تأليف
جميل نخلة المدور
مراجعة
إبراهيم اليازجي
بسم الله الحي الباقي
الحمد لله الذي جعل لنا نبأ المتقدمين عبرة وذكرى، ودلنا بزوالهم على أنه هو الباقي الذي سيعيدهم تارة أخرى، أما بعد فإن علم التاريخ لمن أجل العلوم مقدارا وأوسعها مدارا، به تعلم الخطط والممالك، وسياسة المملوك والمالك، وما كان للغابرين من الشعوب والقبائل والأنساب والمنازل، والعقائد والمذاهب، والتجارات والمكاسب، والصنائع والعلوم ما بين منطوق ومفهوم، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة والمطالعات الأثيرة، ولشؤم الطالع الذي عم هذه الأقطار وما توالى عليها من الحوادث والأقدار، قد طمس الجهل فيها على آثار هذا العلم الشريف، وضرب الفقر على أيدي أرباب التدوين والتأليف، فمن عهد كذا من الزمان لم نجد من دون سفرا يسفر عن أحوال أيامه وأهلها، ولا من بحث في تواريخ الأمم السالفة ونقب عن أحوالها وأصلها من نحو الآشوريين والمصريين، وغيرهم من الشعوب الغابرين، حالة كون الإفرنج مثلا قد بحثوا في ذلك البحث العميق، وأمعنوا في التنقير والتدقيق، وقد أحصوا من تلك الحقائق ما لا مزيد عليه لباحث، وقرروا كثيرا مما غرب من الآثار والحوادث، فتراهم يرحلون في طلب الوقوف على ما في هذه البلاد من الآثار ويتجشمون لذلك مشقة الأسفار واقتحام الأهوال والأخطار، خلا ما هنالك من صرف النفقات الجزيلة ومعاناة الأتعاب الطويلة، حتى أفضى بهم الأمر إلى احتفار جبال من الأنقاض والأتربة لكشف ما بقي تحتها من الآثار والأخربة، فشرحوها للمطالع شرحا واضحا عن عيان يظهر به حال تلك الأمكنة وما كان عليه أهلها في ذلك الزمان، وبيان واضعها وهادمها وما وقع بين ذلك من الحدثان.
وإلى اليوم ما برحوا يجدون في البحث عما بقي مستترا وراء ظل القدم وتقلبات الدهر، وكثيرا ما نقلوا من تلك الأبنية العظيمة والصخور الضخمة فحملوها على مراكب البر والبحر، بحيث لو جمعت تلك المنقولات لكانت مدينة كبيرة من أعجب الأبنية وأسناها، قد حملت من الشرق إلى الغرب فرست هنالك ولن يبرح إلى الأبد مرساها، فقد استأثروا بمعظم ما اشتهر من مفاخر أجدادنا، وزينوا بلادهم بما دفنته للدهور من آثار بلادنا، ولا أقول إلا أن تلك المآثر الجليلة والمفاخر الأثيلة قد أصبحت عند من يقوم بحقها ويقومها بأثمانها، ولا يرضى لها ما رضيناه من إهمالها وهوانها. هذا وإني لما رأيت تقاعد أبناء الشرق عن سلوك مثل هذا السبيل، وعدم احتفالهم بما ينبغي من الجد لإدراك هذا الشأن الجليل. حدثتني نفسي أن أتطاول على ما بي من القصر فأجني لهم بعض ما وصلت إليه يدي من داني ذلك الثمر لعلهم إذا أعجبهم الأمر سموا فيه إلى أعلى مما قصدت. فأستفيد من فضلهم بعد ذلك أكثر مما أفدت. فاستصبحت بنبراس أولئك القوم الأفاضل، واغترفت ما يسع مثلي اغترافه من سلسال تلك المناهل، وألفت هذا الكتاب في تاريخ آشور وبابل، وقد جمعته عن أشهر أقوال المؤلفين في هذا الأوان مما وصلوا إلى تحقيقه بعد شهادة الاختبار والعيان، وقسمته قسمين؛ أحدهما: جغرافي يبين الحدود والمساحات وما يتعلق بذلك من الأبنية والمدن والهياكل والساحات، والآخر: تاريخي ذكرت فيه ترجمة من اشتهر من ملوكهم وعظمائهم وما اشتهر لهم من الفتوحات وعظائم الأعمال إلى حين انقضائهم، والمأمول من أرباب النقد غض الطرف عما يرون فيه من الخلل، والله المسئول أن يوفقنا إلى السداد، هو حسبنا وعليه المتكل.
مقدمة
قد اختلف المؤرخون في بيان أصل البابليين والآشوريين وأشياء كثيرة مما يتعلق ببداءة أمرهم، فذهبوا في ذلك مذاهب شتى لا تتلاءم ولا تتقارب حتى توصل الإفرنج في هذا الزمان إلى حل الكتابة المعروفة بالمسمارية، وهي الحروف الآشورية، فتبين لهم كثير مما كان المؤرخون يختلفون فيه من تلك الحقائق وجزموا بكثير منها عن يقين؛ لأنهم رأوا حقيقتها مسطرة على جدران الأبنية التي كشفوها في تلك النواحي، فكانت أصدق شاهد بما كان من أمر تلك الأبنية وواضعيها وتواريخها، إلى غير ذلك مما يقررها بأجلى وضوح، وكان كثير من متقدمي المؤرخين الذين يوصفون بالثقة والشهرة يجعلون مملكة البابليين أو الكلدان نفس مملكة الآشوريين، وذلك كما فعل هيرودوطس المؤرخ اليوناني المشهور؛ حيث يقول في تاريخه ما ترجمته: إن آشور تشتمل على كثير من المدائن الكبيرة، إلا أن أسمى تلك المدائن مجدا وأمنعها عزة مدينة بابل، وقد اتخذها ملوك تلك البلاد عاصمة لهم منذ خراب مدينة نينوى. ا.ه.
والصحيح غير ما ذكره فإنه علم بعد البحث أن كلا من بابل ونينوى كانت عاصمة للملك في زمن واحد، وقد كانت بين المدينتين حروب متواترة، ويمكن أن يستدل من ذلك أن ما رواه عن فنون الآشوريين وتاريخهم أصله الكلدانيين، أو ما رواه عن عوائد البابليين وعقائدهم هو للآشوريين، إلى غير ذلك مما يتجاذبه طرفا الوهم والصحة على ما ستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
صفحه نامشخص