تاریخ جنگ بالکان اول: بین دولت عالیه و اتحاد بالکانی که شامل بلغارستان، صربستان، یونان و مونتهنگرو بود
تاريخ حرب البلقان الأولى: بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود
ژانرها
على أن البلغاريين أصروا أشد الإصرار على رفض هذا الطلب، ولما رأوا وزارة شوكت باشا مصرة عليه قطعوا المفاوضات، وعادوا إلى القتال حول أدرنه وفي جتالجه وشبه جزيرة كليبولي، وعاد الصربيون والجبليون إلى مهاجمة أشقودره، (وكان اليونان يواصلون أعمالهم الحربية عند يانيه وفي أنحاء البحر؛ لأنهم لم يشتركوا في الهدنة كما قدمنا)، فحدثت عدة معارك شديدة في شبه جزيرة كليبولي وجتالجه خسر فيها العثمانيون والبلغاريون عدة آلاف، وحاول أنور بك أن ينزل بقوة عثمانية وراء البلغاريين فأخفق سعيا وخسر كثيرا، ثم تقهقر الجيش البلغاري بضعة كيلومترات لشدة ما رآه من مقاومة العثمانيين، ولرغبة قواده في انتظار نتيجة الأعمال الحربية التي كانت تجري وقتئذ حول أدرنه.
وما مضت أيام حتى استولى الجيش اليوناني على يانيه، ثم سقطت أدرنه كما وصفنا ذاك كله، فخافت عندئذ الدول أن يرسل البلغاريون مائة ألف الجندي الذين كانوا حول أدرنه إلى جهة جتالجه، وأن يتفانوا في أخذ الأستانة فتضطر الدول إلى فتح مسألتها ومسألة تركيا آسيا، وهو ما تود اجتنابه في هذا الوقت، فألحت على البلغار في وجوب الكف عن الزحف إلى جهة العاصمة العثمانية، وأفهمتهم أن كل خسارة يكابدونها في تلك الجهة لا تجديهم نفعا، ثم ألحوا على الحكومة العثمانية في وجوب الرضى بالصلح على شروط من جملتها: أن تعطى أدرنه للبلغار ويكون خط التحديد بين الأملاك البلغارية والأملاك العثمانية ممتدا من إينوس (على بحر إيجه) إلى ميديا (على البحر الأسود)، فقاومت الوزارة العثمانية ما استطاعت، ولكنها عادت فاضطرت إلى قبول هذا الخط، واجتمع مجلس الوكلاء وكلف الأمير سعيد باشا حليم وزير الخارجية أن يرسل إلى الدول مذكرة في قبول مقترحاتها. (4) الهدنة الثانية ومقدمات الصلح والمؤتمر المالي
فقابل البلغاريون وسائر البلقانيين هذا الاستعداد السلمي بالسرور والارتياح، وعقد قواد البلغار وقواد العثمانيين هدنة شفهية، وسافر مندوبو الحكومات العثمانية والبلقانية إلى لندن للتوقيع على مقدمات الصلح طبقا لما اقترحته الدول، وهاك مجمله؛ أولا: أن يكون خط التحديد بين تركيا والبلغار ممتدا من إينوس إلى ميديا. كما قدمنا، ثانيا: أن تستقل ألبانيا كما قرر مؤتمر السفراء. ثالثا: أن يفوض أمر الجزر في بحر إيجه إلى الدول العظمى، وأن تتنازل الدولة عن جميع حقوقها في جزيرة كريت.
الغازي شكري باشا بطل أدرنه.
ولما اجتمعوا في لندن أظهر البلغاريون رغبتهم في التوقيع بلا مهل على المقدمات المذكورة، خلافا للمندوبين الصربيين واليونانيين فإنهم أرادوا أن يدخلوا عليها تعديلات قبل التوقيع، فوقف عندئذ بينهم السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا وألح في وجوب التوقيع على تلك المقدمات، وقال لهم: إن من يأبى التوقيع يمكنه أن يبرح العاصمة الإنكليزية، فوقع البلغاريون والصربيون والجبليون بعد هذا القول الشديد، ونكص مندوبو اليونان. وستعقد الشروط التكميلية بين تركيا وكل دولة من أعدائها على حدة.
ثم قررت الدول أن يعقد مؤتمر مالي في باريس لينظر في أمر الغرامة المالية التي طلبها المتحالفون، وفي مقدار الدين الذي يجب عليهم إيفاؤه من الديون العثمانية بعد أخذ الولايات العثمانية في أوروبا، وفي الامتيازات المعطاة في تلك الولايات وسائر ما يتعلق بالأمور المالية، وقد بدأ هذا المؤتمر بعقد جلساته في العاصمة الفرنساوية، وينتظر أن تبقى أشغاله عدة أشهر . •••
ولما ذاع خبر رضا الوزارة الاتحادية بكل ما تقدم، أخذنا نسمع همسا ما يدل على تأهب خصوم الاتحاديين لعمل كبير، وأخذوا ينشرون على صدور الصحف أن تلك الشروط التي رضيت بها وزارة شوكت باشا هي أشد وأثقل على الدولة من الشروط التي رضيت بها الوزارة الكاملية، على أن الاتحاديين يردون على هذا النقد بقولهم: إن الدولة التي تقع في خطر يجب عليها أن تدافع عن نفسها ما دامت تجد للدفاع سبيلا، حتى إذا فازت استرجعت ما فقد مع الفخر، وإذا فشلت أنقذت شرف سيفها وشهد لها التاريخ بأنها فعلت كل ما استطاعت. (5) مقتل شوكت باشا الصدر الأعظم الاتحادي
وبعد أيام لا تزيد عن أصابع الكفين طيرت الشركات التلغرافية إلى أنحاء العالم نبأ خطيرا توقع كثيرون منه شرا مستطيرا، وهو أن جماعة من خصوم الاتحاديين ركبوا أوتوموبيل وباغتوا شوكت باشا الصدر الأعظم في ساحة بايزيد أمام نظارة الحربية، فقتلوه وأحد الضباط رميا بالرصاص ليثأروا للمرحوم ناظم باشا، فاشتد الخوف وعظم الهرج في دار الملك على أثر هذا الحادث، وأخذت الوزارة تقبض على الذين تتهمهم بتلك الجناية الفظيعة، ثم حاكمتهم في مجلس عرفي رئيسه من صميم الاتحاديين، فحكم على عشرين بالإعدام، منهم اثنا عشر كانوا تحت يد الحكومة الاتحادية فأعدمتهم شنقا في ساحة بايزيد حيث قتل شوكت باشا، وكان بينهم صالح باشا أحد أصهار الأسرة السلطانية، أما الثمانية الباقون فقد كان بعضهم مختبئا والبعض مقيما في أوروبا وبينهم الأمير صباح الدين وشريف باشا صاحب جريدة «مشروطية» التي تصدر في باريس، وما ذاع نبأ هذا الحكم الهائل حتى تضاربت الأقوال في موضوعه، فوصفه قوم بالمجزرة البشرية وتوقعوا له مغبة سيئة؛ لأن الشدة تزيد الأحقاد وتدفع الخصوم إلى الانتقام عاجلا أو آجلا. وقال آخرون: بل هو عبرة مفيدة لمن تحدثه نفسه بطلب الإصلاح من طريق القتل وسفك الدماء، وعندنا أن جميع العقلاء لا يسعهم أن يجادلوا في وجوب العقاب غير أنه ربما كان من المصلحة والعدل أن يكتفى بإعدام القاتلين وبتعديل الأحكام على سائر المتهمين.
ولقد أخطأ الذين دبروا تلك المكيدة بظنهم أن مقتل شوكت باشا يسقط الوزارة الاتحادية ويرفع أعداءها إلى كراسيها، فإن الأمن العام بقي وطيدا في عاصمة السلطنة، ثم رقي فخامة سعيد باشا حليم الذي كان وزيرا للخارجية إلى مقام الصدارة العظمى، وهو من أكابر أمراء الأسرة الخديوية ومن الذين بذلوا المال والوقت واستهدفوا للخطر في سبيل الدستور العثماني، وهو يعتقد اعتقادا راسخا أن جمعية الاتحاد والترقي أقدر من سواها على الحكم.
وكان ممن استوزرهم جلالة السلطان في وزارة الأمير وسليمان أفندي البستاني معرب إلياذة هوميروس، وأحد مؤلفي دائرة المعارف البستانية والعضو في مجلس الأعيان، وكان يومئذ في عاصمة الفرنساويين مهتما بقضاء مهمة للدولة وبعيدا عن مرسح السياسة المحزن الذي تعددت مشاهده في عاصمة السلطنة، فرضي أن يكون وزيرا للتجارة والزراعة على أمل الإصلاح. وكانت الحكومة العثمانية وقتئذ تفاوض لجنة المؤتمر العربي الذي عقد في باريس بقصد أن تتفق معه على الإصلاحات المطلوبة، فكانت للبستاني يد بيضاء في تلك المفاوضة كما سترى في باب آخر.
صفحه نامشخص