة من أعلاها إلى أسفلها برسوم ونقوش توافق ما خصصت له هذه الغرفة، فيمثلون في المحراب الزورق المقدس الذي يعيش فيه الإله، وفي الحجرات المجاورة له القرابين والضحايا، وفي الإيوانات المعمدة هيئة الموكب والاحتفالات، وعلى الصرح والحيطان الخارجية أشكالا للقتال والوقائع الحربية، يرى الناظر إليها ملك مصر قاهر أعداء مصر بمعونة الإله الذي شيد له الهيكل، وكانوا يضعون أمام الصرح تماثيل هائلة قد يبلغ ارتفاع الواحد منها 16 مترا؛ مثل صنمي ممنون في طيبة، ومسلات منضودة أزواجا أزواجا، وأمام ذلك كله مماش على جانبيها تماثيل الإسفنكس؛ وهي آساد لها رأس إنسان أو كبش، أو هي كباش كبيرة الجثة رابضة على الأرض يشار بها إلى أنها حرس رمزي يقوم بخفارة مقدم الهيكل على الدوام. (4) القبور
كانت القبور أيضا مشحونة بكثير من النقوش والتصاوير، وكان بعضها منعزلا وقائما بسفح الروابي أو بمنحدر النجوات والهضبات الفاصلة بين مصر والصحراء، وكانت أجداث ملوك الدولة الأولى والوسطى عبارة عن أهرام من الحجارة أو الآجر. وقبور أفراد الناس مساطب متطاولة من حجر الجير الأبيض تقابل كل زاوية منها جهة من الجهات الأربع الأصلية، ويجعلون وجهتها عادة نحو الشمال، ولها باب قد يكون أمامه عمدان صغيرة ويتوصل من هذا الباب إلى الحجرات الداخلية وإلى ضريح الميت؛ حيث يجتمع أقرباؤه مرارا في كل عام لتقديم القرابين له. ويرى المتأمل في الصور المنقوشة على جميع الجدران هيئة القربان وكافة الأعمال الدنيوية التي يكون بها تجهيزه، وتربية الغزلان والأثوار والأطيار وذبحها، وبذر البذور في الأرض، وحصد القمح، واصطناع الخبز، وتقديم الأرغفة، والصيد في البر والبحر، والألعاب المختلفة الأنواع، ويكون فوق الضريح رجام من الرخام أو ما يشابهه من الأحجار الصلدة منقوشا في أحد الجدران أو قائما بجانبه، وهو بمثابة باب مغلق على الدوام، وخلفه تنفتح أجزاء القبر المخصصة للروح، وهناك أيضا دهاليز وآبار وحجرة يكون بها التابوت وفيه المومياء.
ومن ابتداء العائلة الثانية عشرة اختلطت القبور المنقورة في الجبل بالقبور المنعزلة، وعدل ملوك طيبة في الدولة الأخيرة عن اتخاذ الأهرام، فأمر كثير منهم بدفن جثثهم في جبال لوبيا. وأما ملوك العائلة الثامنة عشرة فإن مدافنهم بالجهة المعروفة الآن بالأصاصيف، وأما ملوك العائلتين التاسعة عشرة والعشرين ففي باب الملوك قبورهم؛ وأجملها في البهجة والإبداع والرونق وحسن الاصطناع هما قبرا سيتي الأول، وابنه رمسيس الثاني. (5) النقش والتصوير
كان النقش والتصوير عبارة عن فنين مكملين لفن العمارة، فكل جدار كان مزدانا بنقوش بارزة، وكل نقش بارز كان محلى بالتصوير والتلوين بالأصباغ على هيئة سطوح مستوية متناسقة، بعضها فوق بعض بترتيب عجيب، بحيث لا تكون مختلطة ولا ممزوجة. وكانوا يحلون النقوش تحلية بالألوان، ولا يرسمونها بالمعنى المتعارف عندنا في هذا الزمان.
شكل 7-2:
الكاتب الجالس المحفوظ بمتحف اللوفر بباريس.
شكل 7-3:
تمثال شيخ البلد المحفوظ بمتحف الجيزة.
وكانت التماثيل المنعزلة أو المجتمعة حول بعضها مصورة بالألوان أيضا، فالجهات الممثلة للحم منها ملونة باللون الأحمر فيما يختص بالرجال، وبالأصفر الفاقع فيما يختص بالنساء، ولم يكن تصويرها بالغا نهاية ما يصوره الخيال من الكمال، بل كانت عبارة عن صور للنساء والرجال بالغة في الصحة والدقة، وكل شخص له من هيئته ووصفه إشارة إلى الحالة التي تليق بمقامه خاصة؛ فالسيد الجليل يكون واقفا وفي يده العصا، أو جالسا على مسطبة من الحجارة، وجسمه معتدل، ورأسه مرتفع، ونظره حاد، والكاتب يجثو أمامه بكل خضوع، وذراعاه مشتبكان فوق بعضهما، أو يقعد مربعا وعلى ركبتيه درج من البردي كأنه مستعد لتسطير ما يمليه عليه مولاه. وأما العبد والأمة فيهرسان الحبوب لعمل الخبز اللازم لكل يوم، ويعجنان الطحين، ويطليان القدور بالقار، ثم يذهبان ليملآها نبيذا، وليست هذه الصور تشابه ما عندنا في كونها تمثيلا من غير حياة لجسم من الأجسام، بل هي أجسام حية تمثل الشخص الذي هي تصوير له، حتى إنك لتظن أن الملك أو الإله أو الفرد من الأفراد الذي أمامك تمثاله أو صورته كأنه قد نفخ فيها شيئا من روحه ، وأفاض عليها جزءا من حياته بحيث إن ذلك يسمح لها عند الاقتضاء بالكشف عن المغيبات، وما يستقبل من الأمور، فأما التماثيل التي تشاهد في القبور فهي تقوم في الواقع، ونفس الأمر مقام الجثة المحنطة، وتكون سندا للروح، ولو تبددت تلك الجثة، وعبثت بها أيدي الزمان. ومن هذا تعلم السبب في كون الصانع مصورا أو نقاشا، كان يسعى جهده، ويبذل قصارى ما عنده في جعل صنعه أشبه شيء بالأصل الذي أخذ على نفسه تمثيله؛ أي لأجل أن تكون النفس قديرة على التصرف في جسمها الحجري بسهولة، وعلى الوجه الذي يوافقها وترتضيه؛ ولذلك كان من المحتم أن هذا الجسم يكون مثالا كاملا للجسد الذي قد حلت فيه الحياة، ويكونان سواء في حسن المنظر، وفي العاهات التي ألمت به، وما كان فيه من السماجة والتشويه.
وأحسن المصنوعات التي وصلت إلينا، وحفظت إلى يومنا هذا من آثار الدولة الأولى، والدولة الوسطى هي؛ الكاتب الجالس مربعا وهو (شكل
7-2 ) بمتحف اللوفر بباريس، والتمثال المعروف بشيخ البلد (شكل
7-3 )، وتمثال خفرن، وتمثال الملكة، وهذه التماثيل الثلاثة الأخيرة موجودة بمتحف الجيزة، وقد ظهر في أيام ارتقاء الدولة الطيبية، وفي عصر الدولة الصاوية بعض تماثيل تستلفت الأنظار، وتدعو إلى الإعجاب، ولكنها على طراز جاف خال من الحرية الكاملة، والتصرف التام كما كان الحال في العصر المنفي. (6) الفنون الصناعية
تقدمت الفنون الصناعية بوادي النيل من أول الأمر تقدما عجيبا فائقا، فكان المصريون يشتغلون بغاية الحذق والمهارة على الأخشاب والمعادن النفيسة، والثبهان (البرونز) (شكل
7-4 )، وعلى الأحجار الدقيقة اللطيفة، وكانوا من أيام العائلة الرابعة والخامسة يصطنعون الزجاج والزليج
1
المموه بالألوان والأصباغ، والمنسوجات الموشاة المطرزة، ويقدون الجلود، هذا وقد اطلعنا على عدد عظيم من هذه المصنوعات، فكان بذلك حكمنا على قيمتها أبلغ سدادا مما لم يساعدنا الزمان إلا على رؤية صورها ورسومها فقط.
فقد وجدت هذه المصنوعات في القبور، وفي أطلال المدائن، والفائدة المترتبة عليها المرتبطة بها عظيمة جدا؛ لكونها تحدثنا بتاريخ الصناعة في مصر، بل وبتاريخها على العموم، فإن أهل مصر كانوا يبعثون إلى الشام وكلديا وفينيقية، وإلى اليونان وإيطاليا، وإلى بلاد الغاليا وإسبانيا على بعدهما، ونزوحهما بعدد عظيم، ومقدار كبير من مصنوعاتهم في المجوهرات والمصوغات، والخزف والأقمشة، والعلب والغمدات التي من الخشب المشغول، وكثيرا ما اقتدى بهم وحاكاهم في بعض أعمالهم أمم البحر الأبيض المتوسط الذين كانوا بين الحضارة والهمجية، فإن الخناجر التي وجدت في ميسينة في قبور رؤساء أرجوس هي من نفس طراز الخناجر التي استكشفت في طيبة على مومياء والدة أموسيس، وجاء أول الصناع وأرباب الفنون عند اليونان، فقلدوا صور الآلهة عند المصريين، كما أن التماثيل الحجرية القديمة التي كشف عنها التراب من جهات كبيرة ببلاد الهلاد (اليونان) إنما هي تعظيم محفوف بالدقة، ولكنه خال من الرقة، أخذ عن التماثيل الصغيرة التي من البرونز، أو من الأحجار الدقيقة المصورة لبعض آلهة المصريين، فكانت هذه الأشياء الدقيقة وحدها سببا في تأثير نفوذ مصر على بلاد اليونان، وتأثير بلاد اليونان على الأمم الحديثة مدة قرون من الزمان.
شكل 7-4:
علامة لآمون وهي من البرونز وواردة من متحف الجيزة.
خلاصة ما تقدم (1)
ربما كانت الآثار التي أبقاها لنا المصريون أكثر مما أبقته أية أمة من الأمم القديمة العظيمة من المخلفات والآثار. (2)
وقد برعوا في فن العمارة والبناء، ولنا في المعابد الكثيرة الباقية الآن في مصر العليا على ما كانت عليه تقريبا نموذجات جليلة وطرازات جميلة لهذا الفن، وهي كلها مبنية على شكل واحد سواء كانت الأبنية قائمة بنفسها ومنعزلة وحدها أو عبارة عن محاريب منقورة كلها أو بعضها في صلب الجبل. (3)
وكانوا يبالغون في زخرفة مبانيهم، وما زالت جدران الحجرات مزدانة بنقوش بارزة محلاة بالألوان والأصباغ، وكانوا يقيمون التماثيل الهائلة والمسلات الطائلة في فناء المعابد أو أمام الأبواب التي كان يتوصل إليها في بعض الأحيان من ممشى تحف بها تماثيل الإسفنكس. (4)
وفي عهد الدولة القديمة كانت القبور عبارة عن مساطب من الحجر أو من الآجر، ثم اختلطت القبور المنقورة في بطن الجبل بالقبور المنعزلة، وذلك في أيام الدولة الطيبية. ونرى في الوادي المعروف بباب الملوك الذي به مدافن فراعنة العائلة التاسعة عشرة والمتممة للعشرين أجمل وأبهى ما في مصر من القبور التي تحت الأرض! (5)
ولم يكن النقش والتصوير إلا متممين لفن العمارة، وقد ظهر في قبور العصر المنفي مع ذلك بعض تماثيل من الحجر أو الخشب، هي في بابها أكمل ما يمكن الانتهاء إليه في الإتقان؛ مثل تمثال الكاتب الجالس المحفوظ بمتحف اللوفر بباريس، وتمثال شيخ البلد، وتمثال خفرن المحفوظين بمتحف الجيزة. (6)
وقد تقدمت الفنون الصناعية تقدما باهرا منذ القرون السوالف والأعصار الخوالي، وكان في المصنوعات الدقيقة الصغيرة التي من زجاج أو مينا أو معدن منقوش أو مسبوك مثال نسج عليه الفينيقيون واليونان حينما انتقلت هذه الأشياء إلى خارج القطر المصري بواسطة التجارة، وقد ساعدت مساعدة قوية كلية على بث الذوق الصناعي في الأمم الغربية التي كانت لم تزل بعد في حالة الهمجية والبربرية.
وهو المعروف في مصر بالزليزلي أو القيشاني.
الباب الثامن
استكشافات شامبوليون والكلام على علماء الآثار المصرية من الفرنساويين (1) مبادئ الكتابة الهيروغليفية
إن أقدم الآثار المصرية التي وقفنا عليها تدلنا على أن مصر قد كان لها في الكتابة طريقة وافية مستكملة، وأنها كان عندها الورق وفنون الأدب. وقد أطلق اليونان على الحروف التي كان أهلها يستعملونها لفظة هيروغليف؛ أي الحروف المقدسة، وقد بقيت هذه التسمية مرعية عندنا، وتتركب الكتابة الهيروغليفية من علامات تمثل أناسا وحيوانات وأشياء مادية، ولها دلالات كثيرة مختلفة فبعضها عبارة عن حروف حقيقية توافق الاثنين وعشرين لفظا التي تتألف منها اللغة، مثال ذلك؛ لفظة الباء الفارسية تؤدى بهذا الحرف
والميم بهذا
أو بهذا
وحرف السين بهذا
أو بهذا
وحرف التاء بهذا
أو بهذا
وفي ذلك دليل على أن بعض الحروف كان لها أكثر من علامة واحدة.
وفضلا عن ذلك فهناك حروف مركبة تدل بنفسها على لفظين أو ثلاثة، ويتكون منها مقطع واحد؛ مثال ذلك العين
وتنطق إرى وهذه العلامة
تقرأ موس أو ماس وهذه العلامة
يلفظ بها حم أو حم، وهذه
أو هذه
ينطق بها قيم أو قام أو كيم (بالياء الممالة)، ولغالب هذه الحروف المقطعية أصوات كثيرة يمكن تلفظها بها، ولأجل منع الاختلاط الذي يخشى من حدوثه بسبب هذه المعاني المتعددة المختلفة كان القوم يضيفون إليها أحد الحروف الدالة على المقطع مثال ذلك الأذن
يمكن تلاوتها آد أو سوتم أو تين، فإذا كان وراءها هذه العلامة
التي هي الميم ينبغي تلاوتها سوتمو في هذا التركيب ، ومتى كان وراءها النون
وجب النطق بها تونو في هذا التركيب
فإذا كان وراءها الدال
وجب التلفظ بها آدو في هذا التركيب
وفضلا عن الحروف المقطعية توجد علامات تدل وحدها على معنى تام قائم بنفسه، وقد تقرأ هذه الحروف الدالة على المعاني المستقلة، ويتركب منها حينئذ كلمة؛ مثال ذلك البلطة
تدل على الإله وتقرأ نتر، والصليب الذي فوقه حلقة
معناه الحياة ويقرأ عنخ، وفي أغلب الأحيان لا تقرأ هذه الحروف بل توضع خلف الكلمات المؤلفة من حروف ومقاطع لتعيين معناها بنفس صورة الشيء الذي تدل عليه هذه الكلمات، وتكون حينئذ للتعريف والتمييز؛ مثال ذلك أنهم كانوا يرسمون صورة الأذن البشرية في آخر هذه الكلمات
1
التي ينطق بها مسزر؛ ومعناها أذن، أو يرسمون صورة ذراع قابض على هراوة
في آخر الكلمات التي معناها الضرب والقتل والرفع، وكل ما يقصد به وقوع أمر ممزوج بالقوة والشدة.
ومن نظر إلى الكتابات القديمة رأى هذه المبادئ فيها مختلطة؛ بحيث ينبغي معرفة معانيها ومدلولاتها بالضبط والصحة للنجاح في فك أي خط قليل. (2) الكتابة المعتادة وذكر اللسان القبطي
كانت الكتابة الهيروغليفية مستعملة خصوصا على الآثار التي من الأخشاب أو الأحجار، ولكنهم كانوا يستعملون كتابة جارية معتادة يسميها المحدثون بالقلم الهيراطيقي؛ لأجل احتياجات الحياة العادية، ولأجل نشر الأعمال الأدبية من تأليف وغيره. والمادة التي كانوا يستعملونها للكتابة عليها بهذا القلم تتركب من ألياف ورق البردي مفصولة ومدقوقة وملتصق بعضها ببعض؛ بحيث يتركب منها أفرخ طويلة دقيقة يغرونها من طرف إلى طرف، فيتكون منها أدراج (ملفات) بل أجزاء قد يزيد بعضها على ثلاثين مترا، وكانوا يكتبون عليها بقلم يتخذونه من قصبة رقيقة من البوص المعروف بالغاب (كما هي العادة الآن) يغمسونه في حبر أسود أو أحمر. وكانت الكتابة الهيروغليفية تبتدئ من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين من غير فرق، ولكن الخط الهيراطيقي كان يبتدئ على الدوام من اليمين وينتهي إلى اليسار. وكانت حروف هذه الكتابة في مبدأ الأمر فسيحة مرتفعة ثم توالت عليها السنون والقرون فصارت أصغر من الأول؛ حتى آل أمرها أن صارت عبارة عن جملة حروف متداخلة في حرف واحد، وعلامات صغيرة نحيفة نحيلة مختلطة مختلة، وقد سميت هذه الكتابة بالقلم الديموطيقي؛ أي القلم العامي، وقام هذا القلم شيئا فشيئا مقام القلم الهيراطيقي في أيام العائلة السادسة عشرة ثم رجح وتغلب عليه في أيام اليونان فصار مستعملا في الأمور المعتادة كلها.
ثم زال استعمال هذه الأقلام الثلاثة عندما دخلت الديانة النصرانية في البلاد المصرية واستبدلت بحروف الهجاء القبطية المركبة من ألف باء اليونانية، ومن ستة حروف توافق بعض أصوات مصرية ليس في اليونانية، ما يعبر به عنها. وقد استمر استعمال اللغة عند الأهالي مدة عشرة قرون بعد تلاشي الكتابة بها، ولم ينعدم اللسان القبطي من أفواه الأمة إلا في السنين الأولى من القرن السابع عشر، ومع ذلك فلا يزال مستعملا في نظام الخدم الدينية وأمور الطقوس التعبدية الكنائسية. (3) أول المحاولات في فك الكتابة البربائية
كانت هذه الأشكال الفاسدة عن أصلها أول ما توجهت إليه همة الباحثين، وحامت حوله أنظار الطالبين المدققين حينما وجه العلماء من الإفرنج عنايتهم إلى العاديات المصرية؛ فتحققوا أن في اللهجات الحديثة بقايا من اللهجات القديمة، ولكنهم لما أرادوا أن يدرسوا الكتابة ويقفوا عليها لم يعرفوا ما هي الطريقة التي ينبغي لهم استخدامها في فك هذه الطلاسم والرموز. وانتهى القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديان ولم يجن العلماء ثمرة من اجتهادهم وانصبابهم على هذا العمل وكدهم وكدحهم في هذا السبيل، ولم تبتدئ الأبحاث المهمة إلا عند حملة الجنرال بونابرت على مصر، وذلك أن لجنة من العلماء أخذت ترود البلاد وتجوبها مدة ثلاث سنين من سنة 1799 إلى سنة 1801 وهي مشتغلة برسم خريطة القطر ورسم مواقع الأطلال ونسخ صورة النقوش البارزة والكتابات، التي على الآثار وألفوا ذلك الكتاب الفريد والسفر الحافل الجليل المعروف ب «وصف مصر» الذي لم يفقه كتاب كاتب، بل لم ينسج على منواله إلى الآن ناسج. وفي أثناء ذلك وجد بوستار وهو من ضباط الطوبجية بالقرب من مدينة رشيد أمرا رسميا بتمجيد الملك بطليموس الخامس وهو مكتوب بخطوط ثلاثة «هيروغليفي وديموطيقي ويوناني»، وحينئذ أشار العلامة الفاضل والمحقق الخالد الذكر سلفستر دوساسي والموسيو آكربلاد السويدي إلى المعنى الذي تدل عليه بعض العلامات في الكتابة الديموطيقية، بل إن الثاني منهما رتب حروف هجاء من المستعملة في القلم الديموطيقي، ما زال العلماء يعولون على معظمها، وما برح أكثرها معتبرا لديهم وموافقا للصحة والضبط ثم رجع العلماء إلى البحث والتنقير من سنة 1814 إلى سنة 1818، وكان أولهم العالم الإنجليزي الطبيعي توماس يانج، فعرف في الخانات الملوكية الموجودة في النقش الذي على حجر رشيد اسم بطليموس وبرنيقة (أو برنيكة) واستخرج منها ألف باء صغيرا قد تحقق العلماء بعد ذلك من صحة خمسة علامات منه وموافقتها للحقيقة والواقع ولكنه لم ينجح في مسعاه الذي قصد به توفية البحث واستكمال فك هذه الرموز، ولا زال الحال على هذا المنوال حتى جاء شامبوليون فظفر بالضالة المنشودة ونال الفخار كل الفخار بالوقوف على كنه هذه الأسرار. (4) ذكر شامبوليون
ولد شامبوليون الصغير في مدينة فيجاك (بندر مقاطعة اللوت بفرنسا) في 24 ديسمبر سنة 1790 (شكل
8-1 )، واشتغل بدرس اللغات الشرقية منذ شبيبته، وخصوصا اللسان القبطي، ومن سنة 1811 إلى سنة 1814 نشر الجزءين الأولين من كتابه الذي سماه «مصر في عهد الفراعنة» صحح فيهما جغرافية هذه البلاد مستندا على تواريخ وآثار قبطية، وبعد أن اعتقد وجزم بأن الهيروغليفي هو عبارة عن علامات تدل على أفكار ومعان مستقلة بالمفهومية رجع عن هذا الاعتقاد، وانتهى أمره بالاعتراف بأنها علامات يتلفظ بها، وقد ضمن أول نتيجة ظهرت من أعماله في رسالة بعث بها إلى المسيو داسييه السكرتير الدائم في جمعية النقوش والآداب، وطبعت هذه الرسالة في شهر سبتمبر سنة 1833، فقابلها الناس ببعض الإنكار، وقلة التصديق، ولكنه أزاح الشك، وأزال الريب عن صحة هذا الاكتشاف عندما نشر بعد ذلك بسنتين كتابه الذي سماه «خلاصة على قواعد الكتابة الهيروغليفية».
شكل 8-1:
شامبوليون الشاب ولد سنة 1790 وتوفي سنة 1832.
وقد حلل شامبوليون الخانة الملوكية
التي رأى فيها العلامة يانج اسم بطليموس، ثم فصلها إلى
باء و
تاء و
واو و
لام و
ميم و
ياء و
سين، ثم اختبر هذه الحروف في خانات ملوكية أخرى قرأ فيها اسم برنيقة (أو برنيكة) وكلوبترة (أو كليوبطرة) والإسكندر ليتحقق بالمقارنة من صحة العمل، وبهذه المثابة تحصل على حروف هجاء أولية وهي
نصبة أو فتحة «
» و
ألف و
باء و
و
دال وتاء و
ياء و
كاف و
قاف و
و
لام وراء و
ميم و
نون و
واو و
پاء والأوزة
أو المزلاج
أو هذه الإشارة
يلفظ بها كلها سينا و
يلفظ بها «إكس
x » ثم كملها بعد قليل بتحليل أعلام ملوكية يونانية ورومانية وفرعونية، ثم أوضح بعد ذلك أن الصيغ النحوية في اللغة الهيروغليفية توافق المصطلح عليها في اللسان القبطي، وأنه بناء على استكشافه هذا أصبح من السهل على كل إنسان ترجمة هذه الخطوط وقراءتها. ثم ساح مرتين في إيطاليا من سنة 1824 إلى سنة 1826 فتيسر له بذلك تقويم تاريخ الدولة الأخيرة الطيبية كله، وقد اشترى أيضا في مدينة ليفورن مجموعة سالت
Salt
للحكومة الفرنساوية وهي جرثومة المتحف المصري بباريس، ثم أرسل إلى مصر في شهر يوليو سنة 1828 فراد البلاد كلها لحد الشلال الثاني هو ولجنة توسكانية، وعاد منها ومعه أشياء نفيسة ومصنوعات متنوعة هي الآن محفوظة بمتحف اللوفر بباريس، ونقل أيضا جملة رسوم وصور قد نشرت فيما بعد بعنوان «آثار مصر والنوبة»، ولما عاد إلى باريس في شهر مارس سنة 1820 استحصل على الرخصة بإحداث درس في علم الآثار المصرية بمدرسة فرنسا، ولكنه عاجلته منيته في 4 مارس سنة 1832، وقد أنهكته الأسفار وأضناه الترحال وهد قواه دأبه على العمل والاجتهاد، وترك للخلف كتابين بخط اليد لم يساعده الزمان على تكميلهما وهما؛ كتابه في مفردات اللغة المصرية؛ وكتابه في قواعدها النحوية، فكانا دليلين على مروره بهذه الدار الفانية ، وأن له فيها أعمالا باقية. (5) الكلام على علم الآثار المصرية بعد شامبوليون
ما لبث العلم الذي وضع هذا المجتهد قواعده أن انتشر بسرعة تامة في أنحاء أوروبا، ففي إيطاليا بواسطة «روزليني» رئيس البعثة التوسكانية الذي رافق شامبوليون في مصر، فإنه نشر كتابا سماه «الآثار» تكلم فيه على ما عثر عليه، وجمعه أثناء رحلته. وفي إنجلترا على يد «ولكنسن، وهنكس، وبرش»، وفي ألمانيا بهمة «ليبسيوس، وبنسن»، وأما فرنسا فقد ترك فيها هذا الأستاذ شقيقه البكري شامبوليون فيجاك فسار على أثره قاصدا تكميل طريقته مع غاية الاجتهاد، ومن غير انتقاد، وكذلك تلامذته «شارل لونورمان، وأمبيروبواتفان وف. دوسولسي» على أن اجتهاد علماء الفرنساوية الباحثين في اللغة المصرية لم يرجع إلى مقامه الأعلى، ودرجته القاصية إلا حينما جاء على رأسهم العلامة عمانويل ده روجه (المولود سنة 1811 المتوفى سنة 1872).
وقد توصل العلماء إلى فك هذه الخطوط بالتمام والكمال، ولكنهم لم يكونوا قادرين على ترجمتها بل كان القوم يكتفون باستخراج قطع من جملها والإتيان بطريقة حيثما اتفقت على ما تضمنته من الحوادث التاريخية، حتى جاء الجهبذ ده روجه فنشر سنة 1849 كتابه الذي سماه «بحث على نقوش أحمس» وأوضح فيه الطريقة التي ينبغي التعويل عليها في إعراب الجملة المصرية وتحليلها لتعيين معنى كل كلمة وكل عبارة بالضبط والدقة، واستبدل الجمل التفسيرية المبنية على الظن والتخمين التي اكتفى بها العلماء إلى ذلك العهد بترجمة حرفية دقيقة جدا، وهو أول من اجتهد في درس الكتابات التي بخط اليد بالقلم الهيراطيقي، وكاشف العلماء بماهية وكنه الفنون الأدبية عند المصريين بما أتحفهم به من ترجمة قصيدة بنتارو (سنة 1858)، ولما عين مدرسا بمدرسة فرنسا سنة 1860؛ جرى في تعليمه بها على الطريقة الدقيقة التي اتبعها في أشغاله الشخصية، وقد أتى بنتائج صادقة حقيقية في كل عمل باشره سواء كان متعلقا بالتاريخ أو بالنحو.
ولنا أن نقول: إن ما استنبطه هو موافق للصحة مطابق للصواب، وأنه سيبقى كذلك على ممر الأحقاب. وفيما كان عدد قليل من العلماء مثل شاباس ودڤٻريا وبوشير يقتدون به ويجتهدون في طبع نسخ الخطوط التي سبق للناس معرفتها؛ كان أوجست مارييت (المولود سنة 1821 المتوفى سنة 1881) يعاود أعمال شامبوليون على نفس شواطئ النيل، وقد بذل قصارى جهده في تكثيرها وترقية العلم بها، بما لم يكن في الحسبان، فإن الحكومة الفرنساوية أرسلته إلى مصر في سنة 1850 فعثر على السرابيوم المجاور لمنف وأتحف متحف اللوفر بعدد وافر من المخلفات وكمية عظيمة من الآثار، وقفنا منها على تاريخ العائلات المصرية الأخيرة كله تقريبا.
وفي سنة 1858 عين مديرا عاما للآثار القديمة في مصر وبقي في هذه الوظيفة إلى أن اخترمته المنون، وقد أسس متحف «أنتيكخانة» بولاق وأزال الأتربة والردوم التي كانت متراكمة على الهياكل الكبيرة بإدفو ودندرة وأبيدوس، وراد المدافن القديمة التي في منف، وكان أينما ذهب تراءت له الآثار كأنها تجيب نداءه وتلبي طلبه؛ وبذلك يحق لفرنسا أن تفتخر بشامبوليون في فك الهيروغليفي، وبروجيه في تنظيم طريقة القراءة الهيروغليفية وترجمتها، وبمارييت في تأسيس مصلحة منتظمة تقوم بالبحث عن الآثار المصرية وحفظها، وأما إنجلترة وألمانيا وهولاندة وإيطاليا والنرويج والسويد والروسيا فقد دخلت في هذا الميدان على إثر فرنسا، واشتركت في الأعمال التي سبقهم فيها الفرنساويون بما جعل لهن أيضا نصيبا في الفضل والفخار. ويقول الفرنساويون إن أمامهم شيئا كثيرا ينبغي عليهم عمله للمحافظة على هذا التقدم وهذا الرجحان، وأنهم ما زالوا محافظين عليهما إلى الآن، وما برحوا يوالون السير في الطريق الذي اختطه مارييت في مصر، فإن الإرسالية المستديمة المستحدثة في القاهرة سنة 1881 هي سائرة في طريق التقدم والنجاح.
خلاصة ما تقدم (1)
إن أقدم الآثار المصرية هي التي تدلنا على أن سكان وادي النيل لهم حروف يستعملونا، وقد سماها اليونان بالهيروغليف؛ أي الحروف المقدسة، وهذه الكتابة الهيروغليفية تحتوي على إشارات تدل على الحروف «الساكنة والمتحركة» وحروف مقطعية وحروف لها معان قائمة بنفسها مستقلة بها، وأكثرها لا يستعمل إلا لتحديد المعنى وتعريفه. (2)
وكانوا يستعملون في أمورهم العادية واحتياجاتهم اليومية الخط الهيراطيقي من ابتداء القرن السابع قبل الميلاد، وهذا القلم هو عبارة عن أشكال مختصرة ورسوم مختزلة من العلامات الهيروغليفية، ولما دخل المصريون في دين النصرانية اتخذوا حروف الهجاء اليونانية وأضافوا إليها ستة حروف فتكونت عندهم حروف التهجي المستعملة في اللسان القبطي. (3)
وابتدأ العلماء في محاولة فك الخطوط الهيروغليفية في القرن السادس عشر للميلاد، ولكنها لم تأت بنتائج مهمة إلا عقب حملة الفرنساوية على مصر (من سنة 1799 إلى سنة 1801) واستكشف السويدي أكربلاد، والفرنساوي سلفستر دوساسي في حجر رشيد على مبادئ هجائية ديموطيقية، وأما الإنجليزي يانج فقد تعرف فيه شيئا من حروف الهجاء الهيروغليفية. (4)
أما شامبوليون الصغير المولود في فيجاك (بمقاطعة اللوت بفرنسا) سنة 1790 فقد انتهى بالاستكشاف على قواعد الكتابة المصرية وأصولها، وقرأ النقوش بالصحة والدقة، وعند وفاته في سنة 1832 كانت القواعد الأصلية لفك الهيروغليفي وطيدة ثابتة أكيدة. (5)
وقد انتشر علم الآثار المصرية الذي أسسه انتشارا سريعا في إيطاليا وإنجلترا وألمانيا، وكان لفرنسا إلى عهدنا هذا النصيب الأوفر والحظ الأكمل في تقدم هذا العلم الحديث بواسطة ده روجه ومارييت وشاباس وعشرين عالما آخر ما زالوا يشتغلون بتوسيع نطاقه والسعي في إبلاغه حد الإتقان والكمال.
هذه الكلمة تقرأ من اليسار إلى اليمين.
الكتاب الثاني
في تاريخ الكلدانيين والآشوريين
الباب التاسع
وصف بقعة دجلة والفرات (1) دجلة والفرات
بلاد كلديا تشبه مصر في كونها «هبة من هبات الماء»، إلا أن هذه تكونت من نهري دجلة
1
والفرات وتلك من النيل وحده.
وهذان النهران تتفجر منابعهما وعيونهما من بلاد أرمينية في جبل تيفاتس (الذي هو الآن كلشن طاغ) وهو أعلى الجبال الممتدة فيما بين البحر الأسود وهضبة إيران، وينفرد عن جميع هذه الجبال بكون بعض قلله يكون الثلج عليها مستديما، ويتكون نهر الفرات من غديرين تنحدر إليهما السيول أحدهما مراد صو والثاني قره صو، ثم يجري في أول الأمر من الشرق إلى الغرب في مضايق شامخة قحلاء جرداء ووديان ضيقة حرجة، ثم يأخذ فيما بعد ملاطية (ملاتييسة ) في الانعطاف مرة واحدة نحو الجنوب الغربي، ويجعل له طريقا في خلال جبل طوروس؛ بحيث يحسبه الناظر متجها نحو البحر الأبيض المتوسط، ثم يتورب نحو الجنوب الشرقي متجها إلى الخليج الفارسي. وأما نهر دجلة فإنه يتولد بالقرب من نهر مراد صو، ولكنه يسيل بعكس الفرات من المغرب إلى المشرق، ومتى وصل إلى آخر نقطة من مضايق الجبال انحرف وانحنى نحو الجنوب، واقترب من الفرات؛ فلا تكون المسافة بينهما قبيل بغداد إلا بضع مراحل في أرض واطئة مطمئنة، ولكنهما لا يختلطان في هذه الجهة بل يجريان متحاذيين متوازيين تقريبا نحوا من عشرين ميلا إلى ثلاثين، ثم يبتعدان فلا يلتقيان إلا بعد ثمانين مرحلة؛ وحينئذ يمتزجان ببعضهما فيتكون منهما نهر شط العرب، وينصب في الخليج الفارسي.
ونهر الفرات يأتيه في متوسطه نهران من جهة اليسار يمدانه بمياههما، وهما بليخ والخابور، وبعد اتصال الخابورية لا يأتيه شيء من الماء إلى أن ينصب في البحر، وأما دجلة فإنه تنصب إليه مياه الزابين وأدهم وديالى. ويمكن للسفن أن تسير في جزء عظيم من مجراهما؛ فإن الفرات تسير فيه السفن من ابتداء سميساط
2
وأما دجلة فمن ابتداء الموصل. وعندما تذوب الثلوج في أوائل أو أواسط أبريل يزيد هذان النهران وتفيض مياههما وتنتشر على المزارع وفي الريف؛ مثل نيل مصر، ثم لا ينقصان إلى الحد المعتاد لهما إلا بحلول شهر يونيو حينما تشتد الحرارة. (2) تكوين أرض كلديا
لم يكن الحوض الذي يسقي بلاده دجلة والفرات، كما هو عليه الآن فيما سبق من الأعصار والأزمان، فإنهما قبل التاريخ بأجيال طوال كانا لا يرويان عند خروجهما من الجبال إلا سهلا فسيحا غير ذي استواء، تكون في العصر الثاني «الجيولوجي» وأطلق عليه القدماء اسم ميزوبوتاميا؛ أي أرض الجزيرة
3
فكانت الخصوبة فيها على جوانب الغدران وحوالي العيون التي تخرج منها الأنهار، وفيما سوى ذلك كانت الأرض جرداء قاحلة، وكانت النهاية الجنوبية لهذا السهل كشاطئ للبحر تغمرها مياهه وتتلاعب فيها أمواجه، وكانا يتصبان على مسافة عشرين مرحلة من بعضهما في خليج يحده شرقا آخر الجبال الإيرانية، وغربا الرمال المرتفعة التي تنتهي إليها هضبة بلاد العرب.
أما القسم الأسفل من هذا الوادي فأرضه كلها أحدث من أرض القسم الأعلى، فإنها قد أحدثها دجلة والفرات والنهيرات الأخرى مثل أدهم وديالى وخواسيس، وقد كانت هذه النهيرات مستقلة مدة طويلة من الزمان، وساعدت بنفسها على ردم ساحل البحر، وأزاحت مياهه عنه ولكنها آل أمرها إلى أن صارت مجاري ثانوية تنصب في نهر دجلة، وفي هذه الأيام يشاهد المتأمل تقدم دلتا شط العرب واتساع نطاقها، فإن متوسط زيادة طرح البحر يعادل ألفا وخمسمائة متر في كل سبعين سنة.
ولا بد أن هذه الزيادة كانت أكثر من ذلك في الأزمان القديمة، وربما أنها كانت تبلغ ألفا وخمسمائة متر تقريبا في كل ثلاثين سنة.
وفي العصر الذي توطن فيه أجداد الكلدانيين بهذا الوادي كان الخليج الفارسي يمتد في داخله إلى أكثر مما هو عليه اليوم بأربعين مرحلة، وكان دجلة والفرات ينصبان إلى البحر وبينهما مسافة تفصلهما عن بعضهما، ولم تمتزج أمواجهما ببعضها إلا بعد ذلك بآلاف وآلاف من السنين. (3) إقليم كلديا ومحصولاتها
إن القطر المكون من طمي الأنهار لا سيما نصفه المجاور لشواطئ الخليج الفارسي كان موطنا ومهادا للأمم الأولى التي استقرت بهذه الديار، وقد كان هذا القطر سهلا فسيحا مستويا، ليس مضرسا بالارتفاعات والانخفاضات، ولم يكن الفرات محصورا حصرا جيدا بين شاطئيه؛ فلذلك كان يتفرع ذات اليمين وذات الشمال، وبعض هذه الفروع تنصب في دجلة، وبعضها يجري إلى البطائح. وكان قسم من الأرض محروما من المياه، فأخذ في التصلب والجمود من تأثير أشعة الشمس المحرقة عليه في كل يوم، وقسم آخر قد انهالت رمال البيداء عليه كله تقريبا، وتراكمت فوقه، وتراكبت، وأما بقية القطر فما كانت إلا كبحيرة مستنقعة موبئة مشحونة بالغاب الهائل الذي كان يختلف طوله بين اثني عشر وخمسة عشر قدما، وكان إقليم هذه البلاد ولا يزال عرضة لتغيرات جوية مخيفة، ففي الشتاء تهب عليه رياح الشمال، ورياح الشمال الشرقي بعد أن تمر على نجاد أرمينية ، وإيران التي تعلوها الثلوج؛ فلذلك تكون درجة الحرارة فيها منخفضة جدا، ويحصل الجليد في شهر يناير، وتتغطى المياه الراكدة في صباح كل يوم بطبقة رقيقة من الثلج تذوب عند طلوع الشمس، ومتى جاء الصيف حل بها الحر الشديد؛ فتهب الريح الجنوبية الغربية آتية من بلاد العرب فيضطر ساكنيها إلى الالتجاء عند منتصف النهار في حجرات مظلمة، أو في أقبية وأنفقة وسراديب تحت الأرض، وليست هذه الأراضي غير متوفرة فيها أسباب الثروة، وأصول الرزق الطبيعية. نعم إن أشجارها النافعة قليلة؛ إذ يندر فيها شجر الكرم، والتين، والزيتون، ولكن القمح ينبت فيها على حالته البرية، وأشجار النخيل تزهو فيها وتبسق كما تصلح بأرض مصر. قال هيرودوت ما تأتي ترجمته:
إن أرضها موافقة كل الموافقة لزراعة الحبوب بحيث إن محصولها يكون في العادة بمعدل مائتي حبة عن كل واحدة، بل ثلاثمائة في الأرض البالغة في الخصوبة، ويبلغ عرض ورقة القمح والشعير فيها أربعة أصابع، وأما الأذرة والسمسم فإنهما يعظمان فيها حتى يصيرا كالأشجار، وإني أتحاشى الكلام على مقدار ارتفاعهما لعلمي بأن قولي لا يقابل إلا بالريب، وعدم التصديق عند من لم يسكنوا أرض بابل. ولا يستعمل زيت الزيتون هنالك قط، بل إنهم يصطنعون زيتا من السمسم.
وقال إسترابون ما تعريبه:
إن النخل يقوم بسائر الاحتياجات التي تلزم للأهالي، فإنهم يستخرجون منه شبه الخبز والنبيذ، والخل والعسل والحلوى، وجميع أجناس المنسوجات، والحدادون يستعملون نواه في الحريق بدلا من الفحم، وقد يستعملون هذا النوى أيضا في التغذية وتسمين الأثوار والضأن بعد دقه ونقعه، ويقال: إن في الفارسية قصيدة تتضمن ثلاثمائة وستين طريقة لاستعمال النخيل. (4) حيوانات كلديا
كان عند قدماء الكلدانيين ما عند قدماء المصريين من الحيوانات الأهلية المستخدمة وهي؛ الثور والحمار والضأن والمعز والخنزير، وأما الجمل والفرس فقد أتياهم قبل أن يدخلا مصر. وكانت الطيور عندهم بكثرة وافرة خصوصا المائي منها مثل البط والأوز وطير الرخم، وكانت الأنهار والبرك مشحونة بسمك صالح للأكل مثل البوري والبني، وما زال السمك الطري والمملح له دخل عظيم إلى الآن في تغذية السكان المحدثين بهذه البلدان. وأما الحيوانات الوحشية فربما كانت أكثر من الحيوانات المستأنسة، فكان الأسد وكثير من الوحوش التي من فصيلة السينور تتردد على شواطئ النهيرات. وأما الفراء وهي الحمر الوحشية فكانت تجوب أرض الجزيرة عرجلة عرجلة؛ أي جماعات جماعات. وقد كان الثور الوحشي في جميع أنحائها. والظاهر أن الفيل نفسه قد أقام في الخطط والبلاد المجاورة لبر الشام. (5) تكوين عيلام وكلديا
ومجمل القول أن البقعة البطائحية التي تمتد من هضبة بلاد إيران في حدود مصبي الفرات ودجلة؛ كانت معدة مثل الدلتا في مصر لأن تكون مهدا لحضارة فائقة ومدنية عظيمة كاملة. ولما توالى عليها الزمان تكون فيها دولتان متمايزتان.
فالأولى هي دولة عيلام؛ تألفت من المدائن والقبائل الواقعة شرقي دجلة، وقد يسمونها دولة شوشية باسم أهل مدائنها (مدينة شوشة).
وأما الثانية؛ فقد تألفت من المدن والعشائر المستوطنة غربي دجلة، وسموها في العادة بدولة كلديا، وسأحفظ لها هذا الاسم وأجعله علما عليها، ولو أنه غير صحيح، ولا ينطبق عليها فيما يختص بالعصور السابقة على القرن الثامن قبل الميلاد. وكان أهلوها يقسمونها إلى قسمين عظيمين وهما؛ قسم شومير وقسم أكاد، وكما أن الفراعنة كانوا يلقبون أنفسهم بأسياد الإقليمين وملوك القطرين القبلي والبحري؛ كان ملوك الكلدانيين كذلك يحبون أن يدعون بملوك شومير وأكاد.
خلاصة ما تقدم (1)
أرض كلديا هي كبلاد مصر في كونها هبة من هبات المياه، ولكنها تكونت من نهرين هما دجلة والفرات، وهذان النهران يخرجان في بلاد أرمنية من جبل نيفاتس، ثم يتحدان قبل أن ينصبا في الخليج الفارسي بقليل، فيصيران نهرا واحدا يعرف بشط العرب، ويستمد الفرات في سيره بمياه نهر الخابور وبليخ، وأما دجلة فيستمد بنهري الزاب ونهر أدهم ونهر ديالى. (2)
وجميع القسم الأسفل من حوض هذين النهرين أحدث في التكوين من القسم العلوي، فقد كان الخليج الفارسي في العصر الذي يبتدئ فيه تاريخ كلديا داخلا في الأراضي زيادة عما هو عليه الآن بأربعين مرحلة، وما كان دجلة والفرات يختلطان ببعضهما في ذاك العهد. (3)
وقد كان قسم من هذه الأراضي تغمره مياه الفيضان فتجعله بطائح، وقسم آخر محروما منها فلم يكن صالحا للزراعة، وكان الإقليم ولا يزال إلى الآن عرضة للتغيير الكثير ، وليس في هذه البلاد غابات كثيرة بل هي شبيهة بمصر في توفر النخيل وكثرته بها، وينبت فيها القمح وغيره من الحبوب بما يأتي بالمحصول الزائد والخير العميم. (4)
الحيوانات الأهلية المستخدمة في هذه البلاد هي نفس المعروفة في مصر؛ وهي الثور والحمار والضأن والمعز والخنزير، وقد عرف أهلها الفرس والجمل قبل أن يعرفهما المصريون. (5)
قد نشأت دولتان في هذا الوادي المستعد استعدادا تاما لأن يكون مهدا لحضارة فائقة، فتكونت الدولة الأولى من جملة دول صغيرة على شرقي دجلة وهي مملكة عيلام، وكانت قاعدتها مدينة شوشة. وأما الممالك الصغيرة الأخرى الواقعة على غربي دجلة، فقد تألفت منها الدولة الثانية التي اصطلح الناس واعتادوا على تسميتها كلديا، وهي مؤلفة من قطر شومير وقطر أكاد.
لا يقال الدجلة بأداة التعريف «ال» كما لا يقال فرات بدونها، بل الفرات. وأغلب كتاب العرب يؤنثون «دجلة» باعتبار اللفظ، ويذكرونه باعتبار النهر. ورد ذكره في الكتاب المقدس وسمي بالسريع، وكان الماديون يسمونه دجل؛ أي السهم؛ لسرعة سيره، وسماه العبرانيون الداجل؛ أي السريع، ثم قالوا أدجل ثم دجلة، وسماه الرومان دجليتوس، وحرفه اليونان إلى تجرس وتابعهم الإفرنج في تسميته تيجر
Tigre
وربما كان اسمه العربي مشتقا من دجل الأرض بمعنى قطعها سيرا أو غطاها «بفيضانه»، ولكن الأرجح أنه معرب عن الاسم المادي أو العبراني، ويعرف اليوم عند الأتراك وفي خرائطهم باسم الشط.
صامسات في الخريطة التركية.
يخلط بعض الكتاب والمشتغلين بالجغرافيا فيسمون هذه البقعة الواسعة بجزيرة ابن عمرو، والحقيقة أن هذا الاسم يدل على مدينة صغيرة فقط، وأما هذه البقعة فتسمى بأرض الجزيرة أو بالجزيرة فقط.
الباب العاشر
أصل الكلدانيين والكلام على أيامهم الأولى (1) روايات الكلدانيين عن الخليقة
قالوا «لما كان هذا الشيء الذي فوقنا لا يسمى سماء، ولما كان هذا الذي تحت أقدامنا لا يسمى أرضا» نتجت كائنات وهمية وأشخاص خيالية من الهاوية والبحر والمحيط الدائم، ولا زالت صور هذه الكائنات والأشخاص باقية على الآثار القديمة، ونتج أيضا «مقاتلون لهم أجساد كأجساد الطيور ورجال لهم وجوه كوجوه الغربان» وأثوار لها رءوس بشرية وكلاب لها أربعة أجساد وذنب كذنب الأسماك، وكان الإنسان على الشكل الذي نعهده وهذه الصورة التي نراه عليها، يعيش عريان أعزل فيما بين هذه الوحوش وهذه المسوخ، إلى أن خرج من الخليج الفارسي حيوان اسمه أوانس ليعلمه ويهذبه، وكان لهذا الحيوان جثة سمك ورأس وصوت يشابهان رأس الإنسان وصوته، وله أرجل كأرجله ولكنها تخرج من ذنبه الذي هو ذنب سمك.
وكان يقضي نهاره في تعليم الكلدانيين فنون الأدب وضروب العلوم وصنوف الصنائع وأصول الشرائع ومبادئ الهندسة وأوقات الزراعة وأيام الحصيد؛ حتى إذا غربت الشمس آوى إلى البحر فغطس فيه وأمضى الليل تحت لجة الماء «ومن عهده إلى الآن لم يخترع شيء فائق.» (2) الطوفان
ثم تكاثر الناس وازداد عددهم واختاروا لهم سيدا منهم، وأول من تقلد الملك كان اسمه الوروس؛ وهو من مدينة بابل، ثم خلفه تسعة ملوك آخرين، وأصلهم كلهم من مدائن الكلدانيين، وكانت مدة حكم الجميع ثنتين وثلاثين سنة وأربعمائة سنة، وفي أثناء ذلك استولى الشر على الإنسان حتى صمم الآلهة على إعدامه من هذا الوجود، إلا الملك الذي كان حاكما في ذلك الزمان واسمه شيسوتروس ونفرا قليلا من المؤمنين الصالحين، فقال له الآلهة «اصنع فلكا عظيما لك ولأتباعك لأننا سنعدم بذرة الحياة» فأطاعهم الملك حتى إذا تم الفلك سمع الناس صوت هاتف يقول «عند المساء تمطر السماء الهلاك والإعدام، فادخل الفلك واقفل بابه.»
ولما كان صباح اليوم الثاني «هبت المؤتفكات وعصفت الزوابع حتى ملأت السماء وطغت المياه وتلاشى ضوء النهار في الظلمات، فكان الأخ لا يرى أخاه وصار الناس لا يعرف بعضهم بعضا؛ حتى خشي الآلهة أنفسهم أن يعم الطوفان السماء، فصعدوا إلى الجلد الأعلى ليكونوا آمنين مطمئنين، وما زالت العواصف والقواصف والزوابع والزعازع متوالية بلا انقطاع مدة ستة أيام وسبع ليال، وعند فجر اليوم السابع انقطعت الأمطار وسكنت الرياح بعد أن طغت واشتدت، مثل الجيش القوي العظيم، ثم هبطت مياه البحر وسكنت الرياح والعواصف.»
قال شيسوتروس: «فجبت البحر أنوح وأنتحب؛ لأن بني الإنسان رجعوا كلهم إلى الطين، وكانت أشلاؤهم طافية حولي كأنها أعجاز نخل خاوية، ففتحت النافذة، فلما أبصرت الضوء انقبض صدري وتولاني الحزن والكآبة، فجلست أبكي، وكانت الدموع تسيل على خدي.» واستوى الفلك على قلة الجبال الجوردية، فتربص شيسوتروس ستة أيام، ثم أطلق حمامة فحومت، ولم تجد محلا تقف عليه فرجعت، وعاد طير الخطاف مثلها إلى السفينة، وأطلق غرابا بعد الخطاف فرأى جيفا على وجه الماء فأكل منها ثم عام وهام بعيدا ولم يرجع، وحينئذ أخلى شيسوتروس سبيل الحيوانات، وبنى محرابا على قلة الجبل وقدم القربان للآلهة، وقد رضي بعل أعظم الآلهة بأن الناس الذين نجوا بالفلك يبقون على قيد الحياة، وأنه لن يرسل الطوفان عليهم مرة ثانية. (3) أقدم الدول التي ظهرت بكلديا
تلك هي القصة التي يرويها الكلدانيون عن القرون الأولى لخلق العالم، ويتضح من أقدم الآثار التي تركوها لنا (وهي معاصرة لأكبر أهرام مصر؛ أي قبل المسيح بأربعة آلاف سنة) أن كلديا والبلاد المحيطة بها كانت قد بلغت درجة عظيمة ومقاما ساميا من الحضارة والمدنية.
وكان التمدن ضاربا أطنابه ورافعا أعلامه في طائفتين من المدائن الأولى، واقعة بالقرب من مصب الفرات وهي ايريدو وأروك ولارسام (لرسن) ولاجاش (لكح) وحاضرتها مدينة أورو (أور الكلدانيين) على الشاطئ الأيمن لنهر الفرات، وهذه المدينة كانت قائمة على سهل مطمئن تتخلله كثبان من الرمال وفي وسطها معبد للإله سين، الذي هو القمر وله ثلاث طبقات مشيدة من الآجر المطلي بالقار، وحول المدينة من جميع جهاتها قبور قد اكتشف السياح على ما فيها؛ فوسعوا نطاق المعارف بما وجدوه بها من الآثار والمخلفات، وهذه البلاد هي التي تسمى بقطر شومير. أما بلاد أكاد فكانت واقعة إلى شماليها قليلا حيث لا يفصل بين دجلة والفرات إلا شبه برزخ ضيق ومدائنها هي نيبتور وبورسيبتا وكوتا وسيبتارا، وأخصها ببابل.
وكان لكل مدينة من هذه المدائن ملوك خاصون بها وعائلات ملوكية من أهاليها، وكان بعض هذه العائلات تارة تابعة لمجاوريها أو متبوعة بها؛ أي إنها إما أن تقع تحت سلطتها أو يكون لها السيادة عليها. وقد جاء في التاريخ الخرافي ذكر لبعضهم كالملك جيلجامس، فإنه جاب البلاد وقتل الوحوش والمسوخ ونازع الآلهة وقاومهم، وأما التاريخ الحقيقي فينبئنا عن بعضهم بما أبقوه من الآثار فأقدمهم وهو «أورباو»، كان له سلطان حقيقي على القطر، وتوجد بقايا بناياته وعماراته في أغلب مدائن الكلدانيين؛ ومنهم ملوك آخرون لم يحكموا إلا على كورة أو كورتين متجاورتين مثل الملك جوريا صاحب لاجاش، وتماثيله تزدان بها الآن أروقة متحف اللوفر في باريس.
وكان الرجحان لمدائن الجنوب في أول الأمر ثم زالت سيادتها شيئا فشيئا أمام مدائن الشمال، وفي نحو سنة 3700ق.م كانت السلطة في يد عائلة من آجاني ومن ملوك هذه العائلة سرجون؛ وهو على ما يظهر من كبار المتشرعين وعظماء الفاتحين. ويروى عنه أن أمه تركته على شط الفرات عقيب ولادتها له، فالتقطه أحد الفلاحين وأنه اشتغل في شبيبته بحرفة الخولي (أي القيام بخدمة البساتين)، وقد استولى على كلديا كلها وأرض الجزيرة واخترق بلاد الشام إلى تخوم الديار المصرية، ثم إن الملوك الذين خلفوه على كرسي السلطنة حافظوا على ممالكه مدة قليلة من الزمان؛ حتى جاء العيلاميون فقلبوا دولته وفتحوا كلديا. (4) حكم ملوك عيلام
تبتدئ عيلام من شطوط دجلة بسهل جميل خصيب تكون من طمي الأنهار، وهي في الخصب شبيهة بكلديا نفسها حتى إن الحبة الواحدة من الشعير والقمح تأتي فيها بمائة حبة بل بمائتين، كما هو الشأن في كلديا، وكذلك النخيل والعجمات والرقال
1
تنبت فيها بكثرة، وخصوصا فيما جاور المدن، وتوجد فيها أيضا أشجار الأقاقيا (أنواع السنط) والجوز والصفصاف على مجاري المياه والأنهار، ثم ترتفع الأرض قليلا حتى تبلغ هضبة بلاد الماديينن ويصير الإقليم أشد بردا والأرض أقل خصوبة.
وكان ملوك عيلام قد بنوا مدينة شوشة حاضرتهم على تخوم السهل الفسيح على مسافة ثمان مراحل أو عشر من الجبال ، وعند ملتقى فرعي نهر خواسيس، وكانت القلعة والقصر مبنيين على منحدر تل يشرف من بعيد على السهل، وفي أسفله ترى المدينة نحو الشرق وهي مبنية من لبن مجفف في الشمس، وكانت عيلام أشبه بدولة إخاذية منقسمة إلى جملة ممالك صغيرة مستقلة عن بعضها، ولكنها مجتمعة كلها في العادة تحت سيطرة ملك شوشة. وكانت لغة عيلام تختلف عن اللهجات السامية، ولم يكن هناك ارتباط بين ديانتها وديانة الكلدانيين، وفيما عدا ذلك كانت أخلاق العيلاميين وصنائعهم وشرائعهم لها مشابهة قوية بما للكلدانيين.
وكان العيلاميون منذ الأحقاب الخوالي في جلاد مستديم وجهاد متوال مع الأمم المجاورة لهم ويتضح لنا من الروايات الخاصة بجيلجامس أنهم تملكوا على مدينة أريدو والمدائن الأخرى الواقعة على الفرات الأسفل، وقد هزمهم سرجون الأول ولكنهم هزموا خلفاءه، وافتتح أحد ملوكهم واسمه «كودورناخونتا» بلاد كلديا كلها في حدود سنة 2300ق.م وانتزع صور الآلهة البابلية ووضعها في معبد شوشة علامة على الفوز والانتصار. وقد حفظت ذريته السيادة على كلديا مدة أجيال كثيرة بل إنهم توغلوا في فتوحاتهم إلى داخل بلاد الشام. (5) الكلام على حالة بلاد كلديا في العصر الذي كانت فيه السيادة والصدارة للأمة المصرية
إن تاريخ هذا العصر كله، والقرون التي جاءت بعده ليس إلا خليطا من الأقاصيص والروايات عن حروب داخلية، وفتن وثورات وغارات من الأمم المتبربرة، كانت الملوك والعائلات (شكل
10-1 ) تقوم فيه، ثم لا تلبث أن ينمحي أثرها من الوجود من غير أن تؤسس شيئا له ثبات وقرار، أو أن توجد ولو إلى أجل قليل تلك الوحدة التي توصل إليها فراعنة العائلات الطيبية، وجعلوها شاملة لديار مصر كلها مدة قرون عديدة، وأزمان مديدة. نعم، لا ريب في أن بابل هي أول مدينة في هذه الأقطار، وأنها أكبر ما فيها من الأمصار، وآهلها بالسكان والعمار بحيث إن من كانت تدخل في حوزته؛ يكون له السلطة التامة، والسيادة الظاهرة على جميع أقرانه ونظرائه، ولكن سلطتها لم تكن من العظمة بحيث يمكنها أن تقاوم الأخصام والمزاحمين، وتخضع جميع المدائن الأخرى إخضاعا مستمرا. ومن جهة أخرى فإن عيلام كانت فيها القوة الكافية لافتتاح البلدان، ولكنها لم تكن عندها القدرة اللازمة لحفظ فتوحاتها، وتمثيل أهلها بها، فإن حكمها كثيرا ما شمل بلاد كلديا، ولكنه ما تأصل فيها أبدا، ولم تتوطد دعائمه بها مطلقا.
شكل 10-1:
تمثال ملك من قدماء الكلدانيين منقولا عن رسم بارز على حجر في المتحف البريطاني.
ولم يكن في ذلك الوقت دولة كلدانية كما كانت دولة مصرية بل غاية الأمر أنه كان يوجد تمدن كلداني راسخ أصيل لا تؤثر فيه عواقب الحروب المتوالية، بل كان مع هذا يمكن أن يمتد إلى غير بلاد كلديا، ولما جاء تحوتمس الأول وخلفاؤه وجابوا بلاد الشام يحف بهم العز والانتصار وضربوا الجزية على أهلها (فيما بين سنتي 1600 و1500ق.م) كان الكلدانيون قد سبقوهم بأزمان طوال لهذا الفتح، وذلك ببث أخلاقهم وعاداتهم فيها، وكانت آلهة بابل والمدائن الكلدانية ممتدة عبادتها إلى تخوم مصر وكان البابليون قد أدخلوا صناعاتهم وفنونهم في بلاد الشام، ثم إن الكتابة الأسفينية المعبر عنها أيضا بالكتابة المسمارية كانت مستعملة رسميا عند ملوك الشام بعد توفيقها على لغاتهم، وكانوا يستعملونها في مراسلاتهم مع بعضهم، وفي مكاتباتهم مع الفراعنة أسيادهم ومتبوعيهم بكل ما يتعلق بالعلاقات والمواصلات.
خلاصة ما تقدم (1)
كانت أول المخلوقات، على قول الكلدانيين، مسوخا خيالية ظهر بينها الإنسان وهو عار أعزل، فخرج الإله السمكي المدعو أوانيس من الخليج الفارسي ومدن بني الإنسان. (2)
وكان الملوك الأولون عشرة عدا، وقد حكموا بلاد كلديا مدة تزيد على أربعمائة قرن، وفي عهد آخرهم المدعو شيسوتروس صار الناس أشرارا حتى أهلكهم الآلهة بطوفان أرسلوه عليهم، ولم ينج من هذا الطوفان إلا شيسوتروس ومن معه من الأتباع، بواسطة الفلك، ولما عادت المياه لمجاريها تناسل منه ناس آخرون. (3)
وإن أقدم الآثار الكلدانية قد صنعت تقريبا في العصر الذي بني فيه أكبر أهرام مصر (في نحو سنة 4000ق.م) وكانت هذه البلاد منقسمة إلى طائفتين من ممالك صغيرة لكل واحدة منهما ملك خاص بها، والظاهر أن ملوك الجنوب وخصوصا ملوك أورو كان لهم في أول الأمر سيطرة على بلاد كلديا كلها، ثم انتقلت السيادة إلى مدائن الشمال، وفي سنة 3700 حكم سرجون البابلي على بلاد الشام لمدة قليلة من الزمان، ثم انتقل الملك من بعده إلى ملوك عيلاميين. (4)
وكان العيلاميون يخالفون الكلدانيين في اللغة، ولكنهم كانوا متشربين بأخلاقهم، وبقيت السيادة في يدهم مدة قرون كثيرة. (5)
فمن ذلك ترى أن التاريخ القديم لهذه البلاد ليس فيه ارتباط واتحاد، فلم يكن هناك في الحقيقة دولة كلدانية، بل كان تمدن كلداني امتد وتشعب حتى وصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان هذا التمدن وحده ضاربا أطنابه في بلاد آسيا الغربية حينما افتتح الفراعنة بلاد الشام.
هي أصناف من النخيل.
الباب الحادي عشر
الكلام على نينوي وذكر سرجون وخلافائه (1) آشور ومدائنها
لم يكن للمدائن الواقعة على القسم الأوسط من دجلة شأن يذكر في تقدم هذه المدنية ونمو هذه الحضارة، وكانت كمتعاهدة مع بعضها، وأطلق عليها من مبدأ الأمر آشور، وهي واقعة على حافتي نهر دجلة من الجهة التي فيها ينصب إليه نهر كورنيب إلى المكان الذي فيه يدخل دجلة في سهول كلديا، التي تكونت من طمي النهر، وكانت منفصلة من جهة الشرق عن القبائل القاطنة في هضبة إيران بنهر الزاب الأكبر وأواخر أسناد الجبال الجوردية، وأما من جهة الغرب والجنوب الغربي فكانت تمتد نحو نهر الخابور والفرات دون أن تكون لها حدود معينة هناك، وكان القسم الشرقي منها ترويه نهيرات كثيرة وفيه كثير من الفلزات والمعادن، وهي خصبة جدا تنبت القمح والفاكهة على اختلاف أنواعها، وكانت تشقها في الأزمان القديمة ترع كثيرة مشتقة من دجلة ومن الأنهر التي تصب فيه، فتقوم مقام الأمطار التي يندر نزولها في مدة الصيف.
وكانت نينوي وكلخ وأربلة هي المدائن الثلاثة الأصلية فيها، وهي قديمة جدا؛ إذ كان تأسيسها في أول أزمان التمصير الكلداني وفي غربي النهر يمتد سهل أرض الجزيرة، وليس فيه خصوبة كثيرة، كما أن الري فيه لا يجري على طريقة الانتظام؛ فلذلك كانت موارد الثروة فيه أقل منها في الأول ومع ذلك كانت مدينة الآشور قائمة فيه، وهي أقدم المدائن الملوكية الآشورية. (2) المملكة الأولى الآشورية وذكر قصة نينوس وسميراميس
إن أقدم الملوك الآشوريين الذين وقفنا على أسمائهم لم يكونوا قبل القرن العاشر قبل الميلاد، وكانوا يعيشون خاملين تابعين بعض التبعية لملوك بابل، أما خلفاؤهم فقد تملكوا مع توالي الزمان على معظم الجزيرة، وحينما كان المصريون حاكمين على بلاد الشام كان هؤلاء الملوك معادلين لملوك بابل ولهم مثلهم صلات ودية وعلاقات حبية مع الفراعنة، ثم افتتحوا شيئا فشيئا البلاد الواقعة في الحوض الأعلى لدجلة، وانتزعوا كورا وقلاعا من الكلدانيين ومن القبائل المتوطنة على سطح هضبة إيران، فكان لآشور بهذه الكور وهذه القلاع مأمن من كل هجوم وعدوان، ثم في حدود سنة 1130ق.م عبر نهر الفرات الملك تغلا ثفلاصر الأول وهو من كبار الفاتحين النينويين، واخترق بلاد الشام الشمالية وضرب الجزية على أمم الخيثي، ولم يفعل الملوك المصريون من العائلة المتممة للعشرين شيئا ما لإيقاف سيره أو لصد هجماته، ولكن خلفاءه لم يتمكنوا من حفظ فتوحاته؛ فقد هزمهم الشاميون وكسرهم البابليون؛ حتى اضطروا للبقاء في أرض آشور الحقيقية مدة لا تنقص عن قرنين.
ولما انتقل ذكر هذه الدولة الأولى إلى اليونان بالإبهام والخبط والاختلاط نقلوه إلى حكايات عجيبة وأقاصيص خارقة للعادة. فقد حكوا أنه في مبدأ التاريخ جاء أحد الرؤساء واسمه نينوس وبنى مدينة نينوي، وأحدث لنفسه في آسيا الغربية مملكة تشتمل على أرض بابل وبلاد الماديين وأرمنية وجميع البقاع الكائنة بين نهر السند والبحر الأبيض المتوسط، ولاقى سميراميس أثناء حصار بلخ؛ وهي ابنة رجل عادي تزوج بالإلهة درسيتو فاتخذ سميراميس حليلة، له وجعلها وريثته، فلما جلست على سرير الملك ابتنت بابل وجعلتها أوسع وأكبر من نينوي، وزخرفتها بالمباني العجيبة والآثار العظيمة، ثم سافرت لإتمام الحروب وشن الغارات. وكانت أينما مرت تخرق الجبال وتحطم الصخور وتمهد سبلا طويلة جميلة وتبتني مدنا مثل أكباتان (همذان) في بلاد الماديين وسميراموسرتا في أرمنية وطرسوس في كيليكيا، ولم تخلص منها مصر واتيوبيا ولكنها لاقت في بلاد الهند ما أوقف سيرها وفتوحاتها؛ فقد غلبها الملك ستارتوباتيس ورجعت إلى بابل. وإن ما كان لها من البأس والمجد لم يمنع القوم من المؤامرة والكيد على حياتها، فإن ابنها نينياس مالئ على قتلها، فتنازلت له عن الملك وانقلبت حمامة، فلما وقعت مملكتها في أيدي ملوك كسالى ضاق نطاقها شيئا فشيئا حتى ضاعت بالكلية في وسط الفتن والهيجان. (3) آشورنازرهابال (من سنة 884 إلى سنة 860ق.م) والدولة الآشورية الثانية
عاود آشورنازرهابال الأعمال التي بدأ بالشروع فيها تغلا ثفلاصر الأول، فجعل كلخ الواقعة على الشاطئ الأيسر لدجلة عاصمة بلاده، وقد أقام بها خلفاؤه مدة قرنين متواليين، وكانوا كلهم من المجاهدين المقاتلين الذين لا يأخذهم كلال ولا ملال ولا ينفكون عن ارتكاب القسوة والجفوة في محارباتهم، وهم سلمناصر الثالث (من سنة 860 إلى سنة 824) وسميرامان الرابع (من سنة 824 إلى سنة 812) ورامانيراري الثالث (من سنة 812 إلى سنة 782ق.م).
فكانوا يخرجون من كلخ في كل سنة تقريبا لغزو بعض البلاد الواقعة على تخوم مملكتهم، وكانوا لا يصح لهم أن يحاولوا توسيع ملكهم من جهة الشرق أو الشمال الشرقي لأن هضبة إيران كانت وراءهم تصدهم عن التقدم، وتحف ببلادهم سلسلة جبال أرمينية؛ فإنهم كانوا لا بد أن يصادفوا في هذه البقاع عناء كبيرا وربحا قليلا، فاقتصروا على صرف قصارى عزيمتهم إلى إبقاء نير عبوديتهم على أعناق تلك القبائل الكثيرة الحركة التي كانت تميد في أقصى تخوم وادي دجلة وجبال كردستان. نعم، إنهم كانوا يتجاوزون في بعض الأحيان هذه الحدود، ولكن ذلك بقصد إجراء غزوات نحو البحر القزويني
1
فلم تكن ميادين قتالهم الحقيقية في هذه النواحي بل في كوماجين وفي آسيا الصغرى وبابل وعيلام والشام، فقد أعدم آشورنازرهابال ما كان قد بقي من شوكة الخيثي، وجالد سلمناصر ملكي دمشق بتهدد الثالث وحزايل، وظهر عليهما وأخذ الجزية من أكاب ملك إسرائيل.
وقد استجمع هؤلاء الملوك الآشوريون جميع الصفات اللازمة للمقاتلين والمجاهدين كأحسن ما يكون من قوة جسدية ونشاط وحذق وثبات جأش وشجاعة صادقة وبأس شديد ، فكانوا يجالدون بأنفسهم الأثوار الوحشية والآساد، وقد كانت كثيرة في تلك البقاع على أن هذه الفضائل الجميلة كانت تحف بها كل رذيلة ورذيلة. فكان أولئك الرجال سفاكين للدماء قد أشربت قلوبهم العنفوان والبهتان وانهمكوا في اللذات البهيمية، وتعمقوا في الختل والخداع والغدر والخيانة، واتصفوا بالكبرياء والقساوة. فكانوا أينما ساروا يهدمون المدائن ويحرقونها ويخوزقون من يعصاهم من الرؤساء أو يكشطون جلودهم وهم على قيد الحياة؛ فلذلك بقوا هم وأممهم متوغلين دواما في الهمجية والتوحش مع ما كان لهم من بهاء التمدن الخارجي ورونق الحضارة الظاهرية. (4) تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة 745-726ق.م)
ثم تقلص ظل دولتهم بعد الملك رامانيراري الثالث مدة قرن ونصف تقريبا، وضعفت مملكتهم حتى صارت منحصرة في أراضي آشور الحقيقية؛ حتى إذا جاء تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة 745 إلى سنة 726) أعادها إلى ما كان لها من رفعة الشأن، فإنه أخذ بابل ودمشق وعاث في أرض إسرائيل، ونقل أهاليها إلى بلاد آشور، وقد شرع في تخريب مملكة السمرة، واقتفى أثره في ذلك ابنه سلمناصر الخامس (من سنة 726 إلى سنة 721). وتم تدميرها على يد سرجون (في سنة 721ق.م) ولم يكن سرجون هذا من سلالة العائلة الملوكية مثل سلفائه الذين وليهم، فأسس عائلة جديدة وصلت آشور في أيامها إلى أوج الفخار ونهاية العز والاقتدار، وكان ملوك آشور إلى عهده يدركون معنى الفوز والانتصار بمثل ما يدركه فراعنة العائلة الثامنة عشرة؛ أي إن النصر هو عبارة عن سلب المغلوب كما يشاء الغالب، وضرب الجزية عليه، وأما بلاده فلا تدخل في حوزة المنتصر ولا تندرج ضمن مملكته. أما تغلا ثفلاصر الثالث وسرجون وخلفائهما فقد كان همهم استلحاق البلاد واستعمارها، فكانت الأقطار التي يرون فائدة في حفظها يخلعون العائلات الحاكمة فيها، ويضعون بها جنودا من الأسارى الذين أصلهم من بلاد بعيدة، ثم يعهدون بحكومتها إلى بعض من قواد الآشوريين، ويلزمون أهاليها بالخدمة العسكرية بحيث يجندون منهم في كل عام عددا معينا من الشبان، وكانت المدائن تدفع ضريبة معلومة من المحصولات ومن المعادن. (5) السرجونيون (721-606ق.م)
حكم سرجون مدة ست عشرة سنة قضى معظمها في حرب تكاد تكون واحدة، امتدت في أرمينية حيث قاومه الملك أورسا مقاومة عنيفة، وفي مادي والشام؛ حيث أخضع ممالك الخيثي وجعلها عمالات تابعة لمملكته، وفي فينيقية ويهوذا، حيث ردع الملك حزقيا عن الطموح إلى الجهاد والقتال. وقد أراد الملك سباقون الأتيوبي بعد تملكه على مصر أن يتداخل في أمور الفلسطينيين، فكسر سرجون جنوده في رافيا سنة 720. وكانت بلاد بابل أهم النقط التي تولى فيها الحرب والكفاح، وقد ظهرت في الوجود أمة جديدة هي أمة الكلدانيين؛ تألفت من اجتماع القبائل الآرامية القاطنة على مصاب نهر دجلة والفرات، وجعلوا لهم سيطرة على المدائن القديمة، بل إن أحد ملوكهم وهو ميروداخيالادان نجح في الاستيلاء على بابل، وكانت هذه الأمة ذات عزيمة وصلابة؛ جمعت بين الفضائل والرذائل التي امتازت بها في القدم أمم دجلة والفرات، وقد أوقع تغلا ثفلاصر بملكهم ميروداخيالادان (في سنة 732) ثم هزمه سرجون، مع أن عيلام كانت تساعده وتعاضده، فاضطر لأن يلتجئ إلى البطائح ويحتمي فيها. وحكم سرجون في بابل إلى أن أدركته المنية في سنة 705.
وقد حارب خليفته سنحاريب (من سنة 705 إلى سنة 681ق.م) أخصامه الذين أتينا على ذكرهم، فانتصر في أول الأمر على ميروداخبالادان (في سنة 703)، وعلى المصريين (في سنة 702)، ولكنه لم يقيض له الظفر بحزقيا، بل اضطر للعدول عن إخضاع مملكة يهوذا بعد أن خسر فيها جيشا بكيفية لا يعلم كنهها، ولا تعرف حقيقتها (في سنة 701) كما سبق لنا ذكرها، وبقيت مدة حكمه يتوالى فيها الجلاد مع ملوك عيلام وكلديا، وكانت نهاية ذلك الاستيلاء على بابل ونهبها. أما ولده أشرحدون (آشر أخي الدين) (من سنة 681 إلى سنة 668) فقد ظهر على العرب، وأخذ مصر من يد طهراق الأتيوبي (في سنة 272)، وأما حفيده آشوربانيبال (من سنة 668 إلى سنة 625) فقد خرجت مصر من يده، ولكنه انتصر على عيلام بعد أن احتدمت نيران القتال مدة عشرين سنة من الزمان (شكل
11-1 ) على أن جميع هذه الانتصارات أنهكت بلاد آشور، وأضعفت قوتها بدلا من أن تأتيها بالفائدة، فقد اتسع نطاقها بالسرعة لما كانت أخصامها عبارة عن قبائل هي بين الهمجية والمدنية، أو ممالك لا قوام لها ولا منعة فيها، وذلك في بلاد الشام وفلسطين وكلديا، ولكنها صارت من عهد سرجون واقفة بإزاء ممالك منتظمة تنظيما يشابه تنظيمها في الثبات ورسوخ القدم، وتوطيد الدعائم، وقادرة على مقاومتها، بل وعلى هزيمتها والانتصار عليها، فإن أرمينية ومصر وعيلام أوقفت سير كتائبها، وجعلت بينها وبين بقية العالم حجابا منيعا لم تتمكن قط من النفوذ منه، نعم إن سرجون وخلفاءه قد فازوا على ملوك هذه الدول الثلاث، ولكن ظفرهم كان وقتيا يمحوه في الغالب ما يحل بهم من الهزيمة والمصائب، وقد طردوا من مصر، ومن أرمينية، ونفذت قواهم بسبب انتصارهم في عيلام.
شكل 11-1:
آشوربانيبال - نقلا عن رسم بارز على حجر في المتحف البريطاني.
خلاصة ما تقدم (1)
إن بلاد آشور واقعة على ضفتي دجلة، والقسم الشرقي منها متوفرة فيه الثروة والري، وفيها ثلاث مدائن قديمة جدا وهي؛ نينوي وكلخ وأربله أما الكور الغربية فهي فقيرة قليلة الخصب، وقصبتها الآشور وهي أقدم المدائن الملوكية الآشورية. (2)
كان أقدم ملوك آشور تابعين لكلديا ثم استقلوا مع توالي الزمان ومدوا سلطانهم على بلاد الجزيرة كلها، ولما جاء تغلا ثفلاصر الأول (في حدود سنة 1130) أخضع بلاد الشام الشمالية وجزأ من البلاد الجبلية التي يخرج منها الفرات ولكن خلفاءه لم يتمكنوا من حفظ فتوحاته؛ فسقطت آشور مدة قرنين في مهواة العجز والانكسار. وقد حول اليونان تاريخ هذه الدولة الأولى الذي فيه اختلاط واختباط إلى أقاصيص وخرافات يدور الكلام على نينوس وسميراميس. (3)
ثم عادت الشوكة لآشور على يد ملكين مقاتلين مغازيين هما؛ آشورنازرهابال (من سنة 884 إلى سنة 860) وسلمناصر الثالث (من سنة 860 إلى سنة 824) وكان في مجالداتهم مع ملوك دمشق توطئة وتمهيد إلى إذلال الشام واستعباد أهاليها. (4)
ولكن ضعف خلفائه أوجب تأخير ذلك مدة قرن ونصف، فلما جاء تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة 745 إلى سنة 726) وسرجون (من سنة 721 إلى سنة 704) تمما هذا الاستعباد وتملكا على تلك البلاد. (5)
وقد وصلت شوكة نينوي إلى منتهاها في عهد خلفائه، وهم سنحاريب (من سنة 704 إلى سنة 681) وأشرحدون (آشور أخي الدين) (من سنة 681 إلى سنة 668) وآشوربانيبال (من سنة 668 إلى سنة 625) وأخضع سنحاريب كلديا واستولى آشور أخي الدين على مصر وآشوربانيبال على عيلام، ولكن هذه الحروب المتوالية هدت قوى مملكة آشور وعجلت بخرابها.
يعرف أيضا بالبحر القزبيني، وببحر الخزر، وببحر الكسب.
الباب الثاني عشر
ذكر نابوكودونوزور وخراب بابل (1) تأسيس المملكة الكلدانية (في سنة 625) وخراب نينوي (في سنة 606) وذكر نابوبولاصر
كانت كلديا أول من انتفع من ضعف الملوك الآشوريين؛ فإنها كانت جزءا من مملكتهم منذ أيام سنحاريب، وقد حكم آشور أخي الدين وآشوربانيبال على بابل وعلى نينوي بالسواء، فلما مات آشوربانيبال في سنة 626 خلفه في الملك ولده سراقوس (آشوريتيليلاني) ولكنه لم يتمتع به زمنا طويلا؛ إذ قامت دولة قوية فجأة بجانب آشور على هضبة إيران وهي مملكة الماديين.
واغتنم رئيسها فراورتس فرصة حدوث الفتن التي تحصل عادة في الممالك الشرقية عقيب تغيير الملك، فنزل في حوض دجلة وزحف على نينوي فارتجت لذلك كلديا وقام بها الهيجان، فأرسل سراقوس على الثائرين جيشا عرمرما تحت إمرة أحد قواده وهو نابوبولاصر، فوضع هذا يده على مملكة بابل واستبد بها، وجعل نفسه ملكا عليها، وانضم إلى الماديين وأعلن الحرب على ملكه القديم (سنة 625) فنجت نينوي هذه المرة من الخراب؛ بسبب قدوم عشيرة رحالة نزالة من قوم السيتين (السكيثيين) أتت إليها بغتة فهزمت جيش الماديين وأبادته.
ولكن آشور خربت كلها وأحرقت أغلب مدائنها الملوكية؛ مثل كلخ والآشور، أو نهبت نهبا ليس بعده نهب. وبقيت نينوي بعد ذلك عشرين سنة أيضا وهي في الحضيض، ثم ما لبثت أن سقطت في يد أمم تحالفوا عليها، وطالما كانت وضعت قدمها فوق هامهم فإنه بينما كان نخاو يجد في انتزاع بلاد الشام منها (سنة 608) كان الماديون والبابليون محاصرين لها فدافعت دفاع الأبطال، ولم تسقط إلا بعد أن استمر الحصار ثلاث سنين، وكان سقوطها في سنة 606.
وقد تقاسم الظافرون أراضيها وقام على أطلالها مملكتان كبيرتان وهما؛ مملكة الماديين ومملكة الكلدانيين، فأخذ سياكسار بلاد آشور الحقيقية وملحقاتها، وأما نابوبولاصر فقد جمع إلى ملكه على بابل سيادته على أرض الجزيرة والشام وفلسطين، بل قد زعم أنه يمد حدود ملكه إلى ما وراء برزخ السويس، واعتبر ملوك مصر تابعين لكلديا لأنهم كانوا تابعين لنينوي بضعة أعوام. (2) واقعة كركميش في سنة 605
فبعد أن تغلب على آشور كان أول همه استرجاع الأقاليم الشامية التي كان نخاو قد افتتحها منذ قليل، فجرد الكتائب وحشد الجيوش وأرسلها مع ولده نابوكومونوزور
1
ولم يذهب بها هو لأنه كان متوغلا في الشيخوخة، فلا يستطيع مباشرة القتال، وقد حصلت الموقعة في كركميش على التخوم قريبا من الفرات، وانهزم المصريون شر هزيمة فخسروا الشام كلها من جبال طوروس إلى حدود بلاد العرب الحجرية. وقد تقدم نابوكودونوزور في فتوحاته وانتصاراته فوصل إلى مدينة الفرما، وبينما كان على أهبة الدخول في أراضي الدلتا وإذا بنعي أبيه قد جاءه، فثبت مكانه وعقد محالفة مع نخاو خشية من أن يظهر ببلاد كلديا مناظر له يطالب بالملك، ثم عجل بالرجوع إلى بابل عن طريق الصحراء، وكان أمناء الديانة قد تولوا الأعمال وإدارة البلاد بالنيابة عنه؛ بحيث لم يكن عليه إلا أن يظهر في عاصمة بلاده ليبايعه الناس وينادوا به ملكا مطاعا نافذ الأمر. (3) فتوحات نابوكودنوزور
هذا الرجل هو بطل المملكة الكلدانية، والملك الوحيد الذي يصح أن تتباهى به بلاد كلديا وتجعله بإزاء الفاتحين الكبار من ملوك مصر وآشور وفارس ولولاه لم يكن لبابل في التاريخ ذكر إلا بالعلم والزخرف والصناعة، ولكنها اشتهرت بسببه في جميع أنحاء المشرق بما حازه من الانتصار وما ناله من الشوكة والاقتدار، وقد حافظ على السلم دواما، ومع الملوك الماديين سياكسار واستياج، ولكنه جالد الفينيقيين واليهود المصريين مجالدات طويلة.
وكان له من هذه الجهة مشابهة بما ناله ملوك آشور من قبله بقرن تقريبا، وقد علم الاختبار الفراعنة أن امتلاك منف وطيبة هو الغاية القصوى والغرض الوحيد الذي تطمح إليه أبصار الفاتحين من أهل آسيا، فإن «نابوكودونوزور » لما استولى على بلاد الشام كان يخشى منه دواما على مصر، كما كانت الحال مع سرجون وسنحاريب وآشوربانيبال؛ فلذلك كان من الواجب على ملوك العائلة السادسة والعشرين أن يفعلوا كما فعل الملوك الأتيوبيون الذين سبقوهم؛ فيعملوا على معاكسة الكلدانيين بأن يوغروا عليهم صدور أهل فينيقية ويهوذا وجميع الممالك الصغيرة التي ما زالت باقية إلى هذا العهد، ويثيروا فيهم روح البغض للكلدانيين ومجاهرتهم لهم به مجاهرة قليلة أو كثيرة، فلم ينفك نخاو (من سنة 605 إلى سنة 595) وإيريس (من سنة 589 إلى سنة 569) عن تقوية عزائم ملوك يهوذا وصور وموآب بالدسائس والدراهم؛ بل كانا في بعض الأحيان يعدانهم بأنهما يعززان جانبهم بالقوة والاقتدار ولكنهما لم ينجحا في منع سقوط أورشليم (سنة 589). ونفى قسم من اليهود على أن صور دفعت جميع هجمات الكلدانيين مع محاصرتهم لها مدة ثلاث عشرة سنة واعترفت فينيقية كلها بسيادة الفرعون إيريس مدة من الزمان (في حدود سنة 572).
نعم، إن أماسيس ما لبث أن فقد كل ما فتحه سلفه (في سنة 568 تقريبا) ولكنه عرف كيف يحافظ على مملكته ويجعلها في مأمن من هجوم الأعداء، وخلاصة القول أن نابوكودونوزور لم ينجح في توسيع نطاق سلطانه مثل ما اتصل إليه من قبله آشور أخي الدين أو آشوربانيبال مثلا، وقد حالت بلاد مادي في الشمال ومصر في الجنوب الغربي دون امتداد دولته على أن هذه المملكة الضيقة تدل أحسن من الدول الآشورية على ما نعنيه نحن اليوم بدولة عظيمة؛ فإن إدارة الأحكام فيها كانت بحسب الطريقة التي اتبعها تغلا ثفلاصر الثالث وسرجون قبل ذلك بأقل من قرن ونصف؛ أي إن شئون الحكومة تكون مباشرة في يد بعض قواد الفاتح المنتصر، وفضلا عن ذلك فإن هذه الطريقة صارت عامة وواضحة في جميع أنحاء الدولة أكثر مما في السابق. نعم إن جماعة من الأمراء الأخاذيين كانوا لا يزالون في أراضي كلديا، وكان كثير من المدائن أو القبائل حافظة لعائلاتها الملوكية ونظاماتها الدستورية، ولكن أغلب البلدان المفتتحة كانت عمالات حقيقية تحتلها الجنود، ويدير شئونها حكام يرسلون إليها من بابل. (4) أعمال نابوكودونوزور
بقي هذا الملك مشهورا في تاريخ الأزمان القديمة ببناياته العظيمة بقدر ما ذاع صيته بحروبه وانتصاراته، فإن بابل كانت لاقت شدائد وأهوالا من الآشوريين في القرن الذي سقطت بعده نينوي؛ وذلك لأن سنحاريب أمر بنهبها، وكذلك آشوربانيبال من بعده، وذلك بصرف النظر عن الحصار، والسلب الجزئي اللذين قاستهما أثناء الفتن المستديمة، فاستعمل نابوكودونوزور في ترميمها الأسارى العديدين الذين أسرهم في حروبه؛ حتى جعلها من أفخر مدائن الدنيا بأسرها (شكل
12-1 )، فكان في وسط المدينة البرج الهائل ذو الطباق السبع المعروف باسم زجورات المخصص للإله بعل، وفوقه تمثال هذا الإله، وهو من الذهب الإبريز، وارتفاعه أربعون قدما، ويرتقي إليه الإنسان على سلم يذهب في استدارة والتفاف.
شكل 12-1:
الرابية التي وراءها أطلال بابل - مأخوذ هذا المنظر من على شواطئ الفرات.
وقد اشتهر القصر الملوكي (الذي كمل تشييده في خمسين يوما على ما يقال) ببساتينه المعلقة، إذ كانت نساء القصر يتنزهن فيه وهن سافرات الوجوه فلا تقع عليهن أنظار الأجانب عنهن.
وفي أثناء ذلك تم إصلاح الترع التي كانت تصل دجلة بالفرات، وتأتي بمياههما إلى وسط المدينة، ورممت الجوابي (الحيضان والصهاريج الواسعة) التي كان ملوك العائلات القديمة يجرون إليها مياه الفيضان السنوي ويخزنونها بها، وبنيت القنطرة التي توصل بين نصفي المدينة الكائنين على ضفتي النهر، واستعمل مهندسو ذلك الأوان كل ما لديهم من الوسائل والوسائط لحفظ المدينة ووقايتها من هجمات العدو فأحاطوها بسور مزدوج؛ جعلوا فيه مائة باب لكل واحد مصراعان من الشبهان وكان من عظم سمك هذا السور أنه يتيسر لعربتين أن تجريا متحاذيتين على قمته، وقد عم التحسين النواحي المجاورة لبابل والمدائن القديمة بكلديا حتى لقد كان لها منه نصيب يذكر.
ولما كان ازدياد الثروة وتوفر أسباب اليسار في هذه البقعة من الأرض مما يغري بها الأمم المجاورة لها ويجعل أنظارها تطمح إليها، فضلا عن شدة الرهبة من الماديين ومن أطماعهم؛ أنشأ نابوكودونوزور أمام بابل سورا عظيما وهو السور المادي المستند على سيتارا؛ فسد به سدا مستكملا شبه البرزخ المتكون من دجلة والفرات عند اقترابهما، وكان هذا الرجل لا يمل من العمل ولا يكل من توالي المشروعات، حتى أصبح في كلديا مثل رمسيس الثاني في مصر؛ أي باني العمائر ومشيد الآثار بحيث لا يوجد حوالي بابل مكان لا يرى فيه الإنسان اسمه، أو لا يطلع به على ما يعرب عن نشاطه الفائق واجتهاده الغريب. (5) نابوناهيد (من 555 إلى 538) وسقوط المملكة الكلدانية (في سنة 538)
على أن المملكة لم تدم بعده طويلا فجلس على سرير ملكه ثلاثة ملوك في مدة سبع سنين (من سنة 562 إلى سنة 555)، ثم ذهبوا فريسة الفتن التي حصلت في القصور، وبهم انقرضت سلالته. وقال الأهالي «لا شك أن هذا من عمل الله» لأنهم دهشوا لما رأوه من حصول هذا الانحطاط السريع بعد ذاك الارتقاء والاقتدار اللذين ليس بعدهما ارتقاء واقتدار. وقد جاء في رواياتهم أن بخت نصر في أواخر أيامه أصابه شيء من النبوة فصعد على سطح قصره وأنبأ بقرب خراب مملكته. ويقول اليهود في رواياتهم إنه سكر بما ناله من المجد، وافتتن مما حصل عليه من الفخار؛ حتى أداه الإعجاب بنفسه إلى الظن بحلول الألوهية في جثمانه؛ فسخطه الله عز وجل حيوانا من الحيوانات، عاش ست سنين في حقول البرية يقتات من الحشائش كالبهائم السائمة ثم رجع إلى شكله الأول وجلس على سرير الملك بالثاني.
أما نابوناهيد الذي لبس التاج بعد انقراض العائلة الملوكية؛ فلم يكن فيه شيء من خصال الأبطال بل ولا من صفات الأجناد، فكان ملكا كسولا محبا للدعة والسكون، عاكفا على عبادة الآلهة بدلا من التفاته إلى صيانة القلاع وتعبية الجيوش فحيثما وجد معبدا متخربا رممه أو أعاد بناءه من أوله إلى آخره، وكان يبحث في أساس هذه المعابد عن النقوش والكتابات التي دفنها بها الملوك المؤسسون لها، وكان يفرح فرحا شديدا حينما يعثر فيها على اسم ملك قد حكم قبله بمئات أو بآلاف من السنين. وقد هدده الماديون في أول حكمه ورأى اتساع سلطان كورش، وحاول أن يوقف امتداد هذا الاتساع بما عقده من المحالفات مع مصر وليديا، ولكن سقطت ليديا في سنة 546، وكان أمامه مهلة بضع سنين كان يتيسر له في خلالها أن يستعد للمقاومة والدفاع؛ ولكن كسله ونسيانه لآلهة بابل ومغالاته في عبادة آلهة المدائن الكلدانية الأخرى ؛ كل ذلك أحدث سخط رعاياه وغضب جنده عليه. فلما قامت الحرب في سنة 538 لم تثبت إلا بضعة أسابيع حتى وضعت أوزارها، فإن كورش عبر دجلة وهزم الكلدانيين. ولما جاء الخبر بفوزه وانتصاره حصلت ثورة أتت على ما كان قد بقي لنابوناهيد من الوسائل والوسائط، فباغت جوبرياس القائد الفارسي مدينة بابل، واستولى عليها من غير حرب ولا قتال. وأما نابوناهيد فقد سلمه أصحابه إلى عدوه، ومات بعد ذلك ببضعة أيام (سنة 538).
فوقعت بذلك دولته كلها من غير مقاومة في يد الفرس، وصار للأمم المضروب عليها الجزية لكلديا من شوام وفينيقيين وأعراب أسياد، غير الذين كانوا لهم. ولم يهتم هؤلاء الأقوام بهذا التغيير وبما أنهم لم يكونوا قادرين على نوال حريتهم واستقلالهم؛ فكان لا يعنيهم الحاكم الذي عليهم سواء كان هذا أو ذاك بل ظهر على بابل نفسها أنها رضيت بهذا الأمر، وأنها فرحت بسقوط ملكها الذي منها، وبقيت بعد ذلك عاصمة من عواصم الدولة الفارسية.
خلاصة ما تقدم (1)
كانت بلاد كلديا هي أول من ورث ملك بلاد آشور، وقد قام حاكمها نابوبولاصر وجعل نفسه ملكا عليها بمساعدة الماديين عند موت آشوربانيبال سنة 625، ثم هجم على نينوي أمم كانت لها عليهم السيادة، ولكن إغارة السكيثيين أنقذتها من الخراب بضع سنين، فلم تسقط إلا في سنة 606 على يد الماديين والكلدانيين وقد تمالؤا عليها. (2)
وبعد خراب نينوي رأى نابوبولاصر أن يطرد الفرعون نخاو الذي كان احتل الشام منذ قليل من الزمان (سنة 608) فانتصر عليه ولده بخت نصر في كركميش، ولما كان على أهبة الدخول إلى مصر علم بوفاة أبيه فقفل راجعا إلى بابل. (3)
وقد استدام الجلاد بين بخت نصر هذا وبين نخاو وإيريس من ملوك العائلة الساوية، وأخرب مملكة يهوذا ومدينة أورشليم (سنة 587) ولكنه أخفق سعيا أمام مدينة صو، وخرجت من يده فينيقية في أواخر حكمه. (4)
وقد اشتهر هذا الملك بعمائره بقدر ما اشتهر بحروبه، وجعل بابل أبهى وأبهج مدينة في المشرق، وأحاطها بأسوار منيعة، وشق في كلديا ترعا كثيرة زادت في خصوبة الأرض . (5)
ثم أسرعت عائلته في الانقراض (من سنة 562 إلى سنة 555) فلبس التاج بعدها نابوناهيد، وكان من الملوك المتدينين، وأكثر من العمائر. وكان الأهالي لا يحبونه. وقد حاول صد هجمات الفرس بتحالفه مع الليديين والمصريين عليهم ولكنه لما سقطت مملكة ليديا (سنة 546) لم يفطن لاغتنام فرصة السنين التي أمهله فيها كورش ليحصن مملكته ويستعد للدفاع؛ حتى إنه لما شن الفرس الغارة عليه (سنة 528) هزموه وأسروه، فمات بعد ذلك ببضعة أيام، وبقيت كلديا من ذلك الوقت عمالة من عمالات الدولة الفارسية.
إن هذا الشكل المقرر الآن لهذا الاسم هو تحريف ترجع فيه المسئولية على الناسخين العبرانيين الأولين، الذين كتبوا التوراة. هذا واعلم أن اسمه عند العرب بخت نصر ونبوخذ نصر وهذا أقرب إلى الأصل.
الباب الثالث عشر
الديانة الكلدانية (1) الآلهة الإخاذيون
كانت كلديا شبيهة بمصر في وجود الآلهة الأخاذيين بها، فكان لكل إله منهم مدينته الملوكية يحكم فيها حكما مطلقا على الأرض والسماء؛ فكان إيع إله إيريدو، وبعل في نيبتور، وسن في أورو، وشمش في لارسام (لرسن)، وميروداخ في بابل، وكان آشور إله بلاد آشور على العموم. وانتشرت عبادة هذه الآلهة من مدينة إلى أخرى بالسرعة حتى صارت عامة في جميع الأقطار الكلدانية، ولكن القوم لم يحيدوا عن ملاحظة كل إله مضافا إلى أهل جهته وتخصيصه بها عند التوجه والعبادة، فإذا قاموا بعبادة ميروداخ مثلا في غير بابل فإنما كانوا يوجهون عبادتهم إليه بعنوان أنه إله بابل. (2) البانثيون الكلداني
إن اختلاط الأمم المختلفة الأجناس المتوطنة على ضفاف دجلة والفرات قد أحدث اختلاطا في الأديان؛ بحيث لا يسهل على الإنسان أن يتعرف أصول كل منها أو أن يوفق بينها وبين بعضها. فإن الآثار القديمة التي عثرنا عليها مهما كانت بعيدة العهد ترينا آلهة الأمم المختلفة متحدة وممتزجة ببعضها، كما حصل مثل ذلك في الأمم أنفسهم؛ فكانوا كالمرتبطين مع بعضهم بمعاهدة إلهية؛ وكان لكل واحد منهم وظيفته الخاصة به ومقامه المعين له تعيينا واضحا ظاهرا.
وفوق هذا الترتيب التدريجي مجلس مؤلف من ثلاثة آلهة؛ آنو وبلع وايع. فالأول هو السماء وهو «القديم وأبو الآلهة وملك الدنيا والليل ورب الظلمات.» وبعل خلق الدنيا وهو «رب جميع البقاع وملك كل الأرواح.» وأما ايع فهو «رب العلوم والفخار والحياة.» ولكل واحد منهم إلهة تزوج بها تعاونه في إنجاز الخلق والإيجاد، وهن أنت، وبعليت، ودمكينا. وليست وظائفهم محدودة تحديدا معينا محصورا بحيث لا يكون لأحدهم فرصة في الاعتداء على ملك الآخر، بل كثيرا ما اغتصب بعل سلطة آنو، كما تعدى ايع على سلطة بعل.
وتحت هؤلاء الآلهة القديرين الذين يحيط بهم الإبهام والاختلاط؛ آلهة آخرون أعرق منهم في الحياة والغرابة، وهم سين الذي هو القمر، وشمش الذي هو الشمس، ورامانو الذي هو الجو. وكان الكلدانيون يقدمون الإله القمر على الإله الشمس، وكانوا يعتبرون الإله سين «الرئيس والقادر والمتلألئ، وإله الثلاثين يوما التي يتركب منها الشهر.» وأما رامانو فكان يرسل العواصف والزوابع والغرق ويستل الصاعقة ذات الأربعة الأطراف كالصارم البتار. وأما الآلهة الأخرى فكان مقرها السيارات الخمس أعني أن آذار في زحل، ومردوك في المشترى، ونرجال في المريخ، وأشتر في الزهرة، ونيبو في عطارد. وخلاصة القول أن الكلدانيين إنما كانوا يعبدون الكواكب والسماء وهذه هي أكبر آلهتهم. (3) الشياطين والسحر
وبجانب هؤلاء الآلهة الذي كان القوم كلهم يحترمونهم ويعظمونهم، كانوا يقولون بوجود الجن وأنهم عالم من الأرواح الثانوية؛ منهم الأخيار ومنهم الأشرار وكلهم لا يراهم الإنسان ولكنهم قادرون على إفادته أو أذيته كما يشاءون، وأنهم يدخلون في كل مكان ويتشكلون بأشكال ممسوخة؛ ترى فيها أعضاء الإنسان ممتزجة بأعضاء الحيوان، وكان بعضهم يدخل في العائلات فيزرع فيها الشقاق والبغضاء، وبعضهم يحل في الأجسام ويبث فيها الأمراض والأسقام، فكانت الأوبئة والحميات والخيالات والأزوار والعفاريت من هذا النوع المزعج أصنافا متنوعة.
ولما كان الإنسان على الدوام عرضة لأذاهم فكان أشبه بسائح ضل الطريق في بلاد مجهولة فيما بين أقوام متوحشين، فكان يلزمه أن يتخذ لنفسه أولياء من بين الآلهة والأرواح ليكون في مأمن من كيدهم، وأن يتخذ له أسلحة من التعاويذ والتمائم للمهاجمة أو المدافعة، وبالجملة أن يلتجئ في ذلك إلى تعلم السحر؛ فلذلك كان يحفظ عن ظهر قلبه تعاويذ مخصوصة ويحمل أحجبة وتمائم تقيه منهم. وكان الشخص الذي يحمل تميمة لا يمكن مسه بشيء أو الإيقاع به حتى من الآلهة أنفسهم؛ لأن الطلسم كان «حدا لا ينزع ولا تنفذ منه الآلهة، وحدا للسماء والأرض لا يمكن نقله من مكان، ولم يستأصله أي إله من الآلهة بل هو حاجز ثابت للوقاية من الشر والسوء، ولا يفقد مفعوله بل تقاوم به الشرور وتدفع به الأسواء.»
ولذلك كان السحرة كثيرين في كلديا، وكان بعضهم مترفقين بالإنسان ميالين إليه؛ فكانوا يداوونه من الأمراض ويحمونه من الجان الذين يتهددونه. وكان البعض الآخر على العكس فيبيع السموم ويلقي السحر ويستدعي الأرواح الشريرة بدعوات ورقيات معلومة. فكانت حياة الكلداني مشوبة بالأكدار على الدوام؛ لأنه كان لا يفارقه الفزع من الجان العادين والسحرة المشائيم، وكانت حياته تنقضي هكذا في مجالدتهم ومقاومة تأثيرهم بكل ما يمكن تصوره من الوسائل. (4) الآلهة الآشوريون وذكر الإلهين آشور وأشتر
لم تكن ديانة الآشوريين في مبدأ الأمر إلا ديانة موضعية خاصة ببلادهم، وكان الإله آشور هو الإله الأخاذي لها كما كان ميروداخ إلها إخاذيا في بابل، وكما أن رجحان طيبة على سائر المدن المصرية؛ كان مرجحا لآمون إلهها الإخاذي على سائر الآلهة بوادي النيل ومسودا له عليها، فكذلك كان اتساع بلاد آشور واستمرارها في النمو والارتقاء مسودين لإلهها آشور على سائر آلهة الكلدان مدة من الزمان، فلم يكن إله آشور مساويا لبقية الآلهة بل هو ربهم ومليكهم ولا يجسر إله منهم أن ينازعه في ذلك، فباسمه يقاتل الملوك ويحرقون المدائن وينهبون المعابد ويقتلون الأمم أو يستعبدونهم. ولم يكن خاصا بمدينة بابل؛ فلو انتقل كرسي المملكة من مدينة إلى أخرى لا تنتقل معها؛ ولذلك بارح الآشور إلى كلخ، ومنها إلى نينوي أو غيرها وهو هو الإله الأكبر، وليس ميروداخ، ونيبو، وايع، وبعل، آلهة كلديا القدماء إلا عبيده الخاضعين الذليلين يسجدون له، كما أن الأمم التي تعبدهم تخضع وتخنع لمدينة الآشور ولبلاد آشور.
وليس له زوجة أو أولاد يشاركونه في ملك السماء، وغاية ما يفعل أنه يسمح لامرأة اسمها اشستر بالحضور بجانبه؛ وهي امرأة حرب وقتال تشابهه في القسوة والجفوة. ولو أن دولة الآشوريين كانت بقيت واستمرت لما كان يبعد أن ينتهي الأمر بآشور إلى إبطال الآلهة الأخرى والانفراد بالألوهية دون سواه. وكما أن سقوط طيبة استتبع سقوط سيادة آمون فكذلك سلطان آشور تلاشى بخراب نينوي. (5) ميروداخ إله بابل
كان ميروداخ يمكنه أن يرث سلطان الآشور ونفوذه في نفس الوقت الذي أخذت فيه بابل تركة نينوي، وكان هو سيد (بعلو) المدينة، وكان يعرف بعنوان بعلو (بعلوس أو بعل) كما كان يعرف باسمه الحقيقي الذي هو ميروداخ من غير فرق، وقد صار في أيام نابوبولاصر ونبوخذ نصر أعظم آلهة الكلدانيين شوكة واقتدارا، ثم لما جاء نابوناهيد حاول أن يجعله الإله الأكبر والإله الوحيد كما كان الآشور في بلاد الآشوريين؛ فأخذ الآلهة الأخاذيين من مدائنهم ونقلهم إلى بابل وجعلهم حول ميروداخ كالأتباع والأشياع، ولكنه أخفق في مسعاه فإنه فضلا عن إثارته لسخط المدائن التي أذل آلهتها فقد جعل بابل نفسها تتذمر منه وتنقم عليه، فإن كهنة ميروداخ نظروا بعين الكراهة إلى هؤلاء الآلهة الدخيلين الذين جاءوا وشاركوا إلههم في التحيات والتعظيمات التي كانت مخصصة له وحده إلى ذلك العهد، فمردوا الأمة وحرضوها على عصيان نابوناهيد، وترتب على سخطهم تسهيل السبيل أمام الفرس في الفوز والانتصار، فإنهم رأوا في كورش منقذا أرسله لهم ميروداخ؛ ليعيد العبادة إلى ما كانت عليه من الطهارة، فاستقدموه باشتياق واشتهاء وأيدوه وعضدوه بعد نصرته، ولكنهم لم ينالوا مبتغاهم من جعل إلههم متفردا بالعبادة بين جميع الكلدانيين بعد أن كان معبودا في مدينة واحدة. (6) بقاء العبادات الكلدانية مدة طويلة من الزمان
قد بقيت الديانة الكلدانية مدة طويلة بعد خراب المملكة، بل إنها بقيت إلى أن جاء الفتح الإسلامي، وقد اختلطت بخرافات وأفعال بربرية وحشية. وما زالت المحاريب (المعابد) القديمة التي بالفرات الأسفل وأخصها أوروك (أوركيو) إلى الأجيال الأولى من التاريخ المسيحي حافظة لشيء من الاشتهار بالعلوم والمعارف، فقد تخرج بمدارسها أشهر أولئك الكلدانيين الذين كانوا يذهبون إلى المملكة الرومانية، ويمارسون فيها صناعة التنجيم والسحر والكهانة (الإخبار بالمغيبات) ثم ما لبثت هذه الخرافات القديمة أن تلاشت شيئا فشيئا أمام التعاليم اليهودية والنصرانية والفارسية (أي المجوسية) حتى إذا جاء الفتح الإسلامي انمحى أثر ما بقي منها بالمرة، ولم يبق إلا بعض فرق انقرضت الواحدة بعد الأخرى من القرن السادس إلى القرن الرابع عشر للميلاد.
خلاصة ما تقدم (1)
كان لكلديا مثل مصر آلهة أخاذيون في أول الأمر، وهم؛ ايع في ايريدو، وبعل في نيبور، وميروداخ في بابل وآشور، في بلاد آشور. (2)
ثم اتحد هؤلاء الآلهة ببعضهم فتشكل شبه معاهدة إلهية على رأسها مجلس مؤلف من ثلاثة أعضاء وهم؛ آنو الذي هو الشمس، وبعل خالق العالم، وايع رب العلوم والحياة، وتحتهم آلهة أقل منهم في الإبهام وهم سين أي القمر، وشمش أي الشمس، وآلهة السيارات مثل نيبور (عطارد) واشتر (الزهرة) وأذار (زحل) إلخ. (3)
وبجانب هذه الأشخاص العليا يوجد آلاف من الأرواح الثانوية بين طيب وخبيث تؤذي الإنسان أو تقيه وتحميه، وله عليها سلطان مطلق بواسطة تمائم وتعاويذ سحرية؛ فلذلك كان للسحرة العديدين في كلديا تأثير بالخير أو بالشر بحسب طبيعة الجان والأرواح التي يتعلمون تسخيرها لهم. (4)
كان الإله آشور أخاذيا في أول الأمر بمدينة الآشور ثم صار إلها وطنيا لجميع بلاد آشور ثم كبر وصار ربا لسائر الآلهة بمقدار ما اتسع نطاق المملكة الآشورية، وازدادت أملاكها ثم سقط في زوايا النسيان على أثر خراب نينوي. (5)
أما ميروداخ بعلو بابل؛ أي ربها المعروف أيضا لهذا السبب باسم بعل؛ فقد كاد في عهد نابوناهيد أن يحصل على ما كان للإله آشور من السيادة والسلطان، ولكن سيطرته التي كانت قصيرة الأجل زالت بسقوط بابل. (6)
وقد استدامت الديانة الكلدانية ممسوخة عن أصلها إلى ما بعد الفتح الإسلامي بزمان.
الباب الرابع عشر
الآثار والفنون الصناعية (1) لماذا استعمل الكلدانيون الآجر خصوصا
إن بلاد كلديا مكونة من طمي الأنهار ؛ ولذلك فليس بها أحجار جيرية كثيفة متماسكة، ولا رخام ولا صوان ولا حجر البركان ولا شيء من الأحجار الصلبة التي استفاد منها المصريون أيما استفادة؛ ولذلك آل الأمر بالمهندسين من الكلدانيين إلى أن يأخذوا من الأرض نفسها المواد التي يبتنون منها العمائر والآثار فاستعملوا اللبن نيئا أو مطبوخا أو مطليا بالمينا وآجرهم عريض جدا ويكتبون في العادة على أحد وجوهه السطحية اسم الملك الذي صنعت في أيامه. (2) أقدم الآثار في كلديا
إن أقدم الآثار توجد في كلديا السفلى في خرائب أوروك، ولارسام، وايريدو، وأورو، ولاجاش، وهي هياكل وقصور شادها ملوك كانوا معاصرين للفراعنة الذين أقاموا الأهرام في مصر، وكلها قائمة على أساس من اللبن النيئ، وقد يبلغ طول ارتفاع الأساس عشرين مترا بحيث يتكون منه شبه تل صناعي، يكون البناء عليه في مأمن من مياه الفيضان، وكان الوصول إلى السطح بواسطة مزلقان خفيف يمكن للخيول أو العربات أن تسير عليه، والسلالم كأنها منقورة في هذا الأساس، وأما القصر نفسه فكان أشبه شيء بكتلة مربعة أو مستطيلة وله جدران عالية عارية ليس فيها من النوافذ والفتحات سوى باب واحد أو أكثر، وكانت هذه الأبواب محلاة بفرض طويلة منشورية الشكل، وداخل القصور يضل فيه الإنسان لكثرة الفناءات الواسعة والحجرات الصغيرة ذات الحيطان السميكة التي يزيد طولها على عرضها، وتعلوها القباب ينفذ إليها النور من كوة صغيرة في أعلاها وكانت عادتهم أن يضعوا في أحد الأركان البرج الهرمي (زجورات) وهو العنصر الذي تتميز به العمارات الكلدانية، وكانت الزجورات لها سبع طبقات لكل طبقة لون خاص وإله معين، وكانت الآلهة السبعة التي للطبقات السبع هي الشمس والقمر والسيارات الخمسة، وهذه الطبقات هي عبارة عن سبعة مكعبات بعضها فوق بعض وفوق أعلاها في الغالب هيكل صغير يعبد فيه الإله الوطني.
شكل 14-1:
تصوير مركب من حجارة محلاة بالمينا، وقد وجده الباحثون في أطلال خرزاباد وهو من مصنوعات القرن الثامن ق.م.
أما الزخارف الداخلية فكانت على جانب عظيم من البساطة، فالحيطان مطلية بطبقة من ملاط مركب من كلس ورخام أو شيد
1
ممزوج بالجير بحيث لا يظهر الآجر تحتها أو عليها رسوم هندسية أو صور آدمية وحيوانية، وقد يستعيضون عن هذا الطلاء السريع العطب بآخر أبقى يتخذونه من الآجر الذي عليه المينا البيضاء أو السوداء أو الصفراء أو الحمراء، وكان في اختلاط الألوان زينة مقبولة تسر الناظرين، وتصبر على الدهر. فإن أقدم هذا الآجر وأبعده عهدا هو كأقربه عصرا وأحدثه وجودا؛ بحيث لا تزال فيه ألوان زاهية باهية ورونق شائق رائق يأخذ بمجامع القلوب، ويقضي بالعجب العجاب (شكل
14-1 ). (3) آثار آشور
قد كمل الآشوريون ما سنه الكلدانيون في فن العمارة والبناء ولم يعدلوا فيه شيئا يذكر، والآجر هو المادة الأولى في بناياتهم، ولكن الحجارة الكلسية التي وجدوها بكثرة في جبال كردستان مكنتهم في كثير من الأحيان من طلاء عمائرهم بطلاء من الحجر، وكانوا يضعون في قاعدة التراب المركوم مداميك من الدبش الصغير بعناية وترتيب محكم، وفي الداخل كانوا يؤثرون استعمال صحائف رقيقة لتبليط الغرف أو لطلاء الجدران، وأن ترتيب المعابد والقصور بوجه العموم على الكيفية التي عرفناها في الآشور؛ كلخ، ونينوي، ودورشاروكين (خرزاباد)، هو نفس الترتيب المتبع في المعابد والقصور الكلدانية؛ أي إنك ترى فناءات واسعة وغرفا ودهاليز مبنية بالعقد يجيئها الضياء من أعلاها وأبراجا ذات طبقات بعضها فوق بعض. أما الزخرفة في الداخل والخارج فالظاهر أنها كانت متوفرة أكثر بكثير مما في كلديا، فكان على الأبواب أنوار لها رءوس بشرية وتماثيل بالغة في الفخامة والضخامة تمثل البطل جيلجاميس، الذي افترس الأسد وفتك به. وأسفل الحيطان في بعض الأحيان يكون مزدانا بسطوح مربعة وفتحات الأبواب محلاة بسطور من الآجر المموه بالمينا، وهذه السطور ترافق قنطرة الفتحات التي تعلوها صور ورموز دينية، وقد وجد على مدخل باب الحريم في أحد قصور خرزاباد نخلتان من البرونز المذهب، وأما النوافذ (الشبابيك) القليلة التي كانت في بعض الأدوار العليا من البرج فكانت مزدانة بأعمدة صغيرة لها تيجان تحاكي الطرز الأيوني في بلاد الأغارقة، ولها درابزينات من الخشب المشغول، وفي قاعات الاستقبال كانت الحيطان مطلية إلى منتصفها بنقوش بارزة؛ تمثل مواقع الملك المؤسس للقصر ومصايده وطرائده. (4) النقش الكلداني
إن المصنوعات التي تركها لنا نقاشو الكلدانيين تقل كثيرا عما أبقاه نقاشو المصريين، وأن أغلب التماثيل الكلدانية التي عثرنا عليها إلى هذا العهد وجدت في لاجاش وهي محفوظة بمتحف اللوفر، وكلها من حجر الديوريت الأزرق أو الأسود، وقد ضاعت رءوسها ولكنه يوجد في المتحف المذكور نحو ستة رءوس منفصلة، قد ضاعت أجسادها، ولهذه التماثيل هيئة ثقيلة، وشكل جاف (شكل
14-2 )، وذلك لعرض الذقن، وتربعها وكبر الخدود وغلظها، وسمك الشفاه، وتفلطح الأنف، ونجل الأعين، تعلوها حواجب كثيفة مقرونة.
شكل 14-2:
رأس تمثال من لاجاش وهو بمتحف اللوفر.
شكل 14-3:
تمثال بلا رأس من جوديا محفوظ بمتحف اللوفر.
أما الأجسام فبعضها على هيئة الواقف، وبعضها على هيئة الجالس على دكة أو على كرسي، لا سناد له من جهة الظهر (شكل
14-3 )، والملبوس عبارة عن شال طويل يشتمل به صاحبه فيمر من تحت الذراع الأيمن إلى فوق الكتف الأيسر، ثم يرخى باتساع خفيف لحد كعب التمثال، وتثنيات القماش مبينة بالاختصار بكيفية متفق عليها، أما التماثيل العارية فهي مشكلة بثقل وجفاء، ولكنها تدهش الناظر إليها بما فيها من الصحة الحقيقية، والاهتمام بإظهار جميع التفصيلات، وقد فاز الصانع بإظهار كل ما في الجسد مع صلابة الحجر وصلادته، حتى إنه أظهر انحناء الأظافر، وتثنيات الجلد، على أن النسبة التي في الجسم البشري ليست على الدوام مرعية محفوظة في كل تمثال، فإن الأكتاف والخصور هي أعرض مما ينبغي بالنسبة لارتفاع الجذع، وطول السيقان، وفيما خلا هذا الفرق، فإن تماثيل لاجاش هي صور حقيقية صادقة، ترينا الأشخاص المقصودة كأنها هي بالتمام، وكلها تمثل لنا الملك جوديا، والملوك الذين من عائلته كل واحد بهيئته الشخصية، ولا ريب عندي في أن الاهتمام في كلديا بتمثيل الصورة الحقيقية هو مرتبط كما في مصر بأمور دينية، فكما أن التمثال المصري هو عماد تستند عليه الروح، وجسد يضع فيه المصور جزءا من قرين الشخص الممثل، فكذلك كان حال التمثال عند الكلدان، ولكي تكون هذه الصورة التي للقرين واقعة تحت المقاساة والمعاناة كان اللازم جعل الجسد الذي من حجر يحاكي الجسد البشري تمام المحاكاة؛ بحيث يكون كأنه هو إياه. (5) النقش الآشوري
ليس النقش الآشوري عبارة عن استمرار وتكميل للنقش الكلداني، فإن التماثيل الآشورية قليلة؛ لأن الرخام وحجر الكلس، وحجر الجبس الذي استعمله الآشوريون في تماثيلهم لم يقو على مقاومة الدهر مثل ديوريت الكلدانيين، وأشهر تماثيلهم هو تمثال آشور نازرهابال (شكل
14-4 )، وهو مصنوع صناعة علمية ثابتة، ورأسه واضح، ومنقوش نقشا محكما، يكاد ينطق أمام الرائي؛ بحيث لا نرى مثله في نقوش الكلدانيين، ولكنه لسوء الحظ قد تراكمت عليه غدائر الشعر المجعد في الرأس والذقن، أما الجسم فطويل متناسب تناسبا محكما، وفي ملامحه العظمة مع ما هو ملتف به من القباء والشال المخمل اللذين يتدثر بهما الجسد من الرقبة إلى القدم، ولا شك أن الصانع كان ذا مهارة وحذق؛ حتى توصل إلى اجتناب الدمامة وقبح المنظر مع مثل هذا الملبس، وأما النقوش البارزة فهي كثيرة بخلاف التماثيل، وهي مصنوعة بصناعة تشم منها رائحة الحرية والشمم، وقد تتصل بوسائط بسيطة، وعمل غير كامل إلى إحداث أعمال جليلة، ومنظورها مختصر جدا، وليس التناسب بين الأشياء مراعى فيها، أو بعبارة أولى وأخرى هي محسوبة مقدرة بحسب أهمية الأشياء الممثلة في الهيئة المراد تصويرها، فإن الرجال على الدوام بالغون في الطول مبلغ الأشجار، وترى المشاة يهجمون على قلاع وحصون أصغر منهم في القامة والارتفاع، ومع هذه العيوب فإن من نظر إلى النقوش البارزة الآشورية رأى فيها الحركة والحياة، فإنك ترى صورا تتضارب ويقتل بعضها بعضا، وترى فيها الصيد حقيقة، وأغلب الأحوال المصورة فيها مركبة تركيبا لطيفا؛ بحيث يتيسر لأحد الصناع في أيامنا هذه أن يمثلها مع إصلاح قليل على الكيفية المصطلح عليها في هذا الزمان، ويجعل منها رسوما حديثة عصرية، وفضلا عن ذلك فهي تمتاز بموافقتها للحقيقة حتى في الجزئيات التي لا طائل تحتها، وبكونها تمثل لنا الحياة الآشورية بالتفصيل، فهي آثار نفيسة للمؤرخ، كما أنها مصنوعات فنية ذات قيمة حقيقية.
شكل 14-4:
تمثال آشورنازرهابال بالمتحف البريطاني. (6) الفنون الصناعية
عندنا قليل من آثار الفنون الثانوية مثل صناعة الزجاج والنقش على الخشب والوشي والتدبيج والخزف، وكان الآشوريون ولا سيما الكلدانيون بارعين في تطريز منسوجاتهم بأشكال وصور مشابهة لما نراه الآن على حيطان قصورهم، ولكن الدهر قد ذهب بهذه النقوش التي كانوا يسمونها نقوشا «من شغل الإبرة» وكان اليونانيون والرومانيون يعجبون بها إعجابا كثيرا فائق الحد.
وقد بقيت لنا بقايا كثيرة من صناعتهم في المعادن، وكثير من هذه البقايا تشهد بجزيل مهارتهم، ومنتهى براعتهم، فإن سنجات موازينهم التي من البرونز وعلى هيئة أسد مصنوعة صناعة علمية وافية، وخصوصا الرأس فإنه مشابه للحقيقة تمام المشابهة (شكل
14-5 )، وتماثيل الآلهة والتمائم، والسنادات البرونزية التي تزدان بها الكراسي، والأسرة هي من أحاسن صناعة النقش الدقيق المتقن على المعادن، وكانت أبواب قصر شلمناصر في بالوات من الخشب مزخرفة بقطع من البرونز، ارتفاعها 26 سنتيمترا مشغولة بالمطارق، وممثلة لغزوات الملك، وأحسن قسم منها محفوظ اليوم في المتحف البريطاني، وفيها نفس الأغراض التي ترى على أحجار الكلس، أعني وقائع حربية، ومحاصرة بعض المدائن، ومطاردة العدو في بلاد ذات غابات وجبال، ثم عبور الأنهار. نعم، إن المقادير مصغرة جدا، ولكن الصناعة واحدة تدل على تمام المهارة في طرق المعادن.
شكل 14-5:
أسد من البرونز بمتحف اللوفر.
وهذا الإتقان يشاهد أيضا في الأشياء القليلة المصنوعة من سن الفيل، التي لم تعبث بها يد الضياع وخصوصا في الأسطوانات العديدة أو الأختام التي من حجر صلب من أنواع مختلفة وهي توجد بكثرة في خرائب المدائن أما النقش الصناعي؛ أي النقش الدقيق فكان بالغا في الإتقان مبلغ النقش في الأشياء الجسيمة، بل كانت صناعة الآشوريين والكلدانيين ذات مقام جليل في العالم القديم يحاكي ما كان لصناعة المصريين.
خلاصة ما تقدم (1)
لما كانت كلديا مكونة من طمي الأنهار فلذلك ليس فيها شيء من أحجار البناء، وهذا ما حمل أهلها على استعمال اللبن النيئ أو المطبوخ في مبانيهم. (2)
أن أقدم الآثار في كلديا السفلى؛ أي في مدينة أورو ، ولارسام، وأوروك، ولاجاش، هي عبارة عن معابد وقصور مشيدة على أساس من اللبن النيئ، ويتوصل إليها بسطوح مائلة أو سلالم عرضية ويشرف عليها في العادة برج هرمي ذو أدوار يسمونه زجورات، وهذا البرج الهرمي هو أهم ما تتميز به العمارة الكلدانية فكانت هذه القصور والمعابد مزخرفة في الداخل والخارج برسوم على بلاط، أو بطوب مطلي بالمينا. (3)
العمارة الآشورية هي نفس العمارة الكلدانية، وكانت قصور نينوي وغيرها، من عواصم آشور مطلية في الغالب ببلاط طويل من الأحجار المنقوشة أو المرسومة. (4)
وقد بقي لنا قليل من آثار النقش الكلداني القديم وأقدمها وأجملها، قد عثر عليه الموسيو دوسارزك في خرائب تللو وهي محفوظة في متحف اللوفر؛ وهي عبارة عن تماثيل جوديا وملوك لاجاش الذين من عائلته. (5)
أما النقش الآشوري فإنما هو تتميم وتكميل للنقش الكلداني، وليس لدينا إلا قليل من التماثيل أحسنها تمثال آشورنازرهابال، والنقوش البارزة كثيرة، وهي تصور الحركة والحياة أحسن تصوير وعلى أكمل منوال. (6)
ولم يبق شيء من التطريز والتدبيج عند الكلدانيين، وهما مشهوران جدا عند السلف، وإن فن طرق المعادن هو الذي نقدر أن نحكم عليه حكما صادقا من دون جميع الفنون الثانوية، وذلك بواسطة الأسد الجميل المحفوظ في اللوفر، والنقوش البارزة على بعض قطع البرنز الصادرة من بالوغات.
الشيد بالكسر هو ما يطلى به الحائط من الجص ونحوه، ويقابله في الفرنساوية كلمة
Stuc .
الباب الخامس عشر
الاستكشافات العصرية (1) مبادئ الكتابة المسمارية
الظاهر أن الكتابة الآشورية كانت في أول أمرها هيروغليفية محضة، فكانت كل علامة فيها هي صورة الشيء المراد تمثيله، أو صورة الشيء المادي الذي له أقوى مشابهة بالفكر المطلوب التعبير عنه، مثال ذلك: أنهم كانوا يرسمون نجمة ذات ثمانية أطراف للتعبير عن الإله، وكانوا يرسمون النحلة للدلالة على الملك، ثم فسدت هاتان العلامتان بسبب السرعة في رسمهما وتمثيلهما، فصارت النجمة
ثم
وصارت النحلة
ثم
ثم
وهذه الحروف المنقوشة بمنقاش على الأحجار أو بنصل معدني على خزف أو فخار تسمى في أيامنا هذه بالحروف المسمارية، أو الإسفينية لدخول هيئة المسمار
أو الإسفين في العلامات التي تتألف منها.
ومعظم هذه الحروف مقطعية تدل على معنى مستقل بالمفهومية؛ أي إن الكاتب يقدر أن يؤدي بها على حسب إرادته مقطعا واحدا معينا بامتزاجه بمقاطع أخرى تتركب الكلمة أو كلمة كاملة لا يكون التلفظ بها في العادة مشابها للتلفظ بالمقطع، فكان القارئ يبحث بنفسه بين المعاني المتنوعة التي تدل عليها العلامة الواحدة، ويختار ما يراه منها أوفق للمعنى وأنسب بسياق الكلام، الذي هو آخذ في فكه وقراءته، فكان عرضة للخطأ في بعض الأحيان. ولأجل منع هذا المحذور كان ينبغي له أن يراجع كتاب تهجئة قد دونت فيه معاني كل علامة، وطرق قراءتها تدوينا محفوفا بالعناية والالتفات. قال المحقق لونورمان:
1
إن نصف ما وصل إلينا من آثار الكتابة المسمارية هو بمثابة كتاب تعريف وإرشاد نقدر على استخدامه في فك النصف الآخر، وإنا لنستشيره ونرجع إليه ونعول عليه؛ كما كان يفعل تلامذة آشور القديمة منذ ألفي عام وخمسمائة عام وذلك بالضبط والتمام. (2) فن الأدب عند الكلدانيين
وقد انتشرت هذه الطريقة الكتابية مع ما فيها من عدم الملائمة انتشارا سريعا فيما بين الأمم القاطنة بحوض الفرات، وكانت متبعة منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد عند عشائر الشام، وكان ملوكهم يكاتبون بها فراعنة مصر في الأمور الرسمية، وفوق استعمالهم لها في سائر اللغات السامية كانوا يستعملونها أيضا في كتابة بعض اللهجات الأجنبية؛ مثل لهجة العيلاميين، وقسم من الخيثي منذ الأحقاب الخوالى ولغات أرمينية وكبدوكية منذ القرن الثامن قبل الميلاد، فلما ظهر الماديون والفرس في أفق السياسة اتخذوها من الكلدانيين، وجعلوها أبسط مما عندهم، ثم وفقوها على احتياجاتهم. وليس لدينا إلى الآن سوى قليل من الكتابات الباقية من هذه الأمم الأجنبية، ومعظم ما عثرنا عليه مما يتعلق بالفنون الأدبية المكتوبة بالقلم المسماري إنما هو من الكلدانيين والآشوريين، وكان في المعابد الكبيرة بكل مدينة من المدائن مكتبة مشحونة بالكتب المصنفة في أوقات مختلفة، وقد استنسخها ملوك نينوي وخصوصا آشوربانيبال، وحفظوا صورها هذه في قصورهم، وبعض هذه الكتب التي أوراقها من الطين المحروق (الآجر المطبوخ) تتضمن تواريخ هذه البلاد، وبعضها يحتوي على نقول طويلة مأخوذة من تواريخ سنوية ليس لها وجود الآن وفي غيرها أسماء ملوك أو آلهة، ومنها ما هو خاص بأمور وأعمال رسمية مختلفة الأنواع كمخاطبات (إفادات) وتقارير من القواد إلى الملوك، وتنبيهات على الأهالي. ومعظم هذه الكتب يبحث في الديانة والعلوم؛ فهي أناشيد للآلهة المتنوعين، ومزامير وتسابيح وقطع من الأوراد، ورقيات سحرية لاستحضار الأرواح أو لشفاء الأمراض، ومنها كتب كثيرة مؤلفة في علم التنجيم والفأل، وتعبير الرؤيا والفلك الحقيقي والرياضيات، ولكن البقايا التي بقيت من هذه المصنفات ليست ترجمتها وتفسيرها بالشيء السهل المستطاع على الدوام. وقد وجد الباحثون آلافا وآلافا من عقود الإعارة والإجارة والبيع والشراء والزواج والفرائض (تقسيم الميراث)؛ بحيث يتيسر لنا أن نقف منها على حالة القوانين والشرائع في كلديا وآشور.
ثم الكتب المصنفة في التهجي وفي القواعد النحوية التي أشرت إليها سابقا؛ تكاد تكون وحدها نصف ما وصلنا إليه من فنون الأدب عند الآشوريين والكلدانيين.
واعلم أن هذه الآثار الأدبية التي تكلمنا عنها لها فوائد جمة ومزايا متنوعة قد يصعب الوقوف عليها في كثير من الأحيان، فإن التصورات التي تضمنتها والأفكار التي حوتها وطرق التعبير عن هذه التصورات وهذه الأفكار هي بعيدة بمراحل عما هو متعارف بيننا وشائع عندنا؛ بحيث إننا لا نصل دوما إلى تأديتها أو الوقوف على كل ما فيها ولكننا نرى في عدد هذه الآثار الأدبية ومقدارها دليلا كافيا على أن حركة العقول والبحث وراء الجمال قد امتدا وتقدما على شواطئ دجلة والفرات بمثل ما ترقيا على ضفاف النيل بهمة تامة ونشاط زائد كما حصل عند الأمم القديمة المتمدنة. (3) فك الكتابة المسمارية الفارسية
دخلت الهجاية الآرامية المشتقة من الفينيقية منذ القرن السابع قبل الميلاد في بلاد آشور وكلديا، واستعملت في حاجات الحياة الاعتيادية، ومع ذلك فإن استعمال الحروف المسمارية قد استمر زمانا طويلا يعادل الزمان الذي استمر فيه الهيروغليفي تقريبا، فقد وصل إلينا كثير من العقود المحررة في أواخر القرن الأول للميلاد أو أوائل القرن الثاني منه، وبعد ذلك جاءت الحروف السريانية ومشتقاتها والحروف البهلوية، ثم شاعت الحروف العربية وحلت محل حروف التهجي القديمة، ثم أرخى على الحروف المسمارية ذيل النسيان، كما دخلت الحروف المصرية في خبر كان.
وما اتجهت نحوها رغبات الأورباويين وتاقت إليها نفوسهم إلا في النصف الثاني من المائة الرابعة عشرة بعد الميلاد، فإن الإسبانيولي جارسياس دوسيلفا والروماني بيتيرود لاڤاللي (بالياء الممالة) كانا ممن رأيا النقوش بالحروف المسمارية التي تزدان بها قصور برسوبوليس،
2
وفي سنة 1674 نشر الفرنساوي شاردني بضعة سطور منها، ثم جاء الألماني كميفر في سنة 1712، وخصوصا الدانيمركي نيبهر في سنة 1765 فنشر نسخة منها مصححة بالضبط. وقد تيسر للعلماء بواسطة هذه النسخ أن يتعرفوا فيها ثلاثة أنواع من حروف التهجي، يقابل كل نوع منها لغة مخصوصة، على أن فك هذه الخطوط لم يتم ابتداؤه إلا في أوائل القرن الحاضر.
ففي 4 سبتمبر سنة 1803 ألقى «جورج فريدريك جروتفند» خطابه على الجمعية العلمية في جوتنجن أوضح فيها المبادئ التي ينبغي التعويل عليها في فك هذه الخطوط، ووجه شكيمة البحث إلى أبسط الطرق وأسهلها، وتصور أنها تحتوي على لغة فارس القديمة فاجتهد في أن يتعرف في خلالها أسماء وألقاب ملوك فارس مثل؛ كورش وداريوس واكسرسيس، فنجح في سعيه، وعين مدلول كثير من العلامات، ثم عاود أعماله رجلان آخران في وقت واحد وهما؛ لاسن في ألمانيا وأوجين برنوف في فرنسا، فتوصلا في سنة 1836 إلى إتمام فك الكتابات الفارسية التي كان في أوروبا نسخ كثيرة منها. وبعد ذلك ببضعة سنين أرسل هنري راولنسن من بلاد فارس نفسها ترجمة النقوش الطويلة الموجودة في بيهستون، التي حكى داريوس فيها تاريخ فتوحاته (وكان ذلك فيما بين سنتي 1846 و1849). (4) فك الكتابة المسمارية الآشورية والكلدانية
لما تمت قراءة النسخ الفارسية كان فك النسخ الغير الفارسية فيه بعض السهولة والتيسير، ففي سنة 1842 شرع المسيو بوتا، قنصل فرنسا في الموصل، في أعمال الحفر الكبيرة، وهو يرود أطلال خرزاباد، فعثر فيها على آثار ومخلفات هي جرثومة المجموعات الآشورية في متحف اللوفر بفرنسا، وبعد ذلك بقليل اكتشف الإنجليزي ليرد على كثير من القصور الكائنة بقرب نينوي القديمة.
فلما جاءت إلى أوروبا كتابات كثيرة من هذا القبيل أثارت في علمائها عوامل الجراءة والإقدام، فعكفوا على النظر فيها، والسعي في فكها، فمن سنة 1847 ترجم الفرنسويان «ف. دوسولسي»، و«آ. دولونجبيرييه» بعض أقاصيص قصيرة، ومن ذلك الوقت صارت حركة التقدم في هذا المضمار سريعة جدا، فإن «هنكس» في إنجلترا، و«راولنسن» في فارس، و«سولسي» و«أوبرت» في فرنسا أخذوا يدرسون كتابات طويلة، وعينوا بعد التحري الدقيق طريقة التهجي، ومدلولات العلامات، والقواعد النحوية، ولم يكن ذلك من الأمور التي يستقر الرأي عليها من غير أن تحدث جدالا طويلا مصحوبا بالإنكار، وعدم التصديق، فحسما لهذا النزاع أخذت الجمعية الآسيوية بلوندرة في عمل اختبار في سنة 1875، فجاءت نتائجه قاطعة لكل خلاف، مانعة لكل جدال، فإنها طبعت على الحجر كتابة آشورية لم يسبق طبعها، وأعطت نسخا منها لأربعة من علماء الآثار الآشورية كانوا في لوندرة وقتئذ، وهم: «هنكس»، و«أوبرت»، و«ه. راولنسن»، و«فوكس تالبوت»، ودعتهم إلى ترجمتها، فلما تمت التراجم، وقوبلت على بعضها ظهر فيها كلها اسم الملك تغلا ثفلاصر، بل إن حكاية الوقائع تكاد تكون بألفاظ واحدة، وكان الخلاف فيما بينها واقعا على مواضع ثانوية ليس لها مكان من الأهمية، حتى إن العلماء الذين كانوا لم يصدقوا إلى ذلك الوقت بصحة الاكتشافات اضطروا بقوة هذا البرهان للتسليم بصحته، والإقرار عليه، وصار علم الآثار الآشورية من العلوم التي يعترف بها جميع العلماء. (5) نصيب فرنسا في إنماء وترقية الأبحاث المختصة بعلم الآثار الآشورية
وما زال هذا العلم ينمو ويزداد من ذلك العهد، وقد كان لفرنسا فضل عظيم ويد طولى في تاريخ ترقيته؛ فإن العمال الذين ابتدؤا في تمهيد هذا السبيل وهو «بوتا» و«سولسي» و«لونجبيرييه» قد خلفهم بل فاقهم «أوبرت» و«مينان» ثم جاء عقيبهما «فرنسوا لونورمان» و«جيار» و«أميود» وقد اختطفهم الموت وهم في مقتبل الشباب، و«هاليفي» و«بونيون» وغيرهما ممن لا يزالون محافظين على بقاء تعليم هذا العلم وحفظه، وأن أعمال الفحر التي استمر فيها «بلاس» في نينوي ثم «فرسنل» و«أوبرت» في بقعة بابل سنة 1851 قد انقطعت بعدهم مدة تنوف على العشرين سنة، ثم عاودها الإنجليز فتحصلوا منها على ما أغنى المتحف البريطاني وجعله أهم مستودعات العالم المحفوظة فيها العاديات الآشورية، ولم يتحصل الموسيو «دوسارزك» قنصل فرنسا في البصرة إلا في سنة 1878 على الرخصة من الحكومة العثمانية بمباشرة البحث في كلديا، وقد عثر في بعثته الأولى على آثار هي عبارة عن تماثيل ملوك لاجاش، التي سبق الكلام عليها، وهي محفوظة في متحف اللوفر إلى اليوم.
خلاصة ما تقدم (1)
كانت الكتابة الكلدانية هيروغليفية محضة في أول الأمر، وفيها علامات تدل على معان مستقلة بالمفهومية ومقاطع، من غير أن يكون فيها حروف تتركب منها المقاطع. وأما الألفاظ فكانت تتألف من شرائط وأشكال تشبه المسمار أو الإسفين؛ ولذلك سميت الكتابة بالمسمارية أو الإسفينية، وقد يكون لبعض العلامات مدلولات كثيرة متنوعة؛ بحيث لا يكاد القارئ الكلداني يحترز من الخطأ إلا بدوام المراجعة في كتب التهجي، فإنها قد احتوت على معاني العلامات بكل دقة والتفات. (2)
وقد انتشرت الكتابة المسمارية في الشام وأرمينية وعيلام وفارس، وتعدلت كثيرا أو قليلا بحسب طبيعة اللغات التي استخدمها أهلوها، وقد كان قصر آشوربانيبال الذي اكتشف عليه في نينوي هو السبب في حفظ فنون الأدب عند الآشوريين والكلدانيين إلى يومنا هذا، وهي مرقومة فيه على صفحات من الخزف والفخار. (3)
ثم ما لبثت الحروف الآرامية أن قامت شيئا فشيئا مقام الهجاية المسمارية؛ حتى انقطع استعمال هذه مرة واحدة في أوائل القرون المسيحية، ولم يبتدئ القوم في فكها إلا في سنة 1802 وذلك بواسطة الكتابات التي على الطريقة الفارسية، فإن الألماني «جروتفند» استخرج من نقوش برسوبوليس هجاية أكملها بعده «لاسن» في ألمانيا و«برنوف» في فرنسا. (4)
وقد كان في أعمال الفحر التي باشرها المسيو «بوتا» في خرزاباد والمستر «ليرد» في نينوي مجال واسع للمباحث التي اهتم بها علماء أوروبا مدة عشر سنين (من سنة 1847 إلى سنة 1857) حتى توصل «لونجبيرييه» و«سولسي» و«أوبرت» في فرنسا و«راولنسن» و«هنكس» و«تالبوت» في إنجلترا إلى قراءة وترجمة الكتابات التي بالقلم الآشوري. (5)
ومن ذلك العهد لم يزل علم الآثار الآشورية آخذا في التقدم والترقي، وكان لفرنسا نصيبها في توسيع نطاق هذا العلم الحديث على يد «أوبرت» و«مينان» و«فرانسوا لونورمان» و«جيار» وغيرهم من العلماء العديدين الذين ما زالوا يبارون علماء ألمانيا وإنجلترا في البحث والتنقير.
في كتابه على التلفظ بحروف التهجي الفينيقية جزء أول صحيفة 248.
تشهيل منار الآن وأطلالها قائمة حول مدينة اصطخر.
الكتاب الثالث
في تاريخ الفينيقيين
الباب السادس عشر
وصف فينيقية وذكر صيدون وصور وتأسيس قرطاجة
1 (1) وصف فينيقية
لم تكن فينيقية قطرا من الأقطار بل هي جملة موان ذات أرباض ضيقة.
2
فإنها أرض ممتدة بالطول فيما بين جبل لبنان والبحر، ولا يزيد متوسط عرضها في التعديل عن ثمان مراحل أو عشرة، وينبت الزيتون والكرم والقمح في سفح تلالها وفي مجاري السيول بها بدرجة فائقة معجبة، وكانت أعالي الجبل تكسوها في الزمان السالف غابات من البلوط والصنوبر والعرعر والتنوب والسرو والأرز، ولم يكن فيها أنهار كبيرة مطلقا بل مجاري سيول ينحدر فيها الماء بسرعة وشدة مثل؛ ليتاتي ونهر الكلب (المعروف قديما باسم ليكوس) والنهر الكبير وأغلبها تندفع مرة واحدة من لبنان إلى البحر الأبيض.
وقد جاء في روايات القوم أن أصل الفينيقيين من الأمم التي على شواطئ الخليج الفارسي، وأنهم اضطروا لترك مواطنهم على أثر زلازل هائلة خربت ديارهم ومحت معالمهم، فلما استراحوا مدة من الزمان على شاطئ البحيرة الكبيرة التي في آشور (لا شك أنها هي والبحر الميت شيء واحد) جاءوا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط واستقروا عنده في نحو القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، وكانت مدائنهم منفصلة عن بعضها بمسافة عشر مراحل أو اثنتي عشرة بالأكثر، ثم ما لبثت أن امتزجت ببعضها، وتكون منها ثلاث طوائف مستقلة كانت لكل واحدة منها خواص تميزها عن الأخرى.
فكان بناحية الشمال في مدينتي أرواد وسيميرا الكبيرتين؛ أقوام ميالون للشغب والمحاربة مستعدون في كل وقت لمقاتلة مجاوريهم والقيام على من يغير على أرضهم من الأجانب مصريين كانوا أو آشوريين، وكانت أرواد قائمة على جزيرة صغيرة بعيدة عن البر بثلاثة كيلومترات تقريبا وأمامها مرثوس
3
وكرنة وانترادوس «حيث كان يحل فيها على الرحب والسعة ما كانت تضيق عنه الجزيرة»، وكانت هذه المدائن الثلاث تمتد وراء بعضها متتابعة متلاصقة كأنها طراز متواصل.
وكانت جبيل أو جبون التي يسميها اليونان بيبلوس على رأس الطائفة الثانية من المدائن، ويروون أن قد بناها الإله إيل في أول الزمان على بضعة مراحل داخل الأراضي بالقرب من الشاطئ الشمالي لنهر الكلب، ثم انتقلت بعد ذلك إلى ساحل البحر من قرب من نهر أدونيس (وهو إبراهم نهر)، قالوا؛ وكانت بيروت تشاركها في الافتخار بأن الإله إيل بناها أيضا، وكانت مرسى أمينا واقعة في نهاية أخصب السهول بفينيقية، والظاهر أن جبيل وبيروت كان لهما شأن مهم في السياسة في الأزمان التي أعقبت مجيء الفينيقيين، ولم تتمكنا من المحافظة على مقامهما هذا مدة طويلة، ولكن نفوذهما لم يضعف بهذا السبب بل بقيتا إلى أواخر الأزمان الوثنية مركزا لديانة أدونيس؛ وهي من أرسخ الديانات الشامية وأثبتها. (2) صيدون (صيدا) وصور
كانت مدينة صيدون «وهي أول ما أحدثه كنعان» على بضع مراحل من جنوبي بيروت، ولم تكن إلا قرية للصيادين،
4
بناها على ما جاء في رواياتهم القديمة الإله بعل (المعروف عند اليونان باسم آجنور) على المنحدر الشمالي لرأس صغير يشرف بانعطاف نحو الجنوب الغربي، وقد كان لميناها عند السلف شهرة فائقة، وهي محصورة بين صخور منخفضة متتابعة تبتدئ من النهاية الشمالية لشبه الجزيرة، ثم تمتد بحذاء الساحل على مسافة بضع مئات من الأمتار، والسهل المحيط بها يسقيه نهر جميل يعرف باسم بوسترين (نهر الأوالي)، وفيها كثير من البساتين الغناء والرياض الأريضة؛ حتى أوجب هذا البهاء الطبيعي وهذا الجمال الخلقي تسمية المدينة بصيدون الزهراء، وبجوارها شمالا نهر الدامور، وهي تمتد جنوبا لحد مصب نهر ليتاني، وفيما بعد ذلك كانت البلاد داخلة في حكم الصوريين .
شكل 16-1:
ميناصور الحديثة.
قالوا: وفي الأحقاب الخوالي التي مضت على العالم؛ أي أيام كان الآلهة يعيشون فيما بين الناس اختط سممروم على القارة رسم مدينة من قصب الغاب، وأمامها استقر أخوه هيزعوس في بضع جزائر أقام فيها أعمدة مقدسة. وهيزعوس هذا هو أول بحري في العالم، وكان هذا مبدأ صور (شكل
16-1 )، ثم جاء بعد ذلك ملكارث، وهو عند الصوريين مثل هرقل الجبار المشهور في جاهلية اليونانيين، ويؤكد كهنة هذا الإله «أن هيكله بني والمدينة في وقت واحد، وقد مضى عليهما نحو ألفي سنة وثلثمائة عام» حينما زارهم المؤرخ هيرودوت، فبناء على حسابهم يمكننا أن نقول بأن مدينتهم هذه تأسست في نحو سنة 2750 قبل المسيح، وما كان لهذه المدينة القائمة على جزيرة في البحر إلا أن تستقي من ماء الصهاريج، أو من الماء الذي يؤتى به من البر إليها على الزوارق، وكان لها الحكم على جميع الساحل الممتد فيما بين مصب ليتاني إلى جنوبي الكرمل، سواء كانت تحت سيادة أهالي صيدون أو متمتعة بنعمة الاستقلال. (3) ابتداء السيطرة الصورية
إن مبلغ العلم عندنا أنه لم يتفق قط لهذه المدائن المتفرقة على ساحل البحر أن تتفق في أي زمن من أزمان تاريخها، وترتبط بمعاهدة تجعلها متحالفة أو مملكة قادرة على صد هجمات الأمم الكبيرة الفاتحة مصرية كانت أو آشورية أو كلدانية أو فارسية، وكثيرا ما اضطر الفراعنة إلى النكاية بأرواد وسميريا، وقد تعب تحوتموسيس الثالث في إخضاعهم، أما مدائن الوسط والجنوب وهي جيبل وبيروت وصيدون وصور، فقد استكانت إلى الخضوع والامتثال من غير حرب ولا قتال، وأخلص أهلوها في طاعة مواليهم الأجانب إلى ما بعد حكم رمسيس الثاني، وكان هذا والحق يقال هو عين الحكمة والصواب، فقد ترتب على رضائهم بحمل نير العبودية أنهم توصلوا إلى احتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر الأبيض المتوسط، ثم تحصلوا على استقلالهم في أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد حينما عدل الرمسيسيون من العائلة المتممة للعشرين عن المحاربة في البلدان القاصية والأقطار الشاسعة، واكتفوا بالاعتكاف في وادي النيل.
وحينئذ كانت كل من صور وصيدون عبارة عن دولة صغيرة تطمح إليها أنظار مجاوريها؛ بسبب ما أحرزتاه من توفر أسباب الثروة واليسار، ولكنهما قاومتا هذه الأطماع مدة من الزمان بما كان لهما من الحصون والأسوار غير أنهما لم يتأت لهما الاستمرار على هذا الدفاع؛ فقد حدث في السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر (في حدود سنة 1210) أن أقلع من عسقلون (عسقلان) أسطول فلسطيني وتلاقى بعمارة الصيدونيين؛ فدمرها تدميرا، ثم استولى على مدينة صيدون. فالذين تيسرت لهم أسباب النجاة من أبنائها فروا إلى مدينة صور ولاذوا بها؛ فأصبحت أقوى دولة في فينيقية كلها، وكان يحكمها في أول الأمر قاضيان يفضان المشاكل ويدبران شئون الدولة، إلى أن اتخذت لها ملكا هو أييبعل، وكان ذلك في نفس الوقت الذي فيه اختار اليهود سيدنا داود ملكا عليهم.
فلما خلفه ابنه حيرام الأول (من سنة 980 إلى سنة 946ق.م) جعل لنفسه مع داود ومع سليمان عليهما السلام علاقات عادت عليه بالفائدة والمنفعة الزائدة، ولما كان واثقا من صداقتهما له انهمك في المشروعات البحرية، وتفرغ لها بكليته حتى صارت مدته أعظم وقت بلغت فيه صور، على ما نعلم، نهاية الشوكة وغاية الرفاهية. (4) ثورات صور
كانت صور حينئذ متفرقة في جملة جزائر يفصلها عن بعضها ألسنة من البحر ليست بالعميقة، بل تتخللها صخور طافية رءوسها على صفحات الماء من جنس الصخور التي يتعذر معها اقتراب السفائن في بعض المواضع من سواحل الشام، وعلى أكبر هذه الجزائر وفي أعلى نقطة منها قد أقام أول المستوطنين بها قبل ذلك بثمانية عشر قرنا هيكلا لملكارث، وكان في إحدى الجزائر المجاورة هيكل لإلههم بعل السماين، وهو الذي قال اليونان فيما بعد إنه زفس أو لمبيوس، وقد ردم حيرام البوغازات التي كانت تجري المياه فيها فيما بين أقسام المدينة وبعضها، فصار له أرض فسيحة بواسطة الردم الذي عمله والجسور الحصينة التي أقامها لصد الماء، ولكنه مع هذا الاتساع ما زالت البقعة التي فيها المساكن غير فسيحة؛ بحيث لم تكن لتسع إلا ثلاثين أو خمسة وثلاثين ألفا من النفوس، فأفاض أهلوها على الأرض القارة، وأقام «تجارها الذين هم من الملوك وبائعوها الذين هم أكرم وأشرف أهل الأرض» قصورهم ودساكرهم على أواخر سفح جبل لبنان، ولكن الجزيرة بقيت مركز الحكومة بالنسبة لحسن موقعها وللخندق الذي يفصلها عن العالم.
ولما توفي حيرام عقبه ابنه بعليسترت على الملك، ولم يحكم سوى سبعة أعوام (من سنة 946 إلى سنة 939)، وخلفه ابنه ابدسترت فحصلت ثورة من الأهالي لاقى فيها حتفه؛ وذلك أن أولاد مرضعته الأربع قتلوه وولوا أكبرهم مكانه، وقد عضددهم الأرقاء والجنود المرتزقة والعملة الموجودون في المدائن الفينيقية، فاستمروا على منصة الأحكام اثني عشر عاما (من سنة 920 إلى سنة 908)، وترتب على حكمهم عواقب وخيمة ونتائج سيئة؛ إذ هاجر قسم من الأعيان والأشراف، ولو استمر الحال على هذا المنوال لانقضت سيطرة صور ودخلت في خبر كان، ولكن حصلت ثورة أعادت السلالة الملوكية القديمة على تخت المملكة، غير أن مدينة صور لم تنل من ذلك ما تحتاجه من الهدو والسكينة، فتعاقب أولاد بعليسترت الباقين بعد موت أخيهم وتناوبوا الملك الواحد بعد الآخر في مدة قصيرة (من سنة 908 إلى سنة 887) وكان آخرهم فيلي وقد قتله بعد أن حكم تسعة أشهر أحد أقاربه؛ المدعو إيثوبعل الأول كاهن عشتاروت، وحفظ الملك لنفسه مدة اثنين وثلاثين عاما (من سنة 887 إلى سنة 855). (5) تأسيس قرطاجة
تحالف إيثوبعل مع جيرانه الإسرائليين وتزوج أحاب بابنته إيزابل، فتمكن من حفظ السلام بين الأحزاب المختلفة المشارب، ولكنه بعد موته وقعت ذات الوقائع التي حدثت بعد حكم بعليصور الأول بستة أعوام (من سنة 855 إلى سنة 849)، وخلفه موتون الأول (من سنة 849 إلى سنة 820) ولم يكن له من الذراري سوى ابنته إليصار فتزوجها عمها سيشاربعل الكاهن الأكبر لملكارث وترك طفلا صغيرا اسمه بغماليون.
وقد أوصى موتون أن سيشاربعل يكون قائما بأعباء الملك إلى أن يبلغ الوارث الشرعي سن الرشاد غير أن الحزب الوطني قام عليه وأنزله عن منصة الملك، ثم قتله ابن أخيه بعد ذلك ببضع سنين، فأرادت أليصار أن تأخذ بثأر زوجها وشرعت في عمل مؤامرة انضم إليها جميع الأعيان والأشراف؛ إلا أن مكيدتها ظهرت للعيان وخشيت سوء العقبى، فأسعفتها الأقدار بتيسر أسباب الفرار، فاستحوذت على عمارة بحرية كانت في المينا على أهبة السفر، فأنزلت بها جميع محالفيها وأقلعت نحو إفريقية، واشترت هنالك قطعة أرض من يرياش ملك «لوبيا» وأسست المدينة الجديدة «قرط قاداشت» وقد سماها اليونان كارخيدون والرومان كارتاجه
5 (في سنة 814) ثم إن الأهالي فيما بعد مزجوا إليصار بالإلهة ديدون، وسموها بهذا الاسم. (6) صور تحت حكم الآشوريين والكلدانيين
ليست بقية تاريخ الفينيقيين إلا عبارة عن ذكر علائقهم مع الدول العظيمة التي تنازعت امتلاك الشام من القرن الثامن إلى القرن السادس قبل المسيح، فكان الآشوريون قد ظهروا مرة أولى في فينيقية أيام إيثوبعل، وحاولت مدائن الشمال مقاومتهم من غير أن يكون لها من النجاح أدنى نصيب؛ فوقعت أرواد وسميرا جملة مرار في قبضة آشورنازرهابال وشلمناصر فانتهبوهما أما صور فإنها اقتفت مع هؤلاء الأعداء الحديثين طريق السياسة التي عاملت بها المصريينح إذ حسبت أن الأفضل لها أن تخضع من غير مقاومة بدلا من أن تقاتل مع عدم مقدرتها على المقاومة ورضيت بدفع الجزية لتعيش في أمان وسلام.
ولكنها لم تستمر على هذا الاحتياط المقرون بالحزم والحكمة؛ إذ في أواخر حكم تغلا ثفلاصر الثالث قام ملكها إيلولي (من سنة 728 إلى سنة 692) فحارب شلمناصر الخامس وسرجون وسنحاريب محاربات عنيفة انتهت بهلاكه، وكانت هزيمته سبب انقراض الدولة الصورية، فلم تكن فينيقية بعد ذلك إلا عمالة تابعة للدولة الآشورية، ولا يعتد بما حصل بها من الثورات التي ما لبثت أن انخمدت نارها حتى كأنها لم تكن، ولما سقطت نينوي عاد لها استقلالها فدافعت عنه دفاع الأبطال وفازت بدفع نبوخذنصر عنها بمعاونة الفراعنة الصاويين، واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة (من سنة 587 إلى سنة 574) من غير أن ترضى بالتسليم أو تلتزم بالاستسلام، ولكنها حدثت فيها ثورات أخرى فكان فيها كمال انتزاف قوتها. ففي سنة 564 صار قلب الحكومة الملوكية وفي سنة 557 أعيدت تحت سيطرة الكلدانيين، ولما سقطت بابل في سنة 538 حصل لصور وفينيقية ما حصل لها، فدخلتا في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال.
خلاصة ما تقدم (1) «لم تكن فينيقية قطرا من الأقطار بل كانت جملة مواني لها أحواز ضيقة» محصورة بين جبل لبنان وبين البحر، ويقال أن أصل الفينيقيين من البلاد المجاورة للخليج الفارسي، وتنقسم موانيهم إلى ثلاث طوائف متمايزة عن بعضها، وهي طائفة أرواد وسميرا في الشمال ثم طائفة بيبلوس وبيروت في الوسط (وهي الطائفة الثانية). (2)
والطائفة الجنوبية «الثالثة» كانت تتألف من صيدون (صيدا) ومن صور، وقد كان تأسيس صور على الجزائر المجاورة للساحل في سنة 2750 تقريبا. (3)
وقد رضيت عن طيب خاطر بالدخول تحت حكم المصريين، ولم تنل حريتها إلا في أواخر عهد الدولة المتممة للعشرين، وفي نحو سنة 1000ق.م جعلت أبيعل ملكا عليها، وخلفه ابنه حيرام الأول (من سنة 980 إلى سنة 946) وكان صديقا لداود وسليمان. (4)
وسعى هذا الملك في تحسين صور وتوسيع نطاقها وتحصينها؛ حتى إن الثورات التي وقعت بعد وفاته إلى عهد إيثوبعل الأول (من سنة 887 إلى سنة 855) لم يكن فيها عائق قوي يحول دون ازدياد عظمتها. (5)
وبعد ايثوبعل وقعت حروب مدنية أخرى أوجبت مهاجرة الأعيان منها إلى إفريقية تقودهم إليصار ديدون، وأسسوا مدينة قرطاجة في سنة 814. (6)
وفي نحو منتصف القرن الثامن اشتبك العراك بين صور وبين آشور فحاصرها سلمناصر وسرجون على غير طائل، وقاومت نبوخذنصر ثلاث عشرة سنة (من سنة 587 إلى سنة 574) ثم اعترفت أخيرا بسيادة الكلدانيين عليها، ولكن مقاومتها الطويلة أضنتها وأنهكتها، ثم دخلت من غير قتال تحت حكم الفرس في سنة 538.
قد حذفنا في الترجمة أربعة أبواب قبل هذا الباب في الكلام على تاريخ بني إسرائيل لمخالفته للتواريخ الإسلامية؛ وذلك بناء على رأي اللجنة العلمية بنظارة المعارف، وقد راعينا ترتيب الأبواب عقب بعضها بصرف النظر عن الأربعة المحذوفة من الأصل.
قاله رنان في كتابه على فينيقية ص836.
أومارات وهي أمريت الآن على سواحل الشام.
كما يدل عليه اسمها نفسه.
وعنهم العرب فيقولون قرطاجة وقرطاجنة؛ وهذا الاسم الثاني ينطبق بنوع أخص على مدينة في الأندلس اسمها
Carthagène
منحوت من كلمتين معناهما قرطاجة الجديدة.
الباب السابع عشر
الديانة - حروف الهجاية - التجارة - الصناعة (1) آلهة الفينيقيين
لا نعرف شيئا كثيرا عن الديانة الفينيقية، فقد كان لكل مدينة مولى (أدون)، وإله (بعل) يلقبونه في الغالب بلقب خصوصي؛ تمييزا له عن بقية الآلهة (البعليم) في المدائن الأخرى، فكان اسم الآلهة المعبودة في صور وصيدا بعل صور (إله صور)، وبعل صيدون (إله صيدا). هذا، وقد كان بعل يسمى ملكارث بنوع أخص في مدينة صور، ومعنى هذه اللفظة: ملك المدينة، وقد جعله اليونان في صور بمثابة هرقل عندهم، وكان لكل بعل إلهة أنثى (بعلة)، تكون ربة المدينة، وملكة السموات، كما كان هو الإله والملك، وكانت تسمى عشتاروت، وهو اسم جنس عام، وكانت لها جملة شارات بحسب الشأن الذي يخصص لها، ففي بعض البلاد كانوا يصورونها وفي يدها حمامة (شكل
17-1 )، وفي بعضها يمثلونها وعلى رأسها الهلال.
شكل 17-1:
الإلهة ذات الحمامة عن نقش على قطعة من الآجر قد صنعت في العصر اليوناني وهي محفوظة بمتحف اللوفر.
وليس من السهل تعيين خاصية رمزية لكل واحد من هذه الآلهة، فإن البعليم كلهم تقريبا يمثلون قوى الطبيعة والشمس والكواكب، وأما العشتاروت فهن ربات العشق والحرب وفصول السنة، والفصول التي تكتسب فيها الطبيعة رونقها وبهجتها، والفصول التي يعتريها فيها الذبول والاضمحلال، وكلهم من آلهة وإلهات يقيمون في قلل الجبال، وعلى شواشي جبل لبنان، وحرمون، وقاسيوس، وفي الأجمات والمياه، ويتجلون أمام الأنام على المشارف والمرتفعات ويسكنون في الأشجار والأحجار الخام
1
بل وفي الكتل المنحوتة عمدانا. (2) عبادة أدونيس وعشتاروت
قالوا؛ ثم توالت الأزمان على هذه الآلهة المتعددة؛ حتى إنها حلت كلها في زوج واحد سماه القوم إيل وإيلة، أو بعل وبعليت؛ بحسب الجهات المعبود فيها . وصارت بقية الآلهة الآخرين لا تذكر بجانب هذين الإلهين، بل كان لها شبه وجود فقط، ويقول بعضهم إن بعل هو رب السماء والزمان والأبد والشمس، وأما زوجته فهي القمر. ويقول آخرون إن الآلهة الخالقين هم سبعة، اسمهم الكبراء أبناء الصديق، وكلهم يجتمعون تحت راية ثامن اسمه أشمون، وينقادون لأحكامه. وقد كانت خرافاتهم الدينية شائعة في المدائن البحرية وفي بيروت وصيدون (صيدا)، فانتشرت على سواحل البحر المتوسط بواسطة أهل البحر منهم، بل بقيت إلى ما بعد انقراض المستعمرات الفينيقية وبقي لها محراب وأسرار مشهورة في جزيرة ساموتراس، واستمر ذلك إلى أن تلاشت الديانة الوثنية مرة واحدة.
وكانت البعليم كلها مستنفرة مستوحشة ومتشبعة بالحسد والغيرة، وكانت تفرض على عبادها أن يكون قربانهم لها من الحيوان بل ومن بني الإنسان، وخصوصا أول مولود للرجل، وعندما يقع خطر عام يتهدد المملكة كان الملك والأعيان لا يقربون إليها ضحية واحدة فقط بل جميع أولادهم الذين يطلبهم الإله فكانوا يحرقون أمام الإله هذه الضحايا وهي على قيد الحياة، ولا يسكن غضبه إلا إذا شم قتار اللحوم ورائحتها، وكانوا يطبلون ويزمرون منعا لسماع الأنين الصادر من هؤلاء المساكين الذين يعانون عذاب الحريق، ولكي يكون القربان صحيحا مقبولا كان من المحتم أن تحضر الأم بملابس الفرح والمهرجان وتقف ساكتة ساكنة لا تبدي حراكا.
وكانوا يحتفلون بأسرار الآلهة الكبيرة بالقرب من مدينة بيلوس في وادي نهر أدونيس، وذلك أنه متى جاء الانقلاب الصيفي؛ أي متي «قتل الصيف الربيع» أخذت هي في دفن زوجها أدونيس رب الأرباب (أدون أدونيم) إذ قتله حلوف وحشي هائل فتشترك البلاد كلها في حزنها وتلبس الحداد مثلها، فيضعون في الهياكل نعوشا وعليها تماثيل الإله من الخشب المدهون بالألوان والأصباغ، وكانوا يسهرون عليه قبل دفنه، وكانت النساء تخرج زرافات زرافات وتهيم في المدائن والغابات والجبال راخيات الشعور أو حالقات الرءوس شاقات الجيوب بصدور مرضوضة ووجوه مخموشة، وهن يولولن بالعويل الطويل علامة على الحزن الشديد ثم يأخذ القوم في دفن تمثال أدونيس ويصطنعون بساتينه؛ وهي عبارة عن أوان يغرسون فيها فروعا خضراء من غير جذور، ثم يعرضونها للشمس فلا تلبث أن تعتريها الذبول والجفاف؛ حتى إذا جاء الخريف انهالت السيول بمياه ضاربة إلى الحمرة، وانصبت في البحر عقيب الأمطار فتهطل على لبنان. وكانوا يعتبرون هذه المياه الحمراء كأنها دم أدونيس ، ويتضاعف حينئذ حزنهم ووجدهم بمجرد رؤيتهم لها. وكان الحداد الأكبر يستديم سبعة أيام وفي اليوم الثامن ينبئ الكهنة بأن أدونيس عاد إلى الحياة، وأنه يتأهب للاجتماع بزوجته فيفيض عليهم السرور ويشتد بهم الفرح والابتهاج إلى ما يتجاوز حد الاعتدال. (3) ألف باء الفينيقية
لما استطال حكم المصريين على فينيقية أثر تأثيرا قويا على أفكار أهاليها الدينية فتأصلت في مدينة جبيل خرافة أوسيرس وإيسيس، واختلطت بخرافة أدونيس وعشتاروت، وصار الإله توت المصري فينيقيا أيضا، وحفظ في وطنه الجديد مقامه في مصر؛ أعني مؤرخ الآلهة ومخترع الآداب.
شكل 17-2:
حروف الهجاء الفينيقية بإزاء الإشارات الهيروغليفية التي هي أصل لها.
ومما يؤكد حقه في ذلك أن الفينيقيين أخذوا الكتابة عن المصريين، ولم يكدحوا ذهنهم في نقل مجموع الكتابة الهيروغليفية بطريقة الإجمال، وذلك أن هذه الأمة المؤلفة من تجار لم يكن لها حاجة للتعبير عن الأفكار بطريقة مشوبة بالتعقيد؛ مثل طريقة الكتابة المصرية، فحذفوا جميع الصور الدالة على معان مستقلة بالمفهومية، والحروف الدالة على المقاطع، والحروف الدالة على أصوات كثيرة، والحروف المتشابه صوتها التي بقي المصريون محافظين عليها، ثم اختاروا من الحروف الهجائية اثنين وعشرين حرفا توافق الاثنين وعشرين صوتا الأصلية الموجودة في لسانهم (شكل
17-2 )، ومن هذه الحروف خمسة عشر حرفا لم يعتورها كبير تغيير؛ بحيث إن أقل نظر يكفي لمعرفة أصلها المصري، والبقية منقولة من القلم الهيراطيقي من غير مخالفة لقواعد التشبيه.
وقد نقلوا هذه الحروف الهجائية إلى الأقطار التي كانت تجارتهم تسوقهم إليها، فصارت أصلا اشتقت منه جميع حروف التهجي المعروفة وقتئذ من بلاد الهند والمغول إلى بلاد الغالية (فرنسا القديمة) وإسبانيا، وجاء في أشهر الروايات اليونانية أن قدموس الفينيقي مؤسس طيبة في البيوثيا (بلاد اليونان) هو الذي أدخل حروف الهجاء بهذه البلاد ووصلت إلى أوروبا عن طريق إيطاليا والحروف التي يستعملها الإفرنج الآن في الكتابة هي مشتقة عنها بالطبع.
شكل 17-3:
ناووس أمريت. (4) الفنون الفينيقية
وقد أخذ الفينيقيون عن المصريين أيضا بعضا من فنونهم وصنائعهم، فترى في الآثار الفينيقية القليلة التي نجت من الدمار منظرا مصريا خالصا صافيا. فالناووس الذي عثر عليه الموسيو رنان بالقرب من أمريت، التي هي ماراث القديمة يعتبره الإنسان بالسهولة مصريا محضا لو كان اكتشافه على شواطئ النيل (انظر شكل
17-3 )، بل إن معاصر الزيوت ذات الأجهزة الضخمة (انظر شكل
17-4 ) تشبه الآثار المصرية مشابهة لا مراء فيها بالنظر إلى جسامتها، وإلى ترصيف الأحجار فيها، وكذلك أواني الفضة والشبهان (البرونز) التي كان القوم يصنعونها في صور وصيدون (صيدا) تراها مزخرفة بأشكال مصرية، وممثلة لموضوعات مصرية (انظر شكل
17-5 )، وكذلك الجواهر، والأساور، والخناجر، ودروع الخواصر، والخواتم، والأقراط (شكل
17-6 ) كلها عليها شارات فرعونية وصور آلهة مصرية، وكذلك المصنوعات الزجاجية (شكل
17-7 ) تشابه المصنوعات الزجاجية المصرية.
شكل 17-4:
معصرة زيت قديمة بالقرب من أمريت.
شكل 17-5:
آنية من الفضة محلاة بزينة مصرية.
شكل 17-6:
قرط فينيقي وجد في جزيرة سردانية.
وقد كان لتأثير التمدن الآشوري والكلداني موازنة وقتية مع التمدن المصري، ولكنه لم يزله بالمرة، ولم يتوصل للحلول محله بل نشأ عن ذلك التوازن اختلاط غريب في الأشكال والصور المأخوذة عن هذين التمدنين العظيمين اللذين كانا متناظرين يتنازعان المقام الأسمى في بلاد المشرق، فلما كان الفتح المقدوني بعد ذلك جاءت فنون الفاتحين اليونانيين وطرائقهم الفنية على أثر ما قد سبقها من الصنائع والفنون، ثم بقيت هي دون غيرها وتناسى الناس صنائع المصريين والآشوريين، فلم يكن للفينيقيين قط فنون وطنية خاصة بهم متأصلة فيهم؛ لأنهم اقتصروا في كل عصر على تقليد أعمال الأمم التي تحكمهم، فكانوا يصطنعون على الطراز المصري أو الآشوري المتوسط أيام كانت حكومة بلادهم في أيدي المصريين أو الآشوريين، فلما حكمهم اليونان ثم الرومان حاكوا الصنائع اليونانية، وكانت أعمالهم حينئذ من الطراز الغير الجيد. (5) الصناعة الفينيقية والكلام على الأرجوان
لذلك لم يشتهروا عند عموم السلف إلا بكونهم من أهل التجارة والملاحة، ولا صحة لما زعمه البعض من أنهم أول من اصطنع الزجاج؛ لأن المصريين كانوا يعرفونه قبلهم بزمان طويل ولكن الفينيقيين جعلوا طرق اصطناعه سهلة بسيطة، وهم أول من اصطنع زجاجا بلا لون ينفذ النور منه قليلا بدلا من الزجاج الملون الغير الشفاف، الذي كانت تصطنعه مصر وتصدره إلى الخارج، وكانت مصوغاتهم ومطرزاتهم وأقمشتهم الملونة مرغوبا فيها في كل مكان، وكان أرجوانهم مشهورا في الدنيا كلها ومضى زمان طويل ولا يعرف أحد من الأمم كيف يكون تركيبه.
شكل 17-7:
إناء فينيقي صغير من الزجاج.
والأرجوان هو مادة ملونة تستخرج من جملة حيوانات صدفية قوقعية، وكان الفينيقيون يستعملون في صناعتهم هذه الأصداف المعروفة عند علماء المواليد بلفظة موركس ترنكلوس (شكل
17-8 )، وبلفظة موركس برانداريس (شكل
17-9 )، ويرى الإنسان بقايا هذين النوعين من الصدف متراكمة أكواما عظيمة بجوار المدن الفينيقية، أو المدائن اليونانية التي أسس الفينيقيون فيها مستعمرات لهم، واعلم أن المادة الملونة توجد مخزونة بالقرب من رأس الحيوان، ولأجل الحصول عليها كانوا يكسرون قوقعته في هذا المكان بواسطة الشاكوش، فتخرج عصارة ضاربة إلى الصفرة فيلتقطونها بكل عناية والتفات، وينقعونها في الملح مدة ثلاثة أيام، ثم يغلونها في إناء من الرصاص، ويلطفون حرارتها على النار، ثم يضعون هذا السائل على مناخل لينفذ منها خالصا نقيا من قطع اللحم التي ربما تكون مخالطة للعصارة، وبعد ذلك يغطون القماش فيه غطا. وكانت الصبغة الشائعة عندهم شبيهة بلون الدم الضارب إلى السواد بالانعكاس، ولكنهم توصلوا بوسائل ومعالجات متنوعة إلى الحصول على لون أحمر وبنفسجي، وقاتم أوجمشتي.
2
شكل 17-8:
أصداف موركس ترنكلوس.
شكل 17-9:
أصداف موركس برانداريس.
وكانت الصباغة وصناعة الزجاج أخص ما يصطنعه الفينيقيون، ولكنهم لم يكونوا يجدون في مصنوعاتهم هذه ما يكفي لوسق سفائنهم وتسفيرها؛ فكانوا يزيدون عليها المحصولات الطبيعية أو المصنوعات التي كانوا يذهبون لاجتلابها من أقاصي الأرض، أو التي كانت تأتي بها قوافل آسيا وأفريقيا إلى ثغورهم. ومضت عليهم الأعصار الطوال وهم الذين يتعاطون نقل البضائع والمتاجر في البحر الأبيض المتوسط؛ بحيث كانت وساطتهم لازمة بين المغرب الذي لم يزل ضاربا في فيافي الهمجية والتبربر وبين المشرق الذي علت فيه كلمة التمدن وارتفع شأن الحضارة.
خلاصة ما تقدم (1)
كان لكل مدينة في فينيقية رب خاص بها (بعل) وله عشتاروت (أسطارطوس وهي إلهة أنثى) وكانت البعليم والعشتاروتات تمثل قوى الطبيعة والشمس والكواكب، أو الأغراض التي تتجه إليها نفوس بني آدم مثل العشق والقتال. وكانت هذه الآلهة متوطنة في المرتفعات والمشارف وفي الغابات وفي المياه وفي الأحجار الخام (بيت إيل - بيت الإله). (2)
وكانت هذه الآلهة تؤول إلى زوج واحد أعلى أو إلى سبعة آلهة كبراء تحف باشمون الذي هو الإله الخالق، وكانت عبادة هذه الآلهة غير منتظمة ومحفوفة بأساليب القساوة، فكان القوم يحرقون الأطفال تمجيدا لها، وإذا حل الانقلاب الصيفي أخذوا يندبون موت أدونيس، ثم إذا جاء الخريف احتفلوا ببعثه ونشوره. (3)
ثم دخلت بعض القواعد الدينية المصرية في ديانة الفينيقيين، وكذلك أخذت فينيقية عن مصر حروف الهجاء، ومن الحروف الهجائية الفينيقية اشتقت حروف الهجاء الأوروباوية. (4)
أما فنونهم من صباغة ونقش ونحت وعمارة وعمل زجاج فقد أثرت عليها صنائع مصر تارة وصنائع كلديا أخرى تأثيرا عظيما. (5)
وكانت صناعة الفينيقيين مشهورة عند القدماء؛ فقد أتقنوا طرق اصطناع الزجاج، وحفظوا زمانا طويلا سر تحضير الأرجوان، وكانوا ينقلون إلى الجهات القاصية مشغولات بلادهم ومصنوعات الأمم الأخرى. وكانوا هم الذين يتعاطون مهنة نقل البضائع في البحر المتوسط مدة أجيال طوال.
ويسمونها بيت إيل؛ أي بيت الإله.
أي بلون الحجر المعروف باسم الجمشت
Améthyste
وهو حجر أرجواني أو بنفسجي مائل للزرقة.
الباب الثامن عشر
المستعمرات الفينيقية (1) استعمار قبرس
كانت سفائن الصوريين مثل سفائن بقية الأمم المشرقية عبارة عن مراكب لها نصف كويرتة (أي نصف سطح) تسير بالقلع والمجداف، وكان أصحابها يمخرون بها بحذاء الساحل، وما كانت تسافر إلا نهارا فإذا جاء المساء لجأت إلى جون بجانب رأس داخل في البحر.
وفي بعض الأحيان كانوا يجرون المراكب على البر حتى تبقى واقفة على الرمل، فينزل من فيها إلى الأرض لقضاء الليل ثم يسافرون في اليوم الثاني، وما كانوا يخاطرون بالسير في الغاطس بعيدا عن الشواطئ إلا إذا لم يكن لهم عن ذلك مندوحة لأجل عبور بوغاز فاصل بين قارتين أو لأجل الذهاب إلى جزيرة بعيدة.
وكانت قبرس أول جزيرة احتلها الفينيقيون وكثرت فيها مستعمراتهم منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد، وكان الفينيقيون يستغلون ما أودعته فيها الطبيعة من أصول الثروة وموارد الرزق. واعلم أن هذه الجزيرة يخترقها جبلان من المشرق إلى المغرب يكادان يكونان متوازيين وبينهما واد يعجب السائحين إلى الآن بنضرته وكثرة خصوبته، وأخص محصولاته القمح والكرم والزيتون، وأكثر ثروته من المعادن خصوصا وكان نحاسها مشهورا جدا حتى إن الرومانيين اعتادوا على تسمية هذا المعدن بالقبرسي «كبريوم»، ومن هذا اللفظ اشتقت أسماء النحاس المستعملة في أغلب لغات أوروبا، وقد أقامت مدينة ببلوس المحراب الأكبر المخصص لبافوس (باف) على الساحل الغربي، وأما باقي الجزيرة فكان منقسما إلى ممالك صغيرة وهي كيتيوم (كيتين واسمها الآن شيتي) وأماثونت (أماثونطا) وكوريوم (كوري) وكل هذه الولايات كانت تعترف تارة بسيادة صور وأخرى بسيطرة صيدون، وبالأمة المصرية أو الآشورية التي كان أسيادها الصوريون أو الصيدونيون يؤدون لها الجزية. (2) الفينيقيون في بحر إيجه (المعروف الآن بالأرخبيل) وفي البحر الأسود
لم يكن للصوريين في الجنوب مستعمرات مستقلة بنفسها، إذ كانت مخازنهم في أغلب مدائن الدلتا تحت مراقبة الحكام المصريين. ولقد كثر عددهم في منف حتى صار لهم قسم منها استقلوا بسكناه ثم صرفوا وجهة عزيمتهم نحو آسيا الصغرى، فلم تلبث سواحل كيليكيا (لواء أطنه) المحاذية لقبرس أن كثرت بها المخازن التجارية العامرة الزاهرة، غير أن أهالي ليكيا (صوف زاوية) منعوهم من دخول بلادهم كل المنع وقاوموهم في ذلك أشد المقاومة، وأما الكاريون فما كان أسهل امتزاجهم بهم؛ إذ سمحوا للصيدونيين بالاستحواذ والسيادة على رودس، وخالطوهم بالمصاهرة وتشبهوا كل التشبه بأسيادهم المستجدين حتى صارت بلادهم تعرف باسم فينيقية؛ أي الأرض الفينيقية.
وفيما وراء رودس كان للملاح طريقان في البحر، أحدهما يوصله إلى الشمال نحو الهلسبنطس (مرمرا والدردانيل) فالبحر الأسود فاستعمر الفينيقيون مع الكاريين معظم جزائر الأرخبيل مثل ديلوس وباروس وميلوس
1
وأخذوا منها كثيرا من الشب والكبريت وغير ذلك، وجعلوا للؤلؤ مصايد نيسيرا (نجدلي غدا) وجياروس (جورا) وشيدوا معامل للصباغة والأقمشة في كوس (استانكوي) ثم وضعوا أيديهم على لمنوس (لمنو أو ستاليمين) وسموثراقة (سموثراكي أو سمندرك) وثاسوس (طاشيوز) واستخرجوا معادن الذهب في جبل بانجي (كستنيان أو بنهارطاغ) على ساحل ثراقة، ولما كان دأبهم مداومة السعي للبحث على أسواق جديدة يصرفون فيها بضائعهم، فقد جشموا أنفسهم الدخول في قنال هلسبنطس الضيق، ووصلوا إلى ذلك الحوض الفسيح الهادئ المعروف ببحر مرمرا، وبعد أن آمنوا على حرية مرورهم بهذا البوغاز بإنشاء مدينتي أبيدوس (نجارا أوبوردك) ولمبساك (جارداك) قد توطنوا في برونكتوس (قره مرسل
Caramoussel ) على بعد قليل من معادن الفضة التي كان يستخرجها البتينيون في الجبال، بل قد جاء في الروايات ما يدعو إلى الظن بأن شهرة معادن القفقاسية قد زادت في طمعهم فطمحوا إليها، واقتحموا من أجلها أصقاع البحر الأسود وهي قاحلة ماحلة. وكانوا يرجعون بعد تجوالهم في هذه البحار بأصناف التن
Thon
والسردين والأرجوان والعنبر والذهب والفضة والرصاص والقصدير لاصطناع البرونز، وكانوا يتحصلون عليه أيضا من البر عن طريق أرمينية والشام. (3) الفينيقيون في بلاد اليونان وتأثير هذه البلاد على فينيقية
من يرمي بنظره إلى الجنوب وهو برودس يرى شماريخ جبال أقريطش (كريد) على بعد، وهذه الجزيرة واقعة في مدخل بحر إيجي وكأنها قارة قائمة بذاتها تكفي نفسها بنفسها، فإن فيها وديانا خصبة وجبالا تكسوها الغابات، وقد اتخذ الفينيقيون مصائد للأرجوان في إيتانوس، وصاروا أصحاب الكلمة النافذة في الساحل وأقصوا الأهالي إلى ثنيات جبال إيدا (بسيلوريتي) ومنعرجاتها، ثم انتقلوا إلى كثيرا (جزيرة سيريجو) وأحدثوا بها معبدا لعشتاروت.
ولما كانت بلاد اليونان التي في القارة تحصرها من الجنوب جزيرة كثيرا، ومن الشرق جزاير سقلادس؛ فلم تنج منهم، بل طرقوا أبوابها وجاسوا خلالها فظهروا في برزخ قورنثة ثم في إيجين (إيجينا-إيجيا) فسلامين (كولوري) فالأرجوليد فالأتيكة. وجاء في إحدى الروايات المعتبرة عند السلف أن الذي أسس مدينة ثيبة في بيوسيا هو قدموس الفينيقي واضع حروف الهجاء اليونانية، فانتشر بسبب ذلك تمدن الشرق ومقالات أهلية في الديانات عند قبائل اليونان التي لم تكن تجاوزت الهمجية تماما، ثم تلاشت عبادة عشتاروت إلهة الفينيقيين واستبدلت بعبادة الزهرة (أفروديت بلسان اليونان) إلهة قورنثة وإلهة سيريجو، ثم اتخذ صناع الأرجوليد الأولين الأشياء الدقيقة المصطنعة في مصر نموذجا يحاكونه في أعمالهم.
على أن اليونان لم يجعلوا للفينيقيين سبيلا للامتزاج بهم، وانتزاف ثروتهم مدة طويلة من الزمان، فإنهم تعلموا بسرعة كيفية إنشاء السفن القادرة على مقاومة مراكب الأغراب (شكل
18-1 )، ودهموا مكاتب شركات الصوريين ووكالاتهم التجارية، واسترجعوا جزائر سقلادس. ثم إن أهالي كريد عظمت شوكتهم، وازدادت قوتهم بمن وفد إليهم من مهاجري القارة، فتمكنوا من طرد الكنعانيين من جزيرتهم، ولما صارت كريد لأهلها حدثت منها مملكة مؤلفة من مائة مدينة، وعاصمتها كنوسس (أكنوس)، وأول ملوكها رجل أكثر أهل الروايات الخرافية من ذكره حتى كاد يكون عريقا فيها، وهو الملك مينوس، وأن ظهور المملكة الكريدية في نحو القرن الثالث عشر قبل الميلاد كان فيه انتهاء شوكة الفينيقيين، وتسلطهم على بحار اليونان.
شكل 18-1:
سفينة يونانية منقول شكلها عن قطعة آجر منقوشة في قبرس في القرن الخامس.
ومن هذا الوقت لم يتيسر للصيدونيين والصوريين البقاء في بعض الجزائر المنعزلة مثل: ثاسوس (طاشيوز)، وميلوس (ميلو)، وثيرا (سنتورين)، ورودس وكثيرا (سيريجو) إلا بشق الأنفس، بل إن اليونانيين ما لبثوا أن بادؤهم بالشر، وناصبوهم العداوة، وذهبوا يطلبون الثروة في البقاع التي بها الفينيقيون بلا مناظر ولا مزاحم، ولما طرد منفتاح ورمسيس الثالث الأكائيين من ديار مصر نزلوا بقبرس، وقاموا بجهاد استمر قرونا طويلة، ثم انتهى بخراب المستعمرات الفينيقية القديمة.
ولما كان يونان قبرس على تخوم العالم الشرقي؛ تحضروا ببعض حضارته، وكان أرباب الفنون منهم واقعين تحت تأثير الطرائق المصرية والآشورية مباشرة، أو بواسطة؛ فكانوا يميلون تارة إلى الأسلوب المصري، وطورا إلى المنهاج الآشوري. (4) استعمار صقلية وإفريقية وإسبانيا
على أن الفينيقيين استعاضوا هذه الخسائر بما فتحوه من البلدان في أصقاع البحر المتوسط القاصية، فإن الصوريين كانوا قد انجذبوا قبل ذلك بزمان إلى جهات المغرب لما اشتهرت به أرضه من كثرة معادنها وخصوبتها وكل ما يلزم لرفاهية الحياة؛ فانتقلوا بغير عناء من بلاد اليونان إلى إيطاليا فصقلية، ومن صقلية إلى مالطة فإفريقية (في حدود القرن الثالث عشر) فلما تم طردهم من مياه بحر إيجي انتقلوا بقوتهم كلها إلى تلك الأقاليم التي لم يكن فيها مناظر لهم.
فأحاطوا صقلية بجملة مستعمرات منها روش ملكارث وموتيا وزيز التي صارت فيما بعد مدينة بلرم
وشادوا على جبل ايركس
2
معبدا لعشتاروت ما زال حافظا كرامته وقداسته إلى آخر أيام الديانة الوثنية، ثم إنهم طمعوا لمعادن سردانية فذهبوا إليها ثم قصدوا جزائر الباليار
3
وكان القسم من إفريقية المحاذي لصقلية عبارة عن باب عظيم تصدر منه تجارتهم وترد إليهم عنه المواد الأولية مثل العاج والأخشاب النادرة والأفاوية والأبازير والمعادن الثمينة، التي كانت تحتاج إليها معاملهم وأقدم مستعمراتهم على هذه السواحل هي أوتيكة
4
ينتهي تأسيسها إلى القرن الثاني عشر ثم أقيمت مدائن أخرى بجانبها وهي مدينة هيبو ثم هادر وميت ولبتيس.
5
ثم ساروا بحذاء الشاطئ مغربين حتى بلغوا متصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر المحيط؛ أعني بوغاز جبل طارق، واستعمروا هذه النقطة أزمانا طويلة وهي أقصى حد لفتوحاتهم، وقد كان البوغاز في تلك الأيام تتخلله جملة جزائر صغيرة قد تغلبت عليها الأمواج الآن فذهب أثرها من الوجود. وقد قالوا إن إلههم ملكارث أقام على جزيرتين منها؛ إحداهما بأوروبا والأخرى بإفريقية عمودين رمزا للفوز والانتصار، وهما المعروفان بعمودي هرقل الجبار. وفيما وراء العمودين تبتدئ بلاد الترشيس التي أرسل سليمان عليه السلام أساطيله إليها وهي التي تعرف عند اليونان باسم ترتسوس وهي من أخصب بقاع الأرض، وكانت سهول نهري يتيس وانس (الوادي الكبير ووادي انس) تنتج الزيت والخمر والقمح الضعف بمائة ضعف، وكان صوف الضأن فيهما أجود من كل أصناف الأصواف، وأكثر قابلية للتطريز والصباغة باللون الأرجواني، وأنهارها عريضة عميقة بحيث يتيسر للسفن أن تصعد فيها إلى غاية قاصية داخل البلاد، كما أنها كانت واسطة في تسهيل الدخول بأصقاع البحر الشاسعة، وكانت الجبال تعلوها الغابات الكثيرة وفي باطنها المعادن المتنوعة من ذهب وفضة ونحاس وحديد وقصدير، وكان في البحر كثير من الأسماك ويتوافد إليه التن
Thon
زرافات زرافات.
وأقدم المستعمرات الفينيقية في هذه البقاع هي مستعمرة سيس ، فيما قبل العمودين ومستعمرة أونبة فيما وراءهما. وفي حدود سنة 1100 تأسست مدينة قادر المعروفة اليوم باسم قادس على جزيرة مستطيلة مستدقة على غاية القرب من الساحل، لا يحول بينها وبينه إلا شريط دقيق من الماء الملح، وما لبثت هذه المدينة أن صارت لحسن موقعها مركزا لجميع الأملاك الفينيقية في إسبانيا وهي كرتية ومالقة
6
وأبديرة، ثم صارت المواصلات بين صور وقادر وبين قادر وصور منتظمة متوالية، كما كانت بين قبرس وفينيقية. (5) خراب مملكة الصوريين الاستعمارية
لا جرم أن صور كانت في أيام حيرام وخلفائه مركزا لتجار العالم كله، كما أن الفتن الداخلية ساعدت أيضا على توسيع مملكتها لأنها أوجبت نزح بعض أهلها عنها، وقد راد ربانوها سواحل مراكش، وأبعدوا نحو الجنوب وجعلوا المستعمرات كسلسلة متصلة الحلقات فيما بين البوغاز وبلاد السنغال، وصعدوا من جهة الشمال حتى وصلوا بحار الغاليا، وهي بحار يعلوها الضباب البالغ في الكثافة والقتامة
7
وبلغوا جزائر القصدير (التي هي جزائر بريطانيا العظمى) وربما تجاوزوا هذه الجزائر، ولكن أعداءهم اليونان الذين طردوهم من بحر إيجي تعقبوهم في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط فجاءوا صقلية في أواخر القرن الثامن في العصر الذي كانت صور تدافع فيه تغلا ثفلاصر وسرجون وتصد هجماتهما عنها وأسسوا ناكسوس
8
وميجار في سنة 731 وسرقوسة
Syracuse
في سنة 734 وما مضت عليهم بضع سنين حتى استعمروا ساحلي الجزيرة شرقا وجنوبا، ثم إن كوليوس الذي أصله من جزيرة ساموس أوغل في سيره إلى ما وراء صقلية؛ حتى وصل إلى قادر (قادس) وعقد مع إسبانيا علائق متجرية أوثقها الفوكيون من بعده وأيدوها تأييدا وطيدا.
وقد أتمت قرطاجة ما بدأ به اليونان، فإنها ما لبثت أن أزالت كل بهجة لجارتها أوتيكة وهادروميت ولبتيس ثم تنازعت في التجارة والمكسب مع تلك المدينة (صور) التي كانت هي سببا في وجودها من العدم، وإذ كانت صور غير قادرة على حماية الأمم والمخازن المتجرية التابعة لها لاشتغالها بمجالدة آشور وكلديا؛ اضطر الفينيقيون في صقلية بعد أن طردهم اليونان إلى غرب الجزيرة وشمالها إلى الدخول تحت حماية قرطاجة كما فعل إخوانهم المتوطنون بسواحل إسبانيا وإفريقية، بعد أن أعيتهم الحيلة في التخلص من إيقاع البرابرة بهم وإيذائهم لهم فلما كان منتصف القرن السابع لم يكن لفينيقية مستعمرة واحدة تعترف بسيطرتها حتى ولا قبرس، فقامت المملكة القرطاجية بدلا عن المملكة الفينيقية.
خلاصة ما تقدم (1)
كان الفينيقيون لا يعرفون سوى الملاحة بجانب السواحل، فكانوا لا يبتعدون عنها إلا عند الضرورة القصوى، كاجتياز زقاق في البحر يفصل بين قارتين، وقد بدءوا باستعمار قبرس لما فيها من المعادن الوافرة، وخصوصا النحاس. (2)
ثم أحدثوا كثيرا من المستعمرات على ساحلي كيليكيا وكاريا وفي جزيرة رودس وجزائر الأرخبيل وشطوط بحر مرمرا، بل ويقال أنهم أوغلوا في سيرهم حتى بلغوا منتهى البحر الأسود. (3)
وانتقلوا من رودس إلى اقريطش (كريد) ثم إلى بلاد اليونان التي بالقارة، وقد جاء في الروايات أنهم أسسوا مدينة ثيبة في بيوسيا، ثم طردهم مينوس من جزيرة أقريطش ومن جزائر سقلادس ثم جاء الأكائيون فاستقروا بجزيرة قبرس وانتزعوا منهم قسما من الجزيرة (في حدود القرن الثالث عشر). (4)
فاستعاض الفينيقيون هذه الخسائر بمستعمرات كثيرة في صقلية وسردانية وجزائر الباليار وفي إفريقية وفي إسبانيا وكان من نتائج تأسيس مدينة قادر في نحو سنة 1100 تأييد السيطرة الصورية في إقليم بيتيكا.
9 (5)
وفي حدود القرن الثامن جاء اليونان واستقروا بجوار الفينيقيين في صقلية ثم تعقبوهم وطردوهم إلى إسبانيا فلما وقع القتال بين صور وبختنصر انفصلت عنها قرطاجة وانتزعت منها سيادة المستعمرات في إفريقية وإسبانيا؛ حتى إأنها لم يبق لها في زمن كورش ولا مستعمرة واحدة، فسبحان من له الملك على الدوام!
تسمى الآن ديلي أوسديلي وباورو وميلو.
هذا هو اسمه عند الرومانيين
Eryx ، واسمه عند العرب جبل حامد، واسمه عند الطليانيين الآن جبل سان جوليانو.
اسمها ميروقه ومنورقة عند العرب تعريبا من الاسمين الأفرنكيين لأكبرها له الجزائر وهما
Majorque
و
Minorque .
أطلالها بالقرب من مدينة بتونس تسمى عند العرب غار الملح، وعند الإفرنج بورتوفارينا؛ أي ميناء الدقيق؛ لأن جنوب أوروبا وإيطاليا على الخصوص كان ينمون الغلال منها.
أطلالهما بالقرب من سوسة بتونس.
هذا الاسم منقول عن الاسم الفينيقي «ملكة».
ولعل هذا هو السبب في تسمية الأوقيانوس الأتلانطيقي عند العرب ببحر الظلمات.
جزيرة بالأرخبيل اسمها الآن ناكسيا.
هو عبارة عن القطر الذي يشقه الوادي الكبير ويحده شمالا وادي أنس، وشرقا إقليم طركونه ثم البحر الأبيض والأقيانوس جنوبا وغربا، وهو عبارة عما يعبر عنه العرب باسم الأندلس في أول أيام الفتح، وقد سمي هذا القطر كذلك باسم نهر بتيس الذي هو الوادي الكبير.
الكتاب الرابع
في تاريخ الماديين والفرس
الباب التاسع عشر
وصف إيران - آسيا الصغرى - مملكة الماديين (1) وصف إيران
تمتد إيران فيما بين البحر القزويني والخليج الفارسي، وتنتهي عند الشمال الغربي بسلسلة من الجبال أعلاها جبل دوماند؛ وهو ذاهب في السماء إلى نحو عشرين ألف قدم على شكل هرمي. وحدها من جهة الغرب ستة صفوف من الجبال المتوازية وقد عرفها اليونان باسم خواتراس وزغروس (المعروف الآن بجبل طاغ) وهذه الجبال تقي بلاد إيران من هجمات من يقصدها من جهات دجلة؛ فكأنها لها أسوار منيعة لمعسكر حصين.
وفي حدها الغربي مجار كثيرة من المياه؛ ولذلك كانت البقاع الغربية آهلة عامرة، ولكن كلما توغل الإنسان داخل البلاد انقطعت الأنهار وبدت البيداء. وفي أرض هذه البلاد كثير من موارد الثروة والرزق، وإن كانت لا تقارب أرض مصر أو كلديا في الجودة والخصوبة؛ ففي جبالها النحاس والحديد والرصاص وقليل من الذهب والفضة وفيها الأحجار النفيسة، وخصوصا اللازورد الذي يتنافس الناس فيه، وقليل من جهاتها يعرى عن النباتات، أما أكثرها فتكسوه غابات كثيفة من أشجار الصنوبر والبلوط والجوز ومنحدرات جبل زغروس (جبل طاغ)، هي في الحقيقة رياض طبيعية تنبت فيها الكمثرى والتفاح والسفرجل وحب الملوك، المعروف عند العامة بالكريز والزيتون، أما الجهات الداخلية في هذه الهضبة فليس فيها إلا قليل من الأشجار بجانب الأنهار والبطائح، ومن محصولاتها القمح والشعير والجودار (ضرب من القمح) وخضراوات جيدة في الجهات التي لا ينقصها الماء. وكان فيها الأسد والنمر والسبندى
Léopard
والدب وكثير من الحيوانات الأهلية أو القابلة للاستخدام، والحمار الوحشي والجاموس والهجين والدهامج (وهو الجمل ذو السنامين) وجملة أنواع من الخيول منها نوع مشهور بحسن قامته وخفة حركته، وهو المشهور بالنسوي (نسبة إلى مدينة نسا) ولم يتيسر للفاتحين الأول من الآشوريين اجتياز حواجز زغروس (جبل طاغ) فإنها صدت أطماعهم عن هذه البلاد، ولكن شلمناصر الثاني وابنه شمشيرمان، صعدا على هذه الهضبة في أواخر القرن التاسع وكانا أول من جاء من أمتهما واختلط بالماديين. (2) مبادئ المملكة المادية والكلام على كياكسار
كان الماديون يسمون أنفسهم الآريين ومفهوم هذا الاسم أعم من مفهوم الماديين، وقد بقي في ذاكرتهم شيء غير واضح عن تاريخهم القديم؛ وهو أنهم انضموا في بعض العصور إلى قبائل أخرى، وكانوا يهيمون على شطوط نهر جيحون ونهر سيحون
1
ونزل جماعة من القبائل التي كانت تقيم معهم بجهات الجنوب في حوض نهر السند
Indus
والغدران التي تمده. وأما الماديون فإنهم صعدوا مع الفرس على الهضبة واجتهدوا في أن يستحوذوا على قطعة من أرضها تقوم بحاجاتهم، فأوغل الفرس في سيرهم نحو الجنوب الغربي، ولم يقفوا إلا عند التخوم الشرقية لأرض عيلام فاستقروا في أرض جبلية عرفت باسمهم.
وأما الماديون فأخذوا يصعدون على مهلهم نحو الغرب سائرين بحذاء الجبال الحافة بالبحر القزويني، ولما كانوا منشقين إلى ممالك صغيرة كثيرة العدد لا تزال تتصارع وتتعارك في كل حين؛ فلم يمكنهم في أول الأمر دفع الجنود الآشورية، والتزموا بالاستمرار على دفع الجزية إلى ملوك نينوي من عهد تغلا ثفلاصر الثالث إلى أيام آشور أخي الدين؛ أي مدة تنوف على الخمسين سنة.
على أنه قد جاء في الروايات التي تناقلها الأهلون خلفا عن سلف، أن رجلا منهم اسمه ديجوسيس
2
جعلهم أمة واحدة؛ فجمع هذه الأمارات المتعددة في مملكة متحدة، وأنه بنى مدينة أكباتانة (همذان) ونظم جيشا ليعتمد عليه وقت الحاجة في الداخل والخارج، ورتب العلائق التي بين الأمير والرعية. هذا وقد كان سرجون في سنة 715 هزم رجلا اسمه دايوكو، وأخذه أسيرا، وربما كان هو المشار إليه في الرواية التي سردناها عن الماديين، وكان هذا الرجل ملكا صغيرا حقيرا لا شأن له بنفسه ولا جاه عظيم، ولكن ذريته هم الذين أسسوا تلك المملكة المادية الفخيمة إذ بعده بثلاثين سنة؛ أعني في سنة 677 كانت ماداى عبارة عن معاهدة دولية لها رئيس واحد اسمه ماميتيارشو، وكانت هذه المعاهدة من المنعة بحيث تيسر لها مقاومة آشور أخي الدين، ثم تأيدت سطوة الأمة الحديثة في السنين التي أعقبت ذلك فبينما كان آشوربانيبال يفني جنود آشور في محاربته مع عيلام كان ملك؛ تسميه الرواية فراورت (655-625) يتمم إخضاع جميع الأمم المتوطنة فيما بين حوض دجلة والبحر القزويني؛ حتى أدخلها كلها تحت سلطانه، فلما مات آشوربانيبال في سنة 625 ظن فراورت أنه قد جاء الوقت المناسب لشن الغارة على آشور، فنزل في سهول دجلة ولكن آشور تيليلاني هزم جنوده، وقد مات فراورت في المعركة فجمع ابنه كياكسار (سنة 625 إلى سنة 584) ما تشتت من جيشه بشق الأنفس وصعد بهم إلى هضبة إيران ناويا تجهيز ما يلزم لحملة جديدة.
وكياكسار هو في الحقيقة الذي أسس مملكة الماديين العظيمة، وقد اعتبر بما وقع لأبيه؛ فرتب جنوده على نمط الجيوش الآشورية المنتظمة، ففصل حاملي الحراب والرماة والخيالة كل فريق عن الآخر، وقد كانوا يقاتلون قبل ذلك مختلطين ببعضهم فلما أتم تنظيم الجيش عاود مقاتلة آشور، وإذا بالسكيثيين قد داهموه وكبسوا بلاده، فأوقفوا تنفيذ مشروعاته والاجتهاد في تحصيل أطماعه. (3) وصف آسيا الصغرى والكلام على مملكة ليديا
كانت قبائل بربرية وعشائر متوحشة لا ينقطع من بينها القتال ولا تهدأ لهم حركة تسكن فدافد آشور، ضاربين إلى الشمال الأقصى فيما وراء أنهار أرمينية وقلل القففاسية
3
وفي منتصف القرن الثامن جاءت أمم من آسيا الشمالية فطردت أقوام الجمري المعروفين عند اليونان بالكيماريين، وألجأتهم إلى اجتياز نهر الطونة وجبال البلقان، فقابلوا في طريقهم قبائل من بلاد ثراقية وهم المعروفون بالترير والأيدون، ثم انتهوا إلى آسيا.
وآسيا الصغرى هي هضبة متماسكة تحدها الجبال من جميع الجهات وتخترقها أيضا، فكأنها كما قيل «إيران صغرى قائمة بين بحار ثلاثة» وهي بحر إيجي (الأرخبيل)، وبحر الروم، وبحر البنطش، وفي ساحل بحر إيجي كثير من الوديان والأغوار العريضة ترويها الأنهار الجارية بلا انقطاع، فتزحزح مياه البحر عن شطوطه بما تلقيه عليها من الطمي والرواسب؛ فتزيد مساحة الأراضي، وهي أنهار كايكوس
4
وهرموس
5
وكايستر
6
ومينادر
7
أما القسم المتوسط من هذه الهضبة فليس فيه شيء من موارد الثروة ووجوه الانتفاع؛ تراه قاحلا ماحلا قد كثرت فيه المستنقعات والبطائح وبحيرات تنساب مياهها بغير انتظام فيما حواليها، فتبقى راكدة إلى ما شاء الله، نعم إن في هذه البقعة قليل من الأنهار الزاخرة التي يمكنها أن تصل بقوة تيارها وكثرة مياهها إلى البحر؛ فإن نهري إيريس (يشيل إيرماق) وهاليس (قزل يرمق) يصبان في البحر الأسود، ونهري بيراموس وساروس
8
يصبان في البحر الرومي.
ومن نظر إلى هذه البلاد المضطربة أحوالها الطبيعية رأى فيها جميع أجناس الأمم التي كانت بالعالم المعروف عند الأقدمين، ففي الشمال الغربي كانت أمم الموشكي والتابال، والشاليب، وطالما وقعت المعارك بينهم وبين الآشوريين، وكانوا مشتغلين باستخراج المعادن، وتصدير القصدير والنحاس والحديد، بل والفضة والذهب إلى كافة الأمم الشرقية. وكانت ذرية الخيثي متوطنة في الجنوب في مضايق جبل طوروس، وفي سهول، كيليكيا
9
وقد خالطها بعض العناصر الآرامية، وفي الوسط والمشرق أمم أصلها من أوروبا قد انفصلت مثل الماديين، والفرس من الأصل الآري العام، وهم: الدردانيون، والترواديون، والميسيون، والثينيون، والبيثينيون، وأشهر هذه الأمم هي أمة فروجيا، فإن مجيئها إلى آسيا قد أوجب مهاجرة أولئك المعروفين عند الفراعنة بأمم البحر الذين تهددوا مصر في أواخر العائلة التاسعة عشرة.
وقد أسست الأمة الفروجية في وسط شبه جزيرة آسيا الصغرى مملكة لم نقف على تاريخها كمال الوقوف، ومن القرن العاشر كان اليونان قد أحدثوا على الساحل الغربي جملة مستعمرات يونانية وأيولية، ودورية، وكلها متقاطرة الواحدة وراء الأخرى ، وهي ميليت (ملطية)، وأزمير، وفوكيا،
10
وكولوفون، وهاليكارناس
11
وقد أسرعت هذه المستعمرات في طريق الثروة والعمارية، فخرج من أهليها رجال أحدثوا مستعمرات أخرى على سواحل البحر الأسود.
وفي نفس ذلك الزمان أخذت مملكة ليديا القديمة في الظهور، ونفضت عنها غبار الخمول الذي عاشت فيه إلى تلك الأيام، ولا شك أن روح الغيرة إنما دبت فيها حينما رأت من اجتهاد جيرانها اليونان ما رأت، ويقولون: إن ثلاث عائلات ملوكية تعاقبت على إدارة الأحكام في سرد (المعروفة الآن بمدينة سرت) تخت هذه المملكة، وهم عائلة الأتياد (عائلة خرافية لا وجود لأفرادها)، ثم الهرقليون (لأنه جاء في الرواية أنهم من ذرية هرقل الجبار)، ثم عائلة مرمناس المعروفة باسم مرمنا، وهي من سلالة سيجيس بن مرمناس الذي تولى الأحكام في حدود سنة 675، وقد اجتهد هذا الملك في إزالة المستعمرات اليونانية المتواصلة التي كانت تحول بينه وبين البحر، فأقام حروبا طويلة على مدينة ميليت (ملطية)، ولم يجده ذلك شيئا يذكر، وانتهى حكمه بمصيبة عليه، فإن الكيماريين قتلوه في إحدى الوقائع الحربية، وأخذوا سرد (سرت)، ونهبوها في نحو سنة 650، فقام ابنه أرديس (650-630) وهزمهم، ولكنه لم يوفق إلى كسر شوكتهم، فإنهم ما زالوا بعد ذلك إلى ثلاثين سنة سادات آسيا الصغرى. (4) إغارة السكيثيين والكلام على الحروب بين الليديين والماديين (سنة 591-585)
قد نزل إلى آسيا السكيثيون
12
مع الكيماريين بعد أن طردوهم من مواطنهم الأصلية، وكان قد لاقاهم آشوربانيبال في سنة 660 عند جبال أرمينية، ولكنهم في سنة 624 تقوت جماعاتهم واشتدت عصبيتهم بمن انضم إليهم من المهاجرين، فانقضوا على سهول آشور وماداي لتوفر أسباب الثروة فيهما، ولم يصدهم عن ذلك مانع فنهبوا آشور وألزموا كياكسار بأن يدفع لهم الإتاوة، ولم يتيسر لهذا الملك الرجوع لمشروعاته في الفتوحات والأطماع إلا بعد أن تخلص منهم بالقوة والقهر على رأي البعض، وبالخيانة والغدر على رأي آخرين وذلك في سنة 608 ثم تحالف مع ملك بابل فنجح في تدمير نينوي سنة 606، وكانت حصته في الغنيمة آشور الحقيقية وملحقاتها.
ولم يقف عند هذا الحد من الفوز بل نازل أمم أرمينية، وقد كاد السكيثيون يأتون على كل بلادهم خرابا، فلم تقاومه مقاومة تذكر ودخل من غير صعوبة إلى قلب آسيا الصغرى فصادمه فيها الليديون فإن ساديات (630-618) ابن أرديس استمر في محاربة اليونان وجاء بعده اليات (618-563) فانتزع منهم أزمير وأمعن في داخل البلاد حتى وصل الأقطار التي يسقيها نهر هاليس (قزل يرمق) وقد دامت الحرب بين الليديين والماديين ست سنين، ولم يفز بالغلبة فريق على الآخر، وإنما كانت بينهما سجالا، وذكروا أن الجيشين استعدا ذات يوم للقتال وفصل الخطاب وإذا بالشمس قد كسفت بغتة؛ فأحجمت أمم إيران عن القتال إلا إذا كان ضياء النهار منتشرا في الآفاق وكذلك الليديون، فإنهم على ما ظهر لم يكونوا متوثقين أكثر من أخصامهم، ولو أن طاليس الفيلسوف الملطي - على ما يقال - أنبأهم بقرب حصول هذه الظاهرة الجوية؛ فتداخل حلفاء الملكين وحملوهما على الصلح، فتقرر بينهما بقاء نهر الهاليس (قزل يرمق) حدا رسميا للمملكتين، ولأجل توطيد هذا الصلح عقد اليات على ابنته لاستياج
13
بن كياكسار ثم أدى كل من الملكين يمين الصداقة لصاحبه، وأمضيا على العقد بعد أن جرح كل منهما ذراع الآخر وامتص الدم الذي سال منه، وكانت هذه عادتهم في تلك الأزمان (585). (5) استياج وهوكيكاوس (584-549)
ومات كياكسار بعد ذلك بقليل (سنة 584) بعد أن عمر طويلا وأصاب فخرا جليلا، فإن مملكة ماداي عند ارتقائه على كرسيها لم تكن إلا قطعة صغيرة من هضبة إيران، فترك لخليفته مملكة تمتد من ضفاف نهر الهلمند إلى شطوط نهر هاليس (قزل يرمق) أي ثلث آسيا الغربية، والظاهر أن استياج؛ أي كيكاوس لم يكن من الملوك المحبين للغزو والقتال بل كان غليظ القلب مولعا بأباطيل الاعتقادات وفاسد الخزعبلات، فأمضى حياته حقيرا بطالا منغمسا في اللذات متنعما بعزة الملك وأبهته على ما هو معهود في البلاد الشرقية، ولم يكن له من الملاهي إلا الصيد والقنص في رياض قصره أو في حدود البادية.
خلاصة ما تقدم (1)
تمتد هضبة إيران بين البحر القزويني والخليج الفارسي وتحدها من الشمال سلسلة جبال زغروس (جبل الطاق) وحدها الغربي أراض خصبة تسقيها الأنهار سقيا منتظما، وداخلها رمال لا تصلها المياه ولم يجازف الفاتحون الأولون من الآشوريين بالدخول إلى هذه البقعة. (2)
الماديون من سلالة الآريين وأصلهم من إقليم بلخ، وقد أدوا الإتاوة لتغلا ثفلاصر الثالث وخلفائه، فلما أعقبهم الأمراء من آل ديجوسيس (كيقباذ) اغتموا فرصة اعتراك آشوربانيبال مع عيلام لنوال حريتهم وإزالة نير عبودية آشور عن أعناقهم، بل إن فراورت قد تجاسر على مهاجمة آشور، ولكن آشور يتيليلاني هزمه وقتله (سنة 635) أما ابنه كياكسار فقد كان مؤسس المملكة المادية حقيقة. (3)
آسيا الصغرى هي «إيران صغرى قائمة بين بحار ثلاثة» بحر الروم وبحر إيجي (الأرخبيل) والبحر الأسود، وقد توالى على حكمها الخيثي ثم الفروحيون القادمون من أوروبا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ثم استعمرها الفينيقيون ثم اليونانيون. وفي القرن السابع جاء جيجيس (675-650) وأصلح مملكة ليديا القديمة فحاولت أن تخرق المستعمرات اليونانية التي كانت حولها حائلة بينها وبين البحر، ولكن داهمها الكيماريون (650) فأوقفوا حركة تقدمها، وما لبثت أن عادت لذلك في أيام أرديس (655-630). (4)
كانت إغارة السكيثيين بعد إغارة الكيماريين مانعا وقتيا لم يتيسر معه لكياكسار قلب المملكة الآشورية، ولما خربت نينوي في سنة 606 تقدم الماديون نحو الغرب واصطدموا بالليديين في أيام ملكهم اليات (618-552)، واستمر القتال بينهما ست سنين وانتهى في سنة 584 بمعاهدة صلح جعلت نهر هاليس حدا لكل من المملكتين. (5)
وقد خلف كياكسار على منصة الأحكام ابنه استياج؛ أي كيكاوس (سنة 584-549) وكان ملكا محبا للزهو الباطل، ولم يتمكن من المحافظة على ما فتحه أبوه من البلدان والأقطار.
اعلم أنه يوجد بقارة آسيا أربعة أنهار متقاربة في الأسماء وموجبة للوقوع في الخلط والاختباط، وهي جيحون وسيحون وجيحان وسيحان. وقد يظن من كتابات العرب أنهما نهران اثنان والحقيقة أنها أربعة متمايزة، وهذا هو البيان. فالأول وهو جيحون يسمى عند الإفرنج أكسوس
Oxus
أخذا عن الاسم اليوناني وهو مشهور جدا، لأنه أكبر أنهار آسيا الوسطى، وإليه تنسب البلاد المسماة عند العرب ببلاد ما وراء النهر، وعند الإفرنج باسم
Transoxiane .
والثاني يسمى سيحون عند العرب و
Jaxarte
عند الإفرنج وهو الفاصل الآن بين المملكة الروسية وبلاد التركستان المستقلة، وكلا هذين النهرين بآسيا الوسطى. أما النهر الثالث والرابع: فهما جيحان وسيحان بآسيا الصغرى، واسمهما عند الإفرنج
و
Sarus ، وهما يصبان في بحر الروم. وهذا ما قاله ياقوت في المشترك «سيحان نهر كبير جرار في ثغر المصيصة» أي
Mopsueste «أي وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم (يصب في البحر الأعظم) وبالقرب منه نهر يقال له جيحان. فبالثغر سيحان وجيحان، وبأرض «الهياطلة سيحون وجيحون».»
اسمه المعروف في تواريخ الفرس كيقباذ، ومعنى كي في أمتهم «العظيم».
هذا هو الاسم الصحيح للجبال والبلاد المعروفة بالقوقاز
Caucase
فاحتفظ عليه، وبه تسمى سلسلة جبالها، وأعلى جبل فيها يسمي كوه قاف، وهو المعروف في كتب العرب باسم جبل قاف.
لم أتوصل لتحقيق أسماء هذين النهرين.
يعرف الآن باسم سربات أو كدوس جابي.
لم أتوصل لتحقيق أسماء هذين النهرين.
هو الآن نهر بيوك مندرس.
هما جيحان وسيحان اللذان في آسيا الصغرى [راجع الكتاب الرابع: في تاريخ الماديين والفرس - الباب التاسع عشر: وصف إيران - آسيا الصغرى - مملكة الماديين - مبادئ المملكة المادية والكلام على كياكسار حاشية رقم 1].
هي الآن عبارة عن لواء أذنه المسمى عند الترك أطنه.
اسمها القديم
.
هاليكارناس
Halicarnasse
مدينة بآسيا الصغرى، ومنها خرج المؤرخ هيرودوت المشهور بأبي التاريخ، واسمها الآن بودرون.
هم المعروفون الآن بالتتر.
هو المعروف في كتب الفرس باسم كيكاوس.
الباب العشرون
الفرس - كورش - كمبيز - فتح الفرس للقسم الأعظم من بلاد المشرق المعروفة قديما (1) مبادئ المملكة الفارسية
حل الفرس في أوائل الغارة الآرية بالبلاد الواقعة شرقي عيلام، ثم امتدت أملاكهم من مصب نهر طاب في الغرب إلى بوغاز هرمز. واعلم أن أرضها التي إلى السواحل قاحلة لا ترويها الأنهار بالكفاية، ولا يصل من أنهارها إلى البحر إلا طاب وبندأمير وكوراب، وأما بقية الأنهر فتتجمع مياهها في قيعان الوديان فتتكون منها بحيرات كبيرة أو صغيرة بحسب الفصول الأربعة، وقد قسمت القبائل الفارسية البلاد التي فتحتها إلى جملة أقسام وهي باريتاسينه (بلاد الجبل) ومارديانه (مازندران) في الجبال وتوكانه على الساحل وكرمان في الغرب وبنوا فيها بعض قرى كبيرة أهمها فرسبوليس
1
وبازاركد.
وكانت هذه القبائل خاضعة لملوك من سلالة رجل اسمه أخيمينيس، وهو قائدهم أثناء الغارة، وقد انتزع فرع من هذه العائلة بلاد انشان من العيلاميين وجعلها إمارة، كان أسيادها تيسبس وكورش الأول، وكمبيز الأول يعترفون بسيادة الماديين مدة تقارب قرنا من الزمان. (2) كورش وهو كيكسرى (558-529) وفتوح بلاد ماداي (549) وليديا (546)
فلما جاء كورش الثاني (كيكسرى) ابن كمبيز (شكل
20-1 ) نهض بالفرس من وهدة الخمول والانحطاط، وجعل لهم السيادة والسيطرة على آسيا، وقد تناقل القوم رواية تقضي بأنه من سلالة كياكسار، وأنه حفيد استياج (كيكاوس) من ابنته مندان، وذلك أن استياج رأى أحلاما أزعجته؛ إذ أنبأته بشوكة الغلام في مستقبل الأيام، وأن قدره سيعلو على جميع الأنام فأراد أن يقتله عند ولادته فوكل بهذا الأمر أحد سادات بلاده واسمه أريج
Harpage
غير أن هذا الرجل اقتصر على ترك الغلام كورش في الغابات فجاءت كلبة (على قول البعض) وزوجة أحد رعاة الملك (على قول الآخرين) وغذته وربته حتى كبر وترعرع، ولكن ذلك لم يرد في التاريخ الحقيقي، فإن مبلغ ما جاء فيه أن كورش ملك انشان حارب الماديين، فوقعت فتنة في جنود استياج وسلموا أميرهم هذا إلى الملك الجديد (549) فكان في ذلك انتقال الملك من عائلة لعائلة من غير أن يكون في الحقيقة فتحا أجنبيا، فحلت الدولة الفارسية محل الدولة المادية من غير أن يحدث اضطراب أو انقلاب.
شكل 20-1:
الملك كورش وهو مصور في رسم بارز في مرغآب.
ثم امتدت الدولة الفارسية بسرعة، فإن كورش ابتدأ بمقاتلة الليديين وكان أميرهم كيريسوس بن اليات يحكم عليهم منذ سنة 562. وقد افتتح هذا الرجل أفسس وأزمير، وساد على جميع الأمم المتوطنة غربي نهر هاليس (قزيل إيرماق) وصار له في العالم كله صيت عظيم يضرب به المثل إلى يومنا هذا من حيث الغنى والكرم
2
فأول ما شاع خبر سقوط استياج (كيكاوس) تحالف مع أمم الشرق القديمة، فإن ظهور هذه الدولة الجديدة كان يهددهن كلهن فتحالف مع أماسيس ملك مصر ونابوناهيد ملك كلديا، بل ومع اللقدمونيين، وحينئذ آنس من نفسه قوة بمؤازرة هذه الشعوب له فبدأ بالقتال في ربيع سنة 546، واجتاز نهر هاليس (قزل يرمق) واستحوذ على قلعة بتريا (واسمها الآن بوغاز كوي) لأنها كانت تشرف على البقعة التي لا بد للفرس من اجتيازها لمقاتلته، ولم يتهيأ لكورش (كيكسرى) صد هذه الهجمات إلا في أواخر الصيف، فوقعت بينهما معركة بالقرب من نهر هاليس (قزل يرمق) ولم يتبين فيها الغالب من المغلوب، ولهجوم الشتاء رجع كريسوس إلى سرد (سرت) وصرف جنوده لمدة الشتاء حاسبا أن الفرس لا يهاجمونه قبل حلول الربيع.
ولكن الحوادث لم تحقق هذا الحسبان فإن الفرس والوا القتال في فصل الأمطار، وتقدموا في زحفهم حتى دخلوا إلى قلب ليديا، فباغتوا ملكها وهزموه في أول معركة؛ بحيث التجأ إلى التحصن في سرد (سرت) وبعث يستغيث بحلفائه ويستنجدهم عند الشدة.
وكانت المدينة مشهورة بأنها منيعة لا ترام، فصدت هجمات الفرس مرات عديدة، ولكن اتفق ذات يوم أن أحد عساكر الحامية سقطت خوذته من أعلى القلعة إلى خارجها فنزل وأخذها، ثم عاد من الطريق الذي نزل منه، فأبصره أحد المحاصرين وسار على أثره حتى دخل القلعة مع نفر من رفقائه. وقد كانت المدينة قاومت مدة أربعة عشر يوما (سنة 645) وجاء في الرواية أن كريسوس حكم عليه بالموت في وسط النار ولكن هذه النار كانت بردا وسلاما عليه؛ إذ نجاه من هذا العذاب الإله أبولون الدلفي، فلذلك صار الرجل صديق الملك الذي فاز عليه ومستشاره الأمين. وقد وكل كورش قواده بإتمام فتح القطر فأخضع أريج بلاد ليكيا (صوف زاوية) والمدائن اليونانية التي كانت فازت في مقاومتها العائلة مرمناس، وخرج أهل فوكية من ديارهم، وبعد أن لاقوا في طريقهم جملة حوادث ووقائع ذهبوا إلى بلاد الغاليا وأسسوا فيها مدينة مرسيليا. أما سكان مدينة اكسانثوس فقد استماتوا في الدفاع عن وطنهم حتى هلكوا عن آخرهم ولم يرضوا بتسليم مدينتهم، بخلاف بقية البلاد فقد رضيت بما قدره الله عليها وقبلت سيادة الفرس . (3) فتوح آسيا العليا وبلاد كلديا وموت كورش وهو كيكسرى (529)
وبينما كان أريج يتمم إخضاع آسيا الصغرى كان كورش (كيكسرى) يوالي المحاربات، ويشن الغارات في الأقاصي الشرقية من الهضبة الإيرانية فألحق بمملكته بلاد بلخ
3
والمرج (بقطرياته ومرجياته) وبنى في بلاد الصغد جملة معاقل وحصون أهمها كوروبوليس أو كوريشاته (أي مدينة كورش) وهي مدينة حصينة تشرف على نهر سيحون، ولم يوقفه عن سيره إلى الشمال إلا مفاوز سيبيريا وفدافدها. وكانت الشاش آخر أمة أخضعها في نواحي المشرق. ولما غادرهم مر على بلاد آرية (سجستان والقسم الشرقي من خراسان) وأركوسيا (سستان) وعلى البلاد الواقعة فيما بين نهر كابل والسند، ولكن الظاهر أن صحارى جدروسيا (مكران) كانت أمام جنوده مانعا منعهم عن التقدم والفتوح فاستغرق كورش في هذه المحاربات نحو خمس أو ست سنين (من سنة 545 إلى سنة 529) وترتب عليها اتساع مملكته ضعف ما كانت عليه، وبمجرد عودته نازل كلديا ففاز بسهولة على ملكها نابوناهيد، واستولى على بابل في سنة 538 فخضعت له الأقاليم التابعة لها من غير حرب ولا قتال. وبذلك صارت تخوم الدولة الفارسية مجاورة لحدود المملكة المصرية.
وكان أماسيس ملك مصر هو الذي يظن فيه الكفاءة دون سائر ملوك العالم القديم لمناظرة الفارسيين في السطوة والشوكة، فتوقف كورش (كيكسرى) برهة عن مقاتلته ثم انثنى نحو الشرق واختفى بكيفية عجيبة غريبة (سنة 529) وقد جاء في أشهر الروايات المتداولة أنه طلب أن يتزوج بالملكة طوميرس ملكة المساجيت ولكنها استخفت به واحتقرته؛ فأشهر عليها الحرب العوان وغلبها وأخذ منها ولدها، فقتل الولد نفسه لاستيلاء اليأس والقنوط عليه، ثم إن الدائرة دارت على كورش فانهزم أمامها بعد قليل من الزمان ومات في ميدان القتال، فبحثت طوميروس على جثته ووضعت هامته في زق قد ملأته من دم الناس، ثم أكثرت من سبابه ولعنه وقالت «إني وإن بقيت ممتعة بالحياة وبالنصر ولكنك أعدمتني في الحقيقة؛ إذ خطفت مني ولدي بالحيلة والخديعة، فلأجرعنك الدم تجريعا.»
4
ثم توصل الفرس لأخذ جثة ملكهم ونقلوها إلى بازاركد ودفنوه في بساتين قصره باحتفال عظيم وإكرام بالغ. (4) كمبيز (سنة 529 إلى سنة 522) وفتوح مصر (سنة 529)
وخلف كورش على مملكته كمبيز (ويسمى في كتب العرب قمباسوس، وفي كتب الفرس لهراسب) وهو أكبر أولاده، أما ابنه الثاني بردية (سمرديس) فقد أوصي له بالحكم على جملة ولايات، وكان قصده بذلك أن يمنع الخصومات التي تحصل في بلاد المشرق عادة عقيب انتقال الملك من يد إلى أخرى، ولكن أماني كورش (كيكسرى) ذهبت أدراج الرياح، فإن كمبيز (لهراسب) بمجرد ارتقائه على سرير الملك ذبح أخاه بغاية التستر وكمال التبصر، حتى إن العامة لم تشعر بذلك، وظنت الأمة وأهل البطانة الملوكية أن بردية مسجون في أحد القصور القاصية ببلاد ماداي، وكانوا ينتظرون عودته بعد قليل من الزمان.
فلما تخلص كمبيز (لهراسب) من هذا النظير الذي كان يتوقع منه الخطر، رجع إلى إتمام ما شرع فيه أبوه، ولم يكن عليه إلا إخضاع مصر، ولما رأى أماسيس ملكها سقوط كريسوس توقع غارة الفارسيين على بلاده، فأخذ أهبته وأعد لهم ما استطاع من قوة، فعقد المحالفات الوثيقة مع كثير من الممالك الإغريقية، وقوى جيشه بكثير من المرتزقة، وحصن حدود الدلتا تحصينا جيدا. وكان بين ينيسوس آخر نقطة من جهة الشام وبين بيلوزة (الطينة) أول نقطة من جهة مصر بيداء يبلغ طولها تسعين كيلومترا، ولا يكاد يوجد فيها الماء، وهي بحيث لا يتأتى لأية فرقة عسكرية أن تخترقها في أقل من ثلاثة أيام، ولكن فانيس الهلكارناسي أحد الرؤساء اليونانيين الذين في خدمة فرعون مصر خانه وخفر عهده، فسهل على كمبيز الاتفاق مع القبائل الرحالة النزالة المتوطنة بهذه البوادي، فتحصل منها على ترتيب منازل بهذه البيداء يكون فيها الماء الكافي للجنود.
فلما وصل الفارسيون إلى بيلوزة (الطينة) علموا أن أماسيس قد مات، وأن ابنه أبسماتيك الثالث خلفه على سرير الملك، فجاء هذا الملك الجديد بنفسه على رأس جيشه، وقاتل المغيرين أمام بيلوزة، وقد كان فانيس الخائن أبقى أولاده في مصر، فأحضرهم العساكر الكاريون واليونايون الذين كانوا تحت إمرته وذبحوهم أمام الجيش، ووضعوا دمهم في إناء كبير قد ملؤا نصفه بالنبيذ ثم شربوا هذا الخليط، وانقضوا على الأعادي مقتحمين نيران الوغى، وقد أخذت منهم سورة الحمية مأخذها، ولكن ما جاء المساء حتى انثنت الصفوف المصرية وابتدأت الهزيمة، ولم يمض إلا أيام قليلة حتى تم إخضاع الدلتا كلها وفتحت منف أبوابها ووقع أبسماتيك وعائلته في قبضة الفاتح، ولم يحصل مقاومة قط في مصر العليا. وكذلك الليبيون وأهل برقة فإنهم لم ينتظروا وثوب الفرس عليهم لدفع الجزية بل أدوها وهم صاغرون فكان في سرعة سقوط هذه الدولة التي قاومت المشرق مدة قرون عديدة وفيما أصاب ملكها الذي ما لبث أن لبس ثوب الملك حتى خلعه وخلع منه عجب عجاب، وقد رقت لذلك قلوب جميع المعاصرين. (5) جنون كمبيز (لهراسب) وموته
فكانت هذه الحوادث سببا في وقوع العالم الشرقي القديم في قبضة رجل واحد يتصرف فيه كيف يشاء، ولم يقتصر كمبيز (لهراسب) على الوقوف عند هذا الحد بعد أن دمر الدولة العظيمة التي لم ينج غيرها من سطوة أبيه، بل أراد أن يسوق عساكره إلى تلك الأراضي الغربية التي انفرد الفينيقيون بالوصول إليها، وكان أمامه طريقان أحدهما في الشمال فيما وراء بوغازات آسيا الصغرى؛ وهو طريق إفريقية وإيطاليا. والثاني في الجنوب وهو طريق إيتوبيا وقرطاجة، فبدأ بمقاتلة إفريقية فإنه بعد أن استولى على تاج الفراعنة وحصل على محبة المصريين له وميلهم إليه لتلطفه واعتداله أرسل جيشين؛ أحدهما لمهاجمة قرطاجة، والثاني لمقاتلة ملوك نباتا، وأخذ في سيره طريق النيل؛ فأما الجيش الأول فقد سار إلى ليبيا (لوبيا) ولما بلغ منتصف الطريق الموصل إلى واحة آمون (سيوة) أثارت الريح الرمال على الأجناد، فدفنتهم عن آخرهم، وأما الجيش الذي أرسله على إتيوبيا فقد بلغ نباتا، ولكن الصحراء التي بين نباتا ومروى صدته عن الاستمرار. وقد فقد خلقا كثيرين فكان لهذه الخيبة في المشروعين أسوأ تأثير على كمبيز (لهراسب) لأنه كان من عهد طفوليته عرضة لنوبات صرع شديد؛ فإذا جاءه الدور غاب عنه العقل وضاع منه الصواب، فلما حلت هذه المصائب اشتد مرضه لاستيلاء القنوط عليه؛ فازداد عدد النوبات وطالت مدتها حتى لقد طعن بخنجره الثور (أبيس) وأمر بإعدام كهنة الآلهة، فكرهته الأمة المصرية الشديدة التمسك بدينها كراهة ليس عليها من مزيد، وانحرفت قلوبها عنه إلى ما شاء الله، ثم تزوج بشقيقته وقتلها، ثم صوب سهمه نحو ولد بركزاسبس أحد مشيريه فمزق أحشاءه ثم أمر بدفن اثني عشر رجلا من وجوه فارس وهم أحياء، ثم إنه بارح مصر وقد مقته جميع الناس وسخطوا عليه، ولما وصل بجنوده إلى شمال الشام جاءه رسول وأعلمه بخلعه من الملك، وأمر الذين أطاعوه إلى هذا الوقت بأن يؤدوا البيعة ويمين الطاعة لبردية بن كورش، الذي نادت بارتقائه على سرير الملك فارس وماداي والأقاليم التي في قلب المملكة (يوليو سنة 522) فهد هذا الخبر قواه، وأذهب رشده في أول الأمر، ولكنه عزم على موالاة السفر بمن بقي مواليا له من الجند، غير أنه جاءته النوبة واشتدت عليه فأجهز على نفسه بيده.
خلاصة ما تقدم (1)
كان الفارسيون مقيمين في بلاد جبلية بعضها قليل الخصوبة، وهي ممتدة فيما بين عيلام وبوغاز هرمز، وكان الملوك الحاكمون عليهم من سلالة أخيمنيس، وقد تفرع من هذه العائلة فرع انتزع إقليم انشان من يد العيلاميين. (2)
وخرج بهم كورش الثاني كيكسرى (سنة 558-528) ملك انشان من حيز الخمول والانحطاط إلى ذرى المجد والرفعة، وضرب استياج كيكاوس الذي هو جده على ما قالته الرواية، ثم دمر المملكة المادية سنة 549، ثم وجه عزيمته إلى ليديا وأخذ سرد (سرت) من ملكها كريسوس فجأة، ثم عهد إلى قواد جيشه بإتمام إخضاع آسيا الصغرى. (3)
ثم حمل على المشرق وأخضع الأقسام الشرقية من هضبة إيران وهي بلخ والصغد (سنة 545-539) وجعلها تابعة لمملكته وانتصر على نابوناهيد وتمم خراب دولة الكلدانيين (سنة 538)، ومات في حربه مع المساجيت، وكان ذلك في سنة 529. (4)
وابتدأ كمبيز (لهراسب) حكومته بقتل أخيه بردية، ثم انقض على مصر فهزم أبسماتيك الثالث في بيلوزة (الطينة) واستحوذ على أرض مصر كلها (سنة 525). (5)
ثم جال بخاطره أن يتمم فتح إفريقية، وبعث جيشين؛ أحدهما على الأتيوبيين، وقد اضطر لأن يرجع القهقرى بعد أن وصل إلى نباتا. والثاني على قرطاجة، وقد ابتلعته رمال ليبيا عن آخره، فكانت هذه الخسائر سببا في وقوعه في نوبات جنون شديد، ارتكب أثنائها أمورا جعلته ممقوتا مسخوطا عليه عند الخاصة والعامة، وقد قتل نفسه عند عودته من مصر أثناء نوبة شديدة وقع فيها عندما علم بقيام فارس عليه تحت قيادة رجل كذاب سمى نفسه بردية (سنة 522).
هي الآن تشهبل منار؛ أي: الأربعون عمودا وأطلالها قائمة حول مدينة اصطخر؛ بحيث إن كثيرين من العلماء يعتبرونها هي نفس اصطخر وهو وهم.
كما يضرب المثل عند الشرقيين بحال قارون.
اسمها القديم بقطر
Bactres
ومعروفة عند الأمم الشرقية بأنها «أم البلدان».
عندي تاريخ بخط اليد مكتوب في 29 بئونة سنة 1576 قبطية، وهو المشهور بتاريخ يوسف بن كيربون العبراني، وقد رأيت فيه هذه القصة مسرودة بعبارة أخرى فأحببت الجمع بين الروايتين لتتم الفائدة. قال ما نصه:
ولما بلغ كورش عن ملك النبطيم (أو الشطيم) أنه قد عصاه سار إليه وقتله وقتل كثيرا من أصحابه، وهرب من بقي منهم مع امرأته وابنه، وكان اسمها يوليد، إلى حصون منيعة لهم فتحصنوا، فاحتال عليهم كورش حتى خرجوا من الحصون، فقتل كثيرا منهم وقتل ابن ملكهم وهو ابن يوليد، وفتح حصونهم ومدنهم فاستباحها وجعل فيها ولاة من قبله، وانصرف راجعا إلى بلده فلما رأت يوليد أن ابنها قد قتل وأن ملكها قد زال لم يجد فيها الصبر موضعا فحملت نفسها على الموت، وجمعت من بقي من رجالهم ومضت كمنت لكورش في الطريق مع أصحابها، وكان أكثر عساكره قد تقدمه راجعا إلى بلاده، وبقي معه بعض أصحابه فكبسته يوليد بعسكرها، فقتل كورش وكل الذين معه من أصحابه، وأخذت رأسه فأخفتها وجعلتها يوليد في زق قد ملأته دما وقالت: «اشرب يا كورش وأرق من الدماء التي كنت تحب سفكها دائما بغير إشفاق ولا رحمة.»
الباب الحادي والعشرون
دارا - تنظيم مملكة الفرس (1) بردية الكذاب (سنة 522-521)
لم يكن ملك فارس الجديد إلا رجلا كذابا دعا نفسه ببردية زورا وبهتانا واسمه الحقيقي جوماته، وكان له أخ اسمه باتيزيتس قد وكله كمبيز (لهراسب) بالنظر في شئون بيته، وكان هذان الرجلان يعلمان ما حل ببردية ويعلمان أيضا أن أغلب الفارسيين يجهلون هذا الأمر ويعتقدون أن هذا الأمير ما زال على قيد الحياة، فلما مات كمبيز (لهراسب) لم يدر بخلد أحد من الفارسيين والماديين بل ولا من آل أخيمنيس أن ينازع الملك الجديد، فكان الكل موقنين بأنه الوارث الشرعي للملكة وأنه ابن كورش (كيكسرى) العظيم، على أن تصديق العموم له لم يبق ثابتا وطيدا في نهاية الأمر؛ إذ علم القوم من نساء السراي أن هذا الذي يدعي بأنه بردية هو رجل آذانه مقطوعة، وأنه لص مختلس من هلافيت العامة وشناتير الناس.
فاتحد دارا ابن هستسب (واسمه في كتب الفرس جوشتسب) مرزبان هرقانيه،
1
وهو من فروع العائلة الملوكية مع ستة من وجوه فارس وأمرائها، وباغت المغتصب في أحد قصوره ببلاد ماداي، وقتله (مارس سنة 521) هو وأخاه، فنودي به في الحال ملكا على البلاد (شكل
21-1 )، وأول عمل قام به هو تطهير المعابد والهياكل، التي كان سلفه قد دنسها ونجسها، واتخذ مهرجانا يحتفل به في كل عام تذكارا لقتل الدعي جوماته، والمجوس الذين أيدوا دعواه.
شكل 21-1:
الطابع الذي كان دارا يختم به وهو محفوظ الآن بالمتحف البريطاني. (2) السنوات الأولى لدارا
2
قد وقعت في بلاد فارس فتنتان متواليتان في أقل من سنة من الزمان؛ فلذلك تزعزعت مملكتها واضطربت أحوالها لأنها كانت شبيهة بمملكة مصر وآشور في كونها ليست إلا خليطا يتألف حيثما اتفق من عدة أقاليم وولايات يديرها حكام يكادون يكونون مستقلين، ومن جملة ممالك تعترف بسيطرتهم ومن مدائن وقبائل غير خاضعة لهم تمام الخضوع. وقد اضطرمت نار الفتنة في آن واحد في مكانين وهما سوسن
3
وكلديا حيث جاء دعي يقول إنه ابن نابوناهيد، ولقب نفسه بلقب جليل فخيم وهو بختنصر، فاضطر الفارسيون إلى مقاتلته، فأشهروا عليه الحرب العوان مرتين ثم حاصروه مدة طويلة حتى توصلوا إلى إخماد أنفاسه (سنة 521 إلى سنة 520) وقد ترتب على تأخر قمع هذه الثورة حصول ثورات أخرى.
فإن أهالي ماداي استهواهم رجل اسمه ستارتيا كان يقول إنه من سلالة كياكسار، ونادى بنفسه ملكا باسم فراورت واعترفت بسلطانه أرمينية وآشور، وقام في أثناء ذلك السجرتيون وأهل المرج مع رؤسائهم الوطنيين، وقد انشقوا على مواليهم الفارسيين وخلعوا طاعتهم، فأرسل دارا جنوده لإطفاء نار هذه الفتن المتواصلة ولكنها لم تظفر بالفوز في معمعة القتال حتى إن ولايتي هرقانية وفرطيانة انضمتا إلى الثائرين، بل إن ولاية فارس الحقيقية نفسها انحازت إلى دعوى كذاب جديد سمى نفسه بردية؛ فلما جاء دارا تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور فدخل ماداي من مضيق كرند وانتصر نصرة عظيمة بالقرب من قرية كوندوروس، كانت هي الحاسمة لكل هذه المشاغب (يونيو سنة 520) فهرب فراورت الكذاب إلى الشمال ولكن قبض عليه بالقرب من رغا، ثم سيق إلى أكباتانة (همذان) فلاقى فيها العذاب الأليم الفظيع؛ إذ جدع أنفه، وصلمت أذناه، وقطع لسانه وفقئت عيناه ثم ربط بسلسلة متصلة بباب القصر الملوكي، ثم وضع على الخازوق حتى اكتفى العامة والرعاع من رؤية ما ألم به من الإحن والمحن، وأمر الملك بوضع بعض شيعته على الخوازيق وقطع رءوس الآخرين.
شكل 21-2:
دارا منصورا وأمامه أعداؤه في نقش بارز في بهستون التي هي الآن تخت سليمان.
ولم يكن الفوز في جهات فارس أبطأ منه في مادي، بل قد أسرع النصر إلى دارا، ولكن الحرب كانت كأنها تنطفئ نارها من جهة لتشتعل من جهة أخرى، فإن النجاح الوقتي الذي ناله بردية الكذاب الثاني أظهر في العالم كذابا ثانيا باسم بختنصر أيضا، وقد لاقى حتفه بعد بضعة أشهر من ظهوره؛ وبذلك تم لدارا إعادة افتتاح مادي وفارس، وإقليم بابل، ولم يكن في إخضاع الأقاليم الأخرى (هرقانية، ومرجيان، وبلخ) كبير عناء ولا تعب يذكر، حتى إذا انتهى عام 519 كان السلام ضاربا أطنابه، ناشرا لواءه في جميع أنحاء المملكة، وكان دارا جالسا على عرش الملك من غير منازع ولا ممانع، وبعد ذلك أمر بكتابة ما يدل على نصره على جدران بهستون (مدينة تخت سليمان)، ونقش فيها نقوشا بارزة، يراه الإنسان فيها قاهرا أعداءه وهم موثقون بالسلاسل والأغلال (شكل
21-2 ). (3) انقسام المملكة إلى مرزبات
4
وقد اعتبر دارا بما وقع له في هذه السنين الأولى، فإن كورش وكمبيز افتتحا المملكة وأخضعاها فأراد هو إصلاحها وتنظيم شئونها ولا ريب في أنه ساعد الأمم الخاضعة له على المحافظة على لسانها وأخلاقها وديانتها وشرائعها ونظاماتها الخاصة بها، وقد كان كورش سمح لليهود بالرجوع إلى أورشليم، فأذن لهم دارا بإتمام بناية الهيكل، وأقر الإغريق على حكوماتهم المتنوعة، وأبقى لفينيقية ملوكها وسفطاءها (وهم قضاتها الحاكمون في الخصومات الذين كانوا يعقدون مجلس الشيوخ ويتولون قيادة الجيوش في بعض الأحيان)
5
واستمرت مصر على حكومتها الأخاذية، ولكنه جعل فوق هذه السلطات المحلية سلطة عالية واحدة في جميع الأقطار، فقسم أراضي المملكة إلى حكومات كبيرة يختلف عددها بحسب اختلاف الزمان. فكانت في أول الأمر عبارة عن ثلاث وعشرين مرزبة، ولما مات دارا كانت قد بلغت إحدى وثلاثين.
ولم تكن إدارة كل واحدة منها في يد رجل واحد بل كان يقوم بالحكومة فيها ثلاثة كل منهم مستقل عن صاحبيه، وتابع للملك مباشرة؛ وهم المرزبان، وكاتب السر الملوكي، وقائد الجيش، فكان الملك يختار المرازبة من أية طبقة من طبقات الأمة بين الفقراء والأغنياء ومن الأغراب أو أهل فارس على حد سواء، ويقومون بوظائفهم ما شاء الملك أن يقوموا، ولهم الإدارة المدنية المطلقة من توزيع الضرائب وإقامة رسوم العدل وحق إعدام الحياة وإبقائها، وكان بجانبهم كاتب السر الملوكي يقوم في الظاهر بخدمة ديوان الإنشاء، ولكنه في الحقيقة عين من عيون الملك يراقب المرازبة وكل مساعيهم فيخبر بها من له الشأن في جميع أعمالهم، وكانت الجنود الفارسية والوطنية والمرتزقة في الأقاليم تحت إمرة قائد الجنود الذي يكون في أغلب الأحوال معاديا للمرزبان ولكاتب الأسرار، فكان هؤلاء الأخصام الثلاثة بعضهم على بعض رقيب؛ بحيث إن الفتنة كان يصعب وقوعها إن لم نقل باستحالتها. وكانت علاقاتهم متصلة على الدوام مع الملك بواسطة سعاة البريد الذين يسيرون بانتظام تام، فينقلون الرسائل من أقصى المملكة إلى أقصاها في بضعة أسابيع، وكان الملك يرسل في كل عام نوابا من طرفه إلى الأقاليم «يسمونهم عيونه وآذانه» لأنهم كانوا مكلفين بأن يروا ويسمعوا بالنيابة عنه ما يقع في الأصقاع القاصية من مملكته، فكانوا يجيئون في الوقت الذي لا يتوقع أحد مجيئهم فيه ويبحثون في أحوال البلاد ويعدلون بعض ما يرون لزوم إصلاحه في جزئيات الإدارة ويعنفون المرزبان أو يوقفونه عن وظيفته عند الاقتضاء، وكانوا يستصحبون معهم جماعة من الجند لتؤيد نصائحهم بالقوة وتعضد أحكامهم بالاقتدار. فكان التقرير السيء في حق المرزبان أو أقل مخالفة منه لأوامر النواب بل مجرد الشبهة في هذه المخالفة يكفي لسقوطه بل وهلاكه؛ لأن الملك كان يأمر بخلعه، وقد يحكم عليه بالموت من غير محاكمة، فيجيء نجاب بغتة ويسلم للحامية أمرا بقتل رئيسهم فيمتثلون الأمر بمجرد رؤية فرمان الملك. (4) مالية الدولة الفارسية
فلم يرق هذا الإصلاح في أعين أعيان الفرس، وانتقموا بالاستهزاء والاستخفاف بالطاعة التي ظن دارا إلزامهم بها، فكانوا يقولون «قد كان كورش والدا وكمبيز سيدا وأما دارا فليس إلا خمارا شرها للمكسب.» فإن تقسيم المملكة كان في الحقيقة عملية يقصد بها جمع المال كما يقصد بها انتظام السياسة، فإن أعظم واجب على المرزبان هو توزيع الضرائب وجبايتها وتوريدها خزينة الدولة، وأما فارس الحقيقية فقد أعفي أهلها من بعض الضرائب الشرعية وأما بقية العمالات فقد فرضت عليها الضريبة بحسب اتساعها وثروتها، وتدفع الضريبة نقدا وعينا؛ ولأجل تسهيل الدفع على كل إنسان أمر دارا بتداول نقود من الذهب والفضة سميت بالدارية، وقد استعملها على الخصوص في دفع أرزاق الجند، ولم ينتظم تداولها في الأقاليم التي على سواحل البحر الأبيض المتوسط. وأما في أواسط آسيا فاستمر الناس على استعمال الوزن في تقدير المعادن اللازمة للمعاملات التجارية وحاجات المعيشة اليومية.
ولم يكن تحصيل الضريبة العينية بكيفية واحدة في جميع العمالات، فكانت مصر تقوم بما يلزم من القمح للجنود المحتلين لها احتلالا عسكريا وعددهم 120000 رجل، والماديون يدفعون في كل سنة 100000 رأس غنم، و4000 بغل، و3000 فرس، والأرمن 30000 مهر، وكيليكيا 365 فرسا قرطاسي اللون (أشهب أي أبيض) ولم تكن الضرائب الملوكية فادحة، ولكنها لا تدل على مقدار التكاليف والأحمال التي على كل عمالة، وذلك لأن المرازبة لم يكن لهم مرتب معلوم يصرف من خزينة الدولة بل كانوا يتعيشون هم وحشمهم وخدمهم من البلد الحاكمين فيه، ويلزمون الأهالي بأن يدفعوا لهم النفقات الزائدة والمرتبات الباهظة؛ مثال ذلك أن حكومة بابل وحدها كانت تدفع إلى حكامها مبلغا معينا في السنة من المعادن توازي قيمته 2600000 فرنك، وكان حكام مصر ومادي والشام يستغلون من ولايتهم ما لا ينقص عن ذلك القدر إلا بيسير، وإن أفقر العمالات لم تكن أقلها في تأدية الرسوم الزائدة عن الحد للموكلين بها، وما ذلك إلا لأن نفقات المرزبان كانت على الأقل مساوية للنفقات التي يحتاج لها الملك نفسه. (5) دارا في الهند
فكانت هذه الطريقة أفضل بكثير من جميع الطرق التي استعملها الملوك قبل ذلك في بلاد المشرق؛ إذ كانت تضمن للملك ميزانية منتظمة، وتجعل العمالات في قبضة يمينه، والثورات الوطنية في غاية الصعوبة بحيث إن موت كل ملك لم يكن يعقبه كما في السابق ثورات وفتن، يضطر الملك الجديد لصرف جزء عظيم من وقته في سبيل قمع القائمين بها، وإخماد نارها، ولم ينحصر فخار دارا كله في تنظيم المملكة الفارسية، بل اخترع شكلا من أشكال الحكومة، قد اتخذه بعض الدول الشرقية الكبرى نموذجا لها، وأسوة تقتدي بها، فإنه جعل نفسه ملك الملوك (شاهنشاه)، والملك الأكبر، فقد اجتهد ملوك آسيا في محاكاته، وسعوا في أن يناظروه في أبهته وعظمته، وفخامة دولته (شكل
21-3 ).
شكل 21-3:
صورة الملك الفارسي دارا فدمان المعروف عند الفرس باسم داراب، مأخوذة عن فسيفساء محفوظة بمتحف نابولي.
وإذ ازدادت فتوحات الفرس وتوالت في جميع الجهات، حتى لم يبق لهم منفذ من المواصلات مع البقاع الخارجة عن ملكهم إلا طريقان أحدهما في الشرق نحو الهند والآخر في الغرب نحو إغريقية اليونان، وفيما عدا ذلك كانت مملكتهم تنتهي من كل ناحية ببحار أو بعقبات لا يكاد يتسنى قطعها للجنود المثقلة بآلات الحرب المدججة بالسلاح التي كانت في ذلك العصر، فقد كانت مملكتهم الواسعة تنتهي في الشمال عند البحر الأسود وبلاد القفقاسية (القوقاز) وبحر الخزر (المعروف ببحر طبرستان والبحر القزويني) وفدافد التتر، وتمتد من جهة الجنوب إلى بحر إيرترة
6
وهضبة العرب الرملية وصحراء إفريقية، وفي سنة 512 ظن الناس أن الفرس سينقضون على المشرق؛ فإنهم من أعالي إيران كانوا يشرفون على سهول بنجاب الفسيحة، فشن دارا الغارة عليها وفتح فيها أراض متسعة جعلها مرزبة جديدة وهي مرزبة الهند، ثم انعطف إلى الجنوب وأرسل أسطوله معقود اللواء لرجل يوناني اسمه سيلاكس من مدينة كارياندا بإقليم كاريا، فنزل نهر السند من بوسيلا أولا إلى مصبه، ثم عطف على المغرب ودار في أقل من 30 شهرا حول سواحل جدروسية (التي هي الآن مكران ببلاد إيران) وبلاد العرب، ولكن دارا أوقف سيره في هذه الجهة بعد ذلك الاجتهاد؛ لأن المغرب كان يغريه ويجتذبه إليه وخصوصا بلاد إغريقية، فاستغرق النصف الثاني من حكمه في الاستعداد لها وشن الغارات عليها، وهذه هي الحروب المادية الأولى.
خلاصة ما تقدم (1)
اعترفت المملكة كلها بسلطان جوماته وهو بردية الكذاب مدة شهور كثيرة، ثم جاء دارا ومعه ستة من وجوه فارس فقتلوه هو وكل من شايعه من المجوس، وكان ذلك في سنة 521. (2)
ثم ابتدأ دارا في أول الأمر بقمع جملة فتن أولها في بابل تحت قيادة كذابين، أعقب الواحد منها الآخر، وسمى كل منهما نفسه بختنصر، مدعيا أنه ابن نابوناهيد (521-519) وثانيها فتنة عيلام، وثالثها فتنة مادي تحت قيادة رجل سمى نفسه فراورت، وادعى أنه ابن كياكسار، ولم يتم لدارا إخضاعه إلا بعد محاربتين عظيمتين بالقرب من كوندوروس (سنة 520) بل إن فارس نفسها قامت عليه وعلى رأسها رجل كذاب آخر سمى نفسه بردية، ولم تنته هذه الثورات إلا في أواخر سنة 519. (3)
وقد نظم دارا مملكة الفرس وقسمها إلى مرزبات يحكم كل واحدة منها ثلاثة، وهم؛ المرزبان، وكاتب السر الملوكي، وقائد الجند، وكل منهم مستقل عن الآخرين وكان الملك يرسل «عيونه وآذانه » إلى تلك الأقاليم لمراقبة سير هؤلاء العمال وتعرف أحوالهم. (4)
وقد أعفيت فارس الحقيقية من الضريبة، وأما باقي العمالات فقد فرض عليها خراج تدفعه من النقود الدارية أو من عين الأصناف والمحصولات، وذلك بحسب إيرادها، وقد التزمت أيضا بالقيام بنفقات حكامها الفارسيين وحواشيهم. (5)
وما زال الفارسيون يفتحون الأقاليم حتى بلغت أطراف مملكتهم الجبال والبحار، فلم يكن لهم للخروج منها إلى غيرها سوى منفذين؛ أحدهما في الشرق نحو الهند، والآخر في الغرب نحو إغريقية. وفي سنة 512 فتح دارا بلاد بنجاب ثم تحول على إغريقية، وابتدأ الحروب المادية.
هو إقليم مؤلف الآن من شرقي مازندران وجنوبي داغستان.
ورد بهذا النص في أشعار العرب وكتبهم كما ورد أيضا في تواريخهم باسم داريوس كاللفظ اليوناني.
اسمها عند الإفرنج
Suse
وسميت باسم الزهرة المعروف بالسوسن لكونها تنبت كثيرا في مروج هذه المدينة المعروفة الآن باسم شستر.
جمع مرزبة وهي العمالة الفارسية، يكون المرزبان واليا عليها.
اللفظ الوارد بالأفرنكي هو
Sufféte
وقد شرحت المراد منه في صلب الكتاب، وهو مأخوذ عن اللغات القرطاجية والفينيقية والعبرانية (شوفط - كما ورد في التوراة) ومعناه فيها كلها القاضي، ولما كان القضاة عند الأتراك لا يؤخذون إلا من طلبة العلم المعروفين عندهم بالسفطاء، فربما كان هذا الاسم عندهم مأخوذا من الاسم القرطاجي القديم، وإن كان بعض العلماء المحققين قالوا: إن لفظة السفطاء عند الأتراك مأخوذة من اللغة الفارسية محرفة عن كلمة «سوخته» بمعنى الذي يحترق احتراقا؛ أي المولع بطلب العلم الديني المغرم بتحصيله.
Erythrée
هذا اللفظ يعني به القدماء بحر القلزم (البحر الأحمر) والخليج الفارسي، والجزء من البحر الكائن بين ساحل الحبشة وجزيرة سيلان، فليس البحر الأحمر حينئذ إلا جزءا من بحر إيرترة.
الباب الثاني والعشرون
الديانة - الأخلاق - العادات - الآثار (1) زرادشت والبستاه
1
ديانة الماديين والفرس مأخوذة عن عبادة الأمم الآرية القديمة، كما يدلنا على بعض ذلك كتب الهند المقدسة، وجاء في الخرافات المتداولة عند العامة أنها من صنع رجل واحد وهو زرادشت أو زرثوسترا
2
وأن هذا الرجل من السلالة الملوكية، وكان مولده في راغة في ماداي أو في أتروباتان (أذربيجان) وقد ظهر أيام كان الإيرانيون ضاربين خيامهم في إقليم بلخ، وأمضى طفوليته وشبيبته في مقاومة الشياطين والأبالسة حتى إذا بلغ الثلاثين من عمره عرج بروحه إلى الباري تعالى، فأعلمه أن أفضل المخلوقات على الأرض إنما هو الإنسان ذو القلب السليم الطاهر.
وبعد امتحانات كثيرة ابتلاه بها سبحانه وتعالى أعطاه بيده كتابا يحتوي على الشريعة، وهو البستاه، ثم هبط عائدا إلى الأرض ودعا إلى هذا الدين الجديد، فدخلت فيه الأمة الإيرانية بأسرها. (2) هرمز وأهرمان
كان الإله الأكبر عند الإيرانيين في أول الأمر هو (قوس السماء الكامل، وهو أمكن الآلهة وأمتنها؛ لأنه يكتسي بقبة الملك المتينة)، وجسمه نوراني، وعينه هي الشمس، ثم تعرى عن الهيولي، وصار آهورامزد (أو رمزد-هرمز) العالم بكل شيء، المتفرد بالحكمة والكبرياء، والرحمة والبطش، والعقل والجمال (شكل
22-1 ).
شكل 22-1:
هرمز محلقا في السماء فوق رأس الملك كما في نقش بارز بمدينة تخت سليمان.
وبحذائه إله يعاديه، وله من الشر بقدر ما لهرمز من الخير، واسمه أنجرمينيوس (أهرمان)
3
وهو يجتهد في ملاشاة ما في الكون من الخير والجمال.
وكان هرمز قد خلق كل شيء بفعل كلمته واتخذ لنفسه ستة أرواح أو آلهة من طبقات عليا يعينونه على حفظ نظام العالم وتدبير شئونه، وهم المعروفون بأميشاسبنتاس، وهؤلاء الآلهة اتخذوا أيضا آلافا من اليزتاس يحكمون عليهم وهم منتشرون في الكون للمحافظة على بقاء أعضائه ودوران دولابه، فجعل أهرمان آلهة ظلمات وشرور في مقابلة آلهة الخير والنور وعارض الأميشاسبنتاس الستة بستة أرواح شريرة تعادلها في القوة والشوكة، ثم سلط الأبالسة على أليزتاس وسماهم الديوة (الشياطين) وهم لا ينفكون عن محاصرة الكون، ومنع انتظام حركاته، ولا يزال القتال مستمرا بين هذه الأرواح المتكافئة في العزيمة والبطش إلى انقضاء الزمان، ولا ينتهي كفاحها إلا بانقراض العالم إذ يتم النصر لهرمز على أهرمان. (3) العبادة والمجوس
فكان الإنسان يعيش بحسب الشرع والعدل في الدرجة التي قسمت له والآلهة يتنازعون ويتخاصمون وكان بجانبه حافظ له أمين عليه، يعرف بالفرافاشي، يسهر على وقايته ويدفع عنه كيد الشياطين مستعينا باليزتاس، وكان القوم يعتقدون أن هرمز إنما أوجد الإنسان في هذا العالم لكي ينازع أهرمان في أقسام الأرض القاحلة، ولذلك كان أول الواجبات عليه أن يحرث الأرض ويستغل القمح منها، وثانيا أن يحمي مخلوقات هرمز ويبيد مخلوقات أهرمان، وعندهم أن أفضل مخلوقات هرمز هو الكلب وأن من قتله وقع في الإثم، بل إن من أعطاه «عظاما لا يمكنه أن يأكل منها شيئا أو طعاما ساخنا يحرق فمه» ارتكب خطيئة فاحشة وأتى أمرا نكرا، وعندهم أن الرجل البار هو من كانت أفكاره حميدة، وأقواله حميدة، وأفعاله حميدة، فإذا خرج عن دائرة الكمال فلا يعود إليها مهما أكثر من تقديم القرابين والضحايا، إذ لا تغتفر الهفوة إلا لمن تاب وعمل صالحا. ومن مكفرات السيئات التي نصت عليها هذه الشريعة قتل الحيوانات المؤذية كالضفدع والثعبان والنمل وإحياء الأرض الموات، وتزويج العذراء الطاهرة التقية النقية بالرجل العادل الصالح.
وكانت احتفالات الديانة والعبادة بسيطة وقليلة العدد، فلم يكن لهرمز تماثيل وأنصاب ولا محاريب سرية ولا مذابح للقربان بل كان له بيوت نار
4
فوق المشارف يحافظ القوم فيها على بقاء النار المقدسة على تعاقب الزمان. وكان الموكلون بها جماعة من الكهنة وظيفتهم أن لا يدعوها تخمد مطلقا، وكانت الكهانة في بلاد ماداي، ثم في بلاد فارس منحصرة في طبقة لا يدخلها غير أهلها، وهي طبقة المجوس، وقد صار لها نفوذ كبير وجاه عظيم حتى تجاوزت حدود وظيفتها بالتعدي على حقوق غيرها في بعض الأحيان، وكانوا يلبسون قفاطين ضافية بيضاء اللون وعلى رءوسهم طرطور طويل، وفي أيديهم أغصان الطرفا (باريسما) إذ بدونها لا يكون أي عمل ديني مقبولا ولا صحيحا، وكانوا يصعدون على مذابح القربان بموكب حافل ويحضرون الضحية، ثم يصبون عليها الخمور ويرتلون عليها الأناشيد السرية التي تجعل فيها الخاصية اللازمة والفضيلة المطلوبة، وأهم ضحاياهم هو الفرس ولكنهم كانوا يقربون أيضا الثور والماعز والشاة، فكان الكاهن يبتدئ بإحضار الهوما (نوع من الخمر أخذه الإيرانيون عن القبائل الآرية الأصلية) ثم يوزعه على الحاضرين ، وبعد ذلك يذبح الضحية ويفصلها قطعا، يضعها أمام الأتون لا في داخله لأن ملاصقتها للنار المقدسة تدنسها وتنجسها، ثم ينتهي الاحتفال بوليمة رسمية يأكل الحاضرون فيها لحم الضحية. (4) الاحتفال بالجنائز
كان الفارسيون إذا مات الواحد منهم لا يجوز لهم إحراق جثته ولا دفنها ولا طرحها في نهر من الأنهار؛ لأن ذلك يدنس النار أو التراب أو الماء وكان لهم وسيلتان للتخلص من الجثة من غير أن يمسوا طهارة العناصر الأولى؛ وذلك أنهم يغطونها بطبقة من الشمع ثم يدفنونها؛ معتقدين أن هذا الطلاء يحول دون النجاسة التي تحصل من ملامسة الجثة للتراب مباشرة، والطريقة الثانية أنهم كانوا يتركونها للطيور الجارحة تفترسها وبنوا لهذا الغرض صروحا كبيرة مستديرة مفتوحة من أعلاها، واتخذوها مقابر لموتاهم. أما الروح فكانوا يزعمون أنها تبقى بجانب جسدها الفاني ثلاثة أيام، حتى إذا كان فجر اليوم الرابع فارقته وذهبت إلى محل الدينونة، وهناك توزن أعمالها من خير ومن شر لتبرئة ساحتها أو للحكم عليها بحسب ما تشهد به حياتها، وبعد خروجها من المحكمة تساق إلى قنطرة شنفال، وهي قنطرة مقامة فوق الجحيم ويتوصل المار عليها إلى النعيم، فإذا كانت من أهل الكفر والضلال لا يتيسر لها اجتيازها فتسقط إلى الدرك الأسفل، وإذا كانت من أهل الطهر والعفاف مرت عليها من غير عناء، ثم تمثل بين يدي هرمز فتجلس في مكان يعين لها وتبقى فيه إلى يوم تحشر الأجساد. (5) الفنون الفارسية
انتقل الفارسيون بغتة من الخمول، ومن حالة تقرب من الهمجية إلى ذروة المجد والفخار؛ فصار لهم ملك آسيا كلها في وقت قريب؛ ولذلك لم يمض عليهم الزمن الكافي لتوسيع نطاق تمدنهم، وعلومهم الأدبية، وفنونهم الخاصة بهم، فتخلقوا بأخلاق الأمم التي تغلبوا عليها من آشوريين، ومصريين، وهيلانيين (يونان)، وأخذوا عنهم كل ما لم يكن عندهم، فلبس ملوكهم الأرجوان الصوري، وأقمشة بابل المطرزة، وقباطي مصر المشهورة، وكتبوا كتاباتهم بحروف استعاروها من الأقلام المسمارية المستعملة عند الأمم المتوطنة على سواحل الفرات ودجلة. وقد استعملوا في بعض الأحيان نقاشين من اليونان في زخرفة قصورهم، ومن نظر إلى ما بقي لنا من عمائرهم رأى فيها في كل خطوة آثارا تذكره بفنون مصر وآشور. هذا، وإن بعض الأجزاء في قصر دارا بمدينة فرسبوليس
5 (شكل
22-2 ) توشك أن تكون أطلال أحد المعابد المصرية، فإن جميع الأبواب محلاة من أعلاها بأطناف
6
تشبه الأطناف المصرية، وعليها دلائل القوة والمتانة التي هي خاصية الآثار بوادي النيل، ومن نظر إلى مصارعة الملك مع أحد الأرواح الشريرة (وكثيرا ما يوجد رسمها في الأطلال) (شكل
22-3 ) علم أنها مأخوذة مباشرة عن الكلدانيين والآشوريين.
شكل 22-2:
قصر دارا في مدينة فرسبوليس.
شكل 22-3:
مصارعة الملك مع الروح الشريرة. (6) الزخرفة بالمينا
على أنه ينبغي لنا تقرير حقيقة وهي أنهم جمعوا هذه العناصر المختلفة، ووفقوا بينها توفيقا لطيفا، فإن الإيوانات التي كان الملك يقابل الوفود فيها أيام التشريفات ليست غير جديرة بأن تكون نظيرة للغرف ذات العمدان في المعابد المصرية؛ لأن الأساطين التي هي مستندة عليها بالغة نهاية الظرف، فقواعدها مخروطية وتيجانها مزينة برءوس أثوار تحمل قمة العمود، وهذه العمد محلاة برسوم تظهر فيها جراءة الصناع وابتكارهم (شكل
22-4 )، أما زخرفة الأسطحة الفسيحة الخارجية لجدران القصور وحيطانها، ففيها صور ورسوم ونقوش بالغة في الكثرة، وكلها متآلفة متناسبة بشكل لم يبلغه الإنسان إلى هذا الزمان، وكانت هذه الزخرفة بواسطة لبن مموه بالمينا مثل اللبن المستعمل في بعض الأبنية الآشورية والكلدانية، ولكن الفرس لم يحاكوا أهل بابل ونينوي في جعل الرسوم على المينا بخط واحد لا ترى معه بارزة عن الجدار، بل توخوا أن تكون الرسوم ظاهرة البروز عن اللبن بمسافة كبيرة، مع تمام المشابهة للبروز الحقيقي.
شكل 22-4:
أحد عمدان قصر بارا بفرسبوليس.
وأكمل مثال للبن المزخرف بالمينا هو ما عثر عليه المسيو ديولافوا وزوجته، وهو الآن في متحف اللوفر، وهو عبار عن إفريز
Frise
طويل، منقوش عليه صور رجال من الحرس الملوكي (المعروفين عندهم بالمخلدين)، وهم يسيرون بعظمة ووقار، وفي أيديهم الحراب (شكل
22-5 ).
شكل 22-5:
اثنان من المخلدين من متحف اللوفر.
فجميع ما في هذه القطعة بالغ في الإبداع، والجمال يظهر فيها بطء حركة الجنود المثقلة بالسلاح، وعلى وجوههم مخايل المهابة، وثبات الجنان، ويرى على قامتهم سيما الشمم والاقتدار، فهي كنموذج اختلط فيه العرفان بالبساطة؛ فظهرت حرية الحركة الخاصة بالفنون اليونانية ممزوجة بطرائق الصنائع المشرقية القديمة، وقد لونوها كلها تلوينا جمع بين الكثرة والتناسب، بحيث لا يتسنى لأرباب الفنون عندنا في هذا الزمان أن يحاكوهم فيها، بل هم - والحق يقال - يعجزون عن مجاراتهم، ويقعدون عن مباراتهم في هذا المضمار، فإن اختلاف الألوان في هذه القطعة، وتركيبها بجانب بعضها هما على شكل يوجب زيادة قيمة كل منها في البهاء الرواء، وربما كانت هذه القطعة أجمل ما خلفه لنا السلف من نموذجات الزخرفة في العمارات.
خلاصة ما تقدم (1)
كانوا يقولون إن ديانة الماديين والفارسيين هي من صنع زرادشت، وأن كتاب البستاه يحتوي على مبادئها. (2)
ومن مقتضى هذه الديانة أن هناك أصلين متعاديين وهما هرمز (أو رمزد) أصل الخير وأنجورمينيوس (أهرمان) أصل الشر، وكان كل واحد منهما يتسلط على الكون بواسطة جماعة من الأرواح يقتتلون على الدوام، ولا يزالون على هذه الحال إلى أن ينقرض العالم بهزيمة أهرمان. (3)
فكان الإنسان يعيش بحسب الشرع والعدل، والآلهة متنازعون متخاصمون ويكفر عن سيئاته بالتوبة والعمل الصالح لا بالقربان، وعبادتهم كانت في غاية البساطة وتحصل في بيوت النار؛ حيث يقيم الكهنة الموكلون بحفظ النار المقدسة وكانوا في بلاد ماداي عبارة عن طبقة مخصوصة تعرف بالمجوس، وقد صار لهم نفوذ عظيم حتى كانوا يتجاوزون حدود وظيفتهم في بعض الأحيان. (4)
وكان الفرس يتركون جثث موتاهم للطيور الجارحة، وأما الروح فإنها بعد الدينونة تسقط في مهوى الجحيم أو تذهب إلى فردوس النعيم على قنطرة شنفال بحسب ما يقضى لها أو عليها. (5)
أما الفنون الفارسية فهي خليط من عناصر آشورية ومصرية ويونانية. (6)
ومع ذلك لم تكن قصور الملوك مجردة عن العظمة عارية عن جمال الائتلاف، فإن اللبن المطلي بالمينا المنقوش بالنقوش البارزة التي كانت تزدان به هاتيك القصور كان مصنوعا على طراز معجب جميل وذا لون رائع، وأجود أنواع هذا اللبن هو ما جلبه المسيو ديولافوا وزوجته وهو محفوظ إلى الآن بمتحف اللوفر.
انتهى والحمد لله.
خريطة المملكة الفارسية في زمن دارا
اسمه عند الإفرنج
Avesta .
اسمه في الفارسية زردست وفي البهلوية زردت وفي اللغة الزندية زرتشترو.
واسمه أيضا هرمند ومعناه أصل الشر وهو الشيطان عند الأعجام.
بيت النار يسمى بالفرنساوية
.
تشهيل منار الآن وأطلالها قائمة حول مدينة اصطخر.
جمع طنف وطنف وطنف وطنف وهو إفريز الحائط وما أشرف خارجا عن البناء وتعادله في الفرنساوية لفظة
Corniche .
صفحه نامشخص