تاریخ جنگ بالکان اول: بین دولت عالیه و اتحاد بالکانی که شامل بلغارستان، صربستان، یونان و مونتهنگرو بود
تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
ژانرها
منازع الدول العظمى ومؤتمر السفراء
عرف المطالع من فصل سابق أن الدول العظمى كلها وافقت، بعد التثاقل الذي يلازم كل عمل دولي، على ما اقترحته فرنسا من إعلان التنزه التام عن كل مطمع خاص، ثم اجتمع مؤتمر سفراء الدول يوم عقد مؤتمر الصلح الأول في عاصمة الإنكليز، طبقا لما اقترحه السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا، وكان غرض ذاك المؤتمر - أي مؤتمر السفراء - أولا: أن يكون واسطة العقد بين الدول العظمى، فتبقى كلها متضامنة لا تنفرد واحدة منهن عن الأخرى، ولا تأتي عملا يكدر صفو السلم العام. ثانيا: أن ينظر في المصالح الخاصة لبعض الدول العظمى فيتخذ من الوسائل ما يصونها ويقصي عنها الضرر. ثالثا: أن يسهل سبيل الاتفاق بين المندوبين في مؤتمر الصلح، ويضغط عليهم ليحملهم على كل ما يراه واجبا للسلم العام وحفظ التوازن.
وهنا يجمل بنا أن نقول كلمة عن سياسة كل دولة لنظهر النحو الذي نحته في مؤتمر السفراء: إن لدى كل دولة من الدول العظمى مصلحة تسمى المصلحة الأوروبية الكبرى في عرف السياسيين، وكل ما عداها من المصالح السياسية يأتي في المقام الثاني، والمصلحة الأوروبية الكبرى عند روسيا تقوم بأن تحفظ التوازن الأوروبي وتجتنب كل ما من شأنه أن يضعف الاتفاق الثلاثي أمام المحالفة الثلاثية؛ ولذلك رأيناها مضطرة من جهة إلى مراعاة هذا الأمر الخطير الذي لا يتوطد بدونه السلم الأوروبي، ومجبرة من جهة أخرى على تعضيد الصقالبة الذين صبغت دماؤهم هضاب البلقان، مخافة أن يثور الجمهور الروسي ثورة تقذف بحكومته من حالق. وكان التوفيق بين هذين الواجبين على روسيا بالغا منتهى الصعوبة؛ لأن مصلحة النمسا كانت معارضة أشد المعارضة لمصلحة الصرب والجبل الأسود؛ أي مصلحة الصقالبة الذين تريد روسيا حمايتهم وإنالتهم ثمر النصر، ومما يوضح للمطالع بعض وجوه السياسة الروسية في تلك الظروف مذكرة نشرتها وزارة الخارجية الروسية في النصف الأول من شهر أبريل سنة 1913، قالت فيها: «إن حصر الحرب في شبه جزيرة البلقان لم يكن مستطاعا إلا بشرطين؛ أولهما: أن لا تطلب الدول العظمى أرضا أو منافع أخرى لأنفسها، والثاني: ألا تنفرد واحدة منها بعمل ما، وهناك شرط إيجابي يأتي بعد هذين الشرطين السلبيين وهو النظر في الحالة التي تنشأ عن الحرب والتوفيق بينها وبين مصالح الدول العظمى التي لا تستطيع التنازل عنها، وكل قرار في هذا الشأن إنما يناط بالمجتمع الذي ينطق بلسان أوروبا كلها.»
على أن دولة القيصر مع رغبتها في حفظ الوحدة الأوروبية أمام الحرب البلقانية، لم تتردد في تعبئة قسم من جيشها حين اشتد الخلاف بين النمسا والصرب من أجل حادثة القنصل بروشاسكا الذي تقدمت الإشارة إليه، ثم من أجل إصرار الصرب على أخذ بعض السواحل في جهات الأدرياتيك. ولقد مرت أيام كانت فيها كل دولة عظيمة ساهرة أشد السهر، وواضعة يدها على مقبض السيف لاكفهرار الجو السياسي، فإن مليون عسكري من جيش النمسا والمجر لبثوا زمنا غير قصير وهم نازلون في المواقع التي يحسن منها الزحف على عاصمة الصرب وحدود الروس. والجيش الروسي من جهة أخرى قام يتأهب للطوارئ فدل استعداده دلالة ساطعة على أن روسيا لم تكن تسمح للنمسا باغتنام فرصة الحرب لسحق الصرب. وحسب القارئ أن يفكر قليلا في انقسام أوروبا إلى قسمين هائلين بمقتضى المحالفات والصداقات، ليعلم قلق الدنيا ولا سيما الأندية المالية من بلوغ الجفاء إلى ذاك الحد.
وما تحسنت الحالة إلا بعد أن قرر مؤتمر السفراء في لندن أن تعطى الصرب ثغرا تجاريا على بحر الأدرياتيك، وبعد أن نالت النمسا الترضية في مسألة القنصل بروشاسكا، وفيما طلبته هي وإيطاليا من استقلال ألبانيا؛ بعد ذاك كله صرفت النمسا وروسيا جانبا من جيوشهما المعبأة.
وليس بعجيب أن نرى الدولة النمساوية تتميز غيظا على الصرب وتغالي في معارضتها؛ لأن النمسا كانت تطمع في سنجق نوى بازار وتنوي أن تهبط إلى سلانيك، فحرمتها الصرب من السنجق وأبطلت حلمها بسلانيك، وزد على ذاك كله أن الصرب كانت أسيرة النمسا في شئونها الاقتصادية، ولطالما وقع الجفاء بينهما من أجل التشديد الذي كانت تأتيه النمسا في معاملة مواشي الصربيين حتى لقب أحد الظرفاء الحرب البلقانية «بحرب البقر والخنازير»، يريد أن الصرب ما تفانت في الفتح وطلب منفذ إلى البحر إلا لتصدر منه بقرها وخنازيرها التي كانت النمسا تتحكم بها وتفعل ما تشاء.
ولما أصر الجبل الأسود على أخذ أشقودره عادت النمسا ترعد وتبرق وتهدد الجبل بالزحف إن بقي مصرا عليها، ولكن الدول أفرغت كل ما في وسعها مرة أخرى لتمنع انفراد النمسا بالعمل، وبعد مناقشات طويلة بين السفراء تمكنت روسيا من أن تبقي لإخوانها الصقالبة مدن بريزرند وإيبك ودياكوفا ودبرا التي كانت تلح النمسا في إلحاقها بألبانيا المستقلة، ثم وافقت على حرمان الجبل الأسود من أشقودره، وقالت في مذكرتها التي أشرنا إليها: «إن الجبليين الحربيين لم يتمكنوا من الامتزاج بعدة آلاف من الألبانيين المسلمين والكاثوليك الذين اختلطوا بهم منذ 35 سنة، كما أثبت فيس قنصل روسيا في أشقودره؟ فهل يرجى أن يمتزجوا بمائة ألف ألباني مقيمين في سنجق أشقودره؟ إن مملكة الجبل إذا ضمت قسما من السنجق كما طلبت تبيت مهددة بالتحول إلى «ألبانيا جبلية».
ثم ذكرت وزارة الخارجية الروسية أن ملك الجبل لم يشاور روسيا قبل إعلان الحرب كما تعهد لها. ومع ذلك فإنها ساعدته وقرر مجلس أمتها أن ينفح مملكته بتسعين ألف جنيه بعد إخراج الجيش الجبلي من أشقودره.
وكلما دقق الباحث النظر وأعمل الفكر في حالة النمسا، رسخ عنده أن مسألة الصقالبة التي تريد روسيا الإشراف عليهم - ومن جملتهم الصربيون والجبليون - هي مسألة داخلية وخارجية معا عند الحكومة النمساوية، ومما كتبته يد المقدور للنمسا أنه كلما ازدادت أراضيها ازداد معها ضعف الوحدة الجنسية، وأن عظمتها في البلقان تكون على حساب تلك الوحدة، قال الموسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقا: «إن الربح الذي نالته النمسا بضم البوسنة والهرسك إلى أملاكها ذو قيمة كبيرة، فإنها ضمت إليها أوسع أرض نالتها دولة أوروبية عظيمة منذ سنة 1870 من غير أن تطلق رصاصة أو تمتشق سيفا، ولكن هذا الربح لم يأتها إلا مصحوبا بالمسئولية؛ لأنها زادت العنصر الصقلبي في داخلية بلادها من جهة، وأغضبت العنصر الصقلبي الخارجي من جهة أخرى.»
ثم أرادت أن تتوج تلك السياسة البلقانية بفوز آخر فنالت من أوروبا ترضية عظيمة وجديرة بالنظر، وهي تأسيس ألبانيا مستقلة فوطدت مطامعها في قلب شبه الجزيرة وعلى الهضاب التي تشرف عليها من كل جانب، ولا غرو فإن إنشاء ألبانيا جديدة تحت حماية النمسا يجعل للنمساويين النفوذ الأكبر في البلاد البلقانية، على أن كل إنسان يدرك ما يقابل تلك المنافع من الأضرار بالوحدة الجنسية في سائر الإمبراطورية النمساوية، وإذا كانت براعة الإدارة تخفف الأضرار التي تنشأ من هذا الوجه في البوسنة والهرسك، فكيف تكون الحال في ألبانيا المستقبلة التي تقامر بها حكومة النمسا في هذا الوقت؟» •••
صفحه نامشخص