21 فبراير/شباط
سبق لنا القول، إنه في 21 فبراير سنة 1913 مرت ثلاثمائة عام على جلوس أول ملك من أسرة آل رومانوف على عرش المملكة الروسية، وجرت عادة الشعوب أن تقيم الاحتفالات، التي يعبرون عنها باليوبيلات إكراما وإظهارا لما تكنه أفئدتهم من شعائر الإخلاص والولاء .
والأمة الروسية على اختلاف أجناسها ونحلها ومذاهبها، تعترف بما قام به آل رومانوف من الخدمات العظيمة للبلاد، فإنها استلمت زمام الأحكام فيها، وهي في حالة خراب واضطراب، وما زال ملوكها يعملون بجد ونشاط وغيرة وإخلاص، حتى رفعوا شأن البلاد وأسعدوا العباد.
إن الكاتب مهما أوتي من البراعة والمهارة وطول الباع، فإنه لا يستطيع وصف الاحتفالات الشائقة النادرة المثال، التي أقامتها الأمة الروسية، وماذا يقول وقد عيدت مملكة روسيا في ذلك اليوم السعيد عيدا مجيدا؟ فازدانت المدن والقرى بالأعلام وأقواس النصر والأزهار، وأقيمت الصلاة في جميع معابدها.
وقبيل حلول اليوم السعيد، أخذت الجماهير تتوافد على بطرسبرج عاصمة روسيا من جميع أنحاء المملكة، حتى غصت بهم الفنادق والمحلات العمومية، وضاقت على رحبها عن استيعابهم.
أصبحت بطرسبرج في 21 فبراير/شباط مرتدية حلة من الزينة والبهاء والرواء، من أعلام ذات ألوان ساطعة، تخفق في الهواء خفقان السرور والارتياح، وأقواس نصر بديعة الصنع يأخذ منظرها بمجامع القلوب. برزت العاصمة في ذلك اليوم بروز العروس من خدرها، وقد أشرقت في ذلك اليوم الشمس بأنوارها الساطعة البهية، مشاركة للناس في أفراحهم.
وما كادت الغزالة ترسل أشعتها الذهبية، حتى أخذت الأجراس في جميع الكنائس تقرع، حتى صمت الآذان من أصواتها، وفرشت الطريق الملوكية بالأبسطة الفاخرة.
وعند الساعة الثامنة أطلقت المدافع معلنة الناس بابتداء الاحتفال، ومن هذه الساعة كان يرى الناظر مئات من الحفلات الدينية، يسير فيها رجال الدين حاملين الصلبان والأيقونات «والمراوح»، ينشدون أناشيد الدعاء بحفظ جلالة القيصر وأسرته الكريمة، وكان يتبعها جماهير مجمهرة من الشعب لا يحصى لها عدد، ووجهتهم كلهم الكنيسة الجامعة «كازانسكي سوبور»، وعند الساعة التاسعة ونصف، ظهرت مواكب الجنود الذين ملئوا الفضاء بأنغام الموسيقى العسكرية المطربة، وعند ذلك توقفت الحركة في الشوارع؛ لأن كل إنسان لازم مكانه؛ ليشهد ذلك الموكب العظيم، فكانت عبارة عن بحر من الرءوس المتلاصقة، أو بالتعبير العربي، كانوا كالبناء المرصوص. وكانت نوافذ المنازل ومحلات التجارة والمصارف المالية مزدحمة بالمتفرجين، وعند الساعة الواحدة بعد الظهر، خرج الموكب الملوكي من القيصر الشتوي «زيمني دفوريتس»، وسارت مواكب الجنود وأخذت الموسيقى تصدح بأنغامها الشجية، وظهر من بعيد فرسان الحرس القيصري بأرديتهم الحمراء الباهرة، وساروا بين صفوف الجنود السائرين على جانبي الطريق، وعلى أثرهم كان جلالة القيصر جالسا في عربة عالية مكشوفة تسير الهوينا، وإلى جانبه صاحب السمو ولي العهد، وسارت على أثر عربة جلالته عربة أخرى مغطاة، ركبتها صاحبتا الجلالة القيصرة ووالدة القيصر، وركبت كريمات القيصر عربة ثالثة، وكان الشعب يقابل الموكب القيصري بهتاف «أورا» (فليحي) المتواصل، وكان القيصر وولي العهد والقيصرتان وكريماته، يحنون رءوسهم محيين تلك الجماهير.
وعند الساعة الحادية عشرة قبل الابتداء بالصلاة، حضر إلى كازانسكي سوبور غبطة البطريرك الأنطاكي غريغوريوس حداد، ونيافة إسكندر مطران طرابلس، ونيافة ديمتريوس مطران السرب، ونيافة فلاديمير مطران بطرسبرج، وفلافيان مطران كييف، وعدد لا يحصى من الأساقفة ورؤساء الأساقفة، وقد حضر الصلاة: نساء الشرف، ورئيس الوزارة وزوجته، والقائم بأعمال وزارة البلاط القيصري الأمير كوتشوبيه، الوزراء، ومستشار الإمبراطورية، ورئيس المجلس الملوكي الأمير أكيموف، وأعضاء هذا المجلس وأعضاء مجلس الدوما ورئيسه، أعضاء مجلس الشيوخ، موظفو البلاط، سيدات الحاشية الملوكية، رؤساء أركان الجيش البري والبحري، وكبار ضباط الجيشين، ورؤساء وفود الجمعيات العديدة، ووفود الولايات، ومن جملتهم وفد فينلاندا، وكثيرون من الأمراء والأميرات العظام.
ولما وصل الموكب القيصري الكنيسة، خرج لاستقباله غبطة البطريرك الأنطاكي، ونيافة مطران بطرسبرج، فلفظ غبطة البطريرك خطبة وجيزة على مسامع جلالته تناسب المقام، ثم قبل جلالة القيصر وولي العهد الصليب، ورشا بالماء المقدس، ثم وقفا في المكان المعد لهما، الواقع إلى جهة اليمين عن المذبح، ثم خرج رئيس الشمامسة، وتلا على مسمع الحاضرين بصوت روسي جهوري المنشور الإمبراطوري السامي، ثم بدئ بصلاة الدعاء، التي قام بها غبطة حبر الأحبار، العلامة غريغوريوس حداد بطريرك مدينة أنطاكية المقدسة، وسائر المشرق ولفيف المطارنة والأساقفة ومن معهم من رجال الدين، وأول صوت دعاء رفعه غبطة البطريرك الأنطاكي الذي قرأ الإنجيل المقدس باللغة العربية، وما نطق أول آية حتى خشعت القلوب وانحنت الرءوس، ثم تليت الصلاة الخاصة الجديدة التي وضعها المجمع المقدس ، وما بدئ بتلاوتها حتى ركع جلالة القيصر وجميع أفراد الأسرة المالكة، وحذا حذوهم جميع الحاضرين بدون استثناء، ولما هتف رئيس الشمامسة بالدعاء المعروف الذي أوله «سنين عديدة» ... استعد الجنود للسير، وأخذت أجراس الكنيسة تقرع، وأطلقت قلعة بطرسبرج المدافع، وبعد نهاية صلاة الدعاء، قبل جلالته وسائر أفراد العائلة المالكة الصليب، ثم قبلوا أيضا الأيقونات المقدسة العجائبية، وهي أيقونات المخلص المجيد، وأيقونة سيدة قازان، وبعد ذلك استعدوا للخروج، وما كاد جلالة القيصر وولي العهد يبرزان من الباب، حتى أحنت الجماهير رءوسها إجلالا واحتراما، وصاحت بصوت واحد ملأ الفضاء: أورا ... أورا ... أورا ...! ثم أنشدوا النشيد الملوكي الذي أوله «اللهم احفظ الملك»، وسارت الناس وبيدهم الأعلام، وهم ينشدون النشيد المذكور وراء الموكب القيصري حتى القصر الشتوي، ثم إن جميع الذين حظوا بالمثول بين يدي جلالته في ذلك النهار مهنئين، أنعم عليهم بالمداليا التي وضعت خصيصا لليوبيل السعيد.
صفحه نامشخص