الباب الخامس
تغلب الأجانب على مصر (1) انحطاط طيبة وذكر العائلة الحادية والعشرين التنيسية
كانت طيبة في مبدأ الدولة الأخيرة قاعدة الديار المصرية، ولكونها واقعة تقريبا في منتصف المسافة التي بين الدلتا والنوبة العليا فكانت هي المركز الذي يتولى فيه الفراعنة إدارة السلطة والأحكام بالسهولة، على طرفي مملكتهم، ثم إن مصر نالت ثروة عظيمة وحظا وافرا من افتتاح الشام في الشمال، وتوسيع مستعمراتها في الجنوب، ولكنها ما لبثت أن عاد عليها ذلك بالخسران فقد شغل الفراعنة من غير انقطاع بكبح جماح الثائرين في آسيا، وبصد هجمات أمم البحر.
ورأوا أن المدينة التي هي في داخل البلاد على مسافة مائة مرحلة وأكثر لا يصح أن تكون مركزا لإدارة الأعمال الحربية؛ فاعتادوا على الإقامة بمدائن الدلتا مثل منف وسايس (صاالحجر) وبوبسطة (تل بسطة) وتنيس، فرجعت إليها الحياة السياسية. ولانعدام توارد الغنائم وأسلاب الفتوحات إلى طيبة نشب الفقر فيها مخالبه، ثم صار الأمر فيها لأكابر الكهان إذ كانت سيطرتهم آخذة على الدوام في الازدياد والامتداد حتى إذا مات آخر رمسيس (في حدود سنة 1100ق.م) تنازع خصمان في الجلوس مكانه على تخت الملك؛ وهما الكاهن حرحور في طيبة، وسمندس التنيسي في الدلتا، ثم فاز سمندس هذا وغلب على صاحبه وأسس عائلة زال بها سلطان طيبة بعد أن توالى دهورا وعصورا.
على أن طيبة لم ترض بخروج السلطة من يدها من غير مكافحة ولا مجالدة، فإنها اعتمدت على أتيوبيا التي كانت تدين بدينها وتسير وفق نظامها؛ فشكلت إمارة واسعة الأرجاء تبتدئ من سهول سنار وتنتهي فيما وراء أسيوط، وكان رئيس هذه الإمارة الإله آمون، وبعبارة أخرى خليفة هذا الإله في الدنيا، وظله على الأرض وهو الكاهن الأكبر. ثم اضطر كبراء الكهان بالرغم عنهم للاعتراف بسيادة فراعنة الدلتا، ولكن هؤلاء لم يقيض لهم البقاء على منصة الأحكام، فإنهم كانوا يعتمدون على عصابات المرتزقة من الجند
1
وقد سمحوا لكبار دولتهم بأن يضعوا أيديهم على أمهات المدن في القطر، وأن ينشئوا لأنفسهم إقطاعا عسكرية تكاد تكون مستقلة، فاستولت إحدى كبار العائلات اللوبية المتوطنة في بوبسطة (تل بسطة) على المناصب السامية في الدولة، وآل الأمر بهم إلى أن جلس رجل منهم وهو ششنق على سرير الملك في نحو سنة 940ق.م. (2) ششنق الأول وذكر انقسام مصر إلى دول صغيرة
استولى ششنق هذا على إمارة طيبة، وجمع تحت سلطانه نصفي الديار المصرية، ثم تداخل في شئون العبرانيين، وأخذ أورشليم من الملك رحبعم (في حدود سنة 925ق.م)، وأعاد شيئا مما قد كان لمصر من النفوذ في الخارج، ولكن بعد وفاته ضربت الفوضى أطنابها في البلاد، فحصر الرؤساء اللوبيون سلطة الفرعون شيئا فشيئا في بعض المدائن، ثم نزعوها منه مرة واحدة، وتلقب بعضهم بألقاب ملوكية، فانقسمت بذلك الدلتا ومصر الوسطى إلى زهاء عشرين دولة ، تكاد تتكافأ قواها، أما ذرية أكابر كهنة آمون فقد لجأوا إلى الجنوب، واستقروا بأتيوبيا، وأنشئوا فيها دولة تختها مدينة نباتا (جبل البرقل)، وكانوا أخذوا طيبة، وصاروا يطالبون ببقية البلاد قائلين بأنها آلت لهم عن أجدادهم، وفي أثناء ذلك استولى تفنخت أحد صغار الرؤساء اللوبيون على مدينة سايس، ثم على منف (في حدود سنة 750)، وساد على أغلب مدائن الدلتا، فأما المدائن التي لم يكن قد أخضعها، فإنها استغاثت بملك أتيوبيا المسمى بعنخي فبادر لتلبية دعوتهم، وقهر تفنخت، وأعاد وحدة مصر، وأدخلها في قبضة عائلته.
ولكن مدينة نباتا التي هي قاعدة الدولة الأتيوبية كانت بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط بعدا لا يسمح لملك مقيم فيها بسهولة المحافظة على سلطانه على الوادي كله، ومن جهة أخرى كان الشغب سائدا في سايس (مدينة صا)، وغيرها من مدائن الدلتا؛ بحيث إنها ما كانت تطيع لسلطان مستقر في داخل أفريقية إلا إذا كانت صاغرة مقهورة بالقوة والاقتدار؛ فلذلك انتشب القتال بين ذرية تفنحت وبين سلالة كبراء الكهنة؛ أي بين الدلتا وأتيوبيا؛ طمعا من كل منهما في نوال السيادة العامة على بر مصر. (3) القتال بين الصاويين والأتيوبيين، وذكر تملك الآشوريين على مصر
فاستمر الحرب بينهما سجالا زهاء قرن كامل (فيما بين سنتي 750 و650ق.م)، وقد فاز ابن تفنخت المدعو بوكوريس على صاحبه الأتيوبي بضع سنوات (كان فيها حكم العائلة الرابعة والعشرين الصاوية)، ثم خلعه سباقون الأتيوبي، ورسخت دولته مدة من الزمان، حتى إنهم جعلوه رأس عائلة رسمية (هي العائلة الخامسة والعشرون الأتيوبية)، وقد تداخل في أمور الشام تداخلا مقرونا بالبأساء والتعساء؛ حتى استوجب ذلك إغارة الأجانب على مصر، وكان ذلك في الوقت الذي تمت فيه الغلبة للآشوريين على ملوك دمشق وإسرائيل، وأخذوا في تضييق الحصار على مدينة صور، وبلاد يهوذا، وأمراء فلسطين؛ فهزمها سرجون وسناحريب، ولم تنج مصر من الدمار والخراب إلا بمعجزة خارقة للعادة؛ وذلك أن جيش سناحريب عندما صار على مقربة منها أباده سيف ملاك الرب، كما يقول العبرانيون، أو أعدمه الإله فتاح كما يزعم المصريون (في سنة 701).
صفحه نامشخص