وكان هنيبال قد عسكر في مكان مرتفع مفتوح من كل الجوانب عبر المضيق، فلما وصل فلامينوس وجيشه إلى أضيق مكان في المضيق رأوا معسكر هنيبال على مسافة قريبة بينهم وبين معسكره وآخر المضيق سهل واسع، وتوهموا أن جيش العدو بجملته مرابط هنالك، فلم يخطر لهم ببال أن هنالك أقساما من جيش العدو راصدة في أخاديد الجبال فوقهم، وهي تطل عليهم من مكامنها بين الآجام والصخور وتتربص بهم ريب المنون.
فلما اجتاز الرومانيون المضيق انتشروا فوق السهل المنبسط بعده وزحفوا نحو خيام العدو، عندئذ باغتتهم الجنود الكامنة منقضة كالسيل من سفوح الجبال واستولت على المضيق، وفي الوقت نفسه هجمت على مؤخر الجيش الروماني، بينما كان هنيبال وبقية جيشه يهاجمونهم من الأمام، ودارت إذ ذاك معركة دموية هائلة بين الجيشين كان الخذلان في كل جهة منها نصيب الرومانيين الذين انحصروا عندئذ بين البحيرة والجبل والمضيق، بحيث تعذر عليهم التراجع والفرار، وأعمل الجيش القرطجني فيهم القتل الذريع فأفناهم كلهم تقريبا؛ حتى إن فلامينيوس نفسه وقع قتيلا.
فانتشرت أنباء هذه المعركة في كل مكان وأحدثت ضجة في البلاد وشغبا في الشعب، وأرسل هنيبال رسلا إلى قرطجنة يعلن لها أمر انتصاره النهائي على عدوه القوي فتلقت قرطجنة هذه البشائر بالابتهاج العظيم. على أن خبر تلك الكسرة المشئومة من الجهة الأخرى وقع على أهل رومية وقوع الصواعق، فارتاع الناس لهول النكبة وهال الحكومة ما بدا لها من خيبة الآمال وانسحاق جيوشها، وتولاها الرعب من غوائل انتصار هنيبال.
وبان لحكومة رومية أن الرجاء الأخير من مقاومة ذلك العدو القاهر قد انقطع، وأنه لم يبق أمامها سوى الاستسلام لليأس وانتظار تدفق صفوف جيشه في بوابات رومية مكتسحة سالبة، وكان سكان رومية في الواقع حاسبين لحدوث الاضطراب والرعب في المدينة؛ لأن مخاوفهم قد تفاقمت وتضاعفت على مرور الأيام، وقد تم الذي توقعوه وحذروه. ومن المعلوم أنه في مثل هذه الأوقات الحرجة يكثر اللغط ويحسب الناس حسابا لأقل شيء يبدو لهم مما لا يعبئون به في غير ذلك الوقت، وتتعدد الروايات وتتجسم الأخبار ويبالغ معيدوها فيها إلى حد تستولي على الأذهان، وتولد في العقول رعبا وفي القلوب انسحاقا وفي الأذهان وقرا.
وبلغ الرعب والهول من القوم مبلغا أصبحوا معه يتشاءمون من كل حركة وكل علامة؛ جريا على تسليم أهل ذلك الزمن بالخرافات المختلفة، فكانت الحكومة تبذل الوسع في إزالة مخاوف الناس وتحاول نفي ما يعلق في أذهانهم من غضب الآلهة عليهم، ثم أشارت بتقديم الضحايا لاسترضاء الآلهة، وهي ترمي بذلك على حمل الناس على الهدوء والطمأنينة والثبات في وجه الخطر المقبل.
ومن جملة هذه الأوهام وآيات التشاؤم التي استولت على أهل رومية عندما كان هنيبال يزحف عليها من كل صوب في غضون الشتاء وأوائل الربيع ما نورده بالإيجاز. من ذلك: أن ثورا فلت من حظائر الماشية ودخل أحد البيوت وضاع رشده فهام في المنزل وصعد في درجه إلى الطبق الثالث، ولما أزعجه القوم الذين يطاردونه بصياحهم الشديد ذعر ورمى بنفسه من إحدى النوافذ ، فسقط على الأرض.
ومنها: أنه ظهر في جلد السماء نور بشكل سفن كثيرة.
ومن ذلك: أن أحد الهياكل أصيب بصاعقة، واهتزت الحربة الموجودة في قبضة تمثال جونو، وهي إحدى آلهتهم بدون أن تمسها يد، وحمل خوف الناس بعضهم على رؤية أشباح أناس بثياب بيض في مكان معلوم، وسطا ذئب على معسكر الجند واختطف سيفا من يد أحد الجنود وفر هاربا به، وبدت الشمس للقوم في ذات يوم أصغر من حجمها العادي، وأبصر القوم أيضا في ذات يوم قمرين معا في السماء وذلك في النهار، وكان أحد القمرين هالة من الغيم الأبيض دون ريب، وسقطت أحجار من السماء في مكان يسمى بيسانوم، وهذا أمر خارق العادة ولهذا كان مخيفا وموجبا للرعب الشديد. مثل هذه الحوادث التي قد يكون بعضها صحيحا، كانت دون ريب موجبة للدهشة والجزع إلا أنها بالرغم من ذلك لم تكن من الدلائل على النكبات التي لا بد من حدوثها، وكل هذه الأمور وغيرها من التي توهم الناس أنهم شاهدوها رفعت إلى مجلس الشيوخ ليرى رأيه في الأمر، ورأى الناس أمورا غريبة غيرها، ومنها درعان شوهدتا في معسكر للجنود تقطران دما.
قيل إن بعض الناس كانوا يحصدون فسقطت في سلالهم سنابل دموية اللون من القمح، وهذا قد كان وهما دون ريب إلا إذا كان أحد الحصادين أصيب بجرح في أصبعه من المنجل فصبغ بدمه السنابل. وقالوا إن بعض السواقي والينابيع جرت دما، وأن المعزى في بعض الأماكن تحولت إلى خراف، وأن دجاجة صارت ديكا، وديكا تحول إلى دجاجة وغير هذا شيء كثير.
فأمثال هذه الخرافات المضحكة ما كانت لتلاقي أقل اهتمام، لولا درجة الأهمية المتعلقة بها من حيث اقتراب الخطر العام، على أنها رفعت إلى مجلس الشيوخ وهذا استدعى الناس الذين رأوها واستنطقهم في شأنها، وخاض القوم في مجادلات طويلة بشأن الطريقة الواجب العمل بها لاتقاء الشر الذي سينجم عن هذا التشاؤم.
صفحه نامشخص