مقدمة
القسم الجغرافي
ذكر مملكة بابل ومدنها المشهورة
ذكر مملكة آشور
القسم التاريخي
الكلام على سكان بابل الأولين
ذكر الدولة الآشورية الأولى
ذكر الدولة الآشورية الثانية
ذكر الدولة البابلية الثانية
مقدمة
القسم الجغرافي
ذكر مملكة بابل ومدنها المشهورة
ذكر مملكة آشور
القسم التاريخي
الكلام على سكان بابل الأولين
ذكر الدولة الآشورية الأولى
ذكر الدولة الآشورية الثانية
ذكر الدولة البابلية الثانية
تاريخ بابل وآشور
تاريخ بابل وآشور
تأليف
جميل نخلة المدور
مراجعة
إبراهيم اليازجي
بسم الله الحي الباقي
الحمد لله الذي جعل لنا نبأ المتقدمين عبرة وذكرى، ودلنا بزوالهم على أنه هو الباقي الذي سيعيدهم تارة أخرى، أما بعد فإن علم التاريخ لمن أجل العلوم مقدارا وأوسعها مدارا، به تعلم الخطط والممالك، وسياسة المملوك والمالك، وما كان للغابرين من الشعوب والقبائل والأنساب والمنازل، والعقائد والمذاهب، والتجارات والمكاسب، والصنائع والعلوم ما بين منطوق ومفهوم، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة والمطالعات الأثيرة، ولشؤم الطالع الذي عم هذه الأقطار وما توالى عليها من الحوادث والأقدار، قد طمس الجهل فيها على آثار هذا العلم الشريف، وضرب الفقر على أيدي أرباب التدوين والتأليف، فمن عهد كذا من الزمان لم نجد من دون سفرا يسفر عن أحوال أيامه وأهلها، ولا من بحث في تواريخ الأمم السالفة ونقب عن أحوالها وأصلها من نحو الآشوريين والمصريين، وغيرهم من الشعوب الغابرين، حالة كون الإفرنج مثلا قد بحثوا في ذلك البحث العميق، وأمعنوا في التنقير والتدقيق، وقد أحصوا من تلك الحقائق ما لا مزيد عليه لباحث، وقرروا كثيرا مما غرب من الآثار والحوادث، فتراهم يرحلون في طلب الوقوف على ما في هذه البلاد من الآثار ويتجشمون لذلك مشقة الأسفار واقتحام الأهوال والأخطار، خلا ما هنالك من صرف النفقات الجزيلة ومعاناة الأتعاب الطويلة، حتى أفضى بهم الأمر إلى احتفار جبال من الأنقاض والأتربة لكشف ما بقي تحتها من الآثار والأخربة، فشرحوها للمطالع شرحا واضحا عن عيان يظهر به حال تلك الأمكنة وما كان عليه أهلها في ذلك الزمان، وبيان واضعها وهادمها وما وقع بين ذلك من الحدثان.
وإلى اليوم ما برحوا يجدون في البحث عما بقي مستترا وراء ظل القدم وتقلبات الدهر، وكثيرا ما نقلوا من تلك الأبنية العظيمة والصخور الضخمة فحملوها على مراكب البر والبحر، بحيث لو جمعت تلك المنقولات لكانت مدينة كبيرة من أعجب الأبنية وأسناها، قد حملت من الشرق إلى الغرب فرست هنالك ولن يبرح إلى الأبد مرساها، فقد استأثروا بمعظم ما اشتهر من مفاخر أجدادنا، وزينوا بلادهم بما دفنته للدهور من آثار بلادنا، ولا أقول إلا أن تلك المآثر الجليلة والمفاخر الأثيلة قد أصبحت عند من يقوم بحقها ويقومها بأثمانها، ولا يرضى لها ما رضيناه من إهمالها وهوانها. هذا وإني لما رأيت تقاعد أبناء الشرق عن سلوك مثل هذا السبيل، وعدم احتفالهم بما ينبغي من الجد لإدراك هذا الشأن الجليل. حدثتني نفسي أن أتطاول على ما بي من القصر فأجني لهم بعض ما وصلت إليه يدي من داني ذلك الثمر لعلهم إذا أعجبهم الأمر سموا فيه إلى أعلى مما قصدت. فأستفيد من فضلهم بعد ذلك أكثر مما أفدت. فاستصبحت بنبراس أولئك القوم الأفاضل، واغترفت ما يسع مثلي اغترافه من سلسال تلك المناهل، وألفت هذا الكتاب في تاريخ آشور وبابل، وقد جمعته عن أشهر أقوال المؤلفين في هذا الأوان مما وصلوا إلى تحقيقه بعد شهادة الاختبار والعيان، وقسمته قسمين؛ أحدهما: جغرافي يبين الحدود والمساحات وما يتعلق بذلك من الأبنية والمدن والهياكل والساحات، والآخر: تاريخي ذكرت فيه ترجمة من اشتهر من ملوكهم وعظمائهم وما اشتهر لهم من الفتوحات وعظائم الأعمال إلى حين انقضائهم، والمأمول من أرباب النقد غض الطرف عما يرون فيه من الخلل، والله المسئول أن يوفقنا إلى السداد، هو حسبنا وعليه المتكل.
مقدمة
قد اختلف المؤرخون في بيان أصل البابليين والآشوريين وأشياء كثيرة مما يتعلق ببداءة أمرهم، فذهبوا في ذلك مذاهب شتى لا تتلاءم ولا تتقارب حتى توصل الإفرنج في هذا الزمان إلى حل الكتابة المعروفة بالمسمارية، وهي الحروف الآشورية، فتبين لهم كثير مما كان المؤرخون يختلفون فيه من تلك الحقائق وجزموا بكثير منها عن يقين؛ لأنهم رأوا حقيقتها مسطرة على جدران الأبنية التي كشفوها في تلك النواحي، فكانت أصدق شاهد بما كان من أمر تلك الأبنية وواضعيها وتواريخها، إلى غير ذلك مما يقررها بأجلى وضوح، وكان كثير من متقدمي المؤرخين الذين يوصفون بالثقة والشهرة يجعلون مملكة البابليين أو الكلدان نفس مملكة الآشوريين، وذلك كما فعل هيرودوطس المؤرخ اليوناني المشهور؛ حيث يقول في تاريخه ما ترجمته: إن آشور تشتمل على كثير من المدائن الكبيرة، إلا أن أسمى تلك المدائن مجدا وأمنعها عزة مدينة بابل، وقد اتخذها ملوك تلك البلاد عاصمة لهم منذ خراب مدينة نينوى. ا.ه.
والصحيح غير ما ذكره فإنه علم بعد البحث أن كلا من بابل ونينوى كانت عاصمة للملك في زمن واحد، وقد كانت بين المدينتين حروب متواترة، ويمكن أن يستدل من ذلك أن ما رواه عن فنون الآشوريين وتاريخهم أصله الكلدانيين، أو ما رواه عن عوائد البابليين وعقائدهم هو للآشوريين، إلى غير ذلك مما يتجاذبه طرفا الوهم والصحة على ما ستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وإنما كان منشأ هذه الاختلافات على الأكثر كتاب الفرس الذين شحنوا التاريخ بحكايات فارغة خرافية لا يوثق بها وجعلوا كتاباتهم هذه في بلاط ملوكهم، فكان كل من أراد الاطلاع على شيء من أخبار هاتين المملكتين يستعين بها، فينقل عنها ما أراده حقيقيا كان أو غير حقيقي، وتداولت هذه الحكايات الطويلة ألسنة العامة، فزادوا عليها وحرفوا منها حتى أصابها مع تمادي الأزمنة وتكرار الأيام نفس ما أصاب تلك القرون والآثار من الانقلاب والاضمحلال، وحسبك من ذلك أنهم رجعوا بملك نينيب فلأصر الذي سموه نينوس سبعة قرون، وبملك سموراميت امرأة بعلوخوس الثالث التي سموها سميراميس اثني عشر قرنا، وقالوا إنها امرأة نينوس المذكور، ونسبوا إليها بناء سور بابل وهيكل بعلوس والقصرين الملكيين والحدائق المعلقة إحدى العجائب، ورصيفي النهر وغيرها من الأعمال الكبيرة والحروب العجيبة التي تذكر في الكلام عن بابل وسميراميس وبختنصر وغيرهما.
ولما قصد أكتزياس الكنيدي طبيب أرتكزرسيس منيمون الفارسي جمع تاريخ لآشور باليونانية، نقل عن الكتب الفارسية التي في بلاط الملك الخرافات المذكورة، وهي المتداولة بين العامة، فاقتبسها كتاب اليونان من بعده، وما زالوا يتداولون ذكرها ويتناقلونها وغيرهم من أمم شتى إلى عصرنا الحالي. لا جرم أن مملكتي بابل وآشور من أقدم الممالك فخرا ونسبة ومن أشهرها تاريخا وأعلاها عزة ومجدا، وقد بلغتا من العظمة والرفعة في المشرق على عهد بختنصر ما بلغت مملكة الرومان في المغرب على عهد كبراء القياصرة، ونرى أيضا أن لهما تاريخا متوغلا في القدم مع قطع النظر عما يقوله مؤرخو الكلدان الذين يزعمون أن ملكهم بقي ما يزيد على 473000 سنة، وذلك منذ تملك ألوروس قبل الطوفان إلى سقوط داريوس واضمحلال دولتهم، وقد اشتغل كثيرون من المؤرخين بتدوين تاريخ البابليين والآشوريين، ولكن اختلفت فيه مذاهبهم وتفرقت آراؤهم على أنحاء متباينة، ولم يكن جهد من عني في كل عصر بتصحيح خطئهم إلا عبثا وضياعا، وربما كان تصحيح بعضهم مؤديا إلى خطأ آخر وإحداث وهم جديد، وما زالت الناس على ذلك إلى أن كشفت أخربة مدائن بابل وآشور الكبيرة وتوصل إلى قراءة الكتابة الآشورية على ما أسلفنا ذكره، فتسنى لنا من ثم الوقوف على كثير مما غمض من أخبار هاتين المملكتين وإيضاحها عن يقين جازم.
ومعظم ما ورد في وصف بابل وآشور وتاريخهما ما هو مدون في مصنفات هيرودوطس اليوناني وديودوروس الصقلي نقلا عن أكتزياس الكنيدي المقدم ذكره وبيروسوس الكلداني، والأولان قدما بابل في أواخر القرون الوثنية وكانت قد انحطت عن مجدها فوصفا ما عايناه من أبنيتها، ولكن ليس في كلامهما ما يعرف به أصل سكانها الأولين. على أن الأول منهما أحق بالثقة من الثاني لما ستعرفه، وهو الذي لقبها عاصمة آشور، إلا أنه لم يرد في كلامه شيء عن نينوى ولا عن بانيها، ولكنه اكتفى من تاريخها بقوله إنها مبنية على عدوة دجلة، ويفهم من كلامه أنه كتب تاريخا لآشور وبابل؛ لأنه يقول: ولبابل ملوك كثيرون أذكرهم في الكلام على آشور. إلا أنه لم يقع إلينا شيء من ذلك ولا عثرنا على نقل منه في كتب المؤرخين، فلا يدرى هل كتب هذا التاريخ فعلا أم كان ذلك في نفسه ثم لم يتأت له إتمامه. لا جرم أنه لو كان موجودا في أيدينا لاتسع لنا النطاق في معرفة أخبار ملوكهم وعظمائهم وفنونهم وعلومهم وعقائدهم وأبنيتهم ومدنهم، إلى غير ذلك مما نتشوق إلى معرفته ونرتاح للوقوف عليه.
وأما الثاني فجميع كتاباته أو معظمها منقول عن مصنفات أكتزياس الكنيدي طبيب ملك فارس التي فقدت في جملة مصنفات قديمة ثمينة، وكان مقام أكتزياس هذا في فرسبوليس في بلاط الملك المذكور آنفا، فجمع ما جمعه عن أشهر مؤرخي الفرس، ولذلك يرجحه قوم على غيره من المؤرخين في معرفة حقيقة تاريخ آشور، ومن تاريخه ما رواه ديودورس نقلا عنه أن أول ملوك آشور نينوس، وكان جبارا ابتنى مدينة على عدوة دجلة سماها نينوى باسمه تخليدا لذكره، ثم نهض للفتح فجهز جيشه وزحف به على أقاليم كثيرة فاستفتحها وضرب عليها الخراج، وبعده استبدت بالملك سميراميس زوجته وكانت أول امرأة ملكت في العالم، وهي التي شادت سور بابل وندبت لبنائه ما ينيف عن ألفي ألف رجل. ا.ه.
وأما بيروسوس فهو كلداني بابلي الأصل، وكان كاهن بعلوس، وقيل إنه كان معاصرا للإسكندر، وهو من أشهر مؤرخي الكلدان دون تاريخا يتضمن أخبار ملوك بابل كافة، ولم يقع إلينا من تاريخه سوى بعض روايات منثورة تداولتها ألسنة العامة، وذكرها جماعة من المؤرخين في جملتهم يوسيفوس اليهودي وأوسابيوس وأكليمنضوس الإسكندري وشنسيلوس وغيرهم، وجميع ما أثبته أخذه عن ألواح قديمة كانت في عهدته في جملة متعلقات الهيكل قد سطرت فيها أخبار الكون وملوك الأرض قبل الطوفان وبعده على ما ستراه في موضعه، وخلاصة ما قاله في هذا الصدد أن سكان بابل الأولين كانوا قبائل متوحشة لا نظام لعيشتها ولا معارف عندها حتى ظهر أوانس، وهو إله على شكل إنسان وسمكة معا خرج إليهم من بحر إريثرة فمدنهم وعلمهم الأدب والفنون وبناء المدن والهياكل، وأول ملك ولي أمرهم ألوروس وكان كرسيه في بابل وبقيت مدته 36000 سنة، ثم تعاقب على الملك بعده تسعة ملوك من نسله، فساروا سيرته في سن الشرائع والآداب المحدثة وآخرهم يسمى أكسيسوثروس، وعلى عهده انفجرت ينابيع المياه وغمرت الأرض، فأبادت كل ذي نسمة في الأرض من البهائم والطيور والناس كافة، خلا الملك ومن معه ضمن الفلك الذي أوحى إليه كرونوس أن يبنيه، ولعل هذا هو عين الطوفان المذكور في كتب قدماء الهنود وقصته أشبه بقصة الطوفان الذي ورد الخبر عنه في الكتاب المقدس؛ حيث أهلك الماء كل حي في الأرض ولم ينج إلا نوح وعشيرته في الفلك، وذكر بيروسوس أنه قام عقب هذه الحادثة ستة وثمانون ملكا من الكلدان، ثم قدم أزدرخت المادي بجيوشه إلى بابل، فأخذها واستباحها بالنهب سنة 2289 قبل الميلاد، وكثير من هذه الأقوال وما أشبهها وإن وثق بصحته بعض من تقدم من المؤرخين مدفوع عند أهل التحقيق على ما أسلفنا ذكره، والمعتمد من ذلك كله إلى هذا الأوان ما سنذكره في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى، وهو سبحانه أعلم.
القسم الجغرافي
ذكر مملكة بابل ومدنها المشهورة
يحد مملكة بابل شمالا ما بين النهرين، وجنوبا خليج فارس، وغربا شبه جزيرة العرب، وشرقا بلاد شوشانة، ويمر في أرضها نهر الفرات ودجلة متجهين من الشمال إلى الجنوب، وهذه المملكة تنقسم في نفسها إلى قسمين أحدهما بلاد بابل على الخصوص، وهي الواقعة ما بين النهرين المذكورين والآخر بلاد الكلدان، وهي ما يليها من ملتقى النهرين إلى خليج العجم، وكانت هذه المملكة في قديم الزمان معمورة بالمدائن الكبيرة والأسوار الحصينة والقصور الرفيعة والهياكل الشامخة والأبنية المشهورة، كما سنورد ذكره حتى كانت تسمى بسيدة الممالك، إلا أنه لم يبق من جميع ذلك إلا بقايا رسوم يستدل بها على مواقع بعض تلك المدن كمدينة بابل وأرك وأكد وكلنه - وهي أور الكلدانيين - وبورسيبا وإيس أو إيوبوليس وصفيرة وسلوقية وأكتزيفون وغيرها.
ذكر مدينة بابل
هذه المدينة كانت أعظم مدائن آسية وأبعدها ذكرا وأرفعها علما وأوسعها ظلا، وأكثرها ثروة وعمرانا، وأمنعها عزة وسلطانا صحبت الملوك دهرا طويلا، وتقلبت في الخصب والدولة أمدا مديدا حتى لم يكن لها ضريب في جميع المدن التي تقدمتها في تاريخ العمران، وبها سميت المملكة ببابل؛ ولذلك يقدمها الكتاب في الذكر على سائر مدن شنعار، وفي تسميتها ببابل أقوال أشهرها أنها إنما سميت بذلك أخذا من بلبلة الألسنة فيها على ما ورد في سفر التكوين (ص11) من أن بني نوح لما ارتحلوا من المشرق ونزلوا بشنعار أخذوا في بناء برج يبلغ إلى السماء، فبلبل الله تعالى ألسنتهم حتى صار بعضهم لا يفهم كلام بعض فكفوا عن بناء البرج؛ ولذلك دعيت المدينة بابل. ا.ه. وهي كلمة عبرانية معناها على هذا البلبلة، وفي رواية أن قوما من الأقدمين بنوا هناك هيكلا يجلسون ببابه لقضاء دعاويهم وفض خصوماتهم، فسميت المدينة بابل، وأصلها على هذا باب إيل أي باب الإله، وقيل أصل اللفظة باب إيلو وهو إله لقدماء الساميين وهو المسمى آشور أيضا، إلى غير ذلك من الأقاويل المبنية على ما تحتمله اللفظة من التفسير والتأويل.
وقد اختلفت آراء قدماء المؤرخين في زمن تخطيطها، فمنهم من ذهب إلى أن بانيها بعلوس وهو زحل عند اليونان، وقال آخرون: إن أول من وضع أسسها الملكة سميراميس زوجة نينوس، وقال ديودورس الصقلي وأميانوس مرشلينوس: إن نينوس بنى هيكل بعلوس، وسميراميس زوجته بنت أسوار بابل.
وهنا بحث؛ هل سميراميس هذه هي نفس سميراميس التي يذكرها هيرودوطس في جملة ملوك بابل؟ فإن هذه كانت قبل الميلاد بما ينيف على ألفي سنة والتي يذكرها هيرودوطس لم يكن بينها وبين الميلاد أكثر من 830 سنة؛ لأنه جعل بينها وبين نيتوكريس خمسة قرون، والصحيح في ذلك كما قاله بعض الثقات أن لفظ سميراميس إنما هو محرف عن سموراميت امرأة بعلوخوس الثالث على ما سبقت الإشارة إليه، وكان مالكا في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد فتكون هي المشار إليها في كلام هيرودوطس، ويكون ما ورد في رواية ديودورس وأميانوس خطأ، وذهب قوم من قدماء المؤرخين وتابعهم بعض المتأخرين إلى عكس ما ذكر، وخطئوا مقالة هيرودوطس في كلام قالوا فيه إنه أراد أن يجعل بينها وبين نيتوكريس خمسة عشر قرنا، فذكر خمسة إلى آخر ما أوردوه وهو مرجوح عند أكثر المحققين، وزعم البابليون والقول لكهنتهم الكلدان أن مدينة بابل بناها إله من آلهتهم في زمن لا يعرف بالتعيين، وذهب مؤرخو الرومان واليونان مع الباحثين المعاصرين، إلى أن بناءها كان عقب الطوفان بزمن يسير خلافا لما ذكره بيروسوس من أن عشرة من ملوك الكلدان تداولوا سلطنة بابل قبل الطوفان.
ولم تكن بابل في أول عهدها عاصمة للملك ولا من المدن الخطيرة كما تدل عليه الآثار التي كشفت في عصرنا هذا جنوبي المدينة، فقد ثبت أن مدنا أخرى كأرك وكلنة وغيرهما من المدن المشهورة كانت قد بلغت المبالغ العظيمة من العزة والغنى وبابل إذ ذاك قرية دنيئة. ثم ضرب الدهر ضرباته وأفضت نوبة الملك إليها في سياق غير معلوم، فبلغت من العظمة والشهرة وسمو المنزلة ما لم تبلغه إحدى تلك المدن من قبل، وجرى فيها من الأعمال العظيمة والإنشاءات الجسيمة ما لم يجر في غيرها ولا يزول ذكره على الأبد، وتحاشدت إليها الجبايات والأرزاق وامتدت إليها أسباب التجارات من كل أوب، واتسع فيها نطاق الثروة والغنى حتى لقبت بمدينة الذهب.
وكان من أشهر ما أحدث فيها من الأعمال المذكورة والعظائم المأثورة هيكل بعلوس والقصر الملكي وحدائقه المعلقة. أما الهيكل فقد ذكره جماعة في جملتهم ديودوروس الصقلي وذكر أن بانيه بعلوس، وروى غيره أنه بختنصر، والصحيح أن بختنصر إنما جدد بناءه بعد خرابه على ما سنورد تحقيقه، وقد عاين هيرودوطس اليوناني مدينة بابل في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت قد انحطت عن عظمتها الأولى ووصف في جملة ما شاهده هيكل بعلوس بما تلخيصه: إن في كل شطر من شطري المدينة ما يستحق الذكر، ففي أحدهما بلاط الملك وهو فسيح محكم الإتقان، وفي الآخر هيكل بعلوس وهو باق إلى الآن على شكل مربع طوله إستادتان في عرض مثلهما، وله باب من الشبه وفي وسطه برج حصين طوله إستادة
1
في عرض مثلها، ويعلوه برج وفوق البرج برج، وهكذا إلى ثمانية أبراج بعضها فوق بعض يرقى إلى كل منها بسلالم من الخارج وفي وسط الأبراج مقاعد يستريح فيها الراقي إليها، وفي الأعلى منها معبد وسرير كبير وبجانبه مائدة ذهبية، وفي الأخير مسجد لبعلوس يوبتير وفيه سرير كبير حسن الفرش وبجانبه مائدة ذهبية، وليس فيه صور وتماثيل كما في غيره، ولا يبيت فيه أحد ليلا إلا أن تكون امرأة وقع عليها اختيار الإله تبعا لما يقول كهنته الكلدان، وعندي أن ذلك كلام لا صحة له، وفي الهيكل مسجد سفلي وفيه تمثال كبير من الذهب يمثل يوبتير قاعدا وكرسيه وموطئ قدميه وبجانبه مائدة، وجميعها من الذهب الخالص تساوي على قول الكلدان 800 زنة من الذهب.
2
وفي خارج هذا الهيكل مذبحان أحدهما من الذهب، ولا يضحى عليه إلا بما كان صغيرا من الحيوان والآخر كبير أعده الكلدان للذبائح الكبيرة المألوفة، وكانوا يوقدون على المذبح كل سنة في عيد الإله ثلاثة آلاف أقة من البخور، وكان في المقدس إذ ذاك صنم كبير من الذهب الخالص ليوبتير بعلوس قاعدا وارتفاعه اثنتا عشرة ذراعا يصفه الكهنة ولم أره، وكان داريوس بن هستاسب قد هم أن يأخذه عنوة، ثم لم يجترئ على ذلك فاستحوذ عليه بعده ابنه أكزرسيس وقتل الكاهن الذي مانعه من الاستيلاء عليه وحمل جميع ما فيه إلى خزائن قصره. هذا أخص ما في الهيكل، وفيه أيضا أوان يسيرة. ا.ه.
وذكره إسترابون المؤرخ بقوله: وقرب الحدائق المعلقة قبر بعلوس، وهو خراب تام خربه أكزرسيس وكان على شكل هرم مربع مبنيا بالآجر علوه إستادة واحدة في مثلها طولا لكل من جهاته، وكان في نية الإسكندر أن يعيد بناءه لأنه كان قد عزم على الإقامة ببابل وجعلها مباءة له ولأعقابه بعده، فعاجله الأمر المحتوم قبل تقرير ما نوى. وذكره ديودوروس في كلام من جملته قوله: وشادت سميراميس عدا هذه الأعمال هيكلا في وسط المدينة لا تتحقق عنه رواية صحيحة لاختلاف أقوال الكتاب فيه، إلا أنهم أجمعوا على أنه بناء شامخ الارتفاع في أعلاه مرصد للكلدان كانوا يرصدون منه حركات الكواكب فيعرفون أوقات طلوعها وغروبها، وهو مبني بالآجر والحمر وعلى أعلاه تماثيل يوبتير ويونون وريا وهي مغشاة بالذهب وأمامها مائدة مغشاة بالذهب أيضا، وكان عليها أوان وتحف كثيرة انتهبها ملوك الفرس. ا.ه. ومن الناس من يظن أن هذا البناء الذي يصفه هو برج بابل المعروف الآن ببرج نمرود وآثاره لا تزال بين أخربة بورسيبا على ما سنذكره بعد، وقد أثبتوا بعد الفحص المدقق أن ارتفاعه كان ينيف على أعلى رءوس الأهرام المصرية بمائة قدم، وإذا كان ذلك صحيحا فلا عجب إذا أحصاه المتقدمون في جملة الغرائب.
أما القصر الملكي فمنشؤه بختنصر، وقد ورد ذكره في كثير من مصنفات القدماء ولا سيما اليونان، فإنه ما برح عندهم محلا للعجب والاندهاش بالنظر إلى ما كان عليه من السعة والعظمة وغرابة الإتقان وما يليه من الحدائق المعلقة التي عدت في جملة عجائب الدنيا السبع، ومنشئها فيما روى ديودوروس ملك من أعقاب سميراميس، سألته ذلك حظية له من بلاد فارس أحبت أن يمثل لها ما في بلادها من الروابي المكسوة بخضرة الرياض والبساتين فأمر بإنشائها على ذلك المثال؛ ولذلك جعلها على هيئة سطوح قائمة بعضها فوق بعض، وكل واحد من هذه السطوح يتأخر عن الذي تحته على شكل ما يسمى بالإنفتياتر حتى كانت والأشجار عليها أشبه برابية خضراء ذات مروج وخمائل رائعة، وكانت هذه الحدائق مربعة الشكل طول كل جهة من جهاتها 4 فلترات؛ أي نحو 120 مترا، وكل سطح من السطوح المذكورة يرقى إليه بسلم بينه وبين الذي يليه والسطوح برمتها قائمة على عمد، وهي مفروشة بصفائح من الرضام طول الواحدة منها 16 قدما وعرضها 4 أقدام، وهذه الرضام مستورة بخيزران قد غمس في الحمر وفوقه صفان من الآجر المغموس في الجص، وفوق ذلك صفائح من الرصاص تمنع نفوذ الماء إلى ما تحتها من البناء إذا سقي ما فوقها من الأشجار، وفوق الرصاص التراب المغروسة فيه أشجار الحدائق ، وهو من الكثرة بحيث يمكن أن تغرس فيه أعظم سرحة، وكان هذا الموضع كله مغطى بالشجر المختلف والمغروسات الأنيقة ذات النشر والثمر، وفي داخل العمد المذكورة غرف رائعة الإتقان محكمة الوضع ينفذ إليها النور من خلال العمد، وهي الغرف الملكية، وكان أحد العمد أجوف من رأسه إلى عقبه وفي داخله آلات ترفع الماء من النهر فتصبه في الحدائق. ا.ه. هذه صفة هذه الحدائق في الجملة، وقد درستها الأيام فيما درسته من تلك العظائم العجيبة، فأصبحت تلا من الحجارة والأنقاض.
وذكر ديودوروس في جملة أبنية بابل قصرين أو قلعتين بنتهما سميراميس على كل من طرفي الجسر الذي ابتنته على النهر، فقال بعد ذكر بنائها للمدينة والسور: إنها بنت الجسر على أضيق موضع من النهر في طول خمس إستادات، وقد رفعته على قواعد راسخة في جوف الأرض بين الواحدة منها والأخرى اثنتا عشرة قدما، وشدت حجارتها بأربطة من حديد وعقدت بينها بالرصاص المذاب، وزلمت نواحيها المعرضة لمجرى الماء بحيث لا تتمكن منها قوة الماء في اندفاعه، وسقفت الجسر بخشب السرو والأرز على جوائز من جذوع النخل، وكان عرض الجسر 30 قدما، وهو يعد في جملة أبنية سميراميس العظيمة. قال: ثم بنت على كل من طرفي الجسر قصرا يشرف على سائر المدينة، أحدهما ينظر إلى شطرها الشرقي والآخر إلى شطرها الغربي؛ لأن المدينة كانت منقسمة كذلك؛ إذ كان النهر يخترقها من الشمال إلى الجنوب، فكان هذان القصران بمنزلة مفتاحين لشطريها المذكورين، وكانا على أتم صنعة من الإحكام والزخرفة. والقصر الغربي منهما محيطه 60 إستادة، وذلك نحو 11 كيلومترا وحوله سور شامخ من الآجر، ويليه من الداخل سور آخر من اللبن، وعليه صور من الحيوان بديعة الصنعة رائعة الإتقان يتخيل الناظر إليها أنها حية، وطول هذا السور 40 إستادة، وثخنه يعادل 300 آجرة، وارتفاعه على ما ذكر أكتزياس 50 أرجية وهي نحو 90 مترا.
ثم وجد أمام هذا السور سور ثالث أعلى منه، وهو يلي القصر من حوله، ومحيطه 20 إستادة، وكان على الأسوار والأبراج التي عليها صور من الحيوان في غاية الإتقان وصورة مشهد صيد فيه كثير من أنواع الحيوان، وهناك صورة سميراميس على فرس وفي يدها حربة قد طعنت بها نمرا، وبمقربة منها صورة نينوس زوجها وفي يده رمح يطعن به أسدا، وكان للقصر باب ذو ثلاثة مداخل ووراءه غرف من الشبه.
وأما القصر الثاني فكان دون هذا في الرونق والسعة، ولم يكن له إلا سور واحد من الآجر محيطه ثلاثون إستادة، وهي نحو 5520 مترا، وكانت فيه تماثيل لنينوس وسميراميس وجماعة من رجال الدولة والعمال، وكلها من الشبه وتمثال يوبتير، وهو الذي يسميه البابليون بعلوس، وفيه فضلا عن ذلك صور معارك ومصارعات ومشاهد صيد متقنة الوضع محكمة الصنع، وبين القصرين نفق ينفذ إليهما من طرفيه احتفرته تحت النهر ارتفاعه 12 قدما، وسعته عرضا 15 قدما، وسقفه معقود بالأجر في ثخن أربع أذرع مطليا بالحمر المذاب، وثخن الجدار 20 آجرة وأتمته في سبعة أيام. انتهى كلام ديودوروس ببعض تصرف، إلا أن أكثر أهل التحقيق على أن باني القصرين هو بختنصر كما تدل على ذلك كتابة له على بعض الآثار لا سميراميس التي نسب إليها ديودوروس جميع ما سوى الحدائق المعلقة من عظائم بابل، وأخربة القصر الشرقي من القصرين المذكورين باقية إلى الآن، وفيه كانت وفاة الإسكندر.
وبقرب أخربة القصر الملكي آثار مسافتها مائة متر يظن الباحثون أنها الحمامات التي ذكرها أريانوس، ويليها على مقربة منها أخربة يقال لها تل عمران، وهيئتها أشبه بربوة مضلعة تضليعا أفقيا طولها من الغرب إلى الشرق ستمائة وخمسون قدما، إلا أنها أدنى ارتفاعا من سائر الروابي التي تجاورها وعليها بقايا أبنية من الآجر، وقد احتفر فيها بعض السياح، فوجدوا قبورا مكدونية في بعضها أكاليل ذهبية حملوها إلى قصور التحف في أوروبا، ومن الناس من يظن أن هذه الأخربة هي بقايا الحدائق المعلقة التي مر ذكرها، إلا أن ذلك ضعيف؛ أما أولا فلأنه لم ير اسم لبختنصر على بقاياها كما هو دأبه في كل ما بناه أن ينقش عليه اسمه، فلو كانت هذه من أبنيته لم يتركها غفلا مع ما هي عليه من العظمة والغرابة حتى كانت تعد من جملة عجائب الدنيا، وأما ثانيا فلأن مساحة الحدائق المذكورة كانت 400 يرد لكل جهة من جهاتها والأخربة المذكورة طولها 1100 يرد، فبين المساحتين تفاوت بعيد، والله أعلم، وفي جملة ما كشفه الباحثون في بابل أثر سور في جانب النهر قالوا إنه السور الذي بناه نبونيدوس ملك بابل، وقد ذكره بيروسوس فقال: إنه يمتد من طرف السور الشمالي الذي دخل منه قورش مدينة بابل إلى منفذ الفرات في الجنوب، وعليه فتكون مساحة السور مساحة مدينة بابل كلها، والمظنون أن بناءه كان لصيانة الجانب الأدنى من المدينة حين طغيان الماء، ووجدوا أيضا آثارا يقولون إنها من بقايا الجسر الذي ذكره هيرودوطس وديودوروس الصقلي، وقال قوم إنها من آثار الأسوار التي كانت لكل من القصرين على جانبي النهر.
وكانت بابل هذه مربعة الشكل طول كل جهة من جهاتها اثنان وعشرون كيلومترا، وذكروا أن أول من بنى عليها سورا بلأدان، إلا أن هذا الاسم يطلق على غير واحد من ملوك بابل يتعذر معرفة زمان كل منهم وتعيين المراد منهم هنا، وفيما قرره بعضهم أن المراد به مرودخ بلأدان الذي كان في خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ويرد عليه أن معظم أهل التحقيق على أن نيوبت بيل، وهو السور الأوسط بنته سميراميس وكان عهدها في أواسط القرن التاسع، وعليه فيكون السور الأوسط قد بني قبل الأصغر وهو مخالف لمقتضى النظر؛ إذ السور إنما يبنى للإحاطة بالبلد، فإذا كان البلد محاطا بسور فلا معنى لبناء سور آخر في داخله، ولعله بين بلأدان الذي كان في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فقد تحقق من الآثار أنه سور بعض مدن بابل والله أعلم، وكان السور المذكور يسمى نيوبت مرودخ؛ أي مسكن مرودخ وهو إله لهم مشهور، ولعل هذا أصل ما ذهب إليه بعضهم من نسبة بنائه إلى مرودخ بلأدان للملابسة بينهما في التسمية، وأثر هذا السور فيما يقال باق إلى الآن، وهو لا يحيط إلا بقسم صغير من أخربة بابل .
ثم إنا إذا تتبعنا كتابات الملوك يجتمع لنا عدة أسوار لبابل، وذلك أن بعضا منهم كانوا يكتبون أسماءهم على أبنية هذه المدينة ويباهون بأنهم قد شيدوا لها أسوارها وشحنوها بالقلاع الكبيرة كبختنصر؛ حيث يقول على بعض تلك الآثار: إني بنيت أميغور بيل ونيوبت بيل سوري بابل العظيمين، مع أن نيوبت بيل كان قبل بختنصر بزمن بعيد، ولعل الواقع أن أحدهم كان إذا رم في أحد الأسوار موضعا متهدما أو بنى شيئا من أبراجه سواء كان هو واضعه أم أصلح فيه شيئا، يدعي أنه هو بانيه استئثارا بالفخر والذكر الدائم، ونيوبت بيل المذكور هو السور الأوسط الذي يلي نيوبت مرودخ وبانيه في قول المحققين سميراميس على ما مر ذكره، ولا يبعد أن تكون هي أسسته وقد تكون رسمته فقط ثم أتمه الملوك من بعدها، وبيل اسم إله آخر لهم ومعنى التسمية مسكن بيل، وارتفاع هذا السور بإجماع المؤرخين كان نحو خمسين ذراعا، وثخنه ثماني عشرة ذراعا، ومحيطه 84000 ذراع، وارتفاع أبراجه مائة وعشر أذرع، ومساحة البقعة التي يحيط بها 383300 ذراع مربعة. ثم لما اتسع نطاق بابل وكثر سكانها لم يبق موضع لإقامة أبنية جديدة في داخل السور، فأخذ الناس يبنون في ربض المدينة حتى كثرت الأبنية والتفت من حول السور، فأخذ بختنصر في بناء سور جديد وراء الأول وسماه أميغور بيل ومعناه بعل يصون، وكان هذا السور أرفع كثيرا من السور الأوسط الذي هو نيوبت بيل، ولكن لا يتأتى لنا تحقيق قياسه لاختلاف أقوال المؤرخين فيه، والذي يتلخص من مجموع كلامهم أن ارتفاعه كان نحو تسعين ذراعا، وثخنه نحو 85 ذراعا وأن أبراجه كانت أعلى منه بمائة قدم، وكان مكتنفا بخندق من جهتيه؛ ولذلك لما سقط تكورت أنقاضه في ذلك الخندق وتبدد ما بقي منها على تمادي الزمان، فضل رسمه وعفا أثره ولم يبق دليل على موقعه الأصلي، وقد أورد هيرودوطس ذكره فقال: إن السور الكبير يحيط بالمدينة على شكل مربع في طول 120 إستادة لكل جهة من جهاته، ويسمى أميغور بيل ومساحة الأرض التي يحيط بها 513 كيلومترا مربعا. ا.ه. وكان لأميغور بيل مائة باب من الشبه، وهو ضرب من النحاس الأصفر لكل جهة من جهاته خمسة وعشرون بابا تغلق إذا خيف مهاجمة عدو للمدينة، وكان لهذه المدينة على ما رواه قوم من قدماء المؤرخين أسواق مستقيمة تمتد من كل من هذه الأبواب إلى ما يقابله في الجهة الأخرى، وبذلك انقسمت المدينة إلى 625 مربعا أو حواء في كل منها حدائق ومروج فسيحة فيها من جميع أنواع الأشجار المثمرة وأصناف البقول والرياحين، حتى قال أرسطاطاليس: إن صح أن تدعى بابل مدينة واحدة فالبيلوبونسية بأسرها تحسب بلدا واحدا. ا.ه. وقد اختلفت الأقاويل في محيط السور على أنحاء شتى، ولعل ما قاله فيه هيرودوطس هو الأصح لما أثبته كثيرون من أن القياس الذي ذكره له هيرودوطس، وهو أربعمائة وثمانون إستادة موافق تماما لما ذكره بختنصر؛ حيث قال: إني قست أميغور بيل سور بابل العظيم الذي لم يسبقني إلى بنائه ملك قبلي، فكان أربعة آلاف مهرغاغار وهي مساحة بابل. ا.ه. وكان أول افتتاح بابل على يد قورش، وهو الذي أخذ أبواب السور، وجاء بعده داريوس فخرب جانبا منه، ويظن أن خراب هذا السور تم في عهد أكزرسيس وأرتكزرسيس، ولم يبق في عهد الإسكندر إلا السور الثاني المسمى نيويت بيل، ولعل هذا سبب الخلاف الذي بين هيرودوطس ومن تأخر عنه من المؤرخين؛ لأن هيرودوطس لما قدم بابل كان أميغور بيل قائما، فما ذكره من قياس السور إنما كان لأميغور بيل، والذين جاءوا بعده لم يروا إلا نيويت بيل وهو أصغر منه، فهم إنما قاسوا غير السور الذي قاسه هيرودوطس.
هذا معظم ما اتصل إلينا وصفه من أبنية هذه المدينة وغرائبها وهي قديمة عهد بالخراب، فقد ذكر ديودورس أنها كانت في أيامه قد ناهزت الدروس. قال: وفي بابل عدة أبنية عظيمة من أبنية الملوك وغيرهم يتعذر علي وصف ما كانت عليه في إبان أمرها؛ لأنه لم يبق منها إلا بقايا شاخصة ورسوم ناقصة. ا.ه.
أما موقع بابل فقد اجتمع العلماء وأرباب البحث، على أنه المكان الذي فيه تلك الأخربة العظيمة الممتدة إلى مدى شاسع قرب مدينة الحلة على مسافة خمسة أميال منها على ضفة الفرات كما مر ذكره، ومن هذه الأخربة يستدل على ما كانت عليه سالفا من العظمة والأحكام، ومع اتفاقهم على أن هذه البقايا هي بقايا مدينة بابل المشهورة فإنما هو حكم استدلال وغلبة ظن لا يقين قاطع؛ إذ لم يجدوا هناك ما يقضي بالجزم ولم يجدوا مع ذلك ما يناقض هذا الاستدلال فصار قسما بمنزلة اليقين. ثم إن معظم هذه الأخربة واقع على ضفة الفرات الشرقية وليس على الضفة الغربية إلا جانب صغير، ومن الناس من يقول إن ملوك بابل في إبان أمرها كانوا قد حولوا النهر إلى وسط المدينة وزينوا جانبيه بالرصف المتقنة، فكان يقسم المدينة إلى شطرين متآزيين كما أسلفنا ذكره. فلما انقضى أمر أولئك الملوك وسقطت دولتهم أخذت المدينة في الانحطاط وأخطأتها عناية المرممين، ومال النهر مع كرور الأيام إلى مجراه الأصلي شيئا بعد شيء مستعرضا إلى جهة الغرب حتى عاد إلى موضعه القديم.
ويؤيد هذا القول أنا نرى بقايا الشطر الشرقي من المدينة أبين آثارا وأعرف رسما، حتى إن بقايا الرصيف الذي على ميسرة الفرات لم تزل إلى يومنا هذا وعليها اسم آخر ملوك بابل بخلاف الشطر الغربي؛ فإن ماء النهر قد جرف تلك الأبنية وترك موضعها قاعا بورا، ومما يزيد هذه المدينة غرابة أنها مع عظم أبنيتها وكثرتها واتساعها كانت تلك الأبنية من طين كانوا يخلطونه بالحمر، ويصنعون منه قطع الآجر واللبن طبخا بالنار أو تجفيفا في الشمس ويبنونها موضع الحجارة؛ لأن الصخر قلما يوجد هناك، وبذلك قامت تلك الهياكل العظيمة والأسوار الشامخة والمعاقل الحصينة التي صبرت على مهاجمات الزمان وسطوات الأقدار قرونا متوالية، وبعد خرابها بقيت زمنا طويلا بمنزلة مقلع تنقل منه مواد البناء إلى ما يجاورها من البلاد؛ حتى إن سلوقية وأكتزيفون وبغداد والكوفة والحلة وغيرها من المدن بنيت من بقايا بابل فضلا عما بقي فيها من جبال الأنقاض المنتشرة في تلك النواحي، وخلالها بقايا رسوم لا يأويها إلا البوم والغراب، وقد تحققت فيها نبوة رجال الله ولا سيما أشعيا القائل: ويكون من أمر بابل التي هي بهاء الملك وزينة فخر الكلدانيين، كما كان من تقليب الله لسدوم وعمورة، فلا تعمر أبدا ولا يأوي إليها ساكن من بعد ولا يخيم هناك أعرابي ولا يربض راع سرحه، لكن يربض هناك وحش الصحراء ويملأ بيوتهم البوم وتسكن هناك رئال النعام وتطفر معز الوحش وتصيح بنات آوى في قصورهم والذئاب في هياكل ترفهم (13 : 19 إلى آخره).
ومدينة الحلة مبنية على آثار أخربة بابل، قيل أحدثت سنة 1093 ميلادية وبانيها صدقة بن منصور، ويستفاد من بعض الكتب أنها كانت في أول أمرها مقام قبيلة من العرب، وهي اليوم قرية دنيئة وغالب سكانها قوم صعاليك، وهناك محط للمسافرين من خليج فارس إلى بغداد، وفي شمالها الشرقي آثار عديدة يظن أنها من آثار مدينة القوطيين الذين كانوا يعبدون زحل أو المريخ، وفي الجهة الجنوبية منها قاعدة صنم كبير يقال إنها قاعدة الصنم الذي نصبه بختنصر وهو المذكور في سفر دانيال.
ذكر مدينة بورسيبا
وكان بين أميغور بيل ونيويت بيل موقع مدينة بورسيبا المشهورة، وبورسيبا كلمة آشورية مركبة معناها برج اللغات، ويستدل من الآثار والتقليد البابلي القديم أنه فيها كانت بلبلة الألسنة كما تشير إليه تسميتها، وتعرف أخربتها اليوم ببرج نمرود وهي تبعد أربعة كيلومترات عن نهر الفرات، وهناك آثار البرج، وهي عظيمة شاخصة في السماء على شكل هرم، وارتفاعها إحدى وستون ذراعا، ومحيطها تسعمائة وثلاثون ذراعا، ومعظمها كأنه تل من الأنقاض في غربيه قطعة من حائط عظيم قد تعاصت على كرور الحوادث، يبلغ ارتفاعها سبع عشرة ذراعا، وطولها اثنتا عشرة ذراعا، وثخن الحائط اثنتا عشرة ذراعا أيضا، ويتصل أعلى هذا الحائط بسطح طوله مائة وأربع أذرع، ويظن أن هذا الحائط من بقايا الهرم الأصلي وارتفاعه نحو سبع عشرة ذراعا.
وكان هذا البرج يسمى بهيكل عوالم الكون السبعة يعنون بها السيارات السبع التي كانوا يعرفونها وقتئذ كما سنورد تفصيله. وزعم قدماء الكلدانيين أن بانيه ملك من ملوكهم، وذلك عقب الطوفان بزمن يسير ثم جدد بناءه بختنصر على رسمه القديم كما يتضح ذلك من كتابة له وجدت من عهد قريب، وذلك أن رولنسون الإنكليزي وجد في أخربة هذا البرج سنة 1854 ناجودين من الخزف البابلي فحملهما إلى دار الآثار في لندرة، وكانت على إحداهما كتابة يقول فيها: أنا بختنصر ملك بابل قد جددت بناء الهرم والبرج ذي الطباق. أنا ابن نبوبولاصر ملك بابل ولدني مرودخ الإله العظيم وأمرني بتشييد معابده. إن الهرم هو أعظم هيكل في السماء وعلى الأرض وهو مقام مرودخ رب الآلهة، وأنا جددت مقدسه مكان قرار جلاله بالذهب الإبريز وجددت برجه ذا الطباق الذي هو مقر الخلد وشيدته بالذهب والفضة ومعادن أخرى وبالآجر المرصع بالميناء وخشب السرو والأرز وأتممت زينته، والبنية الأولى التي هي هيكل قواعد الأرض القائم بها تذكار بابل قد أتممتها وأقمت أعلاها بالآجر والشبه، وأما البنية الثانية التي هي هيكل سبعة أنوار المسكونة القائم بها تذكار بورسيبا، فكان قد شرع في بنائها أول الملوك ولم يتمها إلى أعلاها وبيني وبينه اثنان وأربعون زمنا. ثم أهملت دهرا مديدا، وأعيا الملوك الذين سلفوني مقصدهم من تشييدها، فأخذتها السيول والعواصف وزعزع زلزال الأرض اللبن وحطم الآجر المطبوخ وأتلف لبن الطباق، فكان روابي مركومة. فشدد مرودخ الإله الكبير عزمي لإعادة بنائها، فأعدتها من غير تغيير في موقعها ولا تعطيل في أسسها، وفي شهر الختام في النهار السعيد حوطت الطباق من اللبن والآجر المطبوخ بأروقة وجددت السلم المستديرة ونقشت اسمي المجيد في إفريز الأروقة، وقد أسست البناء وجددته على وفق ما رسمه من تقدمني حتى عاد كأنه قد بني في سالف الأزمنة. ا.ه. وهذا البرج من أهول ما بناه البابليون وأجله خطرا وأعظمه شأنا، وكان بمنزلة هيكل سباعي للآلهة السبعة التي يلقبونها بسبعة أنوار المسكونة، وكانت له سبع طباق كل طبقة منها خصصت بواحد من تلك الآلهة. فأول طبقة منه وهي السفلى كانت لزحل ولونها أسود، والثانية للزهرة ولونها أبيض، والثالثة للمشتري ولونها بردقاني، والرابعة لعطارد ولونها أزرق، والخامسة للمريخ ولونها قرمزي، والسادسة للقمر ولونها فضي، والسابعة للشمس ولونها ذهبي، وقد ذكرنا أن من الناس من استدل على أن بلبلة الألسنة كانت في هذه المدينة، وهم يقولون إن البرج المشار إليه هو البرج المذكور في الفصل الحادي عشر من سفر التكوين، وعلى ذلك تحول الحادثة المذكورة هناك من مدينة بابل إلى بورسيبا، وقد كثرت أقوالهم في هذا البرج وواضعه وعلة بنائه على أنحاء شتى. فذكر يوسيفوس أن واضعه نمرود بناه بعد الطوفان لينجو الناس إليه إذا حدث طوفان آخر، وذهب غريفل إلى أن أول من بناه ملك من أقدم ملوك تلك البلاد أراد أن يكون ذكرا مخلدا للبلبلة؛ أي بلبلة اللغات، وذكر أن ارتفاعه اثنتان وأربعون ذراعا - أو مقياسا آخر لا يعلم ما هو - وذهب غيره إلى أنه هو هيكل بعلوس الذي ذكره هيرودوطس، وقال إنه ذو ثمانية أبراج أو طباق بعضها فوق بعض وقد تقدم ذكره، وقال قوم إنه كان بناء عظيما ذاهبا في العنان، استلزم لإقامته عددا غفيرا من العملة، وكان المشتغلون فيه في أول الأمر جميعهم بابليين يتكلمون بلسان واحد، فألجأتهم الحال لتعجيل العمل أن يستعينوا بعملة آخرين من غيرهم، فحشدوا لذلك بنائين ونحاتين من أمم مختلفة يتكلمون بألسنة شتى. فلما كانوا في بعض الأيام هبت عواصف شديدة فنسفت رأس البرج، فخيل لهم أن الآلهة فعلت ذلك وبلبلت ألسنتهم فكفوا عن بنائه، وشاع هذا الاعتقاد بين الكلدانيين من ذلك الوقت.
ويظهر أن بورسيبا في أوائل الأجيال النصرانية كانت معمورة بالأبنية والهياكل، وقد ذكرها إسترابون على حالها الأخيرة فقال: إن بورسيبا المعروفة الآن باسم بروس هي من المدن المشهورة بنسج الكتان، وفي جملة أبنيتها هيكلان فاخران أحدهما لأبولون والآخر لأرطاميس أخته، قال ويكثر في نواحيها الخفاش وهو أكبر من الخفاش المعروف عندنا وهم يأكلونه وبعضهم يدخره مقددا ومملوحا إلى حين الحاجة. انتهى. وعلى مسافة يسيرة من أخربة بورسيبا آثار قديمة العهد جدا وتعرف بإبراهيم الخليل، وفيها على ما قال كثيرون هياكل أو ونينيب سمدان ونانا التي ذكر بختنصر أنها من بنائه، وهناك قبة في الموضع الذي يقال إنه فيه طرح نمرود إبراهيم الخليل في أتون النار وبقربها تلة يبلغ ارتفاعها أكثر من ثلاث وثلاثين ذراعا، وطولها نحو 460 قدما وهي على ما قيل نفس الهرم الذي ذكره إسترابون وقال إنه قبر بعلوس وهو غير ثبت، وفي تلك النواحي أخربة كثيرة حفر فيها بعض السائحين، فوجدوا تحفا كثيرة من أوان وآجر وغيرها، وقالوا إن محيط الآثار فيها يبلغ ميلا.
ذكر سلوقية وأكتزيفون
ومن مدن بابل التي اشتهرت في عصر الملوك البرثيين سلوقية وأكتزيفون اللتان مر ذكرهما، بنى الأولى سلوقوس وهو أحد أعقاب الإسكندر الرومي فسميت باسمه، أراد بها مساماة بابل وحط ما كانت عليه إلى ذلك الحين من العز والفخامة وجعلها مباءة له، فشيد بها المباني الحافلة والمصانع العظيمة والهياكل المرتفعة، وهو الذي بنى سورها فيما يظن فصارت تعد من المدن الكبيرة بآسيا، وكان موقعها على ميمنة دجلة وبقربها على بعد 4000 أو 3500 متر عن ضفة النهر المذكور إلى الغرب مصب نهر دلاس، وهو يصب في دجلة وبين دلاس ونهر عيسى المعروف بالترعة السقلاوية 1500 متر، وكانت سلوقية تجاه مدينة أكتزيفون ولم يكن بينهما إلا مياه دجلة. قال بلينوس: وكثيرا ما يطلق على سلوقية اسم بابل وهي الآن مستقلة، والشائع أن سكانها ينيفون عن ستمائة ألف نسمة وهيئة حدودها على شكل نسر ناشر جناحيه. ا.ه. وقد افتتح هذه المدينة فيروس الروماني ودك سورها وأخربها جملة. قال المؤرخ أميانوس مرشلينوس عند ذكر هذه الحادثة: لما استحوذ قواد قيصر على سلوقية حملوا جميع كنوزها وغنائمها إلى رومية، وكان في جملة ما نقلوه صنم لأبولون أقامه الكهنة وجعلوه في هيكل له في جبل بلاتين. قال: وبعد هذه الحادثة بأيام رأى بعض الجنود منفذا صغيرا بين الأخربة، فظنوا أن هناك مغارة تخيلوا أن فيها كنوزا ثمينة، فلما حفروا انبعثت من الأرض رائحة كريهة نشأ عنها وباء ذريع، ففشا بين الناس ومات به خلق كثير وما زال فاشيا حتى انقضى عهد فيروس، وقام بعده مرقس أنطونينوس، والوباء ممتد من حدود مملكة فارس إلى نفس غاليا. ا.ه.
وأما أكتزيفون فموقعها على ضفة دجلة الغربية، وهي من بناء الملوك البرثيين، وأول من شرع في بنائها وردانوس، وقام بعده باكوروس فأقام لها سورا حصينا وشاد في داخلها أبنية عديدة، وكان من أكبر علل نجاحها سقوط مدينة بابل، ثم عقبه انحطاط سلوقية عن عظمتها فزاد ذلك في عمارتها وارتفاع شأنها، وكانت مباءة للملوك البرثيين، فكان لها بذلك الحظ الأكبر وتواردت إليها الثروة والجاه، وكثرت فيها المعاقل والحصون وأسباب القوة والمنعة وتعددت فيها الهياكل والأبنية العظيمة؛ إذ كان كل واحد من أولئك الملوك يزيدها من تلك الأبنية ما يفوق به من سلفه حتى صارت بعد حين من أعظم مدن فارس، وما زالت في تلك العظمة والرفعة إلى أن زحف عليها تريانوس القيصر الروماني فضربها واستفتحها عنوة واستباحها بالقتل والنهب، وكل من تخلف عن طاعته من أهلها أخذه أسيرا وذلك سنة 115 ميلادية. ثم اقتدى به فيروس فنهض إلى سلوقية وأخذها على ما أسلفنا ذكره وزحف منها إلى أكتزيفون فمحا ما بقي من آثارها وردها قاعا صفصفا، وبقاياها اليوم تبعد ست ساعات عن مدينة بغداد على مسافة ميل عن ميسرة دجلة، ويقال إنه استؤنف بناء سورها في أوائل عهد النصرانية، بدليل أن كثيرين من قياصرة الرومان من كراسوس إلى يوليانوس قصدوها فعجزوا عن أخذها وكاد بعضهم يتفانى تحت أسوارها.
وعليه فالظاهر أن الأخربة الباقية منها الآن هي من بقايا تجديدها ومحيطها ميلان، وقد بقي جانب من سورها ظاهرا من بين الأنقاض، وهو مبني بالآجر الذي نقل من أخربة بابل، وثخنه يعادل ثخن الأسوار الكبيرة ويكون ذلك إلى 300 آجرة، وفي أواسط الأخربة أثر قصر عظيم يقال له سرير إيوان كسرى أو سرير كسرى ويراد به باب النصر، وهو من بقايا قصر بناه أحد الملوك البرثيين، ومن الناس من يظن أنه هيكل لمعبود الشمس أو النور استدلالا بأثر كشفوه هناك، وقال آخرون إنه بنية أقامها ملك من الملوك الأوروبيين كان افتتح هناك فتوحات فبنى هذا القصر ذكرا له، ومهما يكن من ذلك فإنه بناء عظيم واسع قديم العهد من أكثر من ألفي سنة وهو مبني بالآجر واللبن، وقد أصبحت جميع جدرانه ما خلا الشرقي منها خرابا تاما، وطول هذا الجدار مائتان وسبعون قدما وارتفاعه ست وثمانون قدما، وفي وسطه قنطرة يليها عقد غوره مائة وأربع وثمانون قدما، وارتفاع القنطرة خمس وثمانون قدما، وعرضها ست وسبعون قدما، وثخن جدارها ثلاث وعشرون قدما؛ ولهذا الجدار ستة أبواب متنوعة الأشكال في كل شطر من شطريه على جانبي القنطرة ثلاثة أبواب، وفيه أربعة صفوف من الكوى غور الواحدة منها قدم في مثلها طولا وعرضا يظن الناظر إليها أنها وكنات طيور، وينبعث الضياء إلى داخل القصر من غير هذا الجدار، وعلى مقربة من القصر جامع كبير يزوره مسلمو تلك النواحي، وهناك بعض أخربة على شكل تلال لم يتيسر للباحثين الوقوف على حقيقتها، وتعرف أراضي أكتزيفون وسلوقية وما في جوارهما بالمدينتين أو المدائن.
ذكر أور
وأقدم مدن الكلدان أور أو أور الكلدانيين كانت في أول أمرها دار مملكة، وكان بها مقام الكهنة وفيها من الهياكل ما لا نظير له سعة وإتقانا حتى كانت مركز الدين عندهم، وهي التي دعي منها إبراهيم الخليل - عليه السلام - حين أمره الله بالهجرة إلى أرض كنعان وذلك في أوائل القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، ويستفاد من الكتاب المقدس أن كدر لعومر العيلامي كان مقيما بها في عهد إبراهيم المذكور، وفي الآثار ما يؤيد ذلك، وقد علم منها أيضا أن بعض تلك الهياكل من بنائه، وفي آثار أخرى أن أورخامس هو الذي حصنها وبنى عليها سورا ضخما وجعلها مباءة للملك، وذلك قبل عهد كدر لعومر بزمن مديد وشاد فيها هرما عظيما تخليدا لذكره، يظن بعض الناس أنه هو الهرم الذي زعم كثيرون أنه برج البلبلة المذكور في الكتاب، وقرئ على بعض تلك الآثار أنه ابتنى في أور هيكلا فاخرا جعله لمعبود القمر، وقد كشف الإفرنج هذا الهيكل ووجدوا على حائط منه صورة أورخامس وكتابات بالقلم القديم تشهد بأنه هو بانيه، ومن ملوك أور إسمي داجون وتنسب إليه هياكل بناها لمعبودي الشمس والقمر، وفي عهده بلغت أور ذروة العز والشهرة حتى صارت كما في بعض الآثار فريدة المدن، وكان نقل العاصمة منها إلى مدينة بابل في عهد همورابي.
ومنذ ذلك الحين استتبت في أور الراحة والسكينة لخلوها عن قلاقل الملك وانحياز من يقصدها بالشر إلى مقام الملك في بابل، غير أنه فاتها بعد ذلك ما كان يتوارد إليها من أسباب الغنى والثروة وانتقل كل ذلك إلى مدينة بابل، وآخر من يذكر من الملوك على آثارها نبونيدوس وكانت وفاته سنة 540 قبل الميلاد، ولم يكن له آثار كما لغيره ممن سلفه، وأور اليوم خراب تام ويعرف موقعها بالمغاور، وقد كشف فيها أهل البحث من الإفرنج قبورا قديمة العهد جدا وهي في داخل الأرض مبنية بالآجر طول الواحد منها سبع أقدام في ثلاث عرضا وخمس سمكا، ومعظم ما بقي من أخربتها بقايا هياكل لسين وهو إله لهم سيذكر بعيد هذا، ولعل ما يجاور أور من البلاد إنما سماه اليونان باسم مسيني اشتقاقا من اسم هذا الإله لكثرة تماثيله فيها. أما تسمية هذه المدينة بأور ففيها أقوال أشهرها أنها سميت بذلك لحصانتها، ومعنى أور الحصن، وقال آخرون: إنها سميت بذلك لكثرة هياكل النار فيها، ومعنى أور في لغتهم النار ولعله الأصح، وأور هذه في رأي أكثر المحققين أنها كلنة القديمة، وموقعها في المكان الذي يقال له المغاور على ما أسلفنا ذكره وذلك قرب ملتقى نهري دجلة والفرات، ومنهم من يقول إنها مدينة أورفا الحالية استدلالا بقرب موقعها من حران مع تقارب الاسمين، وهو منقوض بما أوردنا ذكره من شهادة الآثار، وقيل غير ذلك مما لا فائدة من استيفائه، والله أعلم.
ذكر مدن أخرى ببابل
ثم إنه ورد في الفصل العاشر من سفر الخلائق ذكر أربع مدن في أرض شنعار، وهي بابل وأرك وأكد وكلنة، وإن هذه المدائن كانت أول ملك نمرود ولم يذكر أن نمرود هو بانيها؛ ولذا يصح أن يقال إنها كانت قبله وأن الطورانيين وهم أول من وفد على مملكة بابل هم الذين ابتنوها، والذي ظهر بعد مطالعة الآثار أن هذه المدن الكبيرة ما برحت عواصم لملوك تلك البلاد وعلى الخصوص في بعيد الأزمنة، لانفرادها إذ ذاك باتساع الثروة وكثرة العمران وانحطاط سائر المدن المشهورة عما بلغته من المنعة والأبهة، وكان فيها مقام الأمراء وأعيان الدولة، وكان من تبوأ منهم أريكة الملك يجعل سريره في المدينة التي ولد فيها ويسمي نفسه ملك الأقاليم الأربعة، يعني المدن الأربع المذكورة؛ إشارة إلى أنها كلها في حوزته وتحت ظله وإن لم يكن مقامه إلا في إحداها، ولم تلبث هذه المدن عقب أن بدأ فيها الخراب إلا قليلا حتى صارت قاعا صفصفا بعد أن خدمها العز نحو عشرين قرنا من الدهر، ولم يبق منها إلى عهدنا هذا سوى رسوم دوارس لا تزيد على معرفة مواقعها القديمة في الجملة. فأما تمييز بعضها من البعض الآخر بأسمائها فلم يبق عليه دليل، وإنما الناس يأخذون في ذلك بالظن، فمن قائل إن مدينة أرك هي المعروفة اليوم بورقاء أو أرقاء وموقعها على عدوة دجلة عند حدود بابل وشوشانة، وذهب قوم إلى أنها هي التي كانت تعرف عند الأقدمين بإيذسا، وقيل بل هي أورخوه التي ذكرها جماعة من متقدمي المؤرخين، وقالوا إنها على نحو أربعين ميلا من بابل، ولعل الصحيح كما قاله بعض المحققين إنها كانت في موقع الأخربة المعروفة اليوم بالأراق ومنها اشتق اسم العراق، وموقع هذه الأخربة بين مدينة الحلة وملتقى نهري دجلة والفرات وجميعها قديمة عهد بالخراب، ومعظمها بقايا هياكل لسين وبعض أبنية أقامها ملك من ملوكها كان يقال له سين سيد، وسين عندهم اسم للقمر وكانوا يعبدونه في أرك وما يجاورها، ولذلك كانوا يسمون أرك مدينة القمر، وكانت له فيها هياكل كثيرة، وكان أكثر الملوك الذين تبوءوا سريرها في ذلك العهد يقرنون أسماءهم بلفظة سين تبركا كسين سيد المذكور وقمر سين ونارام سين، إلى غير ذلك.
وأما أكد فموقعها إلى الشمال الشرقي مما بين النهرين وهي التي يقال لها نيبور؛ أي مدينة الإله الكبير وتسمى أيضا نيغار؛ أي مدينة إله الأرض يعنون به ملك الملوك؛ وذلك لأن ملوكها حينئذ كان لهم التقدم على سائر ملوك تلك البلاد، وقد وفق فيها منقبو الإفرنج إلى الوقوف على بقايا هيكلين من بناء أورخامس، أحدهما لإله الجلد والآخر لبيليت تاءوث أم الآلهة، وهناك أخربة شتى غير هذين الهيكلين يقولون إنها من نحو أربعين قرنا، وعليه فيكون عهدها قبل استيلاء العرب على بابل بزمن بعيد، وفي جملة ما وجد فيها حلي معدنية ضخمة الأشكال تدل على تقادمها، ومن الناس من يزعم أن أرك هذه هي مدينة نصيبين استنادا إلى تقليدات كانت عند اليهود في أيام إيرونيموس، وفي ذلك كله أقوال وآراء شتى لم يصل إلى تحقيقها أرباب البحث فنقتصر منها على ما ذكر، وأما كلنة فهي التي يطلق عليها أهل البلاد اسم المدينة وأكثر المحققين على أنها أور الكلدانيين على ما قدمناه قريبا في الكلام على هذه المدينة.
ومن مدن بابل التي كشفها المتأخرون مدينة صفيرة ذكروا أن بانيها الأول أورخاموس وكثير من أخربتها باق إلى اليوم، وقام بعده ساغركتياس وهو الذي بنى فيها الهيكل العظيم الذي ذكره بيروسوس وقال: إنه مبني في نفس الموضع الذي خبأ فيه أكسيسوثروس حين الطوفان السجلات المسطر عليها تاريخ الخليقة وأخبار الأيام الأولى وأسرار التنجيم والكهانة وغير ذلك، وقد كشف هذا الهيكل بعض سياح الإفرنج فوجدوا في جملة ما كان فيه آنية من المرمر الأبيض الخالص، وهي مزخرفة غاية الزخرفة وعليها اسم نارام سين ومعناه المبتهل إلى سين، وهو من ولد ساغر كتياس مشيد الهيكل المذكور، وقال الباحثون: إن الكتابة التي وجدت على الآنية المذكورة هي أشبه بالكتابة الموسومة بها أبنية أورخاموس، فاستدلوا بذلك على أن هؤلاء الملوك طائفة واحدة.
ومنها مدينة إيس أو إيوبوليس وموقعها على الضفة الغربية من النهر المنسوب إليها وهو يدفع في الفرات على مقربة منها، وأشهر من ذكرها من القدماء هيرودوطس فقال: إنها تبعد ثمانية أيام عن بابل وموقعها على نهر يسمى باسمها يجر ماؤه كثيرا من الحمر، ومنه كان البابليون يحملون الحمر لبناء أسوار مدينتهم. ا.ه.
وقد دثرت هذه المدينة من زمن مديد وكان أعظم أسباب خرابها مجاولة أمراء العرب فيها منذ أيام الجاهلية، وعلى موقع أخربتها اليوم قرية حقيرة تعرف بهيت وفيها كثير من النخل على ضفتي النهر ومن حولها الحمر، وفيها ينابيع من النفط قد اشتهرت بسببها، وسكانها يقاربون ألف نسمة ومعظم أبنيتهم من الحصى المتلاحمة بالحمر واللبن.
ذكر مملكة آشور
آشور بتشديد الشين إقليم كبير متسع من آسية تعرف ناحيته اليوم بكردستان، وهو كريم البقعة غاية في الخصب يخترقه أنهار أربعة كبيرة أحدها نهر دجلة، وليس في ذلك الإقليم أحسن منظرا منه ولا أقوى اندفاعا ولا أكثر سرعة في سيره يضاهي الفرات، وبعده نهر أربيس ونهر غرغوس ونهر زابيس، ويتخلل هذا الإقليم جبال متشعبة وأودية كثيرة كانت مشحونة بالبساتين الأنيقة والجنات النضيرة، إلا أن أكثرها اليوم قد عاد قفرا غامرا، وكان لآشور من المدن الكبيرة والقلاع الحريزة والضياع الخصيبة شيء كثير جدا، وكانت في أول أمرها ضيقة البقعة قليلة العمران، وفيما ذكره موسى النبي - عليه السلام - ما يستفاد منه أن حدها الغربي لم يكن يتجاوز دجلة، وليس في كلامه ما يدل على أنها كانت مملكة في ذلك العهد، ولكنها عقيب ذلك أخذت تتوسع بكثرة الأبنية والسكان ومد العمارة، حتى بلغ طولها خمسمائة ميل في عرض نصفها فيما يقال على التقريب، فتكون مساحة أرضها ما ينيف على مائة ألف ميل مربع.
وقد خبط المتقدمون في الكلام على آشور خبطا عجيبا لا يكاد يتخلص منه تحقيق تاريخها، وأغرب ما هنالك أن ديودورس لم يفرق بين آشور وسورية؛ لأنه يقول في بعض كلامه عن هذه المملكة ما معناه أن نينوس رام أن يخلد لنفسه ذكرا ويصنع ما يعقبه فخره، فأخذ في بناء مدينة كبيرة في سورية يقر فيها سرير ملكه ويجعلها مباءة له ولأعقابه، بحيث لا يكون لها شبيه ولا يتخيل بناء مثلها على ممر الأحقاب. فحشد إليه العملة والصناع من طوائف شتى وبنى أسس المدينة على شكل مستطيل، ثم حوطها بسور أكثر ما بلغ طوله 150 إستادة وأقل ما كان عرضه 90 إستادة، فيكون طول السور أربعمائة وثمانين إستادة، وكان ارتفاعه مائة قدم، وثخنه بحيث تجري عليه ثلاث من العجلات صفا واحدا، وابتنى على السور بروجا تبلغ ألفا وخمسمائة عدا، وهي تعلو السور بمائة قدم وارتفاعها من الأرض مائتا قدم. قال ولما أتم نينوس هذه المباني ودعا الناس لسكنى المدينة سماها نينوى باسمه، والتقى فيها خلا الآشوريين وهم أعيان المدينة أمم وقبائل شتى تتباين مذهبا ومشربا، وما لبثت المدينة إلا يسيرا حتى صارت من أشهر المدن انتهى ببعض اختصار. وقال هيرودوطس في وصفه لآشور: إنها تشتمل على كثير من المدن الكبيرة، وإن أعظم تلك المدن مدينة بابل، وقد اتخذها ملوك البلاد عاصمة لهم منذ خراب مدينة نينوى. ا.ه. فعد بابل من جملة مدن آشور، وإجماع المحققين على خلافه، ثم ذكر أن بابل إنما اتخذت مباءة للملوك منذ خراب نينوى، والذي نعلمه أن غير واحد من ملوك الكلدان في بابل وملوك آشور في نينوى كانوا متعاصرين في آن واحد.
وأول من ذكر آشور على حقيقتها بطليموس الفلكي المشهور وهو من أعلام القرن الثاني للميلاد. قال: يحدها شمالا القسم المحاذي لجبل نيوانا من أرمينية الكبرى، وغربا بعض ما بين النهرين وهو الجهة التي تسقى بماء دجلة، وجنوبا مملكة شوشانة، وشرقا مملكة مادي وفيها ثلاثة أنهر تنتهي إلى دجلة بعد أن تسقي معظم أراضيها وهي ليكوس وكابروس وغرغوس. قال: وتقسم آشور إلى عدة أقسام: أحدها أرهباخينس ثم أبولونياتس وموقعها بين سيتاكينا وبلاد الغراميين، ويليها بلاد السمباطيين ثم بلاد الغراميين، وفي جنوبي إذيابينة كلكينيكي ويليها إقليم إربلة، وقد ذكر كثيرا من مدنها بأسمائها مع تعيين درجات طولها وعرضها كنينوس ومردة وإكتزيفون وغوغاملة وأوزابا وسيتاكي وغومارا وأبولونيا وأسوخيس وغيرها، وجملة ما عدده منها أربع وثلاثون مدينة تختلف عظمة واتساعا، لكنه لم يذكر بينها راسن ولا أولمبيس ولا مسفيليا، وقد كن من أشهر المدائن في تلك الناحية، فالظاهر أنه اقتصر على ذكر المدن التي عاينها بنفسه؛ لأن هذه كانت في عهده قد صارت إلى تمام الخراب ولم تبق لها الأيام أثرا.
ذكر مدينة نينوى
كانت هذه المدينة أبعد مدن آشور شهرة وأعظمها شأنا، حتى لم يكن في تلك البلاد أشد منها سطوة ولا أوسع ثروة وعمرانا، ما خلا مدينة بابل فإنها كانت أوسع منها مساحة وأضخم أسوارا وأفخم أبنية، إلا أن بلوغ كل منهما حد عظمتهما لم يكن في زمان واحد؛ لأن بابل بلغت مبلغها من العمران والأبهة بعد أن أخذت نينوى في التراجع والانحطاط، وكان معظم شهرة نينوى في عصر سنحاريب وأعقابه، وكانت دار ملكهم ومباءة سريرهم، وكانت تساق إليها الأرزاق وتحشد إليها الناس من كل وجه والملك يزيدها جاها وفخامة حتى بلغت من العز والسطوة والغنى ما لم تبلغه مدينة أخرى في ذلك العهد، وما زالت على حالها تلك من النمو والعظمة إلى أن تفرغ أهلها للملذات والملاهي ودب فيهم داء الترف ونعمة العيش، فزحف عليهم البابليون وافتتحوا المدينة ودمروها وحملوا ما فيها من الغنائم والأموال فعادت قاعا صفصفا. أما باني نينوى فعلى ما في رواية موسى عليه السلام (تك. 1 : 11) أنه آشور بن سام، وقد بنى مدنا أخرى ذكرها هناك، والآشوريون يزعمون أنها سميت باسم آشور كبير آلهتهم، وأن هذا الاسم يطلق بالاشتراك على كل ملك من ملوكهم تبركا وهم الذين بنوها، وفي كلام بعض الباحثين أن بانيها أعقاب نمرود ملوك بابل ونواحيها ولم نر ما يؤيد هذا القول، وفي الكتاب ما يعارضه بالنص الصريح، وذهب المؤرخون من اليونان والرومان وتابعهم بعض المتأخرين إلى أن أول من وضع أسسها نينوس، وقد تقدم في ذلك كلام لديودورس، والله أعلم.
أما موقع نينوى فالمؤرخون فيه على أقوال، أشهرها ما ذهب إليه هيرودوطس وإسترابون من أنها كانت على عدوة دجلة شرقا، وهو موافق لما تقدم من رواية موسى - عليه السلام - في الكلام على حد مملكة آشور وهو الصحيح، ولا يعلم من أمر مساحتها إلا ما ورد في سفر يونان؛ حيث يقول ما صورته: إن نينوى مدينة كبيرة لله مسيرتها مسيرة ثلاثة أيام. إلا أن في هذا الكلام إبهاما لا يخفى، فلا يدرى هل المراد بالمسيرة طول المدينة كما هو المتبادر أم محيطها أم المدة التي تقطع في مطافها كما قال بكل جماعة من المفسرين، ولا يخفى أن الأول فاحش جدا ولم ينقل فيما علمنا أن مدينة بلغ طولها هذه المسافة، والأخير بعيد عن أن يكون هو المراد لقلة جدواه في تقدير المساحة، فلعل المقصود هو الثاني، والله أعلم.
ثم إن الذي يتحقق من التاريخ أن نينوى لم تكن دارا للملك قبل الألف قبل النصرانية، وكانت قبلها مدينة راسن هي أعظم مدينة في آشور كما يستفاد من سفر التكوين من الموضع المشار إليه قبيل هذا، وقد خربت نينوى مرتين عن آخرها: المرة الأولى سنة 788 قبل الميلاد على يد إرباش المادي وبعليزيس الكلداني، وكانت بينهما محالفة فزحفا عليها بجيوشهما والمالك فيها يوم ذاك سردنابال، وكان ملكا جبانا واني الهمة ضعيف الرأي منقطعا إلى مجالسة النساء وسماع الأغاني. فلما طرقه خبر العدو وإيغالهم في أرضه أفاق من لهوه فحشد لهم وخرج عليهم بجموعه والتحم القتال بين الفريقين، فكانت الغلبة في أول الأمر لآشور، ثم كانت الكرة للعدو فظهروا عليهم ودارت في الآشوريين رحى القتل فأبادوا منهم خلقا كثيرا خلا من أسروه. فنكص سردنابال على أعقابه حتى أتى المدينة فدخلها بمن معه واعتصم بها، وجد العدو على أثره فحصروه بها زمنا مديدا تواترت فيه الحرب بين الفريقين، وقتل من الجيشين عدد لا يحصى، وأجلت العاقبة عن قهر سردنابال، فدخل العدو البلد وأسرفوا في القتل والنهب واستباحوا كل من صادفوه بحد السيف. فلما رأى سردنابال ما حل به وبقومه جمع حطبا وألقى عليه أمتعته وأمواله وجواهره وأضرم فيه النار، ثم دخل هو وأولاده ونساؤه في جوف اللهيب وتبعه من يتصل به من رهطه وحشمه فكان آخر العهد بهم، وانثنى العدو على المدينة بالإحراق والتخريب ولم يخرجوا منها إلا وقد غادروها ركاما.
وبعد مضي ما شاء الله من الزمان انتعش الآشوريون من كبوتهم تلك، ورجع إليهم ملكهم واستقلالهم، وعادوا فرمموا مدينة نينوى وردوا إليها سرير الملك إلى أن قام سنحاريب الذي سبق الإلماع إلى شيء من شأنه، فزادت به نينوى عزة وفخامة وتناهى حالها في الجلالة، وله على بعض الآثار هناك ما معناه أني قد أعدت بناء جميع عظائم نينوى دار سلطنتي ومستقر ملكي وجددت شوارعها القديمة، وما كان منها ضيقا وسعته وحولت المدينة من سماجة الخراب إلى مثل بهاء الشمس. ا.ه. وكان لسنحاريب قصر في وسط المدينة بناه له ولمن يخلفه على سرير آشور، وكان من أحسن أبنية نينوى بهجة وزخارف وأتمها إحكاما وأوثقها متانة قد أفرغ فيه البناءون جهد صناعتهم وسقفه بخشب السرو والأرز، ولما فرغ من بنائه أمر أن ينقش على أحد جدرانه ما مفاده أن هذا القصر سيصبح حينا قديم العهد جدا، فيأخذ منه كرور الأحقاب ويغيره توالي العصور، فأتقدم إلى من يتولى عهد هذا الملك من بعدي أن يعنى بتجديد ما يرث من بنائه وتعهد ما فيه من الصور والمشاهد، وأناشده أن يطرس على جميع الكتابات القائم بها تذكاري كلما طمس شيء منه أعاد رسمه. أقول طوبى لمن يأتمر بهذا وعليه رضوان آشور وعشتار الإلهين العظيمين، والويل لمن نبذ هذه الوصية ظهريا وآشور ربي جل جبروته ينزل به ضرباته الشديدة وسخطه العظيم ويخلعه عن ملكه ويحطم صولجانه ويسلبه سلاحه. انتهى.
واستمرت نينوى على حالها تلك من علو الشأن ونفوذ السطوة إلى أن خربت المرة الثانية سنة 606 قبل الميلاد وقيل سنة 625 على اختلاف سنورد تحقيقه فيما بعد، وخلاصة ما كان من خبرها أنها لما امتدت شوكتها وقوي عضدها كانت الواقعة بينها وبين الماديين لما بين الفريقين من الحزازات القديمة، فقهرتهم وضربت عليهم الجزية فكانوا يحملونها كل سنة إلى نينوى. فكان ذلك في أنفس ملوك مادي إلى أن أفضى أمر الملك إلى كياقصر، فعزم على مناهضة الآشوريين وبعث إلى نبوبولاصر ملك الكلدان يستجيش به ويذكره ما بين أسلافهما من الولاء على ما سبق ذكره. فأجابه نبوبولاصر بالرجال والأهبة وحشد كياقصر قومه ونزل على نينوى، فحاصرها وعلى سريرها يومئذ أساراقوس، فضايقه أشد المضايقة وقويت صدمته لها فاستفتحها عنوة وأعمل فيها السيف والنار وفتك في أهلها فتكا ذريعا، فكثر فيهم القتل والسبي والنهب، وانتشر الخراب في المدينة أياما متوالية حتى دكت عن آخرها دكة واحدة، وعادت كأن لم يسبق بها عهد، وفر من أفلت من الآشوريين فتشتتوا في الآفاق ولم يجتمعوا بعدها، وأما الملك فكان من أمره أنه لما رأى العدو في المدينة أشفق من وقوعه في أيديهم والتنكيل به، فقتل نفسه بسلاحه وانقرض مذ ذاك ملك آشور آخر الدهر.
هذا جملة ما انتهى إليه أهل البحث من وصف هذه المدينة العظيمة، وإن هو إلا وشل من بحر أو ثمد من قطر، وقد بقي وراء تلك المشاهد الخربة والمناظر الموحشة من العظمة والاقتدار والحكمة والثروة والعزة والجمال والبراعة والإتقان ما لا يعلمه إلا الله تعالى وحده، وأغرب ما هنالك أن هذه المدينة مع كل ما بلغت إليه أوان عزها من الشهرة والفخامة لم يذكرها أحد من متقدمي المؤرخين، ولم تلبث بعد خرابها أن صارت نسيا منسيا حتى ذهبت عنا جميع أخبارها وأصبحت معرفة أحوالها موقوفة على توسم تلك المجاهل واستنطاق صداها، وقد عاين زينوفون تلك الأراضي بعد خرابها بقرنين ولم يحك شيئا من وصف ما رآه من نينوى، وكذا مؤرخو الإسكندر لم يوردوا لها ذكرا مع أنها كانت قبلهم بزمن يسير من أعظم مدن العالم، وفي الجملة فإنه لم يعلم أحد نقل عنها شيئا قبل القرن العاشر للميلاد، وأول من وصفها بنيامين تودالوس اليهودي، وقد قدم الموصل فروى عنها وعن الآثار التي شاهدها إذ ذاك كلاما طويلا يقول في جملته: والموصل التي كانت قديما تعرف بآشور الكبرى هي أعظم مدينة بفارس يسكنها سبعة آلاف من اليهود أو يزيدون قليلا، وهي مدينة ذات جمال وسعة موقعها على عدوة دجلة وهو الفاصل بينها وبين نينوى. قال: ونينوى هذه مدينة قديمة قد آلت إلى تمام الخراب وإلى الآن آثار سورها ظاهرة وهو مناهز الدروس والامحاء، وهناك آثار عديدة للآشوريين أصحابها يستدل بها على أنها كانت من العزة والحسن بمكان. ا.ه.
ويعرف موقع نينوى اليوم بقيونجك، وهو اسم تل هناك يبلغ محيطه 2563 يردا، وارتفاعه 43 قدما وحواليه أخربة مبثوثة على مدى متسع يحيط بها أثر سور يبلغ طوله من الغرب 2600 يرد، ومن الشرق 3500 يرد، ومن الشمال 2000 يرد، ومن الجنوب 1370 يردا، وعلى طول الجهة الغربية منه أثر سورين آخرين يليان السور المذكور من داخل، ولا يرى ذلك في الجهات الثلاث الأخر وهو من جملة تلك الغرائب، وأول من احتفر في قيونجك رجل من الفرنسيس يقال له بوتا كان متوليا القنصلية الفرنسوية بالموصل، وذلك في أواسط القرن الحالي على ما سنذكره قريبا، وجاء بعده اللورد لايرد الإنكليزي، فأمعن في الحفر والبحث زمانا، وكان في جملة ما كشفه قصر سنحاريب المقدم ذكره، وهو بناء كبير يعد في جملة عظائم تلك الأعصار حتى يقال إنه لم يكن أعظم منه إلا ما اشتهر من أبنية بابل، وقد بلغ طول حجرة فيه مائة وثمانين قدما، وكان هذا القصر مزينا بجميع ضروب الزخرفة، وفيه كثير من تماثيل الثيران ذات الرءوس البشرية يبلغ طول الواحد منها نحو عشر أذرع، وهناك صور عديدة ومشاهد صيد وغيره أنيقة الصنعة، وأبدع تلك الصور شكلا وأكملها صناعة صورة سنحاريب وبجانبه رجال من بني إسرائيل ينكل بهم، وصورة أخرى تمثله على عرشه وهذه حملها الإنكليز إلى لندرة، وبعد انصراف لايرد من هناك جاء لوفتس الفرنسوي سنة 1854، فكشف أشياء أخرى أجلها قصر لسردنابال الخامس المعروف بآشور بنيبال وجد فيه تحفا كثيرة، فحمل منها جانبا كبيرا بقصد إرساله إلى باريز، فسقط منه في دجلة ولم يسلم إلا أشياء قليلة في جملتها صورة سردنابال المذكور صاحب القصر وقطع من الآجر عليها كتابة بالقلم المسماري.
ذكر مدينة خرساباد
ومما اشتهر من مدن آشور خرساباد وكانت تسمى بصاريوكين، وهي اليوم قرية دانية من كردستان وأكثر سكانها عرب وأكراد، وكانت هذه المدينة ومدن أخرى من آشور قد عفا رسمها وذهب أثرها تحت الردم والأنقاض من نحو ألفي سنة، حتى قدم الموسيو بوتا المشار إليه قبيل هذا، وهو أول من كشف هذه المدينة، وكان في جملة ما كشفه فيها قصر لسرجون ولي عهد شلمنأصر الرابع وحواليه أبنية أخرى تعزى إليه، وهي على ستة عشر كيلومترا من نينوى إلى الشمال الغربي، وفي أواسط تلك الأبنية رابية مصنوعة على نحو الرابية المؤسس عليها هيكل سليمان - عليه السلام - وفي قمة الرابية سطح مربع طول كل من جهاته 200 متر وعليه بنى القصر وحوط الرابية بسور لكل من جهاته 1900 متر طولا، وكان للقصر باب كبير يدخل إليه من الخارج، وعلى كل من جانبي الباب ثور هائل له رأس بشر وسائر الباب مزين بكثير من ضروب النقوش وعجائب الأشكال والتصاوير، وبجانب الباب من الداخل سلم طويلة يرقى منها إلى سطح القصر، وهو شاهق في الجو مشرف على جميع ما هنالك من الضواحي ليس في تلك الناحية كلها أحسن منها مطلا ولا أبعد مدى للناظر، وقد بقي من زخارف القصر في داخله وبديع نقوشه وأشكاله ما يدل على أنه كان من الجمال والإتقان بمكان لا يدانيه كثير من أبنية تلك الأعصار، وآثاره إلى الآن لا تزال أكمل وأبين من جميع ما شوهد من الأبنية الآشورية، ولم يبق في شيء منها ما بقي فيه من الأدوات والمناظر المشخصة كثيرا من شئون أهله.
وبجانب القمة التي عليها القصر قمة أخرى أدنى منها ارتفاعا وأصغر حجما، عليها بناء آخر تابع للقصر وهذا البناء ينقسم إلى قسمين، فصار جملة القصر وما يليه ثلاثة أقسام: أحدها وهو القصر المذكور بلاط الملك، وبناؤه من الآجر، وفي داخله حجرات فسيحة يبلغ طول الحجرة الواحدة مائة وست عشرة قدما، وكلها مزينة بالنقوش والصور والآنية الذهبية والفضية والعاجية والخزفية والتروس والسيوف وكثير من الأسلحة المنوعة والأدوات المصنفة والتحف الجليلة والبقايا الثمينة ، وهي ست حجرات من هذا النمط وعلى جدرانها صور من الإنسان والحيوان مختلفة الحركات والهيئات، فمن ملك وجنود وجبابرة ومعارك وحصارات وفتوحات، ومن قاتل أسدا ومساور نمرا ومجهز على عدو وذابح ذبائح وساجد للآلهة، ومن عساكر يخرجون في القتال وقتلى يقاسون النزع، وغير ذلك مما يطول شرحه ولا يسعنا بسط العبارة فيه. وكثير من هذه الصور ما برحت إلى اليوم على ألوانها الأولى، وذلك شاهد يؤيد صحة ما نقله ديودورس عن أكتزياس من بقاء الألوان فيما شاهده في بقايا بابل على ما أسلفنا ذكره، وهناك وجد عرش الملك مرصعا بالعاج وغيره من الجواهر الكريمة، والقسم الثاني وهو شطر البناء الأصغر المبني على القمة الأخرى دار الحرم وفيه ثلاث حجرات فقط، إلا أنها أكمل إتقانا من حجرات البلاط وأبهى زينة وأكثر أدوات وأمتعة، وقد وجد فيه سياح الإفرنج من الذخائر والنفائس ما يجل عن الوصف ولا يقوم بثمن، ويصل بين هذا القسم وبلاط الملك سرب تحت الأرض ينزل فيه الملك إذا أراد الإفضاء إلى دار حرمه، والقسم الثالث متصل بهذا القسم مبني على الناحية الأخرى من القمة المذكورة، وهو على شكل القسم المقدم، وفيه حجرة تقيم بها الحشم والخدم ومن حولها مساكن بعضها للعبيد وبعضها للكراع والسائمة، وبين دار الحشم والبلاط رواق طويل وهو غاية في الإتقان والزخرفة، وفيه وجد الفرنسيس النفائس التي استصحبها سرجون الملك بعد فراغه من فتوحاته وكاثر بها سائر الممالك، ووجدوا هناك أيضا كثيرا من الآنية والجفان والأدوات المختلفة، فحملوها إلى باريس ولا تزال هناك إلى هذا اليوم، وفيما يلي دار الحرم أخربة على شكل هرم من الرفات، ذكر بعضهم أنه كان مدفنا لأحد ملوك آشور قصد به محاكاة الفراعنة المصريين وتقيل أهرامهم، وذهب آخرون إلى أنه المرصد الذي ذكره سرجون غير مرة، وقد تبينوا بعد البحث أنه كان مبنيا من سبع طباق تعلو بعضها بعضا في العنان، كل واحدة منها أصغر من التي تحتها حتى ينتهى إلى السابعة وهي أصغرها، وقالوا إنه كان لكل طبقة لون يخالف ألوان البقية، وكل لون لإله من الكواكب، وكانت أول طبقة لزحل، والثانية للزهرة، والثالثة للمشتري، والرابعة لعطارد، والخامسة للمريخ، والسادسة للقمر، والسابعة للشمس، ولجميع هذه الطباق قياس واحد في الارتفاع وإن كانت تتفاوت اتساعا على ما قدمناه، وكان هذا البرج أشبه ببرج بورسيبا الذي ذكره هيرودوطس على ما أسلفناه هناك. قالوا وكان المرصد في أعلى تلك الطباق، فيكون له طبقة ثامنة، وكان الآشوريون يرقبون منه حركات الكواكب لمعرفة السعد والنحس، وغير ذلك على ما كان من اعتقاد المتقدمين.
ذكر مدن أخرى بآشور
ومن شهير أخربة آشور الموضع المعروف بنمرود، وهو كالح القديمة على ثلاثة كيلومترات من عدوة دجلة الشرقية، وبينه وبين خرساباد ما ينيف على أربعين كيلومترا، ويليه بسيط من الأرض ينتهي إلى الموصل ومسافته نحو تسعة كيلومترات، وليس في هذا الموضع اليوم إلا أنقاض قد تراكمت أمثال الجبال وبينها بقايا قد شخصت رءوسها في الجو يظنها أرباب البحث مراصد كانت لهم يرقبون منها النجم على نحو ما تقدم قريبا، وفيما أورده بعض المؤرخين أن نمرود هذه كانت دارا لطائفة من الملوك في غابر الدهر، وكانت ذات عز ومنعة وآثار ذلك فيها إلى الآن، وقد وجد بين أخربتها اسم نبوزكبيوكين وابنه مرودخ موبازا، وهما فيما قاله بعضهم من ملوك الآشوريين، وقال آخرون: إنهما من الملوك الذين مردوا على آشور وخلعوا طاعتهم، وأي كان من القولين فهما قديما العهد جدا.
وأول من احتفر في نمرود اللورد لايرد الذي تقدم ذكره، فاستبان آثار قصور جمة محكمة الصنعة مزينة بالنقوش وعجائب الأشكال وصور الملوك والآلهة، واحد منها يعزى إلى سردنابال الثالث المعروف بآشور نزربال، وكان في خلال القرن العاشر قبل الميلاد وآخر ينسب إلى آشور بانيبال بن أسرحدون الذي قام بالملك بعده وكان في منتصف القرن السابع، وهما قصران ضخمان يروعان الناظر عظمة وإتقانا، والثاني منهما أوسع بنية وأتم رونقا في نظر المتأمل، وكلاهما مشحونان بصور الناس على اختلاف حركاتهم وملابسهم ومشاهد الصيد والمعارك، وصور الآلهة والملوك وتماثيل الحيوان ما بين أسود وذئاب وأنمار وبنات آوى وأبعرة وثيران وشياه إلى غير ذلك مما يطول وصفه، وفي قصر آشور بانيبال منها وجد الإفرنج مكتبة جامعها آشور بانيبال صاحب القصر فاحتملوها إلى أوروبا، وفيها كثير من بيان تاريخ هذا الملك وأعماله على ما هو معلوم من دأب أولئك الملوك أن يدونوا حوادث عهدهم في سجل مخصوص يكون في بلاط الملك تتسلسل فيه مآثرهم وأخبارهم فتبقى على غابر الدهر، وأما القصر فلو لم يظهر من آثار نمرود غيره لكفى معجزة يقف عندها المتأخرون موقف الحائر لما هو عليه من إحكام البناء وجمال الصنعة، وما برح كل من رآه يدهش لغريب هندسته وما فيها من الدقة والتناسب البديع، وهو الشاهد على أن الآشوريين كانوا في ذلك العهد قد بلغوا قمة نجاحهم وتوسطوا باحة علومهم وصنائعهم، وفي هذا القصر غرفة يبلغ مداها 140 قدما يتبين من الأدلة أنها كانت مخصوصة لملاعب النساء والدعوات الحافلة. أما الأصنام والصور التي وجدت في نمرود فشيء كثير جدا منها كبيرة ومنها صغيرة ومعظمها متقن الصنع، ومنها أكثر التماثيل التي في أوروبا على ما شهد به الاستقراء، ومن ذلك تمثال لآشور نزربال المذكور واقفا في طول متر، وقد أخذ بإحدى يديه منجلا وبالأخرى عصا، وفي صدره كتابة تبين عن أمره وسنوردها في الكلام عليه، وتمثالان كبيران لنبو عملهما بعلوخوس الثالث وعليهما اسم سموراميت زوجته المعروفة بسميراميس، وهما الأثران الوحيدان الموسومان باسمها، وفي نمرود أيضا مسلة صغيرة نصبها شلمنأصر الثالث ابن آشور نزربال ونقش عليها صورته وصورا أخر من الناس والحيوان، وذكر فيها بعض فتوحاته على ما سيجيء ذكره، وهي مربعة الشكل مخروطة ذات قاعدة عريضة وأعلاها ينتهي إلى نقطة.
ومن مدائن آشور غوغاملة وصفها إسترابون في كتابه، فعدها من أشهر الأمصار الآشورية قال: وفيها كانت الواقعة المشهورة بين دارا والإسكندر، وكانت العاقبة للإسكندر وبها انقضت دولة الفرس الأولى، فلم تعد آخر الدهر. قال: ومعنى غوغاملة مناخ البعير سماها بذلك داريوس بن هستاسب حين قفل من بلاد التتار، وكان قد قصدها غازيا فتوغل فيها وأثخن في أهلها وافتتح الأمصار وخرب المعاقل وانتسف الحصون وعاد بالغنائم والسبي ومعه الأبعرة تحمل المتاع. فلما تطاول به السير ماتت الأبعرة في الطريق، وكان آخر هالك منها في بطائح غوغاملة، فسماها بهذا الاسم، فبقي ذكرا لغزوته تلك على الأبد. انتهى بتصرف.
ومن مدائنها موغا ملكة وإربلة، وكانت الأولى مدينة حصينة ذات سور متين وفيها الأبنية الرائعة والهياكل الشامخة، وأعظمها هيكل كان مبنيا على قارة واحدة يعدونه من عظائم البنيان، وخربت هذه المدينة في سنة 364 قبل المسيح، قصدها يوليانوس الروماني فحاصرها في جيش كثير، وكانت الحرب في أول الأمر سجالا، ثم اشتد عليه أهلها فأهلكوا من جيشه خلقا كثيرا ومالوا عليه ميلة شديدة حتى كادت العاقبة تكون عليه، وفي تضاعيف ذلك وفدت عليه الوفود من أصحابه في نجدة وعدة، فشدد الحصر على المدينة حتى نهك أهلها واستحوذ عليها عنوة وحاز منها الغنائم، وما برح عنها حتى غادرها قاعا صفصفا، وأما إربلة فكانت من المدن الكبيرة، وكان إبان شهرتها ومبلغ عمرانها في عهد الفرس الأولى وتنسب إليها الواقعة التي جرت في غوغاملة سنة 331 بين دارا والإسكندر على ما مر ذكره فيقال لها واقعة إربلة، وهذه المدينة تنقسم اليوم إلى قسمين متميزين، أحدهما إربلة القديمة وهي مبنية على رابية هناك وعليها سور قد ذهبت به الغارات والأيام ولم يبق منه لهذا العهد إلا آثار، والآخر إربلة الحديثة وهي مبنية في السهل عند سفح الرابية يسكنها قوم من الأكراد ينتهون في قول بعضهم إلى الكلدان وهم زهاء ألفي نفس، وقد ذهب عنا معرفة ما كانت عليه هذه المدينة في عهدها الأول ولم يبق في آثارها ما يسفر عن أمرها، بيد أن الناظر إلى ما بقي منها في الجملة يتبين أنها كانت من المواضع الحصينة ذات الثروة والعمران، وبها اليوم منارة ذاهبة في السماء بانيها فيما يقال واحد من خلفاء الإسلام.
وعلى بعد خمسة وعشرين ميلا من جنوبي أخربة خرساباد أخربة كالح شرعات، وهي غير كالح المقدم ذكرها المعروفة اليوم بنمرود، وهذه الأخربة على شكل أخربة نمرود وخرساباد، وبها تل من الأنقاض محيطه 4685 يردا إنكليزيا وحوله بقايا سور محكم الوضع قد بني من حصى النهر، وهناك وجد الإفرنج تمثالا لشلمنأصر الثالث أحد ملوك آشور وكثيرا من المدافن المصنوعة من الرخام، وفيها كثير من العظام بينها حلى من المعدن، وهذه المدينة هي المعروفة باسم أيلاصر، وكانت مباءة لملوك آشور دهرا وفيها بنى إسمي داجون الهيكل المشهور لأوانس، ولا يزال فيها إلى اليوم تمثال لملك من آشور قديم العهد، إلا أنه ناقص لا رأس له ولا عنق وعليه لباس ضاف من كتفيه إلى الأرض وتحته قاعدة عليها اسمه واسم آبائه.
وإلى شرقي بغداد على أربعة أميال منها وستة أميال من نهر الفرات على ميمنة الترعة السقلاوية أخربة قديمة العهد مبنية بالآجر على شكل هرم، يسميها الناس ببرج نمرود وبعضهم ببرج بابل، وهي غير البرجين المقدم ذكرهما، وكان اسمها الأول أكركوف على ما أثبته نيبوهر السائح الدنمركي، وآجرها مربع يبلغ ثخن الواحدة منه ثلاث أصابع وطولها ثلاث عشرة أصبعا في عرض مثلها، وهي مرصوصة بالسياع، وبين كل سبعة سيفان من الآجر عرق من الخيزران أو الأباء ليمسك البناء أن يتصدع على ممر الأزمان، وفي أعالي هذه الأخربة ثقوب كثيرة تمتد امتدادا أفقيا، وبعضها تذهب عموديا، ولها ما يشبه أن يكون بابا، ولكنه عال جدا لا يبلغ إليه إلا بعد عناء وجهد عنيف لصعوبة المرتقى وتضارس البناء، وطول هذا الموضع يبلغ 158 قدما إنكليزيا وعرضه 111 قدما وارتفاعه 129 قدما.
وهذا الارتفاع في رأي بعض الباحثين هو ارتفاعه الأول لم يطرأ عليه نقص بدليل التراب المتلبد في أعلى البرج حتى صار في صلابة الحجر، ومنذ قرون قريبة سول الغرور لقوم من العرب أن يهدموا هذا البرج، لظنهم أن هناك كنوزا وأن الموضع إنما كان مدفنا للملوك، فشرعوا في أسباب الهدم وقوضوا صفحين من البرج حتى انبث الآجر في جميع تلك الناحية، وكان منتهى عملهم الفشل والرجوع بالخيبة بعد أن وهت عزائمهم وأيقنوا بكذب آمالهم، فلم يكن لجهدهم من معنى سوى أنهم شوهوا هذا الأثر الجليل وتركوه ينادي بجهلهم وعجزهم، وقد عني السياح المتأخرون بالبحث والتنقيب في آثار هذا البرج غاية ما استطاعوا لعلهم يجدون فيه شيئا من الكتابة الآشورية، فلم يروا من ذلك شيئا، ولعل هذا هو السبب الذي حمل بعضهم على نسبة بنائه إلى أحد خلفاء بني العباس على ما أشرنا إليه قبيل هذا لقرب موقعه من دار ملكهم، وهناك مذاهب أخرى لهم لا يتأتى الترجيح بينها لرجوعها إلى الرجم بالغيب وعدم استنادها إلى دليل بين. فمن قائل إنه هو برج بابل المشهور وليس بشيء لأن ذاك يلي دجلة وهذا يلي الفرات، وقالت جماعة إنه كان مدفنا لأحد ملوك آشور، وفي بعض الروايات أن الآشوريين كانوا قد بنوه مرقبا لربيئتهم، وكان أعلى مما هو عليه الآن ليمكن مد البصر منه إلى مدى بعيد، وقال آخرون إنه كان مرصدا لهم يرصدون منه النجوم، وذهب جمهور أهل الجغرافية إلى أن موقعه هو موقع مدينة أكد التي مر الكلام عليها، وخالفهم قوم فقالوا هو موقع مدينة سيتاكي، وذهب غيرهم إلى غير ما ذكر، وعلم الله وراء ما نعلم وهو بكل شيء محيط.
القسم التاريخي
الكلام على سكان بابل الأولين
قد أشرنا فيما سلف إلى ما وقع من الوهم والشطط في تاريخ البابليين والآشوريين وما كان من مبادئ أمرهم، وأن معظم ما دب في تاريخهم من فساد الروايات وتعارض الأنباء إنما نشأ من قبل كتاب الفرس، وعنهم نقل اليونان ما نقلوه من الأخبار المدخولة والأقاصيص الموضوعة.
وكانت بابل فيما تقدم من تاريخها مجمعا لأمم من الناس وأجيال شتى قد تباينت أصلا وعادات، وكان الملك يخاطبهم بقوله: أيها الشعوب والأمم والألسنة، على ما هو وارد في سفر دانيال عليه السلام (ص3) وكان لكل من أولئك الأجيال سير وأحاديث يروونها فيما بينهم ويتناقلونها خلف عن سلف بعضها له أصل كالنواة من الشجرة، وبعضها مختلق رأسا، وشاعت هذه الحكايات بينهم حتى تأصلت في أذهانهم، ومرور الأيام يلقي عليها ظل الصدق ورونق الصحة، حتى اعتقدوها من الأمور الواقعة ودونها مؤرخو الفرس في مصنفاتهم على ما قدمناه، وأثبتوها فيما أثبتوه من وقائع تاريخهم، فالتبس صحيحه بفاسده وكثرت فيه الخرافات والأساطير وذهب فيه الخلل كل مذهب. ذلك مع شدة إمعان أولئك الأقوام في القدم وكثرة ما لهم من الدول والانقلابات والوقائع والأخبار المختلفة والأحوال المتشعبة، مما أفضى إلى اضطراب في تاريخهم وارتباك لا مزيد عليه، وألجأ أهل البحث إلى معالجة الحرف المسماري ومزاولة قراءته، حتى وفقوا إلى حله فوجدوا كثيرا من تلك الحقائق مسطرا على الآثار من الحجارة والآجر وغيره، وحينئذ انجلى لهم كثير من تلك الغوامض على ما أسلفنا ذكره، ومع ذلك فإن هذا الفوز العظيم والفتح الجليل لم يكن وافيا بما كان يتوقع وراءه من النتائج الكبيرة، فإنهم استوضحوا به أشياء، وبقي من دون ما استوضحوه مشاكل جمة ومعميات شتى لم يهتدوا إلى جلائها وكشفها، ولا وجدوا ثم ما يسفر عن أولية أولئك الأقوام وأصل نشأتهم، مما لا يزال مستورا تحت ظل الإبهام مكتوما في صدور الأيام.
وقد تقدم أن بيروسوس الكلداني في عهد الإسكندر كان قد دون تاريخا للكلدان، أبان فيه عن شئونهم وتاريخ ملوكهم وما لهم من الوقائع والآثار أخذه عن ألواح السجلات التي كانت في هيكل بعلوس، وقد ذهب هذا السفر الثمين في جملة ما ذهبت به الأيام فلم يبق له عين ولا أثر، بيد أنه يستفاد مما تناقله عنه المؤرخون أنه ابتدأه من ذكر الخليقة وما طرأ وراء ذلك من الأخبار، وأنه عدد عشرة من الملوك تداولوا زمام السلطنة من لدن الخلق إلى الطوفان وكانت مدة ملكهم جميعا 43200 سنة، ولا يغرب أن يكون هؤلاء العشرة هم الآباء العشرة المذكورون غير مرة في الكتاب من آدم إلى نوح، كان بيروسوس وجماع الكلدان يعتبرونهم من ملوكهم وسموهم بأسمائهم المدونة في السجلات المذكورة، وسيرد مزيد تفصيل لذلك في الكلام على عقائد البابليين.
ثم إن عامة المحققين من أصحاب التاريخ على أنه لا يصح خبر من أخبار الأمم الأولى إلا بعد أن تمثلت تلك الأمم ممالك وتحيزت شعوبا وقبائل، وما قبل ذلك من أحوالهم وشئونهم فمما لم يبق إلى معرفته سبيل، وأول مملكة ظهرت في العالم وذكرت في مصاحف التاريخ مملكة نمرود التي ورد الإيماء إليها في الفصل العاشر من سفر الخليقة، ولم تكن إذ ذاك إلا أربع مدن وهي بابل وأرك وأكد وكلنة، وقد سلف الكلام على هذه المدن في محله، ونمرود هذا هو ابن كوش بن حام بن نوح - عليه السلام - وكان رجلا جبارا مولعا بالصيد كما يصفه في الموضع المشار إليه، وفي أحاديث اليهود أنه كان ملكا عاتيا على الله تعالى، وأنه هو الذي بنى برج اللغات المعروف ببرج بابل، والعرب تقول إنه ألقى إبراهيم الخليل في أتون النار في خبر ليس هذا موضعه، وهو عندهم مضرب مثل في الظلم يقولون أظلم من نمرود، وينسب إلى نمرود أشياء كثيرة تضاف إلى اسمه منها مدينة نمرود وبرج نمرود وأخربة نمرود، وقد مر ذكرها، ومنها أصنام هائلة نقلها الإفرنج إلى بلادهم تعرف بأصنام نمرود إلى غير ذلك.
وفي روايات المتقدمين أنه بعد وفاة نمرود خلفه على المملكة ابن له يقال له أويخوس، وكان أول من نصب صنما وعبده وسن عبادته في رعيته، وكانت وفاته في أواخر القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، وقام بعده ملك يسمى خوماس فتأله في قومه وعبدوه واستمرت عبادته فيهم بعد موته، ولما هلك تولى بعده بوراو بونغ، واسمه فيما ذكروا محرف عن بعل بيور وهو أحد آلهة الكلدان. ثم عقبه في الملك نيخوبيس وعقب نيخوبيس أبيوس ثم أنيبال ثم خنزيروس وفي عهده دخلت العرب بابل. انتهى باختصار، وهي أخبار لا يعتمد عليها في راجح الرأي وفي الآثار ما يعارضها وينقضها؛ ولذلك قد أجمع أرباب البحث على أن كل خبر روي عن بابل قبل أورخامس غير حري بالوثوق ولا بارز عن ظل الشبهة؛ لأنهم بعد استغراق ما أوصلهم إليه البحث من كتابات الآثار وجدوا أن أقدم ما سطر عليها لم يتخط عهد أورخامس المذكور، ونحن نبدأ هنا بذكر تاريخه، ثم نتطرق إلى ذكر من اشتهر بعده على التوالي، وما بين ذلك من الحوادث الخطيرة والوقائع المشهورة، فنقول:
كان أورخامس من الملوك النمروديين من ولد نمرود المقدم ذكره، وأورخامس - أو أورشامش - لفظة كلدانية معناها نور الشمس، وقد ثبت بعد البحث والنظر في الآثار أنه السابع من هذه الدولة، وهو أول من نقش اسمه على حجر ابتغاء الفخر وبقاء الذكر على الأبد، ويستفاد من بقايا مدينة أور أنه هو الذي بنى سورها وشيد فيها الهرم العظيم الذي ذهب بعض الناس إلى أنه برج البلبلة على ما أسلفنا الكلام عليه، وفيما قرره بعض الباحثين أن أورخامس هو أول من اتخذ أور دارا للملك، وليس بثبت عند المحققين، ولكن لا خلاف في كونه هو أول من جعل لها شأنا وفخامة وساق إليها من الثروة والعمارة ما فاقت به أشهر المدن في ذلك العهد، وحصنها بالسور على ما قدمناه وزينها بكثير من المباني الضخمة والهياكل الأنيقة، وفي جملتها قصر اختصه لسكناه لا تزال جدرانه ماثلة لهذا اليوم، وعلى أحدها صورة تشخصه ليس من ذلك العهد صورة أبدع منها صنعا، وهناك كتابات تشهد بأنه هو باني القصر وفيها بيان كثير من شهير أعماله، ولأورخامس في غير أور أبنية أخرى تعزى إليه منها هيكل لمعبود النار في لارسان، وآخر مثله في صفيرة وهيكلان في نيبور أحدهما لإله الأفلاك، والآخر لتاءوث أم الآلهة، وهي أشهر ما وجدوه من الأبنية موسوما باسمه، وكل هذه المباني على ما كانت عليه من الضخامة والعظم لم يأت عليها إلا قرون قلائل حتى رثت قواعدها وتمزق قائمها خلافا، لما كانت تتوهم عليه في بادئ الرأي من الصلابة والقوة بالقياس إلى ما يعهد من أبنية ذلك العصر ومصنوعاته؛ فإن هيكل لارسان منها كان في عهد بورنبورياس أحد أعقاب كدرلاعومر قد اندكت أركانه وتداعت جدرانه، فجدد هو بناءه على رسمه الأول ورد إليه قديم رونقه، كما يستفاد من كتابة له عليه وبين برنبورياس وأورخامس مدة لا تزيد على ستة قرون.
ولما انقضى عهد أورخامس قام بالملك بعده ابنه أيلغي وله ذكر في بعض الآثار يفيد أنه أتم بناء هيكل بأور كان قد شرع في بنائه أبوه أورخامس، وبعد أيلغي ملك ساغركتياس وكان سريره بصفيرة، ومن أبنيته فيها الهيكل الذي تقدم الكلام عليه عند ذكر هذه المدينة، وقد قدمنا هناك أنهم وجدوا في جملة ما كان في هذا الهيكل آنية من المرمر عليها اسم نارام سين أحد أعقاب ساغركتياس المذكور، وأوردنا الدليل على أن ساغركتياس هذا كان من خلفاء أورخامس الوارثين الملك عنه إرث الولي، ونقول هنا إنه لا يستبعد أن تكون أكثر الآثار التي وجدت موسومة بالأسماء المقرونة بسين كأيرسوسين وريم سين وسين هابال، إنما كانت في هذا الموضع وما يجاوره، وأن أصحابها كانوا من ولد كوش من خلفاء أورخامس وساغركتياس، بدليل أن عبادة سين كانت في بني كوش أعرق وأقدم، وهم الذين بثوها في أمم ذلك العهد؛ لأنهم كانوا كلما افتتحوا إقليما وتغلبوا على شعب تركوا فيهم عصابة منهم تؤيد أمرهم وتبث ما لهم من عادات وعبادات، فيبقى فيهم أثر ذلك الفتح على الأبد، وهذا معلوم من شأن المتقدمين من الآشوريين والمصريين وغيرهم.
وأول مرة افتتحت بابل في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد على يد أزدرخت المادي استفتحها عنوة بعد حصار عنيف، ولما دخلها فتك في أهلها فتكا ذريعا ومثل بهم تمثيلا شنيعا وركب فيهم من العسف والجور ما لم يسعهم معه الصبر، فلجئوا إلى مهاجرة البلاد فرارا بأنفسهم وخرجوا هائمين على وجوههم، وكان من حديثهم بعد ذلك أنهم تألبوا يدا واحدة وجعلوا دأبهم العيث في الأرض، لا يدخلون قرية إلا وطئوها واستباحوا أهلها وأرزاقها، حتى بلغ معظم سوادهم إلى الديار الشامية، فأنزلوا بها البلاء وفشا فيها القتل والنهب والسبي زمانا. ثم زحفوا إلى مصر وقد كثف لفيفهم بمن انضم إليهم من نواحي الشام من أسارى وغيرهم، ونفروا في عرض البلاد وشأنهم ما ذكر حتى انبث شرهم وتفاقم أمرهم. فأجفل لهم المصريون إجفالا شديدا وتأهبوا لقتالهم، فكانت بين الفريقين وقائع عديدة تواترت أزمانا، وكثرت فيها الدماء من الجانبين حتى عجز المصريون عن كشفهم وأجلت عاقبة الأمر عن استيلائهم على معظم بلاد مصر قهرا، ولما استقرت قدمهم هناك ثقلت وطأتهم على البلاد وتمادوا في الظلم والفساد، وبقي ذلك أمرهم مدة خمسمائة سنة أو تزيد إلى أن كان عهد توثمس المصري، فعمد فيهم إلى الحيلة وعمل على تفريق كلمتهم، فقسمهم أحزابا ثم جعل يواقع كل فئة على حدتها حتى بدد شملهم وفرق سوادهم وأجلاهم عن أرض مصر. ا.ه.
ولفتح أزدرخت المذكور شهرة عظيمة بين المؤرخين، وهو النكتة المعتبرة في تاريخ الكلدان؛ فإن كل حادثة ذكرت في مصنفاتهم عقيب هذا الفتح وجدت طباق ما هو مسطر في تواريخ غيرهم من أمم ذلك العهد خلاف دأبهم من قبل ذلك، فإنهم كانوا يجازفون في تقرير الوقائع ما شاءوا حتى كانوا يزيدون على سني ملوكهم قبل الطوفان زيادات فاحشة على ما مرت بك مثله، بحيث لو جعلت كل سنة من تلك السنين يوما لبقيت أعظم من أن يحتملها التصديق.
وفي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد دخلت بابل في حوزة العيلاميين، واستقر على سريرها منهم اثنا عشر ملكا، وكانت مدتهم جميعا خمسين سنة أو دونها، ومن هنا يرجح في الظن أنهم كانوا بعد استيلائهم على تلك البلاد قد اقتسموها بينهم دفعا للمشاحات، فكان يملك منهم أكثر من ملك في آن واحد، ولعل فيما ورد في الفصل الرابع عشر من سفر الخلائق ما يستأنس منه بصحة هذا الرأي، فإنه يذكر هناك عدة ملوك كانوا في ذلك العهد متملكين على البلاد الكلدانية، وفي جملة أولئك الملوك كدرلاعومر وأريوك، وفي الآثار ما يستبان منه أن كليهما كانا من الملوك العيلاميين الذين ملكوا في تلك البلاد.
ثم إنه يتخلص من آراء أهل البحث أن هذه الطائفة هي التي وضعت الحرف المعروف بالأناري الذي كان عليه مصطلح الكلدان قبل الحرف المسماري؛ لأن هذا لم يكن معروفا قبل القرن العاشر قبل الميلاد على ما سنبينه بعد، وكان أشهر هؤلاء الملوك كدرلاعومر إلا أنه لم يذكر له على الآثار من عظائم الأعمال ما ذكر لغيره من الملوك ممن لا يضاهيه شوكة وإقداما، ولا يدانيه في كثرة الغزوات وتوسيع الفتوحات على ما هو مبين في الموضع المشار إليه من سفر الخلائق، وملخص ما جاء هناك أن خمسة من ملوك ذلك العهد، وهم ملك سدوم وعمورة وملك أدمة وملك صبوئيم وملك بالع، كانوا تحت إمرة كدرلاعومر ملك عيلام، ودانوا له مدة اثنتي عشرة سنة ثم عصوه وامتنعوا من طاعته، فزحف كدرلاعومر لقتالهم ومعه ثلاثة ملوك آخرين وهم ملك شنعار وملك ألاسار ملك الأمم، فواقعوهم في غور السديم فانهزم ملكا سدوم وعمورة وتشتت من يليهم من أوليائهم وعاد كدرلاعومر وأصحابه بالغنائم والسبايا، ولكدرلاعومر وقائع غير هذه مع الرفائيين والزوزيين والأيميين والحوريين والعمالقة والأموريين غزا أولئك كلهم في بلادهم، وظهر عليهم، وتتمة تفصيل ذلك في موضعه.
أما الزمن الذي ملك فيه كدرلاعومر فلا سبيل إلى معرفته على التعيين، ولكن لا شك أنه كان في القرن العشرين قبل الميلاد، وهو القرن الذي كان فيه إبراهيم الخليل - عليه السلام - لأن كدرلاعومر حين كسر ملكي سدوم وعمورة ومن معهما كان في جملة من أسره لوط ابن أخي إبراهيم وكان نازلا بسدوم، فلما بلغ ذلك إبراهيم نهض في ثلاثمائة رجل من حشمه واستنقذ لوطا ومن معه من يد كدرلاعومر، وأما كون ذلك القرن هو القرن العشرين، فمقرر بشهادة الآثار لأن أهل التوقيت في تلك العصور كانوا يؤرخون من إحدى غزوات كدرلاعومر، كما ورد على بعض الآثار لآشور بانيبال ما معناه: إني استفتحت سوزا ودمرتها في القرن الثالث عشر لغزوة كدرلاعومر. ا.ه. وكان آشور بانيبال في القرن السابع قبل الميلاد؛ ولذلك شواهد أخرى لا نطيل باستيفائها.
وفي أواخر القرن العشرين أخذت دولة العيلاميين في الانحطاط إثر الوقائع المتواترة بينهم وبين الكلدان وتوالي الاجتياحات عليهم، حتى تقلص ظل سطوتهم ووهت أيديهم عن ضبط أزمة المملكة، وحينئذ استتب الملك للكلدان فنهضوا بأعباء الدولة أتم نهوض وجددوا ما طمس لهم من آثار العزة والصولة، واستقرت أيامهم أربعمائة وثماني وخمسين سنة وملك منهم تسعة وخمسون ملكا. فانبسطوا أثناء ذلك في البلاد وامتدت شوكتهم في الآفاق وقهروا كل من ناوأهم من الأمم حتى دوخوا تلك الأقاليم بأسرها، ومن ثم اشتهرت دولتهم وغلبت أشعتها على كل دولة كانت قبلها في تلك الأنحاء، فلم يعرف إلا الدولة الكلدانية.
وأول من يعرف من هذه الدولة إسمي داجون ومعنى اسمه داجون يستجيب وهو اسم إله سيذكر. كان إسمي داجون من أشد ملوك الكلدان بأسا وأمضاهم صريمة وأكثرهم غزوات ووقائع، وكانت في يده مقاليد السياسة والدين معا، وانتشبت بينه وبين الآشوريين معارك شديدة كانت العاقبة فيها له، فأخضعهم لسطوته وفرق الأحزاب وقمع كل من عانده، حتى دانت له جميع الأمصار الآشورية والكلدانية كما دانت لبختنصر من بعده، وكان مقامه تارة بأور عاصمة بابل وتارة بإيلأسر عاصمة آشور، ومن أبنيته فيها هيكل لأوانس كشفته الفرنج من عهد غير بعيد، وفي أيامه بلغت رعيته أعظم مبلغ من الثروة والنعيم وتناهى حالها في المعارف والفنون، وكثرت عنده أسباب القوة والمنعة وامتدت شوكته إلى أبعد الأقطار، حتى إن مانيثون المصري المؤرخ يقول في جملة كلام له ما صورته: وتخوف نوبتي ملك مصر من بأس يفاجئه من نواحي الفرات فيدهم ثغره، فجد في التحصين واتخذ لنفسه الأهبة وشحن الحصون بالرجال. ا.ه. ونوبتي أحد ملوك الرعاة وكان معاصرا لإسمي داجون، وأما زمن تملكه فقد توصل الباحثون إلى معرفته من كتابة وجدوها لتغلث فلأسر الأول ذكر فيها عن نفسه أنه جدد بناء هيكل أوانس المذكور في السنة الأولى بعد السبعمائة من بنائه الأول، وكان تغلث فلأسر في خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فيكون عهد إسمي داجون في خلال القرن التاسع عشر.
وتوفي إسمي داجون عن ولدين ملكا من بعده يسمى الواحد كنعون والآخر شمسي، غير أنه لا يعلم أيهما كان الأسبق في الملك، وليس لهما من الآثار ما هو حقيق بالذكر، وممن اشتهر من أعقابهما همورابي، وهو أول من تروى أخباره عن يقين أخذا عن كتاباته على الآثار، وكان معظم همه موجها إلى تشييد المباني واتخاذ الهياكل والقصور، وقد وجد الباحثون من أبنيته آجرا ضخما يقول على واحدة منه ما ترجمته أن ميليتا الزارية ربة الماء والأرض والهواء والنار وإلاهة الفلك هي سيدتي. أنا همورابي صفي آنو وبعل إيل وولي الشمس الراعي الأمين الذي انشرح به صدر مرودخ الجبار. أنا خليل الإلاهة ميليتا الملك القدير ملك بابل وملك السوميريين والآكديين المتسلط على الأمم كافة. ليكتب أن الآلهة قد ائتمروا وملكوني على هذه الأمم، وقد فعلت كل ما أحبت ميليتا التي خولتني الملك، وسننت على الناس عبادتها كما شاءت، وشيدت لها هيكلا في زاري المدينة المخصوصة بعبادة آكاني، وجعلت هذا الهيكل مقدسا ومعبدا لكل أقطار المعمورة وهو ملاك مملكتي. ا.ه.
وكان مقام همورابي بأور عاصمة المملكة ثم تحول منها إلى بابل، وفيها كان معظم أبنيته، وله في غيرها مبان أخر اشتهرت بفخامتها وحسن رونقها، وهو الذي حفر ببابل الترعة العظيمة التي كان له بها جليل الفخر وحميد الذكر، وقد وفق أهل البحث إلى وجدان آجرة من جدران الترعة قد نقش فيها: أنا همورابي القدير ملك البابليين الضابط لأزمة الأقطار الأربعة - يعني بابل وأرك وآكد وكلنة - القاهر كل مناوئ لمرودخ إلهي ونصيري. إن الإلهين بينا وبعل إيل قد قلداني الملك على أمتي سومير وآكد وأفعما يدي بجزى هذه الطوائف، وقد كريت نهر همورابي الذي هو سعادة البابليين وبلغت به إلى أرض السوميريين والآكديين، فأمرعت به الفلوات القحلة وكل بقعة لا ماء بها أفضت عليها معينا عدا، وأجريت للسوميريين والآكديين مناهل لا تنقطع، فجعلت لهم في المدائن والدساكر قرارا خصيبا، وأنشأت لهم من البلقع الغامر مروجا رائعة وخمائل يانعة وناديتهم أقيموا في الرغد والخصب، فهذه أرضكم أرض ريع وهناء. أنا همورابي الملك الهمام خليل الإله الأكبر، إني وفاقا لما أوعز به إلي مرودخ الإله القدير قد شيدت عند منفجر نهر همورابي أطما شامخ الرأس وشحنته بالبروج العظيمة التي هي أمثال الجبال الشواهق، وسميت هذه الأطم دور أموبانير - أي أطم أموبانير - باسم الأب الذي نزلت من صلبه ، وجعلت هذه الأمصار مباءة لي تخليدا لذكر أموبانيرابي. ا.ه.
ولما انقضى عهد همورابي تداول سريره ملوك كثيرون قد اشتبهت أسماؤهم وتداخلت أنباؤهم، فتعذر تخليص بعضها من بعض، ولذلك أضربنا عن تتبع أخبارهم لقلة جدواها وعدم مصيرها إلى حقيقة قاطعة، وفي عهد أولئك الملوك أخذت دولة الكلدان في الانحطاط والانحلال وزحفت عليهم الجيوش المصرية، فكانت بين الفريقين وقائع متواترة نحو قرن من الدهر، وذلك من سنة 1665 قبل الميلاد إلى سنة 1559، وكان المصريون في هذه البرهة كلها منبثين في مملكة الكلدان لا تخلو من شراذم منهم يسطون في البلاد ويعيثون في أهلها، إلى أن وفد توثمس الأول أحد مشاهير ملوك مصر إلى كركميش في السنة المذكورة وعبر الفرات برجاله وزحف على بابل، فنازلها وألقى الحصار على بروجها، فاستفتحها عنوة ودخلت البلاد في طاعته ولبثت تؤدي الجزية، ولما توفي توثمس تمرد الكلدان على ملوك مصر ونبذوا طاعتهم حتى كان عهد توثمس الثالث، فجدد عليهم الغارة وزحف بجنوده حتى أتى بابل فحاصرها وأخذها وأثخن في أهلها وانصرف عنها ظافرا، وعند انصرافه ولى عليها من يثق به من أهلها بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق، فما زال الأمر فيها للفراعنة من بعده يولون عليها من شاءوا إلى سنة 1314 قبل الميلاد، فكانت مدة ولايتهم على بابل وما يليها مائتين وخمسا وأربعين سنة، وكانوا في هذه الأحقاب كلها يأتون بأولاد الولاة الذين يولونهم بابل إلى مصر فيلقنونهم عقائدهم من الدين ويؤدبونهم بآدابهم وعاداتهم، حتى إذا توفي أحد آبائهم أنفذوا من أعجبهم منهم فعقدوا له مكان سالفه كما هو مقرر في الآثار المصرية، وكان إذا تمرد أحد هؤلاء الولاة وأبى حمل الجزية إلى مصر خلعه الفراعنة عن خطته وقلدوا الأمر من هو أهل له. فأصبح ملوك بابل من خلفاء همورابي وإسمي داجون لا يملكون إلا على أعمال بابل فقط، وصاروا في منزلة ملوك نينوى وسنجار وأيلأسر، وكان عدد من ملك من البابليين تحت إمرة الفراعنة تسعة ملوك ذكر بيروسوس أنهم من أصل عربي، غير أنه لا يعلم هل كانوا من نفس العرب سكان الجزيرة أم من أهل سورية والكنعانيين؛ لأن اسم العرب كان يطلق قديما على كل من كان عربي المنطق، وكانت العربية إذ ذاك شائعة في أقطار آسيا الغربية كلها، والذي في رأي أكثر المحققين أنهم كانوا من العرب السوريين بدليل عبادتهم لسوتخ، وهو من الآلهة التي لم تعرف إلا عند السوريين.
ويذكر في جملة من ولي بابل من ملوك العرب ثلاثة ملوك: أحدهم يقال له بورنبورياس، والثاني كراهرداس، والثالث نزيبوكاس، وهم الذين أضرموا نيران الحرب بين بابل وآشور، فلم ينطفئ سعيرها حتى أخضعهم تغلث سمدان سنة 1314، واستخلص المملكة من أيدي الفراعنة على ما سبق الإلماع إليه، فانثلت عروشهم وتبددوا في الأرض، واستعمل سمدان على بابل رجلا من أصحابه واستمرت بابل تحت إمرة الآشوريين يتعاقب عليها الواحد بعد الآخر إلى منتصف القرن الثاني عشر، فنهض واحد من الكلدان يقال له بين بلأدان، وحشد جموعا كثيرة وزحف على آشور، فواقعها وظهر عليها ورجع عنها ظافرا غانما، فاعتز شأنه وارتفعت كلمته ونفذ سلطانه في الأقاليم الكلدانية كلها، ولما تمهد له أمر الملك أقبل على تحصين بابل وعززها بالأسلحة والرجال وبنى على مدينة نيبور سورا سماه نيويت مرودخ، وفي تلك الغضون توفي ملك آشور الذي كانت الواقعة بين بلأدان وبينه، فقام بالأمر بعده آدار بلأسر، فجيش جيوشه وخرج لقتال بلأدان فاستعرت بينهما الحرب، واتفق في تضاعيف ذلك أن توفي بلأدان وتوفي آدار بلأسر أيضا دون أن يتوجه الفوز لأحدهما، فخلف بلأدان نبوخذرصر وقام مكان آدار بلأسر آشور زيسي وقامت معهما الشرور والفتن، وما زال دأبهما ذلك حتى هلكا كلاهما في حديث قد ذهبت عنا تفاصيله فاقتصرنا منه على ما أوردناه.
ولما كانت سنة المائة والألف قبل الميلاد وفد مرودخ دنياكي الكلداني على آشور بجموعه وأقام الحصار على هيكالي فدمرها عن آخرها، وكان على آشور إذ ذاك تغلث فلأسر وكان ملكا عالي الهمة شجاعا فاتكا، فألب جيشه وبرز لقتال دنياكي فالتحمت الحرب بين الفريقين زمانا حتى كانت الغلبة لآشور، فولى جيش الكلدان أدبارهم بعد أن قتل منهم خلق كثير وكانت آخر نوبة زحفوا فيها على آشور إلى أن نهض بعليزيس الكلداني وتحالف مع أرباش المادي وجيش على نينوى، فأخذها عنوة وتركها قاعا صفصفا وذلك سنة 788 قبل الميلاد، وقد أسلفنا طرفا من هذه الواقعة في القسم الأول من الكتاب، وسنعود إلى تفصيلها إن شاء الله تعالى.
ذكر الدولة الآشورية الأولى
أما تاريخ الدولة الآشورية فلم تزل أوائله غائبة تحت ظلمات الإبهام لا يكاد يوقف منها على حقيقة يوثق بها، ولا سيما ما كان منها بعيد العهد في أزمان نشأتها، وقد تباينت أقوال المؤرخين في مؤسس هذه الدولة ومشيد أركانها الأول، فمنهم من قال إن نمرود هو أول من أسس مدينة بابل، ثم خرج إلى نينوى فبناها، وقد سبق لنا كلام في هذا المبحث عند ذكر مدينة نينوى يغني عن التكرار هنا.
وذهب غيرهم إلى أن باني نينوى هو نينوس، بدليل تسميتها وظاهره غير بعيد من الصحة لولا معارضة النصوص له كما ورد في سفر الخليقة من أن بانيها آشور بن سام على ما أسلفناه هناك، وأكثر أرباب البحث في هذا العصر على أن بانيها مجهول أو أنه لا يتعين لها بان بعينه، وإنما هم جماعة من أهل تلك الأرض ضربوا فيها مساكنهم، ثم أخذوا يشيدون فيها المباني شيئا بعد شيء وتوطنوها، وجعلت العمارة تتزايد فيها كلما تكاثر أهلها واتسعت أرزاقها شأن غيرها من سائر الأمصار.
قلت: والأظهر أن أولئك القوم كانوا شرذمة من الكلدان نبت بهم أوطانهم فخرجوا إلى تلك الأرض، ولما استقروا في موضع منها ولوا أمرهم رجلا منهم لقبوه بآشور، وهي كلمة بمنزلة القيل عند العرب، ثم أخذوا في بناء هذه المدينة وآووا إليها وتداولوا ملكها، وكان من أمرها ما نحن فيه. يشهد لذلك أنا نرى أكثر الأشياء التي تواطأ عليها الآشوريون من نحو العقائد والعوائد واللغة وأشكال الأبنية وغير ذلك هي نفس ما عند الكلدان، ولا نرى كذلك بقية الأمم المتجاورة فإنها إن لم تكن ذات أصل واحد لم تكد تتوافق إلا في الشيء القليل مما لا يقضي بينها بهذا الحكم، وفي هذا الرأي موافقة لمقال مؤرخي الكنيسة من أن آشور وقومه لبثوا زمانا مخالطين للبابليين في أرض الكلدان، ثم فارقوهم لظلم أحسوا به أو استقلال سموا إليه، فصح أن أصل الآشوريين كلداني استدلالا ونقلا، والله أعلم بالصواب.
ثم إن نص الكتاب لا يورد من هذا القبيل إلا لمعة خفيفة، وبقي تاريخ أعقاب آشور وما آل إليه أمرهم في تقلب ملكهم كل ذلك مجهولا إلى هذا العهد، وقصارى ما يعلم من شأنهم أنهم أفضى بهم حول الدهر إلى الوقوع في قبضة ملوك الكلدان، إلا أن هذا النبأ عار عن التفاصيل غفل من بيان علل سقوطهم وتاريخ انحلال ملكهم وتوقيت الزمان الذي لبثوا فيه تحت إمرة الكلدان إلى حين خروجهم من ربقتهم، وقد يستخلص مما ذكره الكتاب من أن الله جل وعلا لما أراد عقاب بني إسرائيل على معصيتهم أسلمهم إلى كوشان رشعتائيم ملك أرام النهرين، أن الآشوريين كانوا في ذلك العهد تحت ربقة الكلدان؛ لأنهم لو كانوا مستقلين في ملكهم لأسلم بني إسرائيل إليهم لينفذوا فيه نقمته، كما كان من شأنه تعالى أن يسلطهم عليهم كلما أراد نكالهم على ما سنبينه في الكلام على أسرحدون وشلمنأسر وبختنصر وغيرهم، ومهما يكن من ذلك فالذي يفهم من روايات المؤرخين أن الآشوريين مضى عليهم القرن الثامن عشر والسابع عشر والسادس عشر قبل المسيح، وهم في قبضة الكلدان يذوقون من أنواع الذل وأصناف الجور ما لا طاقة لهم به، حتى ضاقت صدورهم وعيل اصطبارهم، فأخذوا يجهدون في التملص من أيديهم، حتى إذا كادوا يظفرون بالنجاة انقضت عليهم جيوش مصر فأذاقتهم البلاء وسامتهم الخسف والرق، وما زالوا في مثل تلك الحال من ضغط المصريين عليهم وغزوات البابليين لهم ممن كانوا يلون تحت إمرة الفراعنة على ما سبق الإيماء إليه حتى انتهى القرن الخامس عشر، ثم تلاه القرن الرابع عشر فنهض في أوائله رجل منهم من أهل الشدة والنجدة يقال له نينيب فلأسر، وهو تغلث سمدان المقدم ذكره قبيل هذا، فصاح في قومه الآشوريين وجرد منهم خلقا لا يحصى وزحف بهم على بابل، فنازلها وحاصرها حصارا شديدا إلى أن افتتحها عنوة سنة 1314 وأباد أهلها قتلا وأسرا.
ونينيب فلأسر هذا هو الذي يسميه الفرس بنينوس، ويجعلون سميراميس زوجته في حديث طويل نلخصه هنا عما رواه أكتزياس طبيب أرتكزرسيس ملك فارس عن السجلات التي كانت في بلاط الفرس بفرسبوليس على ما سلف بيانه في أوائل الكتاب، وعن أكتزياس هذا أخذ أكثر المؤرخين، ومن تاريخه فيما نحن فيه ما رواه ديودوروس الصقلي من كلام يقول فيه ما معناه: ولما انحطت أحوال البابليين إثر المواثبات التي وقعت ببابل أيام دخلتها العرب نهض نينوس الآشوري لإنقاذ قومه من ربقة الذل، فشرع في حشد الجنود وجمع الأقوات واتخاذ العدد وزحف بجيشه إلى بابل، فامتلكها بعد حصار عنيف وأثخن في أهلها وقتل ملكها وحبس امرأته وبنيه وبناته وسائر من ينتمي إليه. ثم انصرف عنها فعطف على أرمينية وفي عزمه أن ينزل بها ما أنزله ببابل، فازدلف إليه ملكها بما عنده من أصناف الكنوز والذخائر الكريمة، فتقبلها نينوس من يده وانصرف عنه راضيا. ثم مضى بجنوده إلى مادي، وكان عليها يومئذ ملك جبار من أرباب الصولة والبأس فأنف من التسليم إلى نينوس والانقياد لطاعته، فواقعه نينوس وقهره ثم قبض عليه وصلبه، وبقي نينوس على مثل تلك الحال نحوا من سبع عشرة سنة يغزو في البلاد ويفتح الحصون والمعاقل ويدمر الأسوار والمدن، حتى استولى على جميع البلاد الواقعة ما بين البحر المتوسط وبحر الخزر ونهر الهند وخليج فارس. قال ولما قفل نينوس إلى بلاده بالغنائم والسبايا هم بابتناء مدينة يجعلها مباءة له ولأعقابه لا يقع في الإمكان أن يكون لها مثيل على تراخي العصور وتوالي الأحقاب، فأقام فيها الأبنية ورفع عليها سورا منيعا شيد عليها بروجا باسقة الارتفاع، ونادى بالناس إلى سكنى المدينة فاجتمع إليها ألوف من الرجال والنساء من أشراف الناس وصعاليكهم، وتواردت إليها أسباب الثروة والعمران، فما لبثت إلا زمنا يسيرا حتى صارت لا تدانيها مدينة في الأرض.
قال وبعد أن تم بناء السور هب نينوس للمسير فجند جنوده وارتحل بهم إلى بقتريا عاصمة بقتريانا، وكان قد قصد هذه المدينة من قبل وأضرم عليها لظى الحرب زمنا، ثم تراجع عنها عن عجز وخسران، فلما عاد إليها في الكرة الثانية لبث تحت أسوارها أمدا طويلا حتى ضعف رجاؤه في النصر وتخوف أن يفرغ من عنده الزاد، فتكون في ذلك هلكته وفناء جيشه. فحدث في تلك الأيام أن الإله الكبير أنفذ إلى نينوس امرأة قائد من قواده اسمها سميراميس فأشارت عليه بحيلة يتمكن بها من الاستيلاء على المدينة، ففعل فانفتحت له أبواب البلد ودخلها ووضع السيف في أهلها فتعزز سلطانه وقويت شوكته في سائر الأقطار، ومذ ذلك الحين هام نينوس في حب سميراميس وكلف لها كلفا لا مزيد عليه، وعلم بذلك بعلها القائد ورأى أنه لا يقوى على مقاومة الملك ولا يصبر عن امرأته، فخنق نفسه ومات شر ميتة، فوقع موته عند نينوس أشهى موقع، ولم يلبث أن أمر فعقد له على سميراميس وتزوجها. انتهى بتصرف.
وممن اشتهر من ملوك آشور تغلث فلأسر المقدم ذكره قبيل هذا، ولي الملك في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وهو السابع من أعقاب نينيب فلأسر، وله على الآثار ما يشهد بأنه كان من جلة ملوك آشور الموصوفين بالإقدام وكثرة الغارات ووفرة العمارات، ومن عهد غير بعيد وجد له أثر في أخربة كالح شرعات قد سطر عليه تاريخ فتوحه فيما ينيف على سبعمائة سطر، ذكر في جملتها أنه بلغ في غاراته بحر الخزر الذي يسميه البحر الأعلى، ودوخ ما هنالك من البلاد وأنه اخترق جبل لبنان، ولم يكن اخترقه ملك آشوري قبله وركب البحر المتوسط إلى جزيرة رواد وزحف بجيشه على ممالك كثيرة، فقهرها ورجع عنها ظافرا وطأطأت له ملوك طانيس كنف الطاعة والخضوع، فأطرفه فرعون مصر بتمساح من تماسيح النيل توددا إليه وتزلفا من رضاه، وفي عهده نهض مرودخ دنياكي الكلداني على هيكالي وأخذها عنوة على ما قدمناه ، فثار تغلث فلأسر بجيش كثيف وأم بابل، فخرج إليه مرودخ واقتتل الفريقان في قاع من الأرض بظاهر بابل، وكانت العاقبة للآشوريين فأثخنوا في البابليين ومزقوا شملهم كل ممزق ودخلت المدينة في حوزتهم.
وبعد وفاة تغلث فلأسر انتشبت الفتن بين الآشوريين وتفرقت كلمتهم فلانت شوكتهم وضعفت صولتهم، وفي تضاعيف ذلك زحف عليهم قوم من الكيتاسيين فناصبوهم حربا شديدة فلم يستطيعوا الثبات أمامهم، واستولى الكيتاسيون على كثير من البلاد وضربوا عليهم الذلة، وبعدما شاء الله من الزمن نهض رجل من أعيان الدولة الآشورية يقال له بعل كيتراسو واليونان يسمونه ببعليتراس، وقد رأى ما حل بالدولة من انحلال عراها واختلال أمرها، فعمل على خلع الملك وهو يومئذ آشور بمار وغلبه على الملك، ونقل السرير من آشور إلى مدينة نمرود، وكان بعليتراس هذا من الأمراء آل الملك كما يستفاد من كتابة لبعلوخوس الثالث الآشوري خلافا لما يزعمه اليونان من أنه كان أجنبيا عن الملك، ولما انقضت أيامه قام بأعباء الدولة بعده شلمنأسر الثاني ثم إربين، وتعاقب بعده ملوك آخرون حتى أفضى الأمر إلى بعلوخوس الثاني، وكانت مدة ملكه من سنة 956 إلى 936، وهو الذي كانت الواقعة بينه وبين ملك مادي، فأخضعه لدولته وأقام الماديون يؤدون الجزية، ولنا من عهد هذا الملك إلى انقضاء الدولة الآشورية سلسلة متواصلة لجميع الملوك الذين ركبوا سرير آشور من غير نقص ولا خلل.
وتولى الملك بعده ابنه تغلث سمدان الثاني وكان رجلا جبارا مولعا بالفتوح والغزوات دون تشييد الأبنية؛ لأنه لم يعثر له على بناء باسمه إلا أن تكون قد ذهبت به الأيام ومحاه توالي الخراب فلم يبق إلى كشفه سبيل، وقد وجد أرباب التنقيب آجرة من آثاره قد نقش عليها ما معناه: أنا تغلث فلأسر الملك القدير المستولي على الأمم كافة، أنا السيد العظيم الذي ليس سيد في المعمورة إلا وأنا سيده. لقد ملكت بسيفي الأقطار الأربعة وغزوت بجيشي صغير الممالك وكبيرها، وكل عدو لربي قمعته وأرغمت أنفه، وذكر بعد ذلك إخضاعه لمملكة كوماغنيا ثم المملكة الواقعة عند منفجر دجلة - ولا شك أنه يريد أرمينية - ثم استيلاءه على القسم الأعلى مما بين النهرين وإجلاءه لطوائف تلك الآفاق، ثم وصف خروجه إلى مصر وظهوره عليها وتملكه لها، وقهره من انتصر لها من ملوك الأقاليم المجاورة، إلى أن قال: فبلغ جملة ما ملكته اثنتين وأربعين مملكة وولاية تمتد من أقاصي المشرق إلى أطراف المغرب، وحملت من حيوانها ونباتها وغرائب موجوداتها فضلا عمن أجليته من كل مملكة أخضعتها، وجئت بذلك كله فجعلته في مملكتي الزاهرة. انتهى، وكانت مدته من سنة 935 إلى سنة 930.
وبعد تغلث فلأسر تولى زمام الدولة ابنه آشور نزربال الثالث واستقر على سرير الملك من سنة 930 إلى سنة 905، وكان تملكه في اليوم الثاني عشر من شهر تموز على ما حققه أهل الهيئة في هذا الزمان؛ لأنهم وجدوا على الآثار ما مفاده أن هذا الملك ولي السلطان في اليوم الذي كسفت فيه الشمس كسوفا تاما، وكان ذلك بموجب حسابهم في اليوم المذكور، وكان مولعا بتشييد المباني وإقامة الهياكل والقصور، وقد وجد له ما لا يحصى من الآثار الموسومة باسمه من أبنية وتماثيل آلهة وأوان مختلفة من الذهب والفضة والعاج وغير ذلك، ومن أبنيته القصر العظيم بنمرود الذي كشفه السير لايرد الإنكليزي، وقد بقيت منه بقايا تدل على أنه كان من الفخامة والإحكام بمكان، وله بنمرود أيضا الهرم الباذخ الذي شيده لرصد الكواكب، وعلى مسافة منها هرم آخر كان هيكلا لآدار بناه، وأقام فيه تمثالا له قد نقش عليه ما ترجمته: أنا آشور نزربال الظافر الميمم رب القصر الآشوري ابن تغلث سمدان ليث القراع ومخراق الحروب المالك على الأربعة الأقطار ابن بعلوخوس الملك المظفر المتسلط على الطوائف الآشورية. لقد ملكت بسيفي جميع الأقاليم الممتدة من لدن منفجر دجلة إلى أطراف جبل لبنان. ا.ه.
وكان آشور نزربال ظلوما جافيا سفاكا للدماء لا تأخذه في أحد رحمة ولا تعطفه عاطفة، وكان إذا أسر قوما نكل بهم تنكيلا فظيعا فيصلم آذانهم ويجدع أنوفهم ويقطع أيديهم وأرجلهم إلى ما شاكل ذلك، فضلا عما يركبه من الفواحش في السبايا والأطفال، ثم يجمع تلك الأعضاء فينضد بعضها فوق بعض حتى تصير بناء قائما في السماء ويتلذذ بالنظر إليها. قلت: وهذا أشبه بما يروى عن نيرون الروماني وقت إيقاعه بأهل الدعوة النصرانية من أنه كان يصلب الجماعة منهم في ربض المدينة ثم يطلي أبدانهم بالقار والنفط، فإذا خيم الليل أمر بإحراقهم ثم خرج على عجلته ومعه وزراء دولته وكبراء بلاطه يتفرجون على ذلك المشهد الكريه، ومع ما في هذا الصنيع من شدة القسوة التي تدل على نهاية الخشونة والبربرية، فلا ينكر على الآشوريين أنهم كانوا في ذلك العهد قد بلغوا قمة التمدن والحضارة في فنونهم وصنائعهم، ولهم في أواخر أزمانهم ما هو أشنع وأفظع مما ذكر، فقد روى عنهم هيرودوطس اليوناني وكان قد قدم بابل في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، أنه لما حدثت الفتنة في بابل قبيل ذلك العهد بقليل ووفد عليها داريوس هستاسب وحاصرها سئم أهلها من طول الحصار وفرغت أهبتهم، فذبحوا عددا كثيرا من نسائهم بحيث لم يتركوا إلا امرأة لكل واحد منهم. ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى استفتح داريوس المدينة، فلما دخلها وعلم بما صنعوا حنق عليهم حنقا شديدا فأطلق يده فيهم بالعذاب والتمثيل وصلب منهم ثلاثة آلاف رجل. انتهى.
ولما توفي آشور نزربال خلفه على الملك ابنه شلمنأسر الثالث، وكان ملكه من سنة 905 إلى سنة 870، وعلى عهده عظم شأن آشور واتسع نطاقها وأطلق عليها في الكتاب اسم مملكة، ومن شهير أعماله التي ذكرت في التاريخ وأقرتها الآثار ما ورد له منقوشا على أحدها؛ حيث يقول ما ترجمته: في السنة التاسعة لملكي عبرت نهر الفرات، وهي ثامن مرة عبرته فيها ودمرت مدينتي سنجار وكركميش وصيرتهما مأكلا للنار. ثم خرجت لمواقعة ابن حدري الشامي وصخلينا الحموي واثني عشر ملكا من ملوك الساحل - يعني فينيقية - فقهرتهم واستحوذت على كنوزهم وعجلاتهم وعددهم وخيولهم، وفي السنة العاشرة خرجت بمائة وعشرين ألفا من الجند إلى حماة، فأخذتها واستوليت معها على تسع وثمانين مدينة، وفي السنة التاسعة عشرة خرجت على حزائيل خليفة ابن حدري، فغنمت منه ألفا ومائة وإحدى وعشرين عجلة وأسرت أربعمائة وسبعين فارسا بعددهم، وفي السنة الموفية للعشرين سرت إلى جبال أمانوس وقطعت من أرز لبنان جسورا حملتها إلى آشور، وفي السنة الثانية والعشرين سيقت إلي الجزية من صور وصيداء وجبيل، وبعدها وفدت علي الهدايا من ياهو ملك إسرائيل، وله أعمال غير هذه سطرها على السارية التي نصبها بنمرود أضربنا عنها لضيق المقام.
وبعد شلمنأسر أفضى الملك إلى ابنه شمسيهو الثالث المعروف بصامس بين، وكان له أخ قد استحوذ على بعض الممالك التي افتتحها أبوه فتشاحا عليها، واستطارت بينهما الفتنة نحوا من خمس سنين، ونشأت عن ذلك مشاغب شتى في بابل ونينوى وكثر الهرج حتى أصبحت عترة الملك في خطر أن تسقط رأسا، وفي آخر الأمر استقر الفوز لشمسيهو فاستخلص تلك الممالك من أخيه وخلا بأمر الملك، وقد عثر له على أثر يقول فيه: إنه خرج على بابل لقتال مرودخ بلتاريب، وكان مرودخ تحت إمرة الآشوريين، فلما ثارت الفتنة بين شمسيهو وأخيه اغتنم تلك النهزة لشق عصا الطاعة وجاهر بالعصيان، فواقعه وظفر به وقتل زعماء الأحزاب وغنم منه مائتي عجلة وأجلى من رعيته سبعة آلاف نفس. ا.ه.
وتولى الملك بعده ابنه بعلوخوس الثالث، وعلى عهده استؤنفت الفتنة في بابل وتمادى القوم في المنابذة والخلاف، حتى عجز عن ردهم إلى طاعته فارتأى أنه إذا تزوج واحدة من بنات ملوك بابل كان في ذلك وسيلة إلى بلوغ مأربه وأمن سورة الشقاق. فوقع اختياره على سميراميس التي يروي عنها بعض متقدمي المؤرخين أفعالا يضيق عنها نطاق التصديق، ومما وجد من آثاره آجرة قد نقش عليها: أنا بعلوخوس قد ضربت الإتاوة على جميع المدن والأقاليم والممالك الواقعة ما بين سورية وفينيقية وحدود صور وصيدون والسامرة وأيذومة وفلسط. ا.ه. وهي أول مرة ذكرت فيها فلسط؛ أي فلسطين على آثار آشور، وفي لندرة اليوم تمثال ضخم للإله نبوكان نصبه وزير بعلوخوس، وكتب عليه: أيها الإله نبو المعظم عصمة مولاي وعضده كن مؤازرا له بحولك وقدرتك واحفظ سيدتي الملكة سميراميس زوجته. ا.ه.
وسميراميس هذه هي التي ذكرها هيرودوطس، وقال إنها كانت مالكة قبل نيتوكريس بمائة وستين سنة، وجاء المؤرخون بعده فخطئوه ورووا عنها أقاصيص وأخبارا لا يحتمل غرضنا الإطناب بذكرها، غير أنا نورد بعضا من تلك الحكايات تفكيها للمطالع، فمن ذلك ما حكاه بعلوطرخوس في جملة كلام أورد فيه ذكر سميراميس قال: وتوسلت هذه الملكة إلى بعلها نينوس أن يفوض إليها أزمة الأحكام خمسة أيام تستبد فيها دونه، ففعل وأنفذ بالأوامر المؤكدة إلى جميع العمال وأرباب المجالس والأحكام أن يولوها جانب الإذعان ولا يخالفوها في شيء مما تأمرهم به. فلما خلت بالملك كان أول ما أمرت به طرح نينوس في السجن وخلعته عن السرير رأسا، فبقي في محبسه يعاني الذل والقهر حتى أدركته الوفاة، وقال ديودوروس ومن أخذ أخذه من الكتاب: كانت سميراميس من طائفة خاملة الذكر من رعاع عسقلان، فلما وصلت إلى الملك أفرغت طوقها فيما يذيل به ذكرها الدنيء من الأعمال العظيمة والفتوح الجسيمة، فحشدت إليها البنائين والصناع من أنماط شتى وأمرت بإقامة السورين العظيمين اللذين يحيطان ببابل، فبلغا سبعين كيلومترا طولا، ورفعت فوقهما بروجا منيعة، وخططت أزقة المدينة وقسمتها إلى ستمائة وخمسة وعشرين حواء، وشيدت هيكل بعلوس والقصر الملكي والحدائق المعلقة مما سلف ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب. قالوا: وإن سميراميس لم تقنع بالملك الذي تقلدته عن بعلها، فنادت في قومها وحشدت من الجيش ما بلغت عدته ألف ألف جندي، وزحفت بهم إلى أرمينية وهي في طليعتهم، وكان على أرمينيا ملك يقال له قارا فظهرت عليه وقهرته وولت مكانه رجلا من أصحابها. ثم سارت إلى فلسطين فأخضعتها واستولت عليها وتقدمت من هناك إلى مصر فامتلكتها، ثم عطفت على الحبشة ففعلت بها كذلك، ولم يمض عليها إلا زمن يسير حتى دانت لها جميع الأقطار التي بين الصين والحبشة. ثم وجهت الغارة إلى الجنوب فارتحلت بعسكرها إلى بلاد الهند، وتقدمت إلى رجالها أن يذبحوا ألوفا من الثيران الدهس ويسلخوا جلودها ويقطعوها على هيئة الفيلة، حتى تكسو بها أبعرتها وخيولها وتقدمها أمام الجيش إيهاما للعدو، وبلغ ملك الهند خبر مقدمها فتجهز لقتالها وألب جيشا كثيفا، ووجه شرذمة من الجيش أوعز إليهم أن يبروزا لها ثم ينهزموا أمامها حتى تدخل إلى أواسط البلاد.
فلما التقى الجمعان والتحمت الحرب ولت الهنود على أعقابها وتبعتهم سميراميس برجالها حتى أوغلت في أرضهم، وكانوا قد كمنوا لها في موضع من البلاد، حتى إذا بلغت موضع الكمين ثاروا في وجهها وأطبق جيشهم من كل جانب، فأهلكوا من قومها خلقا لا يحصى وانهزمت سميراميس شر هزيمة، وقد أصابها جرح بالغ كادوا يمسكونها به لولا خفة فرسها وسرعتها في المفر، وانثنت قافلة إلى بابل بالفشل والخسران. ا.ه.
وخلف بعلوخوس الثالث وسيراميس آشور ليخوس المعروف بسردنابال أو سردنافول، وفي أيامه تفاقم أمر الفتنة في بابل ووهت سطوة الآشوريين، وتضعضعت دعائم دولتهم لما كان في سردنابال من الغفلة وضعف النفس ووهن العزيمة؛ لأنه أفنى زمانه في حشد الأموال ومعاقرة اللذات والإقبال على اللهو والخلاعة، وكان لا يفارق دار حرمه ولا يهمه إلا مغازلة نسائه، حتى قيل إنه كان يتزيا بملابسهن ويعمل أعمالهن من الغزل ونحوه إلى غير ذلك، ولما كان أهل بابل قد سئموا من تسلط الآشوريين عليهم وهم غير غافلين عن انتهاز فرصة للتخلص من أيديهم نهض بعليزيس الكلداني وحالف أرباش ملك مادي على آشور، كما قدمنا تفصيله في القسم الأول، وكان من عاقبة هذه الحرب خراب نينوى عن آخرها وإحراق الملك نفسه وآله في النار على ما مر هناك، واضمحلت بذلك الدولة الآشورية الأولى.
ذكر الدولة الآشورية الثانية
ولما تم هذا الفتح لبعليزيس واطمأنت له البلاد جعل مقامه بآشور وبقيت في حوزته إلى أن توفي سنة 747، وبعليزيس هذا هو المعروف بفول وهو على ما في الآثار الآشورية من سلالة ملوك آشور الأولين، وليس لنا من أخباره إلا ما ورد عنه في رابع أسفار الملوك؛ حيث ذكر أن منحيم ملك إسرائيل لما قتل شلوم بن يابيش الذي كان مالكا قبله وتسلق عرش الملك أرسل إلى فول ملك آشور يستصرخه ويستعين به على إقرار الملك في يده، وجهز له ألف قنطار من الفضة ضربها على قومه فلباه فول وأسعفه بما أراد، وبعد أن استنض منه المال قفل راجعا إلى أرضه وكان ذلك سنة 771، وفي سفر يونان أن الله جل جلاله أرسل نبيه يونان - عليه السلام - إلى نينوى ينذرهم خراب المدينة إن لم يتوبوا إليه تعالى، فلما اتصل خبره بالملك نزل عن أريكته وجلس على الرماد، وهو قد تردى بالمسح وأمر مناديه أن ينادي في المدينة بصوم عام على الناس والبهائم جميعا لا تذوق نفس منها مطعما ولا مشربا، وأن يلبسوا المسوح كذلك ويبتهلوا بالدعاء إلى الله ويأخذوا بأسباب الصلاح والتوبة، فلما فعلوا ذلك عفا الله عنهم وكف عن المدينة.
وبعد وفاة فول انتقض الآشوريون على أهل بابل ونبذوا الطاعة لهم ووقعت بين الفريقين مجاولات شتى، وكان في طليعة الآشوريين واحد من أبناء ملوكهم يعرف بتغلث فلأسر الرابع، ودامت الحرب بينهم نحوا من أربع سنين حتى كان الظفر للآشوريين وذلك سنة 743، وكان تغلث فلأسر هذا رجلا جبارا فاتكا مقداما، وقد أوتي من النصرة والتوفيق شيئا عزيزا حتى طار ذكره في الأقطار، وظللت مهابته على الأمصار، وكان يلقب نفسه بنينوس الثاني، وكان لما استقر في يده أمر آشور واستوثق له الملك أنه صرف اهتمامه إلى النظر في أحوال الدولة وجمع ما تفرق من أمرها، ونظر إلى الممالك التي استفتحها الآشوريون من قبله، فإذا بالكثير منها في قبضة البابليين فعقد عزمه على استرجاعها، ولم يلبث أن زحف من تلك السنة إلى أسروينا وشمالي الأقطار الشامية فأخضعها لسطوته، وفي السنة التالية سار إلى أرمينية فنكبها واستولى عليها وأجلى عدة كثيرة من أهلها إلى آشور، واتفق في تضاعيف ذلك أن هاجت حرب بين فاقح ملك إسرائيل ورصين ملك دمشق وبين آحاز ملك يهوذا، حتى تضايق آحاز جدا فبعث إلى فلأسر المذكور يستعديه، وأنفذ إليه بما كان في الهيكل الكبير وقصر الملك من الذهب والفضة وكان شيئا كثيرا، فجرد فلأسر جيوشه ونزل على دمشق فافتتحها وقتل رصين ملكها، ثم عطف على فلسطين فقهر فاقح ملك إسرائيل واستولى من مدائنه على عيون وآبل بيت معكة ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد وكل أرض نفتالي وساق سكانها إلى آشور، وبعد ذلك ارتد على آحاز ملك يهوذا، فقاتله ثم تاركه الحرب على مال يحمله إليه وذلك سنة 734، ولما فرغ من أمر أولئك الملوك وجه الغارة إلى المشرق، فلم يمر بأرض إلا أذاقها البلاء وظفر بملك أريانا واستحوذ على كثير من مدنه وضياعه، وما زال ذلك دأبه إلى أن توفي سنة 727.
وخلفه على سرير الملك شلمنأسر الرابع وقيل الخامس وقيل السادس، ومن أخباره ما جاء في أسفار الملوك أيضا من أنه زحف على هوشع ملك إسرائيل بالسامرة وقهره وضرب عليه الجزية، فلبث يؤديها مدة، ثم انقطع عن تأديتها وبعث إلى سوء ملك مصر يستنجده فعاد إليه شلمنأسر وظفر به وأرسله إلى السجن مكتوفا، وحاصر مدينته السامرة فمكثت ثلاث سنين تحت الحصار ثم افتتحها عنوة وأجلى من بها من الإسرائيليين إلى آشور، فأنزلهم بحلاح وعلى عدوة خابور نهر جوزان وبث منهم أناسا في مدائن مادي، ثم بعث عصبة كبيرة من الآشوريين، فبوأهم السامرة وانقرضت مذ ذاك مملكة إسرائيل آخر الدهر بعد أن دامت مائتين وأربعا وخمسين سنة، وكان ذلك سنة 721 قبل الميلاد، وفي بعض الآثار أن الذي كان فتح السامرة على يده هو صاريوكين خليفة شلمنأسر المشار إليه، والصحيح في ذلك كما ذهب إليه أكثر المحققين أن شلمنأسر توفي أثناء الحصار، فتم الفتح على يد صاريوكين، وكان القائد الأكبر في الجيش فنسب الفتح إليه.
ولما هلك شلمنأسر لم يكن في ولده من يضطلع بأعباء الملك، فتسلق السرير صاريوكين قائده المشار إليه وهو المسمى في الكتاب بسرجون، وعلى يده تم فتح السامرة على ما قررناه، وكان جملة من أجلاهم من اليهود نحوا من سبعة وعشرين ألف نفس، وكان هذا الملك كثير الغزوات والحروب نهض لاسترجاع ما بقي من فتوح آشور وممالكهم في أيدي الكلدان منذ حين سقط سردنابال آخر ملوك الدولة الأولى على ما سلف إيراده. فدوخ جميع ما بين النهرين وأخضع أرمينية ومصر وقبرس، ونصب في قبرس حجرا كبيرا نقش عليه صورته مع تاريخ استيلائه عليها والحجر المذكور اليوم في برلين، وكان في جميع هذه المغازي والغارات مظفرا منصورا، ولم يدركه الفشل إلا في حصار مدينة صور، فإنه قصدها ونازلها بجيشه زمنا طويلا وتفانى من جنوده تحت أسوارها خلق لا يحصى، وفي عاقبة الأمر نفد ما عنده من القوت والعلف فتراجع عنها خاسرا.
وله غير ما ذكر وقائع كثيرة أثبتها على جدران الأبنية التي شيدها بخرساباد يقول في موضع منها: هذه سياقة ما فعلته من لدن استيلائي على زمام الملك إلى منتهى الغزوة الخامسة عشرة من غزواتي. كان استيلائي على الملك في يوم الخسوف التام - يعني خسوف القمر وكان فيما عينه بطليموس في 19 آذار سنة 721 - وقد قهرت كمبانيغاز ملك عيلام، ثم حاصرت مدينة السامرة وأخذتها وأجليت 27280 نسمة من سكانها، وتحالف هانون ملك غزة وفرعون ملك مصر على قتالي، فنازلتهما وأوقعت بهما في أرض رافيا، فانهزما شر هزيمة وسكتت نأمتهما آخر الدهر. ثم إني ضربت على فرعون ملك مصر وعلى شمس ملك العرب ويطعمير ملك الصابئة إتاوة من الذهب والعقاقير العطرية والخيل والإبل والبقر، وبعد ذلك حاول عبيد المالك في حماة أن يحرش علي أهل دمشق والسامرة، فزحفت بجنودي المظفرة إلى كركار وانتشبت بيني وبينه وقائع هائلة كانت العاقبة فيها عليه، فدككت سور المدينة وأعملت الهدم في سائر أبنيتها حتى رددتها ركاما، ثم قتلت زعماء الأحزاب وقبضت على الملك وسلخت جلده عن بدنه، ولما ملك إرنزو في وإن كانت في حوزة يدي، فلما مات بايع الأهالي ابنه آسا وعقدوا بينهم وبين أورساما الأرمني حلفا سريا على أن يمالئهم في رد استقلالهم، فسرت إليهم بالجيوش الآشورية وضربتهم ونسفت قلاعهم عن آخرها، وقبضت على الملك الخائن - يعني ملك أرمينية - وسلخته وقطعته خراذل وأخضعت الجميع لسلطاني.
وفي تضاعيف ذلك انتهز آزوري ملك أسوط فرصة اشتغالي بأولئك الأقوام وامتنع عن حمل الجزية إلي، فدمرت مدائنه واستحوذت على آلهته وعلى امرأته وبنيه وكل من ينتمي إليه. ثم أخذتني الرحمة فأعدت عمارة المدائن التي خربتها وأسكنت فيها الأقوام الذين أجليتهم من مشارق الشمس ووليت أمرهم واحدا من قوادي وأدخلتهم في عداد الآشوريين، وبعد ذلك ذكر عدة مواقع بينه وبين مرودخ بلأدان سنة 709 كان النصر فيها له، واستولى على الفسطاط الذي كان لمرودخ من الذهب وغنم كنوزه وذخائره، وأسر عددا كبيرا من جنوده، ودمر مدينة دورياقين بثأر سردنابال، وإن ملوك يطنان السبعة - أي ملوك قبرس - الذين لم يسمع أسلافه بذكرهم بسطوا له يد الإذعان، ووفدوا عليه بالهدايا والطرف من الذهب والفضة والآنية الثمينة وخشب الأبنوس، وعدد كثيرا من الحروب التي عملها بعد ذلك مما يطول شرحه ولا فائدة في استيفائه.
وفي سنة 711 بعدما عنت له تلك الأقاليم ونفذت كلمته وارتفع سلطانه شرع في بناء مدينة تضاهي نينوى في مجدها الأول، فاتخذ لها أسباب العمارة وحشد أهل الصناعة من كل أوب وجعل مركزها إلى الشمال الغربي من نينوى على مسافة ستة عشر كيلومترا منها، وزينها بالقصور الشاهقة والهياكل الباسقة والأبنية الفسيحة، وشرع في تشييد قصر له ولمن يخلفه على سرير آشور وسماه دورصاريوكين؛ أي قصر صاريوكين وأتم بناءه في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 706، وقسمه ثلاثة أقسام زينها كلها بالنقوش والتماثيل وأصناف الآنية والتحف النفيسة، ونقش على جدرانها صور كثير من وقائعه مع تاريخ انتصاراته، وقد استوفينا الكلام على هذا القصر في القسم الأول، ولا يزال معظمه ماثلا إلى هذا العهد لم يفقد من رونقه إلا القليل.
وبعد وفاة صاريوكين استقل بالملك ابنه سنحاريب واسمه فيما حققه بعضهم محرف عن سين اح ريب، وسين اسم للقمر كان ملوكهم يزيدونه في أوائل أسمائهم تبركا على ما سلف الإلماع إليه، ومعنى اح ريب أخ آخر، وكان سنحاربب ملكا عظيم الشأن شديد الوطأة بعيد الهمة كثير المغازي والفتوح أتى في أيامه من عظائم الأمور ما لم يأته ملك قبله ، حتى طار ذكره في الآفاق وامتدت شوكته إلى أبعد الأقطار وتحامت حوزته كبراء الملوك ودان لدولته كثير من الأقاليم، وكان يلقب نفسه بملك الأرض وخليل الآلهة على ما كان من دأب ملوك آشور وبابل في ذلك العهد، وأخباره كثيرة طويلة نقتصر منها على ما سنورده في هذا الموضع ميلا إلى الاختصار الذي هو أليق بحال هذه الرسالة، وأكثره ملخص عما وجد له من الكتابات التي كتبها بنفسه مما خلت عنه أسفار المؤرخين. قال في بعض تلك الكتابات ما محصله: أول غزوة لي كانت على مرودخ بلأدان ملك بابل وجيوش عيلام، وكانت الواقعة بيننا في بقعة كيش، فما تطاول أمد القتال حتى أجفل الملك من أمامي وفر معتصما بأحد معاقله، فلحقت بأصحابه وأطلقت يدي فيهم بالسبي والأسر والقتل وغنمت أمواله وخيوله وأسلحته وسائر كنوزه وذخائره، وكان فيها من الذهب والفضة والآنية الثمينة والملابس الملكية شيء كثير. ثم وجهت نفرا من رجالي فقبضوا على امرأته وأعوانه وسائر من ينتمي إليه من آله وحشمه ذكرانا وإناثا مع الخصيان وخدام البلاط، وأسرت بقية الجند كلهم وأخذت الجميع وبعتهم عبيدا. ثم إني بإمداد ربي آشور وحوله أقمت الحصار على تسع وسبعين مدينة من مدائن الكلدان الكبيرة وثمانمائة وعشرين قرية، فأخذتها جميعا وغنمت منها الغنائم الطائلة وسبيت نساءها وبعت الرجال عبيدا.
ثم إنه بعد وصفه لغزوته الثانية ونصرته في بلاد مادي وأرمينية وألبانية وأرض البرثيين وكوماجينة، أقبل على وصف غزوته الثالثة قال: وفي غزوتي الثالثة وجهت بأسي نحو الديار الشامية وعليها يوم ذاك ملك سخيف العزم ضعيف البطش يسمى إيلولي، كان قد بلغ خوفي من قلبه كل مبلغ، حتى إنه لما اتصل به خبر مقدمي عليه لم يتمالك أن احتمل بنفسه وابتدر المفر إلى إحدى جزائر البحر تاركا لي جميع حوزته وما ملكت يداه مغنما باردا. فأخذت مدائن صيداء الكبرى وصيداء الصغرى وما يتبعها من المصانع والمعاقل والهياكل، ثم عدت عنها واستعملت عليها إيتوبعل على خراج يرفعه إلي.
وفي أعقاب ذلك كان إيتوبعل الصيداوي وعبدليت الأروادي وميطنتي الأسوطي وبادول العموني وشمس ناداب الموآبي ومولك رام الأدومي وسائر ملوك فينيقية، يتزلفون إلي بالهدايا والطرف ويعتملون في اجتلاب مرضاتي إلا صدقا العسقلاني، فإنه ذهب بنفسه مذهب الكبر والعتي وزين له الغرور شق عصا الطاعة، فزحفت عليه بجندي ومنحني ربي عنقه فقبضت عليه وحطمت آلهته وآلهة آبائه وأسرت امرأته وبنيه وبناته وإخوته وجميع أعقابه معه وقفلت بهم راجعا إلى آشور.
وفي تلك الغضون ائتمر زعماء ميغرون وفئة من أشرافها بملكهم بادي ليقتلوه؛ لأنهم نقموا عليه ميله إلى آشور واحترامه لسطوتها فحملوه إلى حزقيا ملك يهوذا وسلموه يده، وكان لسكان ميغرون طمع في مظاهرة ملوك مصر والحبشة لهم إذا شبت الحرب بيني وبينهم، فتأهبوا جميعا لمنازلتي وحشدوا جيوشهم من كل أوب وخرجوا إلي بخيلهم ورجلهم، فالتقينا في بقعة إيلسيكا والتحم بيننا القتال، فكانت العاقبة لي عليهم فبددت جموعهم وأثخنت فيهم قتلا وجرحا وأسرت منهم وغنمت ما لا يدخل في نطاق حصر، وبعد أن تمزقوا من أمامي كل ممزق وانهزم بنبالي ميروي المصري وولده أقبح هزيمة، وقد قتلت حاميتهما وأوشكا أن يقعا في يدي انثنيت إلى ميغرون، فقتلت من بها من الأكابر وزعماء الأحزاب وقبضت على أهل الفتنة فبعتهم عبيدا. ثم أرسلت إلى أورشليم في طلب بادي ملكهم فأعدته إلى ملكه، فأقام في ظل بأسي وزاد يقينا أن رأيه في لم يكن إلا صوابا.
هذا ما كان من أمر أولئك الملوك وأما حزقيا اليهودي، فبقي شامخا بأنفه ممتنعا من الاستسلام لدولتي استعظاما منه لأمر نفسه واستخفافا ببأسي ومقدرتي، وكانت له أربع وأربعون مدينة محصنة وعلى أسوارها من الأبراج المنيعة ما يفوت العد. فدهمته بجيش كالجراد المنتشر وخيمت حول تلك المدن وبنيت عليها المتارس وسددت إليها آلات الحصار، وما زلت أضربها بما أوتيت من البطش وثبات العزيمة حتى أذقتها من البلاء أمره ومن الضنك أشده، ولم أولها فترة حتى فتحتها عنوة ودخلتها بسيفي وأعملت فيها النار والسلاح، وانبث رجالي في كل وجه يسبون وينهبون حتى لم يبقوا ولم يذروا. فكان فتحا كبيرا لم يسمع بمثله فيما مر من الدهر، وكان جملة ما سبيته وغنمته مائتي ألف نفس ومائة وخمسين نفسا من كبار وصغار رجالا ونساء، ومن الخيل والحمير والبغال والإبل والبقر والشاء وسائر الغنائم والأموال ما لا يحصى عدده ولا تقدر جملته، وسقت هذا العديد كله إلى آشور وهو المصداق لما كان من ذلك الفتح العزيز والفوز الجليل.
وبعد ذلك وجهت الحملة إلى مدينة أورشليم دار الملك حزقيا، فحبسته في داخل المدينة كما يحبس العصفور في القفص، وابتنيت في أرباض المدينة أبراجا كثيرة وبثثت رجالي حول السور، فإذا خرج واحد من المدينة تخطفوه، وفي تلك الأثناء استعملت على المدن التي افتتحتها بفلسطين ولاة من أشياعي وهم ميطنتي ملك أسوط وبادي ملك ميغرون وأسما بعل ملك غزة. فأما ما كان من أمر حزقيا فإنه لما رأى بأسي وما أحاق به من الخطر الشديد ضاقت عليه مذاهب النجاة ولم يجد للثبات سبيلا، فأوفد علي رسله يعرضون علي المهادنة والصلح وأن أضرب عليهم ما شئت من الأموال، ففعلت وجاءوا نينوى دار سلطنتي ومقر محكمتي، ووضعوا بين يدي ثلاثين وزنة من الذهب وأربعمائة وزنة من الفضة وكثيرا من المعادن الثمينة والحجارة الكريمة واللؤلؤ والياقوت الكبير والعروش الملكية والكهرباء الخالصة وسروج الجلد وجلود البقر البحرية والأخشاب المتنوعة، ومنها خشب الأبنوس والجواري الحسان والعبيد الكثيرين ذكرانا وإناثا. ا.ه.
وفي أخبار ملوك يهوذا ما يؤيد صدق هذا الخبر، إلا أن سنحاريب طوى كشحه عن ذكر الفشل الذي لقيه عند قصده لأورشليم في المرة الثانية، فإنه بعد أن عاهد حزقيا على السلم عاد فنكث عهده ووجه عسكره على فلسطين وأم أورشليم وفيها حزقيا فحاصرها حصارا شديدا، وملخص ما جاء في الكتاب أنه لما اشتد الأمر على حزقيا وسكان المدينة وبلغ منهم الضنك والضيق، وتمادى قواد آشور في الوعيد والتهويل على مسمع من الشعب وشتموا إله إسرائيل، فزع الملك وبطانته إلى أشعياء بن آموص النبي فدعا الله سبحانه وتعالى، فأرسل ملاكه فقتل من جيش آشور مائة وخمسة وثمانين ألفا، فلما أصبح سنحاريب إذا جيشه جثث أموات فنهض ليومه وقفل راجعا إلى نينوى. ا.ه. وكان ذلك نحو سنة 698 قبل الميلاد.
وعاد سنحاريب بعد ذلك فلم شعث دولته وجدد رونق ملكه، ولما استجمعت له أسباب العزة والصولة جرد جحافله وسار بها إلى بابل مدينة الفتن فواقعها مرة أخرى، وكان السبب في ذلك أن سنحاريب لما قهر بابل في النازلة الأولى ولى عليها رجلا من أوليائه يقال له بعليبوس، فاستمر أمرها في يده إلى أن كانت نكبة سنحاريب عند أورشليم، وعاد بالفشل والخسران فاغتنم مرودخ بلأدان تلك الفترة وحدثته نفسه باسترجاع الملك، فأخذ في أسباب ذلك وحشد أولياءه وأتباعه وزحف على بابل بجمع كثير، فاستبشر البابليون بعودته وتغيروا عن طاعة بعليبوس وجاهروا بالفتنة والهرج، واتصل الأمر بسنحاريب فبادر بعدده وعدده ودهم بابل بجيش لا يحصى، فبرز إليه مرودخ في طليعة أصحابه والتحمت الحرب بين الفريقين أياما وآخر الأمر كانت الغلبة لسنحاريب، فانهزمت جيوش الكلدان وتمزق سوادهم بعد أن هلك منهم خلق كثير، وفر مرودخ بلأدان وغمض خبره آخر الدهر. ثم دخل سنحاريب بابل فاستأصل منها أعراق الفتنة ومهد السكينة والطاعة، واستخلف عليها ولده آشور ناردين وهو بكر أبنائه.
ولما فرغ سنحاريب من أمر بابل وجه غارته ناحية المشرق، فأمعن في البلاد ووطئ من الأقاليم ما لم يبلغ إليه أحد ممن سلفه، حتى انتهى إلى داي فدوخ تلك الأرض جملة وأكثر من إراقة الدماء وإتيان الفظائع وشنع وسبى ونهب وهدم كثيرا من المدائن والمعاقل وضرم عامتها بالنار، وله على بعض الآثار في ذكر هذه الغزاة ما تعريبه: إني ملكت الرجال والدواب والغنم والبقر وافتتحت المدائن والقرى، ولم أفارقها حتى غادرتها حطاما.
واستقرت البلاد بعد ذلك برهة طويلة صماء من زعازع الحروب وفديد الجيوش وصلصلة الحديد، واستولت فيها الدعة والسكينة وعلا طالع سنحاريب إلى أوج سعده وعظم قدره في العيون والمسامع وتمكنت هيبته في القلوب، ووقع إجماع المؤرخين على أنه لم يقم في ملوك آشور من ضاهاه سطوة وإقداما ولا داناه عزة وسلطانا، وفي تلك الأثناء فتق له عقله أن يجدد بناء نينوى ويجعلها بحيث لا تقارنها مدينة في العالم، فشرع في حشد أرباب الصناعة من البنائين والنجارين والنقاشين وغيرهم، وشيد فيها من المباني العظيمة والهياكل الرفيعة والقصور الأنيقة والبروج الحصينة ما لا يتأتى لأحد وصفه، وزينها جميعها بالزخارف البديعة والنقوش الجميلة حتى فاقت ما كانت عليه من قديم حالها، وقد تقدم لنا عند وصف هذه المدينة زيادة بيان، فاقتصرنا ها هنا عن المزيد.
ولما كانت سنة 693 توفي آشور ناردين بن سنحاريب، فخلفه على سرير بابل أرجيبعل، وكانت مدة استيلائه عليها حولا واحدا، ثم دهمته المنية فأفضى الأمر بعده إلى مزيزي مرودخ، وكان بابلي الأصل فتفاقمت على عهده البلابل والمشاغب، وجعلت أسباب الفساد تتزايد على الأيام، حتى اشتد الخطب وتخوف سنحاريب سوء العاقبة فلم يبق في رأيه إلا أن يستأنف الكرة عليهم ويبطش بهم مبادرة لامتداد الفتنة قبل اتساع الخرق والعجز عن تلافيه، وكان الفريق الأقوى ممن خرجوا عن طاعته طوائف من الكلدان على أطراف البلاد مما يلي خليج فارس، فبدأهم بالحملة وفرق عصائبهم ونكب زعماءهم ومثل بهم تمثيلا فظيعا، وجال في تلك الأنحاء فأكثر فيها الدمار وإراقة الدماء وهدم المدائن والصياصي حتى ترك البلاد بسيطا غامرا، وبينا هو مشتغل بأمر هؤلاء زادت الفتنة احتداما في بابل وانتهزوا منه تلك الفرصة، فاجتمع لفيفهم وبايعوا بالملك عليهم رجلا منهم يقال له سوزوب وأنفذوا إلى كدرناكنتا ملك عيلام يستنجدونه على سنحاريب، فما كذب أن أجابهم بالجيش والسلاح وانضموا كلهم يدا واحدة وزحفوا لمنازلة سنحاريب، فكانت حربا هائلة تطاير شررها في الآفاق وكثرت فيها المصارع والدماء، وما زال السيف يعمل في الجيشين حتى أجلت العاقبة عن فشل الكلدان، فانهزموا شر هزيمة وتتبعهم سنحاريب بجنوده فأفنى منهم خلقا لا يحصى وقبض على سوزوب وساقه أسيرا إلى نينوى.
وبعد هذه الواقعة ركب سنحاريب وسار إلى عيلام لينتقم من كدرناكنتا، فأوغل في البلاد وأثخن فيها ودمر حتى رجفت منه الفرائص وطأطأت له المناكب، وجعل لا يمر بمدينة إلا استسلم أهلها في وجهه وغدا أعزتهم أذلة بين يديه حتى بلغ جملة ما افتتحه أربعا وأربعين مدينة من المدائن الكبيرة، ولسنحاريب على بعض الآثار يصف غارته هذه من جملة كلام ما تعريبه: وسطع من تلك الآفاق دخان متواصل ملأ السماء والأرض وطبق سحابه البسيطة وكان للنيران أجيج وزفير أشبه بزمازم الرعد، ولما بلغ كدرناكنتا مقدم بأسي عليه طارت نفسه شعاعا، حتى إذا ازدلفت من عاصمته وعصفت به ريحي من كل أوب اعتصم بالفرار من وجهي، وتوارى في قاصية أرضه فشددت الحصار على مدينته وصممت على أخذها. ا.ه. ولم يأت على هذا الأثر زيادة على ذلك، لكن ورد على غيره من الآثار أنه بعد ذلك عدل عن أخذ المدينة ورفع عنها الحصار وانقلب راجعا إلى نينوى؛ وذلك لأنه وجد في أدلة التنجيم ما ينذره خوف العاقبة فرضي من الغنيمة بالإياب.
وبعد نحو ثلاثة أشهر من مفر كدرناكنتا أدركته المنية فبايع العيلاميون أخاه أومان مينان، وكان أومان مينان هذا خليلا لسوزوب فلما أتاه خبر تملكه جعل يردد إليه رسله وأكثر من صلته، حتى احتال له في النجاة من قبضة سنحاريب، وكان لم يزل مسجونا في نينوى، فلما أفلت من محبسه انطلق إلى عيلام فرحب به أومان وأحسن مثواه وحقق آماله وعقد له على جيش كثيف من العيلاميين، فزحف بهم سوزوب على بابل والتف عليه أقوام من البابليين فأصبحوا عصبة منيعة. فلما رأى سنحاريب ذلك جند جنوده وخرج عليهم وقاتلهم قتالا شديدا كان هو الظافر فيه أيضا، فكسر شوكتهم وفض جموعهم وفتك فيهم فتكا ذريعا، وله على بعض الآثار في تفصيل هذه الموقعة ما ملخصه: لما فوض البابليون أمرهم إلى سوزوب ألقى يده على كنوز الهرم وابتز ما في هيكل بعل وزربانيت من الفضة والذهب، وبعث بذلك هدية إلى أومان مينان ملك عيلام في سبيل الاستمالة له والتقرب منه ووجه إليه يسأله المظاهرة علي ويتظلم إليه من استيلاء بطشي ووطأة عزتي، وضرع إليه في ذلك أشد الضراعة حتى مال العيلامي إلى شكواه وأمده بالرجال والعدد، فجعل دأبه العيث في البلاد وركوب الفظائع من القتل والسبي والنهب واستطال على الناس بالبغي والجور، فاستوقد بذلك غضبي وأثار من حميتي، فنهضت إليهم بحنق شديد واتخذت مركبتي الكبرى والقوس التي وهبنيها ربي وأهطلت عليهم من النبل ما أوشك أن يسد الأفق كثرة حتى سالت بدمائهم البطاح، وما لبثوا إلا قليلا حتى استسلموا للفرار، فملأت يدي من غنائهم وأسرت منهم عددا لا يحصى وقطعت أيديهم حتى لا يستطيعوا أن يعودوا إلى حمل السلاح. انتهى ببعض تصرف. وكان في جملة من أسرهم نبوبلارسكون بن مرودخ بلأدان، فأما سوزوب وأومان مينان ففرا بأنفسهما إلى عيلام.
وفي سنة 683 عاد سوزوب إلى بابل مرة ثالثة لتهييج الفتنة، فنهض إليه سنحاريب وقد أخذه من الحنق ما لم يبق معه موضع للصبر ولا محل للرفق، وانصب عليه بجنوده فانكسر سوزوب كسرة لم يقم بعدها، وتسلم سنحاريب بابل فضربها ضربا شديدا ولم تأخذه فيها رحمة ولا شفقة مع ما كان لها عنده من الحرمة؛ لأنها مدينة الآلهة، وولى عليها ولده آشور ناردين المعروف بأسرحدون وهو رابع أبنائه، وبعدما مهد الأمر في بابل انقلب راجعا إلى نينوى، فأقام بها زهاء سنتين يحكم بالعسف والجور إلى أن كان يوما ساجدا في هيكل نسروخ فوثب عليه ابناه أدرملك وشرأسر فقتلاه بالسيف طمعا في تولي الملك من بعده، وكان مقتله سنة 681.
وكان من أعقاب ذلك أنه لما بلغ الأمر أسرحدون في بابل حشد كتائبه، وانقض بها على نينوى يريد النقمة من أخويه وتسلم المدينة بعد أبيه، فأجفل أخواه من وجهه وفرا بأنفسهما إلى أرمينية فقبض أسرحدون على زمام نينوى واجتمع له الأمر على آشور والكدان جميعا، ولما استتب في يده الملك شرع في تقيل أبيه في الأحكام والغارات وتشييد المعاقل والقصور، ولم يلبث طويلا حتى بلغ من العزة والسطوة وبعد الصيت وفخامة الشأن ما لم يبلغه كثير من عظماء الملوك، وكان أسرحدون من أشد الملوك عزيمة وأعلاهم همة وأقواهم جأشا، وكان على ذلك موفق المقدم مسعود الجد لم يخفق في غزوة ولا توجهت عليه هزيمة مع كثرة غاراته وحروبه وبعد منزعه في الغزوات والفتوح، وأخباره لا يزال الكثير منها إلى هذا العهد مسطرا على الآثار، غير أنها غفل من بيان التاريخ ناقصة الشرح في أكثر المواضع إلا ما كان منها في أوائل ملكه، فإنه أوسع بسطا مما يليه.
فمما نطقت به تلك الآثار مما حكاه أسرحدون عن نفسه قوله في بعضها: أول ما أخلدت إلى الغارات وجهت طلائع بأسي جهة فينيقية، فحاصرت مدينة صيداء التي على فم البحر، فدككت أسوارها ونسفت مصانعها وهياكلها وطرحت أنقاضها في البحر وقتلت من بها من الكبراء والزعماء، وفر ملكها عبد الملكوت فأوغل في البحر فتعقبت مسيره وشققت الأمواج وراءه شق الأسماك حتى أدركته فقبضت عليه وجدعت أنفه، ثم عدت فاستحوذت على ما في خزائنه من الذهب والفضة والحجارة الكريمة والكهرباء والجلود المطيبة بالأفاويه العطرة وخشب الأبنوس والأنسجة المصبوغة بالنيل والأرجوان، واستقت من مملكته الرجال والنساء والبقر والشاء والدواب وسائر ما تهيأ لي نقله وحمله إلى مملكتي، وبعد ذلك شيدت حصنا منيعا سميته دور أسرحدون وشحنته بالرجال الذين أجلبتهم من البحر الأعلى من ناحية مشرق الشمس.
وبعد أن أتم كلامه في هذه الغزاة ذكر أنه سار من هناك إلى مملكة يهوذا يريد التهامها، فنازلها وقهر ملكها منسى وقاده أسيرا إلى بابل، ثم رق له فأعاده إلى ملكه على إتاوة يرفعها إليه كل سنة. قال: ثم خرجت من هناك قاصدا إقليم وان ونواحي بحر الخزر، فدوختها جملة، وبينا أنا في تلك الأطراف، وقد ترامت المسافة بيني وبين مملكتي اغتنم نبوزرسمتات بن مرودخ بلأدان هذه النهزة وأغرى من تحت يده من الطوائف القاطنة عند خليج فارس بالنشوز عن طاعتي، فانصرفت إليهم وأوقعت بهم ووليت عليهم مكان نبوزرسمتات أخاه نهيد مرودخ بعد أن ضربت عليه خراجا، وعدت من بعد ذلك إلى بابل، فلما بلغتها وجدت سجلات هيكل بورسيبا قد استولى عليها رجل كلداني اسمه سماسبني، وفر بها إلى مدينة يقال لها بيت دكوري، فتوجهت إليه فيها وانتزعت من يده السجلات المغصوبة وأعدتها إلى موضعها في بورسيبا، ووكلت الاحتفاظ بها إلى نبو سليم بن بعلز وهو من الثقات القائمين بحرمة الشرائع وصيانة القوانين.
ثم قال: وكان أبي قد غزا إلى بلاد العرب وافتتح مدينة دومة الجندل وهي عاصمة البلاد، فجددت الغارة على تلك البلاد وقهرتها وغنمت منها وأجليت جما غفيرا من أهلها، وبعد ذلك وفد علي الرسل من عند ملكتهم يحملون إلي الهدايا السنية والبضائع التي يعز وجودها في غير البلاد العربية، ويسألونني أن أمن عليهم بالأصنام التي غنمتها من أرضهم، فاستجبت مسئولهم وأمرت النحاتين، فأصلحوا ما تعطل منها ثم أمرت فنقشت عليها تسابيح آشور وعظائم اسمي المبجل، وبعد أن مضت على ذلك مدة من الدهر تغير رأيي فيهم، فوجهت إليهم طابويا إحدى نسائي تتولى الحكم عليهم وقلت لها: اذهبي فقد جعلتك سيدة على العرب كلهم، وعهدت إليها أن تأخذ لي منهم في كل سنة خمسة وستين وقر جمل علاوة على ما كانوا يؤدونه إلى أبي سنحاريب.
ثم ذكر أنه بعد ذلك توجه لتدبير إقليم الحجاز وعاصمته إذ ذاك مدينة يثرب وعليها ملك اسمه حسن، فلما قضى نحبه قلد مكانه ابنه يعلى وضرب عليه إتاوة جزيلة. ثم أوغل من هناك في بلاد العرب حتى أتى اليمن ودخل حضرموت وغنم منها الغنائم الطائلة وعطف منها على بلاد فارس، فدوخها وأسر بعضا من ملوكها وقفل عنها ظافرا مؤيدا، ولما استقر به المقام في نينوى أقام بها صرحا كبيرا جعله مدخرا لكنوزه، وفي سنة 682 غزا إلى قبرس وأخضع ملوكها العشرة، ثم ارتحل منها إلى مصر فأدخلها في طاعته وترك فيها قوما من الآشوريين يكونون سياطرة عليها ورقباء خوف الفتنة.
وكان أكثر مقام أسرحدون ببابل كما يدل على ذلك كثرة ما له فيها من المباني، وهو آخر من اشتهر من ملوك آشور بالفتوح الكبيرة والغزوات البعيدة والأبنية الحافلة والزخارف الثمينة، حتى يروى أن القصور التي من بنائه كانت كلها مكسوة بالفضة والذهب تأخذ بالبصر من شدة لمعانها، وفي هذه السنين المتأخرة كشف له اللورد لايرد الإنكليزي المذكور غير مرة في هذا الكتاب قصرا بناه ببابل لعله من أعظم القصور البابلية، يقول أهل التنقيب: إنه من صنع الفينيقيين الذين أجلاهم معه إلى بابل.
وفي سنة 668 مرض أسرحدون وأعضلت علته، فجمع إليه أكابر دولته وعقد بحضرتهم بيعة الملك لولده آشوربانيبال، وكان ذلك في اليوم الثاني عشر من شهر أيار ولم يبق لنفسه سوى مدينة بابل وأعمالها، وكان آشور بانيبال إذا كتب إلى أبيه يفتتح كتابه بقوله: من آشور بانيبال ملك آشور إلى أبي ملك بابل، وعاش أسرحدون بعد ذلك سنة ثم أدركته الوفاة.
ولما مات أسرحدون خلفه على سرير بابل ولده صملصامغين وهو الذي يسميه المؤرخون بصاوصدوخين، فلم يستقر في الملك حتى هاجت الفتنة في بابل وهو في مقدمة الأحزاب، وقد انضم إليه تعومان ملك عيلام ومن شايعه من الثائرين، وهبت أمم مصر والعرب في طلب الاستقلال وانتشر الشغب في جميع الأقاليم الخاضعة لآشور بانيبال، فجرد آشور بانيبال جحافله وزحف بها لمقاتلتهم، فكانت بينه وبينهم مواقع شتى دارت فيها الدائرة على الأحزاب، ففرق جموعهم وأكثر فيهم من النكال، وفر صاوصدوخين فلجأ إلى أخت له كانت لها شفاعة عند أخيه آشور بانيبال، فتوسل بها إليه أن تسأل له الصفح عن صنيعه، فمن عليه ورده إلى ملكه. ثم سار إلى شوشانة وعيلام ليحل بهما نقمته على ممالأتهما لأخيه، فقهرهما جميعا وقتل تعومان ملك عيلام وحرق كثيرا من المدائن وعاد إلى نينوى وقد انتشرت مهابته في تلك الأقطار.
وكان بعد وفاة تعومان قد استولى على سرير عيلام ملك يقال له أمانلدس، فآلى على نفسه أن يقهر آشور بانيبال وجرد جيشا كثيفا، وسار به يعيث في الممالك الآشورية، واتخذ له معقلا في الجبال التي بجبال سوزا شحنه بالذخائر والعدد، فثار إليه آشور بانيبال يجر وراءه جيشا من نخب قومه، وسار في البلاد لا يمر بمدينة من مدائن عيلام إلا أذاقها البلاء وأعمل فيها السيف والنار، حتى دخل مدينة شوشن وزحف منها إلى سوزا، فدخلها ووضع السيف في أهلها، وغادر فيها جماعة من قومه، ثم مضى بطلب أمانلدس حتى انتهى إلى بانون فلم يظفر به فخرب المدينة، ثم انقلب من هناك فانثنى على سوزا واستحوذ على ما فيها من الكنوز والذخائر، وهدم الهيكل الذي بها وكان كعبة للعيلاميين يحجون إليه كل سنة، ونقل ما فيه من الأصنام إلى نينوى وهو أول خبر وقع فيه ذكر لمعبودات العيلاميين في تواريخ الأمم.
ولما فرغ آشور بانيبال من أمر العيلاميين صوب عزيمته نحو عرب الحجاز؛ لما رأى من امتداد ملكهم وتبسطهم في أقطار العربية، وكانوا قد استولوا على نجد وجبل شمر والجوف وبادية الشام والعراق، فكانت بينه وبينهم حرب عوان أضرمها عليهم مدة ثلاث سنين متوالية فاستولى على الحيرة والعراق بأسره، وانقض على مدائن الشام فاستفتحها واستحوذ على ما يليها من شمالي العربية، وزحف من هناك إلى نجد فأدخلها في طاعته، ثم سار في طلب هويتع ملك الحجاز وكان في مدينة يثرب، فحاصره فيها زمانا إلى أن ضايقه أشد المضايقة وسد عليه منافذ النجاة فاستأمن إليه فأمنه ودخل المدينة بالسلم، ثم طلب منه اثنين من قواده فلما حضرا بين يديه أمر بهما فسلخت جلودهما وهما حيان، ثم أمر فصلبوهما وانصرف قافلا إلى نينوى.
واستقر آشوربانيبال بعد ذلك في نينوى وقد كل من كثرة الغارات والمعارك وانصرف إلى النظر في توثيق أمر الملك وتوفير أسباب الدعة والثروة في رعيته، وأخرج الذهب الذي غنمه في مغازيه فابتنى به مباني من جملتها قصر جعله مستودعا للصحف والسجلات وشحنه بالآجر المسطرة عليها تواريخ الآشوريين، وأتم القصر الذي شرع فيه سنحاريب جده. ثم توفي سنة 647 وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة، فتولى مكانه آشور ديليلي الثالث ابنه المعروف عند اليونان بخنيلادان.
ولما اتصل خبر وفاته بفراورتس ملك مادي اغتنم تلك الفرصة فجهز جنوده وسار إلى فارس وكانت في حوزة الآشوريين فأجلاهم عنها وأخرج من كان منهم في المصانع والقلاع، واستولى على البلاد فاشتد ساعده وقويت شوكته، ومذ ذلك شرع في تعزيز نجدته وتكثير عديده وتوفير الأسلحة والذخائر إلى أن كانت سنة 635، فحدثته نفسه أن يزحف على نينوى اقتداء بما فعل إرباش أحد أسلافه، فألب جموعه ونزل عليها فبرز إليه آشور ديليلي والتقى الجيشان في مضيق جبل، فاقتتلا قتالا شديدا كانت العاقبة فيه لآشور، فانهزم جيش الماديين وتتبعهم الآشوريون فمزقوهم كل ممزق وقتل فراورتس ملكهم، ومات آشور ديليلي سنة 625 بعد أن ملك اثنتين وعشرين سنة ولم يقع إلينا من أخباره غير ما ذكر.
وبعد وفاة آشور ديليلي أفضت نوبة الملك إلى أساراقس وهو آخر ملوكهم، فما كاد يستقر على سرير المملكة حتى عادت جيوش مادي في نجدتها كتائب الكلدان، فانقضت على نينوى في عدد لا يحصى وفي مقدمتهم كياقصر ملك مادي على ما قدمناه في الكلام على نينوى، فلبثوا حول أسوارها أشهرا حتى بلغ الجهد من الآشوريين وأعياهم الدفاع عن المدينة، فدخلها كياقصر عنوة وكان من أمره فيها ما ذكر هناك، وفي رواية أنه بينما هم بدخول المدينة؛ إذ وفدت عليه الرسل من قومه بأن التتر والأكراد قد أغاروا على بلاده وانبثوا فيها من كل أوب يقتلون وينهبون، فأعجله ذلك عن أخذها وأسرع الأوبة إلى أرضه فأقام فيها يقاتل نحوا من تسع عشرة سنة حتى دفع الثائرين واطمأنت البلاد، وكانت نينوى في تضاعيف ذلك لا تزداد إلا وهنا وهرما، فلما فرغ كياقصر من نوبة التتر عاود الكرة إلى نينوى وقد عقد عزمه على أن ينسفها من أسسها ويدكها دكة لا تقوم بعدها ليكفي البلاد عسف الآشوريين واستطالتهم، فما تمادى أمر حصاره لها حتى خرت بين يديه، فدخلها بجيوشه وأطلق يده فيها بالقتل والسبي والحريق والهدم حتى أعادها قاعا صفصفا.
ذكر الدولة البابلية الثانية
قد أسلفنا ما كان من أمر بعليزيس واستيلائه على البلاد الآشورية بعد تدميره لنينوى، ولبثت آشور في طاعته إلى أن توفي سنة 847 على ما مر في موضعه بعدما ملك إحدى وأربعين سنة، فتولى الأمر بعده رجل من سلالة الملك يقال له نبونصر، وكان من أمره أنه أول ما تولى الملك أمر بإحراق السجلات والكتابات المحفوظة ليمحو ذكر كل من ملك قبله من الأجانب على بابل، وتقدم إلى رؤساء الأمة أن يبدءوا بتأريخ جديد يفتتحونه من 26 شباط من السنة المذكورة وهو اليوم الذي رقى فيه سرير الملك، وكان ذلك في اليوم السادس من تأسيس رومية أم المدائن، وفي السنة الأولى من ملكه نهض تغلث فلأسر الرابع وحرر آشور من قبضة الكلدان بعد قتال دام بين الفريقين إلى سنة 743 على ما تقدم الكلام عليه، وبعد وفاة نبونصر هذا خلفه على الملك ابنه نادبوس ثم عقبه ثلاثة ملوك أفنوا أيامهم بالمعارك والفتن وراح كلهم شهيدا، وكانت مدة ملكهم جميعا كما قيده بطليمس اليوناني اثنتي عشرة سنة.
وكانت آشور في هذه المدة كلها تتربص نهزة للتخلص من عسف الكلدان إلى أن قام صاريوكين على سرير آشور، فجيش على دورياقين وأخذها واستتبع أكثر بلاد الكلدان، فلبثت مذ ذاك تحت طاعة الآشوريين، وملك بعد صاريوكين سنحاريب، وبعده أسرحدون، ثم آشور بانيبال، ثم آشور ديليلي، وبابل في هذه البرهة كلها لا تزداد إلا ذلا ومهانة، وفي أيام آشور ديليلي انتشر أقوام من البربر في البلاد الكلدانية وأكثروا فيها من العيث والفساد، فأرسل آشور ديليلي رجلا من قبله يقال له نبوبولصر وجهزه بالجند والأسلحة وأمره بقتالهم ودفعهم وقلده الأمر على بابل فما زال حكمها في يده، إلى أن توفي آشور ديليلي سنة 625، فاستبد بنوبولصر بأمر بابل وامتنع من طاعة الآشوريين، ثم تزلف إلى كياقصر ملك مادي فشد أزره وحالفه، ثم عقد لبختنصر بن نبوبولصر على ابنته فتوثقت بينهما عقدة الولاء، وفي أثناء ذلك جهز الفريقان على نينوى كما تقدم خبره إلى أن اشتغل كياقصر بأمر التتر، وتراجع عن نينوى، فسار نبوبولصر بمن بقي من الجيش حول أسوارها وقصد الفتوح الآشورية من ممالك الكلدان وغيرها، فجعل يتملك منها حتى أدخلها في حوزته ولم يبق في يد أساراقس إلا نينوى وأعمالها.
وفي أواخر ملك نبوبولصر وفد من مصر جيوش جرارة انقضت على اليهود، فأذاقتهم البلاء ثم انتشرت من هناك لا تلوي على موضع إلا تركت فيه آثارا من العيث والدمار حتى وصلت إلى كركميش عند الفرات، فاستحوذت عليها وحصنتها استعدادا للوثوب على بابل على حين غفلة. فتخوف نبوبولصر عاقبة أمرهم، وإذ رأى نفسه شيخا سلم قيادة الجيش إلى ابنه بختنصر ووجهه بالأهبة والرجال، فزحف إلى كركميش حتى التقى بهم واصطلت بين الفريقين مواقع شديدة كان الفوز فيها لبختنصر، فأهلك منهم خلقا لا يحصى وفر الباقون بأنفسهم وتشتتوا في البلاد، وفي غضون ذلك نمي إليه خبر وفاة أبيه فبادر الأوبة إلى بابل، وكان كبراؤها يتوقعون مقدمه، فتسلم أزمة الملك بعد أبيه وتوجه لعقد الأمور وكان ذلك سنة 607 قبل الميلاد، وفي تلك السنة جهز جيوشه وسار بها إلى البلاد الشامية فأدخلها في طاعته، ثم توجه إلى أورشليم وعليها يومئذ الياقيم أو يهوياقيم فقبض عليه وأوثقه بسلاسل من نحاس في نية إرساله إلى بابل، فافتدى نفسه بمال يرفعه إليه كل سنة، فمن عليه ورده إلى ملكه، وبعد ثلاث سنين امتنع الياقيم من حمل المال إليه فاستأنف بختنصر الحملة عليه وسير إليه جيشا كثيفا، فنزل على أورشليم وحاصرها حصارا شديدا، وفي تلك الأثناء توفي الياقيم فتولى موضعه ابنه يهوياكين، ولبثت المدينة تحت الحصار أشهرا إلى أن رأى بختنصر أن الأمر قد تطاول جدا فنهض بنفسه وجند جندا غير الذي مع قواده، وسار إلى أورشليم وضايقها أشد المضايقة حتى بلغ من أهلها الضنك وأعياهم الثبات على مقاومته، فخرج إليه يهوياكين بنسائه وعبيده وقواده وخصيانه فقبض عليهم بختنصر وأرسلهم جملة إلى بابل وأجلى معهم عشرة آلاف نفس من أهل أورشليم من رؤساء وجبابرة وصناع وغيرهم ما خلا أقواما من الصعاليك خلفهم في المدينة، وملك عليهم متنيا عم يهوياكين بعد أن أخذ عليه المواثيق والأيمان المؤكدة وسماه صدقيا، واستولى على جميع ما وجده من ذخائر بيت المقدس وكنوز الملك وانقلب راجعا إلى بابل وكان ذلك سنة 599.
فلبث صدقيا مالكا على أورشليم تسع سنين خاضعا لبختنصر، ثم سولت له نفسه الخروج عن طاعته، فجاهر بالعصيان وأرسل إلى حفرع فرعون مصر يستصرخه، فاشتد ذلك على بختنصر وعزم على نسف أورشليم من أساسها وأن لا ييقي لها باقية تذكر، ولم يمض على ذلك إلا اليسير حتى أحاطت جيوشه بأورشليم وبنوا عليها البروج ونصبوا الدبابات والمجانيق، فأقامت تحت الحصار ثمانية عشر شهرا حتى اشتد الجوع في المدينة وذاقوا من الويل ما لم يبق معه للصبر طاقة، فعمدوا إلى ثغر السور وفر جميع المقاتلة ليلا وفيهم الملك، وكان جيش الكلدان محدقا بالمدينة فتتبعوهم وأدركوا الملك في برية أريحا وقد تفرقت عنه جميع جيوشه، فقبضوا عليه وقادوه إلى ربلة من أرض حماة، وكان بها بختنصر فقتل بنيه على مرأى منه ثم فقأ عينيه قائلا: ليكن هذا آخر ما تراه من الدنيا، وبعد ذلك قيده بسلسلتين من نحاس وسيره إلى بابل. ثم وجه بختنصر واحدا من قواده يقال له نبوزرادان إلى أورشليم، فأحرق بيت المقدس وبلاط الملك وكل بناء بأورشليم، ودك أسوارها إلى الأرض وأجلى من بقي من يهوذا إلى بابل، ولم يبق إلا شرذمة من مساكينهم ليكونوا أكرة في الأرض، واستعمل عليهم جدليا بن أحيقام، وحمل كل ما كان في الهيكل من أعمدة وآنية وبعث به إلى بابل، وقاد من وجده من أكابر اليهود إلى ربلة فقتلهم بختنصر عن آخرهم.
ولما ذاق بختنصر حلاوة النصر وآنس طالع الفوز وجه بأسه ناحية فلسطين يريد التهامها لما رأى بها من الثروة والنعيم، وأنزل جيشه على مدينة صور، وساق إليه القوات من العجلات والأسلحة، وأمده بالعديد والنفقات، وأقام يحاصرها نحوا من ثلاث عشرة سنة حتى دخلها عنوة، فأسرف فيها بالنكال والهدم والحريق، وسبى منها وغنم الغنائم الطائلة، وكان هذا الفتح سنة 574، وبعد ذلك زحف على الأقاليم الموآبية والعمونية، وكانوا قد أعدوا اليهود على قتاله أيام حصاره لأورشليم، فقاتلهم وأكثر فيهم من النكاية والقهر ثم سار إلى البلاد العربية، فدخل الحجاز واليمن ونجدا وعاد عنها مظفرا غانما، ولم يدع موضعا في آسيا الغربية إلا تغلب عليه وقهر أهله.
ولما فرغ من هذه المعارك وقد اطمأنت البلاد بين يديه ودانت الملوك لشوكته، قفل إلى بابل ومعه الأسرى من كل إقليم وأمة وصرف همه إلى عمارة البلاد فتوفر دخل الدولة خراجا وغلة، وأكثر من المباني المزخرفة والمصانع المشيدة حتى أصبحت بابل منقطعة القرين والثروة والعزة، وقد ذكرها هيرودوطس إثر سياحته في القرن الخامس قبل الميلاد فقال: وبابل مدينة متناهية في الفخامة والجلال لا يتصور أن تحاكيها مدينة في رونق وسعة حضارة، وكان الأسرى والغرباء في عهده يتولون الإمارات والمناصب العالية كما هو جار بين الأتراك لهذا العهد، وحسبنا ثبتا في ذلك أن دانيال اليهودي - عليه السلام - كان وزيرا في بلاط الملك تنفذ كلمته في أمم الكلدان بلا معارض.
وكان بختنصر من أجل الملوك قدرا وأعلاهم همة وأسعدهم طالعا، إلا أنه في آخر مدته غلبت عليه الخيلاء والزهو، وفيما رواه دانيال - عليه السلام - أنه بينا كان في بعض الأيام يختال في قصره تيها وبين يديه بابل يرى عظمتها وفخامتها أخذت من نفسه نشوة الكبر ونزت في رأسه سورة العجب، وقال في نفسه: هذه بابل مقر سلطاني ومباءة مجدي قد شيدتها بقدرتي وعززتها بجلالي، فأي ملك يضاهيني في قوة السلطان وعزة الحول، ولحينه وقع عليه صوت من السماء يقول له: اعلم يا بختنصر أن ملكك هذا سيبتز من يدك، وعن قليل ستكون منفيا من بين أظهر البشر، ويكون أليفك وحش الصحراء، وتأكل العشب كالثيران، وتمضي عليك سبعة أزمنة - كذا - وأنت في هذه الحال حتى تعلم أن الملك لله يؤتيه من يشاء. فلما سمع بختنصر هذه المقالة دهش، واختل عقله، وخرج فهام في الأرض لا يأوي منزلا ولا يألف إنسا حتى انقضى الأجل المضروب له، فثاب إليه رشده وعاد إلى بابل وتسلم أزمة الملك من يد بعل بسروق الذي كان قد ناب عنه في تلك المدة، وملك بعد ذلك سنة ثم أدركته الوفاة لثلاث وأربعين سنة من وفاة أبيه. انتهى ببعض زيادة.
وبعد وفاة بختنصر أفضت نوبة الملك إلى ابنه البكر أويل مرودخ وكان في مدة مرض أبيه قد سجن في محبس يهوياكين ملك يهوذا، فلما استقل بالأمر رفع شأن يهوياكين وأعلى منزلته على سائر من عنده من الملوك الذين أسرهم أبوه وجعل له وظيفة دائمة في بلاطه، وكان أويل مرودخ متفرغا للملاهي قليل الاكتراث بشرائع الأمة حتى روى بيروسوس أنه وطئ بنعله كتاب السنة التي جرى عليها سلفاؤه، فكان ذلك داعية إلى حنق الأمة عليه، فثاروا بأجمعهم يطلبون قتله فظفروا به وقضوا عليه بعد سنتين من وفاة بختنصر، وكان في مقدمة الثائرين عليه نريكليصر بن بعل بسروق المقدم ذكره، وكان صهرا لأويل مرودخ متزوجا بأخته فتسلم الملك من بعده واستقر على سرير بابل، وكان الماديون في ذلك العهد قد اشتدت شوكتهم وتعاظم شأنهم، فحدثته نفسه أن يزحف لقتالهم اقتداء بما فعل الذين سلفوه من ملوك بابل، وأنفذ رجالا من قومه يتجسسون ما عند الماديين ويستبطنون دخلتهم، وأرسل إلى حلفائه من الملوك يسألهم النجدة فأجابوه، ووجه إليه كرسيوس ملك ليدية جيشا كثيفا فنهض يجر جحافله حتى وفد على أرض مادي، وكان الماديون على بينة من قصده، فأرسل كياقصر ملكهم إلى كمبيز ملك فارس، وكانت بينهما مصاهرة أن يوافيه بالعدة والمدد، فوجه إليه ثلاثين ألفا من الجند يقودهم قورش ابنه وانضموا جميعا يتوقعون مقدم نريكليصر، فلما التقى الجمعان اقتتلوا قتالا شديدا، وكان نريكليصر في مقدمة حاميته فأصابه رجل من أتباع قورش بنصل خرق صدره فخر لساعته صريعا وانفض جيشه وتتبعهم جيش مادي، فمزقوهم كل ممزق وعادوا عنهم بالأسرى والغنائم وكان ذلك سنة 555.
وملك بعد نريكليصر ولد له اسمه لبورسرخد وكان صبيا دون البلوغ، فعبث بالملك وقتل جما غفيرا من كبراء دولته ونبلاء عصره لغير جريرة أو لبدوات صبيانية، حتى قيل إنه قتل ابن قائد جيشه لأنه أصاب في الصيد طيرا لم يصبه هو، ولما سئم الكلدان أمره تمالئوا عليه وخلعوه لتسعة أشهر من ملكه وبايعوا مكانه ملكا آخر اسمه نبونيدس من أعقال بختنصر، وكان قورش الفارسي في تلك الأثناء قد أغزى إلى أكثر الممالك بآسيا، فألحقها بسلطنته، ولم يبق إلا بابل فتقدم إليها بجيشه المنتصر سنة 538 وأقام الحصار على سورها الداخلي المحدق ببورسيبا، ففوض نبونيدس إمرة الجيش إلى ابنه بلطشصر، وأقامت المدينة تحت الحصار ما شاء الله إلى أن رأى قورش أن لا سبيل إلى أخذها عنوة، فعاد إلى استنباط الحيلة، حتى إذا كان في ليلة عيد للكلدان وقد اشتغلوا بالملاهي والشراب، دخل المدينة من ماء الفرات، فلم يشعر الناس إلا وأسلحة قورش تتخطفهم من كل جانب فقتل بلطشصر ونجا أبوه إلى بلاد الكرمان، فقضى غابر حياته هناك، ومذ ذاك اضمحلت كلمة الكلدان فلم يعقد لهم ملك ولم تثبت لهم جماعة.
صفحه نامشخص