والتلمود مجموعة تفاسير وشروح وأخبار وإضافات وأحكام وضعها حكماؤهم وربنيهم والمجتهدون منهم وهو كبير الحجم يزيد عن عشرين مجلدا وضعت في عصور مختلفة وأحوال متباينة، وهو يتألف من المشنة
1
والجمرة،
2
وذلك أنه لما كثرت التقاليد وتشعبت أطرافها وازداد عدد الكتاب والمجتهدين الناظرين في هذه الشريعة، وكثرت الأحكام الصادرة من المجامع في الشئون المختلفة قام سمعان بن جاملئيل أحد علمائهم في طبرية، وذلك سنة 166ب.م، واستعان بزملائه وتلامذته على تنسيق تلك التقاليد والنظر فيها، فجمعوا ما تيسر لهم جمعه منها وعكفوا على غربلته وتبويبه، وظل العمل سائرا كذلك إلى أن أتمه يهوذا أهاناسي (أعني الرئيس) وتلامذته نحو سنة 216ب.م، فجاء ستة أقسام تحتوي على 63 مبحثا، فيها 524 فصلا، فكانت هذه المشنة على أنه بقي شيء من الشرائع التقليدية لم يدمج في هذا المؤلف، مع أنه سابق في التاريخ لزمان وضعه وزيدت إضافات وحواش وتفاسير بعد وضعه، فضلا عما كان منها في كتب أخرى لم يعثر عليها هؤلاء العلماء، فضمت هذه جميعا، وظل المجتهدون ينضون المطايا في سبل البحث ويجمعون ما يعثرون به من التفاسير والشروح، حتى كان آخر القرن الثالث بعد الميلاد فجمعت كلها، لكنها لم تدون في كتاب حتى منتصف القرن السادس، على أن جميع هذه التآليف لم تحسب كافية وافية جامعة مانعة، فتوجب إعادة النظر فيها بعد أن كثرت فتاوى العلماء وأحكام المحاكم، وبعد أن قامت المشاحنات بشأن تفسير بعض التقاليد وتأويلها، هذا فضلا عما طرأ على أحوال الأمة الإسرائيلية وغيرها من الأمم التي ساكنوها، مما جعل الأحكام القديمة غير وافية بالمطلوب منها في العصور المتأخرة، ودعا إلى تجديد البحث فيها.
والتلمود حقيقة اثنان؛ الأورشليمي نسبة إلى أورشليم، وهو الذي تم عمله في طبرية، والبابلي الذي تم عمله في بغداد، أما الأورشليمي ففيه اليوم 39 مبحثا من المشنة، مع أنه كان في القديم يحتوي على الأقسام الخمسة الأولى من الأقسام الستة المشار إليها آنفا، وكان الفراغ من تهذيبه في أواخر القرن الرابع وإنشاؤه أوضح وأجلى من إنشاء التلمود البابلي، ويمتاز عن ذاك بإيجاز مباحثه، أما التلمود البابلي فكان الفراغ الأول منه نحو أواخر القرن الخامس ولم يمض زمن طويل حتى اعتور التلمود تحريف وأدخل فيه تقاليد لم تكن هناك، وأضيفت إليه تفاسير وشروح وفتاوى جديدة، وسبب ذلك أن التلمود لم يكن قد قيد بعد في الكتب والدفاتر، فكان تحريفه سهلا، ثم إن انتشار اليهود في أنحاء الأرض، وكثرة المدارس والجمعيات اليهودية التي نشأت معهم أينما حلوا جعلت فرقا في أحوالهم بحسب تباين تلك الأحوال، فكانت الأحكام الصادرة من هذه الجمعيات في المكان الواحد تباين في بعض الأحايين أحكام جمعيات أخرى في مكان آخر، ولما كثر التحريف والزيادة قام أحد علمائهم المشهورين، وعني بتأليف التلمود ثانية بمعونة تلامذته ومريديه وكتبته، وقضى ستين سنة في التحبير والتحرير والتنقيب والتهذيب، وجاء بعده غيره فسعى سعيه واقتفى خطواته، فتم بذلك هذا العمل، وجاء كتابا كبيرا كما تقدم الكلام وهو بمثابة أنسكلوبيذيا كبيرة.
ويتألف التلمود البابلي اليوم من الأقسام الأربعة الأولى من الجمرة، وهو نحو أربعة أضعاف التلمود الأورشليمي، وفيه 36 مبحثا في 2947 صحيفة، ولغة التلمود الآرامية أو الكلدانية، وهي تقرب من السريانية، على أن الإضافات والشروح والمختارات من مجموعات المشنة والجمرة القديمة مكتوبة بالعبرانية، وفي القرن الثامن بعد الميلاد قام أحد العلماء في بغداد وتبعه فرقة رفضت التلمود واكتفت بما في التوراة بغير تفسير، وهذه الفرقة تسمى اليهود القرائين، والمعلوم أن الأمة اليهودية لم تعتبر ما في التلمود بمثابة شرائع رابطة كشريعة موسى، بل كان اعتبارها له مبنيا على قيمته الذاتية وكونه أساسا أو قاعدة للغتهم وآدابها، ومجموعة لجميع ما يختص بمعاملاتهم غير المذكورة في التوراة، فهو ولا ريب أنفس مجموعة للتقاليد اليهودية، ولما نقم ملوك الفرس على اليهود واضطهدوهم اضطهادا عنيفا في حكم يزدجرد الثاني وفيروز وقباد أجبروهم على إقفال مدارسهم نحوا من ثمانين سنة، فلم يبق لهم في ذلك العصر ما يهتدون بنوره، ويعتمدون عليه بعد التوراة سوى هذا التلمود، ولما أعيد فتح تلك المدارس وأذن للعلماء منهم في عقد الجمعيات لم تقل أهميته عندهم عما قبل.
وأفضل شروح المشنة التفسير الذي وضعه الأستاذ الأعظم المسمى موسى بن ميمون، ويسميه المؤرخون الميموني وبرتنورا، أما التلمود البابلي فقد وضع أحسن شروحه راشي والتسوفا ستيون في فرنسا وألمانيا، ولم يقتصر الميموني على ما فعل، بل اختصر التلمود خدمة للناظرين في جميع أجزائه وسمى كتابه «مشني توراة»، وإلى الآن لا يزال خزانة الديانة الإسرائيلية، وتأليفه كان بالكتابة العبرية وباللغة العربية الدارجة بمصر، وألف كتبا أخرى بالعربية ترجمها تلامذته إلى العبرية ولا تزال متداولة إلى الآن، وطبعت المشنة أول مرة في نابولي سنة 1492، وتوالت طبعات التلمود بعدئذ في عصور مختلفة وأماكن متفرقة، وقد ترجمت المشنة إلى لغات كثيرة، أما الجمرة فلم تتعد الترجمة فيها بعض الفصول، ولا نتولى في هذا المقام تعداد ما في التلمود من المباحث؛ لأن ذلك لا يقع تحت حصر، وقد سبقت الإشارة إلى مواضيع أقسامه على أننا ننقل هنا ما قاله فيه أحد الكتاب الأوروبيين: «لا بد أن يأتي يوم فيه يرى الناس أن التلمود من أهم تآليف العالم ، ولا يمكن تقدير ما فيه من مخبئات الكنوز التاريخية والجغرافية والشعرية والطبية وغيرها.»
الفصل السابع
فرق اليهود
صفحه نامشخص