فقر رأي المجلس على إفراز ثلاثة أيام للتوبة وتقديم الضحايا يقوم فيها الناس بالصلوات، ومراعاة الطقوس الدينية على اختلافها توسلا بذلك إلى تلطيف غضب السماء، فقدمت ضحايا كثيرة متنوعة لآلهة متنوعة بينها حجر صاعقة من الذهب ثقله خمسون بوندا صنع خصيصا لجوبتير «المشتري» الذي كانوا يلقبونه بالرعاد. وكل هذه الأعمال أجريت قبل معركة تراسمين؛ ولهذا كان الناس قبل سماع أخبارها بين اليأس والرجاء والتحمس الشديد يتوقعون بفارغ الصبر وصول أنباء القائد فلامينيوس عنها ليعلموا ما الذي جرى.
فلما جاءت أنباء ذلك القائد اضطربت المدينة من أقصاها إلى أقصاها، وضج الناس ضجة الاحتساب من غوائل انتصار العدو وانكسار الجيش الروماني. ومعلوم أن الرسول ذهب توا إلى مجلس الشيوخ ليبلغ ما معه من الأخبار المحزنة إلى الحكومة رأسا، ولكن حكاية ما يحمله من الأخبار عن الانكسار المشئوم كانت قد انتشرت في المدينة كلها، وتسارع الناس إلى الشوارع للوقوف على الحقيقة، حتى غصت بهم ساحاتها على رحبها.
وذهب جم غفير إلى مجلس الشيوخ وهناك طلبوا من الحكومة إطلاعهم على ما تم بالجيش، فأطل أحد الموظفين عليهم من إحدى الشرفات، وخاطبهم بصوت عال قائلا: «لقد انكسرنا في معركة هائلة.» ولم يزد على هذا شيئا آخر، وأخيرا تسربت الأخبار من المجلس إلى الناس، فعلموا منها أن هنيبال قد انتصر على الجيش الروماني وقهره في معركة عظيمة، وأن عددا كبيرا من الجنود الرومانيين قد صرعوا أو أسروا وأن القائد نفسه قد ذبح.
وانقضى ذلك الليل على قلق ورعب عظيمين، وفي اليوم التالي والأيام العديدة التي تلت كان الناس يتجمهرون حول أبواب قاعة المجلس سائلين بلهفة وفروغ صبر عن الأنباء الجديدة التي جاء بها القادمون من داخلية البلاد، وبعد ذلك بقليل أخذت فلول الجنود أفرادا وجماعات تتوارد إلى المدينة حاملة معها أخبارا ومعلومات كثيرة عن المعركة، وكل واحد من أولئك الجنود يروي حكاية تختلف عن غيرها بناء على اختباراته الخصوصية في المعركة.
وكان عندما يصل أمثال أولئك الجنود يتألب عليهم الناس، ولا سيما النساء اللواتي لهن أزواج أو أولاد في الجيش ويلقين عليهم الأسئلة العديدة، ويرغمنهم على إعادة قصصهم المرة بعد المرة، حتى كأن قلق الناس وتحرج صدورهم لم يكونا ليكتفيا بالرواية الواحدة. وكانت الروايات المختلفة التي قصها أولئك الجنود متفقة في خلاصتها من حيث إثبات ما كان الناس السامعون يخشونه، على أنه كان يصدف في بعض الأحيان أن يتلفظ أحد الجنود باسم زوج أو ابن نجا، فيحدث ذلك ارتياحا وفرحا عند البعض، كما يحدث عكسه حزنا وقنوطا عند الآخرين.
وقد كانت المحبة الوالدية أو حنان الأم في تلك الأيام مثله أو أشد منه في يومنا هذا، يدل ذلك على أن اثنتين من الأمهات كانتا قد أخبرتا أن ابنيهما قد قتلا في المعترك، وفي ذات يوم وصل الابنان إلى المدينة وهما في أحسن صحة وسلامة جسم، فلما وقع نظر الأمين على ولديهما سقطتا ميتتين في الحال، كأنهما أصيبتا بضربة شديدة وذلك لفرط فرحهما وانفعالهما.
وكانت عادة الرومانيين أوقات اقتراب الخطر العظيم من البلاد أن يقيموا مسيطرا مطلق السلطة فعالا لما يريد، ويكون مطالبا بالذود عن حياض الوطن ووقايته من النكبات بإجراء ما يراه كفيلا بسلامة البلاد، وقد أوجبت الضرورة في هذا الحين الالتجاء إلى اتخاذ مثل ذلك التدبير، ولم يكن الوقت منفرجا حينذاك للبحث والمجادلات؛ لأن التردد والجدال في أوقات الشدة والحدة والخطر المحدق بالبلاد يؤديان إلى الخلاف، وينتهيان بالشقاق والضوضاء والفوضى.
ومن المعلوم أن هنيبال كان زاحفا في طليعة جيش منتصر يعيث في البلاد التي اجتاحها فسادا، ويعمل فيها النهب والتخريب، وهو يسرع الخطا نحو العاصمة التي لم يكن بينه وبينها ما يرد عنها هجماته. ومن أجل هذا دعت الضرورة الكلية إلى إقامة مسيطر مطلق التصرف من كل وجه، فوقع اختيار الشعب على رجل له شهرة عظيمة بالاختبار والحنكة والحكمة اسمه فابيوس، فسلموه زمام الحكومة، ومنحوه كل قوة وأطلقوا له الحرية في إجراء ما يراه ويرتئيه.
وهكذا بطلت بعد تعيينه كل سلطة، فأصبح كل شيء رهن إرادته وتحت مطلق تصرفه، ووضعت المدينة بجملتها وبما فيها من النفوس والأملاك تحت رعايته المطلقة يتصرف بها كيف شاء، فتقلد زمام الأمور وتولى إدارة الجيش والأسطول ، حتى إن القناصل أصبحوا رهن إشارته وطوع أوامره ونواهيه، فرضي فابيوس بتحمل تلك المسئولية العظمى التي ألقاها الشعب على عاتقه، وشرع للحال في اتخاذ التدابير الضرورية.
وأول ما أمر به كانت إقامة الحفلات الدينية والصلوات؛ للتكفير عما تشاءم الشعب منه ولاسترضاء الآلهة، وأخرج كل الشعب في اجتماع عظيم، وأرغمهم على القسم بصورة مهيبة رسمية، والوعد بتقديم ذبائح وقرابين إكراما للآلهة على اختلافها في وقت مستقبل، هذا إذا أرادت الآلهة وقايتهم من الخطر الذي يهددهم. أما ما إذا كان فابيوس يعتقد عن يقين بتلك التقاليد التي أمر الشعب بالقيام بها، وأن للآلهة تأثيرا فعليا على ما سيكون؛ فذلك من الأمور المشكوك فيها، بل يظن أنه أراد بهذا حمل الشعب على الطمأنينة، وإيجاد الثقة في قلوب الناس وإحياء موات الشجاعة في صدورهم، وذلك لا يتم له كما لا يخفى إلا عن طريق السماء، فإذا كان ذلك ما أراده فلا ريب أن تصرفه كان مبنيا على الحكمة.
صفحه نامشخص