وتولى الملك بعده ابنه تغلث سمدان الثاني وكان رجلا جبارا مولعا بالفتوح والغزوات دون تشييد الأبنية؛ لأنه لم يعثر له على بناء باسمه إلا أن تكون قد ذهبت به الأيام ومحاه توالي الخراب فلم يبق إلى كشفه سبيل، وقد وجد أرباب التنقيب آجرة من آثاره قد نقش عليها ما معناه: أنا تغلث فلأسر الملك القدير المستولي على الأمم كافة، أنا السيد العظيم الذي ليس سيد في المعمورة إلا وأنا سيده. لقد ملكت بسيفي الأقطار الأربعة وغزوت بجيشي صغير الممالك وكبيرها، وكل عدو لربي قمعته وأرغمت أنفه، وذكر بعد ذلك إخضاعه لمملكة كوماغنيا ثم المملكة الواقعة عند منفجر دجلة - ولا شك أنه يريد أرمينية - ثم استيلاءه على القسم الأعلى مما بين النهرين وإجلاءه لطوائف تلك الآفاق، ثم وصف خروجه إلى مصر وظهوره عليها وتملكه لها، وقهره من انتصر لها من ملوك الأقاليم المجاورة، إلى أن قال: فبلغ جملة ما ملكته اثنتين وأربعين مملكة وولاية تمتد من أقاصي المشرق إلى أطراف المغرب، وحملت من حيوانها ونباتها وغرائب موجوداتها فضلا عمن أجليته من كل مملكة أخضعتها، وجئت بذلك كله فجعلته في مملكتي الزاهرة. انتهى، وكانت مدته من سنة 935 إلى سنة 930.
وبعد تغلث فلأسر تولى زمام الدولة ابنه آشور نزربال الثالث واستقر على سرير الملك من سنة 930 إلى سنة 905، وكان تملكه في اليوم الثاني عشر من شهر تموز على ما حققه أهل الهيئة في هذا الزمان؛ لأنهم وجدوا على الآثار ما مفاده أن هذا الملك ولي السلطان في اليوم الذي كسفت فيه الشمس كسوفا تاما، وكان ذلك بموجب حسابهم في اليوم المذكور، وكان مولعا بتشييد المباني وإقامة الهياكل والقصور، وقد وجد له ما لا يحصى من الآثار الموسومة باسمه من أبنية وتماثيل آلهة وأوان مختلفة من الذهب والفضة والعاج وغير ذلك، ومن أبنيته القصر العظيم بنمرود الذي كشفه السير لايرد الإنكليزي، وقد بقيت منه بقايا تدل على أنه كان من الفخامة والإحكام بمكان، وله بنمرود أيضا الهرم الباذخ الذي شيده لرصد الكواكب، وعلى مسافة منها هرم آخر كان هيكلا لآدار بناه، وأقام فيه تمثالا له قد نقش عليه ما ترجمته: أنا آشور نزربال الظافر الميمم رب القصر الآشوري ابن تغلث سمدان ليث القراع ومخراق الحروب المالك على الأربعة الأقطار ابن بعلوخوس الملك المظفر المتسلط على الطوائف الآشورية. لقد ملكت بسيفي جميع الأقاليم الممتدة من لدن منفجر دجلة إلى أطراف جبل لبنان. ا.ه.
وكان آشور نزربال ظلوما جافيا سفاكا للدماء لا تأخذه في أحد رحمة ولا تعطفه عاطفة، وكان إذا أسر قوما نكل بهم تنكيلا فظيعا فيصلم آذانهم ويجدع أنوفهم ويقطع أيديهم وأرجلهم إلى ما شاكل ذلك، فضلا عما يركبه من الفواحش في السبايا والأطفال، ثم يجمع تلك الأعضاء فينضد بعضها فوق بعض حتى تصير بناء قائما في السماء ويتلذذ بالنظر إليها. قلت: وهذا أشبه بما يروى عن نيرون الروماني وقت إيقاعه بأهل الدعوة النصرانية من أنه كان يصلب الجماعة منهم في ربض المدينة ثم يطلي أبدانهم بالقار والنفط، فإذا خيم الليل أمر بإحراقهم ثم خرج على عجلته ومعه وزراء دولته وكبراء بلاطه يتفرجون على ذلك المشهد الكريه، ومع ما في هذا الصنيع من شدة القسوة التي تدل على نهاية الخشونة والبربرية، فلا ينكر على الآشوريين أنهم كانوا في ذلك العهد قد بلغوا قمة التمدن والحضارة في فنونهم وصنائعهم، ولهم في أواخر أزمانهم ما هو أشنع وأفظع مما ذكر، فقد روى عنهم هيرودوطس اليوناني وكان قد قدم بابل في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، أنه لما حدثت الفتنة في بابل قبيل ذلك العهد بقليل ووفد عليها داريوس هستاسب وحاصرها سئم أهلها من طول الحصار وفرغت أهبتهم، فذبحوا عددا كثيرا من نسائهم بحيث لم يتركوا إلا امرأة لكل واحد منهم. ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى استفتح داريوس المدينة، فلما دخلها وعلم بما صنعوا حنق عليهم حنقا شديدا فأطلق يده فيهم بالعذاب والتمثيل وصلب منهم ثلاثة آلاف رجل. انتهى.
ولما توفي آشور نزربال خلفه على الملك ابنه شلمنأسر الثالث، وكان ملكه من سنة 905 إلى سنة 870، وعلى عهده عظم شأن آشور واتسع نطاقها وأطلق عليها في الكتاب اسم مملكة، ومن شهير أعماله التي ذكرت في التاريخ وأقرتها الآثار ما ورد له منقوشا على أحدها؛ حيث يقول ما ترجمته: في السنة التاسعة لملكي عبرت نهر الفرات، وهي ثامن مرة عبرته فيها ودمرت مدينتي سنجار وكركميش وصيرتهما مأكلا للنار. ثم خرجت لمواقعة ابن حدري الشامي وصخلينا الحموي واثني عشر ملكا من ملوك الساحل - يعني فينيقية - فقهرتهم واستحوذت على كنوزهم وعجلاتهم وعددهم وخيولهم، وفي السنة العاشرة خرجت بمائة وعشرين ألفا من الجند إلى حماة، فأخذتها واستوليت معها على تسع وثمانين مدينة، وفي السنة التاسعة عشرة خرجت على حزائيل خليفة ابن حدري، فغنمت منه ألفا ومائة وإحدى وعشرين عجلة وأسرت أربعمائة وسبعين فارسا بعددهم، وفي السنة الموفية للعشرين سرت إلى جبال أمانوس وقطعت من أرز لبنان جسورا حملتها إلى آشور، وفي السنة الثانية والعشرين سيقت إلي الجزية من صور وصيداء وجبيل، وبعدها وفدت علي الهدايا من ياهو ملك إسرائيل، وله أعمال غير هذه سطرها على السارية التي نصبها بنمرود أضربنا عنها لضيق المقام.
وبعد شلمنأسر أفضى الملك إلى ابنه شمسيهو الثالث المعروف بصامس بين، وكان له أخ قد استحوذ على بعض الممالك التي افتتحها أبوه فتشاحا عليها، واستطارت بينهما الفتنة نحوا من خمس سنين، ونشأت عن ذلك مشاغب شتى في بابل ونينوى وكثر الهرج حتى أصبحت عترة الملك في خطر أن تسقط رأسا، وفي آخر الأمر استقر الفوز لشمسيهو فاستخلص تلك الممالك من أخيه وخلا بأمر الملك، وقد عثر له على أثر يقول فيه: إنه خرج على بابل لقتال مرودخ بلتاريب، وكان مرودخ تحت إمرة الآشوريين، فلما ثارت الفتنة بين شمسيهو وأخيه اغتنم تلك النهزة لشق عصا الطاعة وجاهر بالعصيان، فواقعه وظفر به وقتل زعماء الأحزاب وغنم منه مائتي عجلة وأجلى من رعيته سبعة آلاف نفس. ا.ه.
وتولى الملك بعده ابنه بعلوخوس الثالث، وعلى عهده استؤنفت الفتنة في بابل وتمادى القوم في المنابذة والخلاف، حتى عجز عن ردهم إلى طاعته فارتأى أنه إذا تزوج واحدة من بنات ملوك بابل كان في ذلك وسيلة إلى بلوغ مأربه وأمن سورة الشقاق. فوقع اختياره على سميراميس التي يروي عنها بعض متقدمي المؤرخين أفعالا يضيق عنها نطاق التصديق، ومما وجد من آثاره آجرة قد نقش عليها: أنا بعلوخوس قد ضربت الإتاوة على جميع المدن والأقاليم والممالك الواقعة ما بين سورية وفينيقية وحدود صور وصيدون والسامرة وأيذومة وفلسط. ا.ه. وهي أول مرة ذكرت فيها فلسط؛ أي فلسطين على آثار آشور، وفي لندرة اليوم تمثال ضخم للإله نبوكان نصبه وزير بعلوخوس، وكتب عليه: أيها الإله نبو المعظم عصمة مولاي وعضده كن مؤازرا له بحولك وقدرتك واحفظ سيدتي الملكة سميراميس زوجته. ا.ه.
وسميراميس هذه هي التي ذكرها هيرودوطس، وقال إنها كانت مالكة قبل نيتوكريس بمائة وستين سنة، وجاء المؤرخون بعده فخطئوه ورووا عنها أقاصيص وأخبارا لا يحتمل غرضنا الإطناب بذكرها، غير أنا نورد بعضا من تلك الحكايات تفكيها للمطالع، فمن ذلك ما حكاه بعلوطرخوس في جملة كلام أورد فيه ذكر سميراميس قال: وتوسلت هذه الملكة إلى بعلها نينوس أن يفوض إليها أزمة الأحكام خمسة أيام تستبد فيها دونه، ففعل وأنفذ بالأوامر المؤكدة إلى جميع العمال وأرباب المجالس والأحكام أن يولوها جانب الإذعان ولا يخالفوها في شيء مما تأمرهم به. فلما خلت بالملك كان أول ما أمرت به طرح نينوس في السجن وخلعته عن السرير رأسا، فبقي في محبسه يعاني الذل والقهر حتى أدركته الوفاة، وقال ديودوروس ومن أخذ أخذه من الكتاب: كانت سميراميس من طائفة خاملة الذكر من رعاع عسقلان، فلما وصلت إلى الملك أفرغت طوقها فيما يذيل به ذكرها الدنيء من الأعمال العظيمة والفتوح الجسيمة، فحشدت إليها البنائين والصناع من أنماط شتى وأمرت بإقامة السورين العظيمين اللذين يحيطان ببابل، فبلغا سبعين كيلومترا طولا، ورفعت فوقهما بروجا منيعة، وخططت أزقة المدينة وقسمتها إلى ستمائة وخمسة وعشرين حواء، وشيدت هيكل بعلوس والقصر الملكي والحدائق المعلقة مما سلف ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب. قالوا: وإن سميراميس لم تقنع بالملك الذي تقلدته عن بعلها، فنادت في قومها وحشدت من الجيش ما بلغت عدته ألف ألف جندي، وزحفت بهم إلى أرمينية وهي في طليعتهم، وكان على أرمينيا ملك يقال له قارا فظهرت عليه وقهرته وولت مكانه رجلا من أصحابها. ثم سارت إلى فلسطين فأخضعتها واستولت عليها وتقدمت من هناك إلى مصر فامتلكتها، ثم عطفت على الحبشة ففعلت بها كذلك، ولم يمض عليها إلا زمن يسير حتى دانت لها جميع الأقطار التي بين الصين والحبشة. ثم وجهت الغارة إلى الجنوب فارتحلت بعسكرها إلى بلاد الهند، وتقدمت إلى رجالها أن يذبحوا ألوفا من الثيران الدهس ويسلخوا جلودها ويقطعوها على هيئة الفيلة، حتى تكسو بها أبعرتها وخيولها وتقدمها أمام الجيش إيهاما للعدو، وبلغ ملك الهند خبر مقدمها فتجهز لقتالها وألب جيشا كثيفا، ووجه شرذمة من الجيش أوعز إليهم أن يبروزا لها ثم ينهزموا أمامها حتى تدخل إلى أواسط البلاد.
فلما التقى الجمعان والتحمت الحرب ولت الهنود على أعقابها وتبعتهم سميراميس برجالها حتى أوغلت في أرضهم، وكانوا قد كمنوا لها في موضع من البلاد، حتى إذا بلغت موضع الكمين ثاروا في وجهها وأطبق جيشهم من كل جانب، فأهلكوا من قومها خلقا لا يحصى وانهزمت سميراميس شر هزيمة، وقد أصابها جرح بالغ كادوا يمسكونها به لولا خفة فرسها وسرعتها في المفر، وانثنت قافلة إلى بابل بالفشل والخسران. ا.ه.
وخلف بعلوخوس الثالث وسيراميس آشور ليخوس المعروف بسردنابال أو سردنافول، وفي أيامه تفاقم أمر الفتنة في بابل ووهت سطوة الآشوريين، وتضعضعت دعائم دولتهم لما كان في سردنابال من الغفلة وضعف النفس ووهن العزيمة؛ لأنه أفنى زمانه في حشد الأموال ومعاقرة اللذات والإقبال على اللهو والخلاعة، وكان لا يفارق دار حرمه ولا يهمه إلا مغازلة نسائه، حتى قيل إنه كان يتزيا بملابسهن ويعمل أعمالهن من الغزل ونحوه إلى غير ذلك، ولما كان أهل بابل قد سئموا من تسلط الآشوريين عليهم وهم غير غافلين عن انتهاز فرصة للتخلص من أيديهم نهض بعليزيس الكلداني وحالف أرباش ملك مادي على آشور، كما قدمنا تفصيله في القسم الأول، وكان من عاقبة هذه الحرب خراب نينوى عن آخرها وإحراق الملك نفسه وآله في النار على ما مر هناك، واضمحلت بذلك الدولة الآشورية الأولى.
ذكر الدولة الآشورية الثانية
صفحه نامشخص