ومنهم الشيخ بابا يوسف السفر حصاري، وكان منتسبا إلى هذه الطريقة ولما بنى السلطان بايزيد جامعه بالقسطنطينية حضر للصلاة في أول جمعة بعد بنائه وصعد الشيخ بابا يوسف المنبر ووعظ الناس فحصل لكلامه تأثير عظيم في السامعين، وكان بعض النصارى يستمعون من خارج الجامع فأسلم منهم ثلاثة ففرح السلطان بايزيد بذلك وأنعم عليهم، وصار السلطان يحب هذا الشيخ كثيرا، وعندما ذهب الشيخ للحج أعطاه السلطان مقدارا من الذهب وقال له: هذا المال حصل لي من كسب يدي، وأوصاه أن يجعله في قنديل الصدقات في التربة المطهرة بالمدينة وأن يقول عند التربة المطهرة: يا رسول الله إن راعى أمتك العبد المذنب بايزيد يقرئك السلام، وأرسل هذا الذهب الحاصل من طريق الحلال ليصرف إلى زيت قنديل تربتك وتضرع إليك أن تقبل صدقته. ففعل الشيخ ما أمره به السلطان، وكانت وفاة هذا الشيخ في أوائل سلطنة سليم خان، ودفن في جوار أبي أيوب الانصاري عليه رحمة الباري.
ولما جلس السلطان سليم بن بايزيد على كرسي السلطنة وذلك في الثاني عشر من صفر سنة ثمان عشرة وتسع مئة طلب الانكشارية زيادة رواتبهم، فاضطر أن يرضيهم لأنهم كانوا السبب في سلطته، وزاد الرسوم المضروبة على البضائع الورادة إلى بلاده، رفعها من ثلاثة في المئة إلى خمسة، وكان الأمير أحمد أمير أماسية استقل واستولى على بورسة، واتفق مع مصطفى بك والي أنقرة فرأى السلطان سليم أن لا بد من قتل إخوته، ولما وقع أخوه قورقوت في يده قتله، وكذلك زحف إلى قتال أخيه أحمد فتلاقيا في صحراء يني شهر، فكانت الطائلة للسلطان سليم ووقع أحمد في يد أخيه فقتله أيضا، فاتسق له الأمر، وأرسلت الدول المجاورة تهنئة ما عدا الشاه إسماعيل سلطان العجم، فكان هواه مع الأمير أحمد، وقد بلغ الشاه إسماعيل في زمانه أقصى درجات القوة، وكان في يده جميع فارس وخراسان والعراق العربي وكردستان وديار بكر - أي من الفرات إلى سيحون وجيحون - فكانت الدولة الصفوية في أوج مجدها، وكانت دولة شيعية خالصة، وقد أخذت تبث التشيع في البلاد العثمانية، فثار غضب السلطان سليم وزحف بمئة وثمانين ألف مقاتل، فصار جيش شاه إسماعيل ينكص إلى الوراء ولا يقاتل، فوصل العثمانيون إلى تبريز، فاعتصم الإيرانيون بأعالي الجبال المشرفة على صحراء «تشالديران» فقبل أن أصلاهم السلطان سليم نار الحرب عقد مجلسا حربيا فأشار الوزراء بإراحة العسكر أربعا وعشرين ساعة بالأقل، وخالفهم في ذلك بيري باشا قائلا: تجب المناجزة في الحال. فأعجب رأيه السلطان سليم وهجم على الإيرانيين وتغلب عليهم بواسطة مدافعه، ووقع في السلطان أثقال الشاه إسماعيل وأمواله مع حرمه وعدد كبير من الأسرى فأمر يقتل الجميع ما عدا النساء والأولاد.
وأراد السلطان سليم أن يشتو تلك السنة في تبريز، وأن يزحف في أول الربيع إلى فارس، ولكن الانكشارية كانوا قد ملوا القتال والسفر وأصبحوا يريدون الرجوع، فعاد بهم إلى أماسية، وقيل إنه رجع لفقد القوت والعلوفة في بلاد العجم لأن الشاه إسماعيل كان قد خرب البلاد، ثم أرسل الشاه إسماعيل يطلب من السلطان سليم زوجته التي وقعت في الأسر في معركة تشالديران، فرض السلطان تسليمها إليه وأزوجها من وزيره جعفر شلبي، ثم إن الانكشارية ثاروا مرة ثانية في أماسية وأجبروا السلطان على الرجوع إلى القسطنطينية، فأراد السلطان الانتقام من رؤسائهم وقتل إسكندر باشا وسقبان باشا عثمان، وقاضي العسكر جعفر شلبي، وجاء جيش من قبل الشاه إسماعيل يسترجع ديار بكر، فهزمهم العثمانيون واستولوا على «حصن كيفا» و«سنجار» و«بيرجك» و«الموصل» ثم فكر السلطان سليم في فتح بلاد العرب، فزحف إلى «حلب» وجاء من مصر السلطان قانصوه الغوري وكان شيخا كبيرا بلغ سن الثمانين، إلا أنه كان عالي الهمة فتلاقى مع السلطان سليم في مرج دابق عند حلب، وكانت مدافع العثمانيين جعلت الرجحان في جانبهم، وانحاز جانب من جماعة قانصوه الغوري إلى السلطان سليم، ومن هؤلاء جان بردي الغزالي وخير بك الجركسيان وكان معهما أمراء لبنان.
وكان الملك الأشرف قانصوه الغوري أمر الغزالي وخير بك أن يتقدماه أمام الجيش أملا بأن يقتلا لوحشة كانت بينه وبينهما، فراسلا السلطان سليما واتفقا معه وانحازا إلى جيشه ومعهما جم من رجال الجيش المصري ومعهما أمراء لبنان، منهم الأمير فخر الدين المعني والأمير جمال الدين الأرسلاني وهو جدنا على عمود النسب والأمير عساف التركماني، ولما دارت المعركة كان النصر للسلطان سليم وقتل الغوري في المعركة، وكانت هذه الواقعة سنة 1516 وقيل 1515 وهو الأصح، فدخل بعدها السلطان سليم حلب، ثم دمشق بدون قتال، وقيل إن السلطان سليم صلى الجمعة في جامع سيدنا زكريا في حلب فخطب الخطيب ودعا له بالنصر ولقبه «سلطان البرين والبحرين، وصاحب الحرمين الشريفين» فأمر السلطان بأن يقال «خادم الحرمين الشريفين» وسجد شكرا لله.
ولما مر بحماة نزل في دار آل الكيلاني السادة المشهورين من ذرية السيد عبد الله القادر الكيلاني، ورأيت بعيني الغرفة التي بات فيها وهي مطلة على نهر العاصي وأنعم السلطان على آل الكيلاني وأكرمهم، وكان شاعرا أديبا فأطربه مركز حماة وأعجبه ما هم عليه السادة الكيلانية من الوجاهة والكرم فنطق لسانه بهذين البيتين:
بني كيلان هنتم بعيش
أرى من دونه السبع الطباقا
أطاع لديكمو العاصي ولما
تشرف بالجوار حلا وراقا
رواهما لي السيد عبد القادر حسني الكيلاني كبير هذه الأسرة الشريفة اليوم، وجلس على كرسي مصر بعد قتل الغوري طومان بك واستعد للقتال، فزحف السلطان سليم إلى مصر واشتبكت معركة من أشد المعارك المعروفة في التاريخ، ولكن الأتراك بسبب مدافعهم تغلبوا على المماليك ودخل السلطان سليم إلى القاهرة وانهزم طومان بك بعد أن ألحق بالعثمانيين خسائر عظيمة، ولم يقع طومان بك في المعركة أسيرا بل انحاز بمن بقي معه إلى الريف، وشرع يهاجم العثمانيين، فأرسل السلطان يعرض عليه الصلح فأبى المماليك الصلح، فزحف السلطان إليهم وفي هذه الوقعة أخذ طومان بك أسيرا وشنقه السلطان وعلقه على باب القاهرة، وذلك سنة 1517 في 13 أبريل، وبعد ذلك دخل الحجاز تحت حماية الدولة العثمانية، ويقال إن السلطان سليم كتب بيده على عمود المقياس الذي على شاطئ النيل هذين البيتين:
صفحه نامشخص